الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغايات.
وأما الحيوان فلا بد له من مقصود بفعله، لكن لا يجب أن يكون ذلك الذي قصده مصلحةً له ونافعًا له، كما أنه لا بد له من قصدٍ وقوةٍ، لكن لا يجب أن يكون مقرًّا بأن ذلك بإعانة الله وقدرته.
وإذا تبين أنها ليست مقصودة بالذات، فالمقصود بالذات لا بد أن يكون باقيًا أبديًّا، كما بينا أن ما يتعقبه العدم لا يكون مقصودًا بالذات، وكذلك أيضًا لا بد أن تكون ذات العلة الغائية متقدمة على الفعل، وإن كان ما يطلب بالحركة إليها يكون لذة حادثة، وإن كانت متواصلة، وهذا مما نُبيِّنه هنا، وإن لم يكن مبينًا فيما مضى، وذلك أن العلة الغائية هي علة بماهيتها وحقيقتها المقصودة لفاعلية العلة الفاعلية، إذ لولا كون تلك الحقيقة تستحق أن تُطلَب وتُقصد لامتنعَ أن يقصدها الفاعل، فامتنع فعلها، ولا يجوز أن يكون الفاعل بإرادته وفعله جعلها مقصودة مرادة، لأن إرادته متوقفة على كون المراد يجب أن يكون مرادًا، فلو كان كون المراد مرادًا حاصلاً بإرادته لزم الدور، وإذا كانت إرادته هي [التي] جعلتِ المرادَ مرادًا، والمراد هو الذي جعل الإرادة مريدة، بل لابد من حقيقة تكون هي بنفسها تستحق أن تكون مرادة مقصودة، وحينئذ يراد ويقع الفعل، كما أنه لا بد من حقيقة
…
(1)
فاعلة، وحينئذ فيفعل أفعالاً، فلا يجوز أن يكون مفعولها أحدثها وفعلها.
و
الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل
، فإن المراد
(1)
بياض في الأصل بقدر كلمة.
هو الذي يوجب الإرادة، يوضح ذلك أن العلة الغائية إذا كانت لا بد من تقدمها في العلم والقصد، فالعلم والقصد لا يتعلق بالعدم المحض ابتداءً، بل المقصود إنما يعلم بطريق التمثيل بالموجود، ولذلك إنما يقصد بالغرض، فيكون الغرض من عدم أحد الضد وثبوت الضد الآخر، كما يقصد عدم المانع. أما أن يكون العدم مقصودًا بالقصد الأول أو معلومًا بالعلم الأول، فهذا محال.
وإذا كان كذلك، فالغاية التي لا توجد إلا بعد الفعل تكون حالَ العلم والقصد معدومة، فإنما يعلم بالقياس إلى غيرها، وإنما يقصد لقصد أمر وجودي، وإلا فالعدم المحض إذا قُصِدَ إيجاده لا لقصد أمر موجود، لزم أن يكون في العدم المحض ما يتميز فيه مقصود عن مقصود، وهذا ممتنع.
ومن هنا غلط الغالطون القائلون بأن المعدوم شيء، وأهل الإثبات وإن قالوا: هو ثابت في العلم، فالقصد يتوجه إلى المعلوم، لكن يقال: العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه، فكذلك المعلوم لِمَ كان مقصودًا دون غيره، وليس في العدم المحض تميز، بل لا بد أن يكون المقصود أمرا وجوديًّا، ثم أريد حصول فعل وغاية قريبة لحصول ما يطلب من العمل للغاية المقصودة لذاتها.
ولهذا مكة موجودة قبل سعي الحاج إليها، فهي الغاية، وإن كان وصوله إليها، وأعمال المناسك هي غاية عمله لها، وهذه هي الغاية التي تتأخر عن العمل، لكن نفس الغاية المقصودة لذاتها لا بد أن تتقدم الفعل.
وهذا أصل عظيم، يسَّر الله بيانه بعد كثرة تحويم القلوب عليه، وهو نافع في أصلين عظيمين:
أحدهما: أن الله هو الإله المعبود لذاته.
