المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ افتقار المحدث إلى المحدث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجح - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌سبب الحديث

- ‌ الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية

- ‌ الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود

- ‌اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ

- ‌ قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل

- ‌ المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له

- ‌ العبد له حظانِ: حظ من المخلوق(1)، وحظٌّ من الخالق

- ‌الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل

- ‌ عبادات المبتدعة

- ‌ عبادات اليهود والنصارى

- ‌ ما يكون صالحًا، ولا يريد به فاعلُه وجه الله

- ‌ الإسلام الذي في القلب لا يتمُّ إلا بعمل الجوارح

- ‌على الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا

- ‌ الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا

- ‌ التمثيل بالماء والنار

- ‌ يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له

- ‌الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين

- ‌ الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب

- ‌ الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان

- ‌ عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذلّ له

- ‌ افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح

- ‌ إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى

- ‌ الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول

- ‌ الحب يتبع الشعور

- ‌ الإنسان له فعلٌ باختياره وإرادته

- ‌ الدين والشرع ضروري لبني آدم

- ‌وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتُها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابقُ معتقداتِها

- ‌ فسادُ حالِ من اتخذ إلهه هواه

- ‌من كان قصده العدم لم يفعل شيئًا

- ‌الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل

- ‌ ليس في الوجودِ علةٌ تامةٌ إلاّ مركَّبة سوى مشيئةِ الله تعالى

- ‌ الإسلامَ له ضدّان: الإشراك والاستكبار

- ‌قد يقال: الشرك أعمُّ، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد

- ‌الإسلام يتضمن العدلَ

- ‌ معنى الحق

- ‌ العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق

- ‌كلُّ ما كانت المنفعةُ به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك

- ‌ الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم

- ‌ فضائل الصدِّيق

- ‌يزيدُ أحد ملوك المسلمين، له حسناتٌ وسيئات

- ‌لم يُسْبَ قطُّ في الإسلام أحدٌ من بني هاشم

- ‌عليٌّ وعسكره أولَى من معاويةَ وعسكرِه

- ‌ تكرير الاستغفارِ

- ‌الاستغفار يَمحُو الذنوبَ فيُزيلُ العذابَ

- ‌ استغفار الإنسان أهمُّ من جميع الأدعية لوجهين:

- ‌ الصلاة الوسطى هي العصر

- ‌ الفرض على المسافر ركعتان

- ‌ ليس القصر كالجمع

- ‌ أهل مكة يَقصُرون ويجمعون بعرفةَ ومزدلفةَ

- ‌ وقتَ الصلاةِ وقتانِ: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحَاجة والعذر

- ‌ العذر نوعان:

- ‌ جنس الجهاد أفضلُ من جنس الحج

- ‌الجمعُ للاشتغال بالجهادِ

- ‌الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجةٍ أو مصلحةٍ راجحة

- ‌أدلَّةُ إيجاب التسمية على الذكاة أظهرُ بكثيرٍ من أدلةِ وجوب قراءةِ التسمية في الصلاة

- ‌ نعم، يجوز بيعُها

- ‌ إيجار الإقطاع صحيح

- ‌ ليس لأحدٍ أن يُحدِث مقالةً في الإسلام في مثل هذا الأمر

- ‌الإجارة جائزةٌ بالنص والإجماع في مواضع متعددة

- ‌ ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع المعدومات

- ‌ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيلِ المفاسِد وتقليلها

- ‌أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة

الفصل: ‌ افتقار المحدث إلى المحدث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجح

قوله: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35))

(1)

.