والثاني: أنه هو المحبوب لذاته، فإليه تصير الأمور، وإليه المنتهى في أفعاله وأفعال عباده، كما أنه رب ذلك كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله
الحمد لله رب العالمين. قال الشيخ الإمام العالم المحقق أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله:
فصل
قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به ونحو ذلك
قد ذكرتُ بعض ما يتعلق بذلك عند الكلام في العلم بالمعدوم، ومسألة النهي هل هو طلب العدم أو الوجود، وعند الكلام في إحسان الله لخلق كل شيء، وأنه إنما لا يُصرَف إليه المعدوم ونحو ذلك. ونحن نذكر هنا قاعدة، فنقول:
الصفات المتعلقة بالوجود مثل: العلم والإرادة والأمر والقدرة والفعل والسبب الفاعل كيف يتعلق بالعدم؟ أما العلم فقد قررنا في غير هذا الموضع أنه إنما يُعلَم المعدومُ بطريق التَّبع للعلم بالوجود، وكذلك قررنا أنه إنما يُراد المعدومُ بطريق التَّبع للموجود، فإن الشاعر منا لا يُدرِك بنفسِه ابتداءً عدمَ شيء، وإنما يُدرِك الوجود، ثم يُقَدِّر في نفسه ما يُركِّبُه أو يُفرِّعُه منَ أجزاء الوجود، مثل تقدير إلهٍ آخر، أو نبى بعد محمدٍ، أو جبلِ ياقوت، أو بحرِ زئْبقٍ، فحينئذٍ يعلم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا نبي بعد محمد، وأنه ليس هنا جبل ياقوت وبحرُ زئبق، وإنما يَعلم ذلك بعد أن يكون عَلِمَ إلهًا موجودًا ونبيًّا موجودًا وبحرًا وجبلاً وياقوتًا وزِئبقًا، وأما ما لم يتصور مفرداته من الموجود فإدراكُ عدمِه مثلُ عدمِ إدراكِه، كما قال تعالى: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ)
(1)
، فعدم علمه بوجودِ ذلك مثلُ علمه بعدمِه. وهذا في حق الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم، لا يَعزُب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فما لم يعلمه من الأشياء يعلم أنه ليس في الأشياء.
وكذلك الإرادة، فإن الحيَّ إنما يُريد بالقصد الأول ويحبّ ما يناسبه أو ....
(2)
، فلا يحبُّ ويريد بذاته إلا ما يطلب وجوده، ثم قد تُعارِضه أشياءُ فيكرهها ويُبغِضها ويُريد أن لا تكون. ثم إذا كَرِهَ هذه الأشياء قبلَ كونها أو بعدَ كونها فإنه يَسعَى في إبطالها، وقد يكون قادرًا على ذلك ويَنهى عنها غيرَه. فاختلف النالس في هذا المقام:
منهم من قال: القدرة لا تكون قدرةً على العدم، ولا الفعلُ يكون فعلاً للعدم، ولا الإرادة تكون إرادة للعدم، لأن العدم لا شيء، والقدرة على ما هو لا شيء لا شيء، فتكون القدرة على العدم كعدم القدرة، وكذلك فِعْلُ ما هو لا شيء وإرادة ما هو لا شيء بمنزلة وجوده، فإن هذا مما لا يستريب الناسُ فيه أنه لا يحتاج إلى فاعل وقادر، بل يكفي في عدمِه عدمُ مُقتضِيهِ ومُوجبه، ولهذا نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فنُضِيف عدمَ الكَونِ إلى عدم المشيئة. لا يُحتاج أن يقال: وما شاء أن لا يكون لم يكن.
وهذا قول كثير من المتكلمة والمتفقهة من المعتزلة والأشعرية
(1)
سورة يونس: 18.
(2)
هنا كلمة رسمها: "يحابنا"، ولعلها "يجانسه ".
والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء فيما إذا أرادَ الله أن يُفنِيَ شيئًا ويُعدِمَه:
فقال البصريون من المعتزلة: يُحدِثُ فَناءً لا في محلٍّ، فيَفنَى به.
كما يقولون في الإيجاد: إنه أَحدثَ لا في محلٍّ، فَحَدَثَ به.
وهذا عند العقلاء معلوم الفساد بالضرورة والنظر من وجوهٍ كثيرة، كما ذلك معلوم الفساد في الإرادة، فإنّ قيامَ الصفات بغير محلٍّ وحدوثَ شيء بلا إرادةٍ ومنافاةَ شيء سمَّوه الفناءَ لجميع الكائنات= كل هذا مما يُعلَم فسادُه عند تصوُّرِ حقيقته.
وقال كثير من متكلمة الإثبات من الأشعرية والحنبلية: عدمُه وفناؤُه بأن لا يُحدِث سببَ بقائِه، إمّا أن لا يُحدِث البقاءَ عند من يقول منهم: إن الباقي باقٍ ببقاءٍ، وإمّا أن لا يُحدِثَ الأعراضَ عند من يقول منهم: إن العَرَضَ لا يَبقَى زمانَيْنِ. فإن هؤلاء يقولون: إنما بقاءُ الأعيان التي هي الجواهر بما يُحدِثُه له من الأعراض، أو بما يُحدِثُه من البقاء، فإذا انتفَى شرطُ بقائها انتفَتْ وعُدِمَتْ، وانتفاءُ شرطِ البقاءِ يكفي فيه أنه لا يفعله ولا يُريدُه.
وحقيقة قولهم أن العدمَ الطارئَ المتجددَ بمنزلةِ العدم الدائمِ المستمرّ، يكفي فيه عدمُ الإرادةِ للإيجادِ والإبقاءِ وعدمُ إيجادِه وإبقائِه. فالمعتزلة قالوا: يُفنِي الأشياءَ ويُعدِمُها بإحداثِ ضِد يُنافيها هو الفناءُ، وهؤلاء يقولون بفَواتِ شَرْطِها ومقتضاها، فالنزاع بينهم هل الإعدامُ والإفناءُ لإيجادِ مانع أو لعدمِ شرطٍ، وكلُّهم فَرُّوا من كون نفس المعدوم مفعولاً بنفسِه أو مرًادًا بنفسِه.
فهذا أحد القولين، وهؤلاء يقولون: المطلوبُ بالنهي أو المرادُ بالنهي ليس عدمَ المنهيّ عنه، وإنما هو فِعلُ ضِدٍّ من أضدادِ المنهيِّ عنه: إمّا الامتناع من الفعل، وإمّا البُغْضُ له والكراهة ونحو ذلك، حتى يصحَّ أن يكون مطلوبًا مرادًا للناهي، ويصحّ أن يكون مقدورًا مفعولاً مرادًا للمنهيِّ. فعلى قول هؤلاء كما أن العلة الفاعلية للأمر الموجود لا تكونُ عدمًا بالاتفاق، وإلاّ لصحَّ [نسبة] الحوادث إلى معدوم، فيَبطُل الاستدلالُ بها على الخالق البارئ المصور. كذلك يقولون: العلة الغائية لا يصحُّ أن تكون عدمًا أيضًا، إذْ هي مطلوبُ الفاعل ومرادُه، والمعدوم لا يكون مطلوبًا ولا مرادًا.
والقول الثاني في أصل المسألة: إن العدم نوعان كما أن الوجود نوعان، فكما أن الوجود بنفسه هو غنيّ عن الفاعل، وهو الله سبحانه، والممكن بنفسه مفتقر إلى الفاعل محتاج إليه. فكذلك العدم نوعان:
أحدهما: ما انعقَدَ سببُ وجودِه التامّ أو المقتضي، وُجِدَ أو لم يُوجَد.
والثاني: ما لم ينعقد سببُ وجودِه.
فما لم ينعقد سبب وجودِه يكفي في عدمِه عدمُ سببِه، لا يحتاج إلى فاعلٍ ولا مريدٍ لعدمه.
وأما ما انعقد سببُه التامُّ فوُجِدَ، أو انعقد سببُه المقتضي فهو معترض للوجود، فهذا إن لم يوجد ما يُعارِضُه ويُنافِيه لم يُعدَم.
فالعدم الحادث الطارئُ كالوجودِ الحادثِ الطارئ، كلّ منهما لا
بدَّ له من سبب، لكن الوجود يتوقف على وجود السبب وانتفاء المانع، والعدم يكفي فيه كلُّ واحدٍ من عدم المقتضي ووجود المانع، فالوجود مفتقرٌ إلى الأمرين كليهما، والعدم يكفي فيه أحدهما إذا عُنيَ بالسبب العلة المقتضية دون التامة، وأما إذا عُني به العلة التامة فهذه العلةُ يلزم من وجودها وجودُ المعلول، ومن عَدَمِها عدمُ المعلول، فالوجود لا يقف إلا على وجودها، والعدم لا يقف إلاّ على عدمها.