وكل ما دلّ على أن الحوادث الممكنات مخلوقة لله، فهو يدلّ على أفعال العباد، إذ هي جزء من الحوادث الممكنات، فاستدلالُ بعضهم على ذلك لكونها ممكنة فتفتقر إلى مرجِّح- كما سلكه أبو عبد الله الرازي- ليس هو أبلغَ من الاستدلال على ذلك بكون ذلك محدَثًا بعد أن لم يكن، فيفتقر إلى مُحدِث، بل هو أبلغ وأكمل، فإن‌

‌ افتقار المحدَث إلى المحدِث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجِّح

، ولكن هو وطائفة من أهل الكلام قبله عكسوا الأمر في إثبات الصانع، فجعلوا طريقةَ الاستدلال بالمحدَث على المحدِث مبنيةً على طريقة افتقار الممكن إلى المرجح، وهذا غلط جدًّا، فإنه إذا قيل: إن تلك معلومة بالضرورة فالضرورة هنا أرجح بكثير، والمحدَث شيء موجود، كان بعد أن لم يكن، حدوثه أمر خارجي موجود في الخارج.

وأما الممكن فإنما يقدَّر مستوي الطرفين في النفس، إذ هو في الخارج إما واجب بنفسه وإما ممتنع بنفسه، ولهذا منع طائفة من الفلاسفة أن يقال في الموجودات: إنها ممكنة بنفسها. وخالفوا ابن سينا في ذلك كما ذكره ابن رشد الحفيد. فالعلم بثبوت الممكن فيه من الصعوبة ما ليس في العلم بحدوث المحدث، فإن حدوث المحدثات مشهود بالحس، وهو صفة خارجية ثابتة ليست مقدرة في العقل.

ثم افتقار المحدَث إلى مُحدِثٍ أظهر وأبين وأَبْدَهُ للعقل من كون

(1)

سورة الطور: 35.

ص: 111

الممكن المستوي الطرفين مفتقرًا إلى المرجح، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

وإنما المقصود هنا أن كل ما دلَّ في بعض الموجودات أنه مخلوق لله، فهو يدلّ على ذلك في أفعال العباد، فيعلم بذلك كثرة الأدلة وقوتها على هذا المطلوب. ولهذا قال من قال من أئمة السلف، كحماد بن زيد وغيره: من قال: أفعال العباد لم يخلقها [الله]، بمنزلة من قال: السماء والأرض لم يخلقها الله.

والمقصود هنا أنه إذا كان قصده وفعله مخلوقًا لله مربوبًا له، لا يوجد إلا بمشيئته وقدرته وربوبيته وإعانته، إذ يمتنع أن يكون حادثًا بنفسه، أو حادثًا من غير مُحدِث، فكذلك أيضًا يجب أن يكون لله، مُبتَغى به وجهُ الله، لا يفعل إلا لمحبته ورضاه وإلهيته وعبادته، فإنه لا يجوز أن يكون ليس فيه مقصود مراد، إذ القصد والعمل لغير مقصودٍ مرادٍ ممتنعٌ، كما أن الحادث من غير محدِثٍ ممتنعٌ.

ولا يجوز أن يكون هو المقصود المراد المحبوب بعمله، كما لا يجوز أن يكون هو الخالق له، لأنه يفضي إلى التسلسل والدور، فكما قلنا: لو كان قصده حادثًا بقصد آخر، فإن كان ذلك القصد الثاني حادثًا بالأول لزم الدور، وإن كان حادثًا بغيره لزم التسلسل.

فيقال: لو كان هو المقصود بذلك، فإما أن يكون مقصودًا لنفسه أو لأمرٍ آخر، ويمتنع أن يكون مقصودًا لنفسه، كما يمتنع أن يكون مُحدِثًا لنفسه، لأن المقصود يجب أن يتأخر عن القاصد، كما يجب أن يتقدم الفاعل على المفعول، فإذا لم يجز أن تَفعَلَ نفسُه نفسَه لم يجز أن

ص: 112

تقصد نفسُه نفسَه، لوجوب تأخر نفسه عن نفسه، ولوجوب تقدم نفسه على نفسه في العلم والقصد، وهذا بيّن، إذ لا بد أن يتأخر هذا المقصود عن وجود ذاته، فتكون ذاته قبل وجود هذا المقصود، فإذا كانت ذاته هي المقصود وهي القاصد، لزم أن لا تكون إلا متقدمة، وأن لا تكون إلا متأخرة، فتكون موجودة معدومة أربع مرات، كما تقدم بيانه.

وقد يُقال: إن هذا ظاهر فيما إذا كان نفس ذاته هي العلة الغائية من وجودها، وهذا تقدم، وإنما الكلام هنا في قصده لفعل نفسه الذي يفعله هو.