وبهذا التفسير تزول الشبهةُ الواقعة بين كثير من الناس في مثل هذه المَحارات والمضطربات التي يكثر فيها النزاعُ والجدال، وينتشر فيها القيل والقال، ويحصل فيها التفرق والاختلاف، ويزول بها الاجتماع والائتلاف، فإذا فُسِّرت الأسماءُ المشتركة وفُصلَ الحقُّ من الباطل وحُكِمَ بالعدل بين الفِرَق والمقالات ظهر الكتابُ والسنة والجماعة، وزال الضلالُ والبدعة والفرقة.
فنقول: العلة والموجب والمقتضي والباعث والسبب والمناط والمحرِّك والداعي ونحو ذَلك من الأسماء هي أسماءٌ متقاربة، تكون مترادفةً من وجهٍ ومتباينةً من وجهٍ، وفيها تقسيمان:
أحدهما: أن العلة تنقسم إلى تامة موجبة يُوجد بها المعلولُ لا محالةَ، وإلى مقتضيةٍ قاصرةٍ تَقِفُ على شروطٍ وانتفاءِ موانع. ولفظ العلة يُعبَّر به عن كلِّ من المعنيين في أصولِ الدين وأصولِ الفقه وفي الكلام والفلسفة وغيرِ ذلك.
فأما الأولى فلا تُوجَد إلاّ مجموع أمور، وما ثمَّ سبب واحدٌ يُوجب مسبَّبَه لا محالةَ وينتفي مسبّبه عند انتفائه إلاّ مشيئة الله، فإنه ما شاءَ كَان
وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانَه فعَّالٌ لما يشاءُ، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ)
(1)
، (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)
(2)
، وقال تعالى:(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)
(3)
. وهذا كثير في الكتاب والسنة وعلى اتفاق الملل وأهل الفطرة السليمة، لم يخالف فيه إلاّ القدريةُ من جميع الطوائف الذين يزعمون: قد يُرِيد ما لا يكون، ولا يُفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية. فإرادته سبحانه ومشيئته هي السبب والعلة الكاملة التامةُ وجودُها، ومحبوبُه ومرضيُّه هي الحكمة والغايةُ التامةُ الكاملة.
هذا في العلة السببيةِ، وأما الغائية فهو كذلك أيضًا، غالبُ التامِّ منها مركَّبٌ، وما ثمَّ ما هو العلة الغائية على الإطلاق إلاّ محبوبُ الله ومرضيه، وإن كان الحب والرّضا يستلزم
…
(4)
، فإن عبادته وطاعته وطاعة رُسُلِه هي غايةُ الأعمال في الدنيا، والتلذذ بالنظر إليه هو غاية المطلوب في الاخرة. وأما ما فى حق الربّ وأمره فإن محبوبه ومرضيّه هو الغاية المرادة من ذلك كله، وإن كان من الأسباب والوسائل ما هو مرادٌ غيرُ محبوبٍ ولا مرضى، فإن الشيء المحبوب المُشْتهَى قد
(1)
سورة يونس: 107.
(2)
سورة الزمر: 38.
(3)
سورة الكهف: 39.
(4)
هنا بياض في الأصل بقدر كلمتين.
يتوقف حبه على وجودِ شرط وانتفاء موانع غير محبة الله تعالى، مثل اقتضاء النارِ الإحراقَ والماءِ الإغراقَ، والطعام والشراب للشِّبَع والرّيِّ، والشعاع للتسخين، والأعمال الصالحة للثواب، والأعمال السيئة للعقاب، ونحو ذلك. فكلّ هذه الأمور قد يتخلَّفُ مقتضاها لفواتِ شرط أو وجود مانع. وكذلك في الغائيات، فإن جعلتَ العلةَ مجموعَ الأمور التي يجبُ عندها الحكمُ فهي العلةُ التامة، وإن جعلتَها الأمرَ المقتضيَ للحكم لولا المُعارضُ المقاوِمُ فهي العلة المقتضية الناقصة.
وبهذا التقسيم يُعرف اختلافُ العلماء من أصحابنا وغيرهم في العلة هل يجوز تخصيصها، فإن عنِي بالعلةِ التامَّةُ فتلك لا تَقبلُ التخصيصَ، وإن عُنِي بها المقتضيةُ فإنها تقبل التخصيص. وهذا عامٌّ في العلل الكونية والدينية، الطبعية والشرعية، العقلية والسمعية.
فإن قلت: فإن كثيرًا من أصحابنا وغيرهم يقولون: العلة العقلية تُوجِبُ معلولَها، لا يتخلف عنها، ولا يقف على شرط، ولا لها مانع، بخلاف العلة الشرعية.
قلتُ لك: هؤلاء مرادُهم بالعلة الصفاتُ التي تُوجب الأحوالَ، مثل أن العلم علةُ كونِ العالم عالمًا، والحركة علةُ كَونِ المتحرك متحركًا، مبنية على ثبوت الأحوال في الخارج معاني غير الصفات. فمن أثبت الأحوالَ من متكلمة المعتزلة ومتكلمة الصفاتية من أصحابنا وغيرهم فإنه يفرّق بين العلم والعالمية والقدرة والقادرية، ويجعل الصفاتِ توجب الأحوال. ومن نفى الأحوال فإن عنده العلم نفس كون
العالم عالمًا، والحركة نفس كون المتحرك متحركًا، ليس عندهم هنا شيئانِ أحدُهما علةٌ والآخرُ معلولٌ.
وأما العلل الطبعية الموجودة في الخارج، مثل كون الأكل والشرب علةً للشَبَع والريّ، والإحراق والإغراق علة للحرق والغرق، فكثير من متكلمة أهل الإثبات من أصحابنا وغيرهم لما ناظروا أهلَ الطبع وأهلَ القدر في أن الله خالقُ كلِّ شيء أنكروا أن يكون في العلم علةٌ أو سبب، وقالوا: إن الله يخلق هذه الآثار عند هذه الحوادث، فهؤلاء إذا تكلموا في العلة والسبب لم يدخل هذا في كلامهم، وهذه طريقة كثير من الفقهاء الحنبلية والمالكية والشافعية ومتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم. فإذا وجدتَ في كلام القاضي أبي بكر ابن الباقلاني أوالقاضي أبي يعلى أو القاضي أبي الطيب أو أبي إسحاق الفيروزابادي أو أبي الخطاب أو ابن عقيل أو نحو هؤلاء الفرقَ بين العلل العقلية والشرعية فهذا مرادهم.
وأما جمهور العقلاء من أهل الإسلام وسائر الملل وإن كانوا يردّون على أهل الطبيعة الذين يُضيفون الحوادثَ إلى ما دون الله من جسمٍ أو طبعٍ أو فلكٍ أو نجمٍ أو عقلٍ أو نفسٍ، وعلى القدرية الذين يزعمون أن أفعال الحيوان لم يَخلُقْها الله ولا يَقدِر على خَلْقِها، ويعلمون
(1)
أن الله خالقُ كلِّ شيءٍ = فلا يُنكِرون ثبوتَ الأسباب وأنّ الله يخلق الأشياء بها، كما نطقَ بذلك الكتاب والسنة، وكما اتفق عليه
(1)
عطف على "يردون
…
".
سلفُ الأمة والسَّالِمُو الفطرةِ من أهل الملة. قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) إلى قوله: (فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)
(1)
، وقال تعالى:(وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)
(2)
، وقال:(فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ)
(3)
، وقال تعالى:(فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9))
(4)
، وقال تعالى:(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَام)
(5)
، وقال تعالى:(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا)
(6)
. وهذا كثير في الكتاب والسنة. فمن قال: لا يقال: إن الله يَفعل بها، وإنما يَفعل عندها لا بها، فقد خالف الكتاب والسنة وفِطَرَ العقلاء.
فإن قلتَ: قد ذكرتَ أنه ليس في الوجود علةٌ تامة وحدَها إلا مشيئة الله، فكيف تَصنع بالإحراق والإغراق والإزهاق والتكسير والتعليم ونحو هذه الأفعال التي لها أفعال مطاوعة، فإن الكسر مستلزمٌ للانكسار، والإحراق مستلزمٌ للاحتراق، والإزهاق مستلزمٌ للزهوق، ونحو ذلك.
قلتُ: الإحراق ونحوه إما أن يُعنَى به فِعلُ المحرِق فقط، أو يُعنَى
(1)
سورة الأعراف: 57.
(2)
سورة البقرة: 164.
(3)
سورة النمل: 60.
(4)
سورة ق: 9.
(5)
سورة المائدة: 16.
(6)
سورة البقرة: 26.