فيقال: مقصوده بفعله كإحداثه لفعله، كما أن مقصود فاعله به كإحداث فاعله له، وقد تبيّن أن حدوث قصده لا يجوز أن يكون ابتداءً منه بل من الله، وأن كونه منه يفضي إلى التسلسل والدور.

فكذلك لا يجوز أن يكون هو منتهى قصده وإرادته بعمله، بل ذلك يُفضِي إلى الفسادِ وكونِ العمل غيرَ نافع بل ضارًّا، لأن المراد المقصود بعمله إما أن يكون مصلحة لنفسه، أو لا يكون، فإن لم يكن فيه مصلحة لنفسه كان عمله فاسدا باطلاً، وإن كان فيه مصلحة لنفسه، فإن كانت تلك المصلحة حاصلةً في نفسه قبل قصده وعمله كان هذا القصد والعمل باطلاً لا فائدة فيه أيضًا، وإن لم يكن حاصلاً في نفسه لم يكن في مجرد كون النفس هي منتهى القصد ما يوجب مصلحة، فإن النفس موجودة قبل ذلك، بل لا بد أن يطلب المصلحة بالقصد من غير النفس، فيكون ذلك هو المقصود لمصلحة النفس، فإن المطلوب لها

ص: 113

إذا لم يكن فيها لا يطلب إلا من غيرها، وهذا مبين نظير ما قلناه في الأسباب، فإن المطلوب للنفس من المصلحة بهذا القصد والعمل إن كان حاصلاً فيها لم يكن في القصد والعمل فائدة، وإن لم يكن حاصلاً فيها لم يطلب حصوله بالقصد والعمل إلا من غيرها.

فكما استدللنا على أن حدوث أفعال النفس لا تُوجَد بمجردها، بل لا بد من سبب منفصل، فكذلك نستدل على أن أفعال النفس لا تنفعها وتفيدها وتصلحها بمجرد النفس، بل لا بدَّ من غاية منفصلة يكون في قصدها صلاح النفس ومنفعتها وخيرها.

ولهذا كل من عمل عملاً لنفسه كان طالبًا لمصلحتها من الأمور الخارجة عنها، مثل من يصنع الطعام للأكل، والثياب للباس، والكرسي للجلوس، فإن الغاية المقصودة للطعام هي الأكل، وغاية الأكل هي وجود اللذة والمنفعة بالاكل والشبع ودفع ألم الجوع، فهذه المنفعة واللذة المطلوبة للنفس لا تطلب من النفس، بل يُطلب حصولُها لها بسبب آخر غيرها، كما أن الإنسان لا تتحرك إرادته إلا بسبب منفصل، مثل أن يحس ما يوجب حركته أو يسمع بذلك، فإن الإرادة لا تتحرك إلا بشعور وإحساس، وذلك لا يكون ابتداءً إلا بأسباب منفصلة، إذ هي وحدها لا تقتضي الحركة والإرادة، كما أنها وحدها لا تحصل اللذة والمصلحة.

يُبيِّن ذلك أنها إذا قصدت بفعلها أمرًا فالمقصود إن كان حاصلاً فيها كان ذلك تحصيلاً للحاصل، وهو محال، وإذا لم يكن المقصود فيها امتنع أن تكون هي منتهى القصد وغاية المراد، إذ المقصود المراد

ص: 114

يُطلَب حينئذٍ لها من غيرها، فإذا جعل الإنسان غاية مقصوده هو نفسه وهوى نفسه، لم يقصد ما يصلح نفسه وينفعها، بل ما يضره أو لا ينفعها، كما قال تعالى:(يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ)

(1)

.

وبيان ذلك بالبرهان المشابه لبرهان الإحداث أن يقال: هو إذا فعل فعلاً فإما أن يصلح أن يكون ذلك الفعل بمجرده مقصودًا لنفسه، أو لا بد أن يقصد به شيئًا آخر، فإن صلح أن يكون مقصودًا لنفسه وغاية الفاعل، جاز في كل فعلٍ مقصود أن يكون مقصودًا لنفسه، وحينئذ فيلزم أن يصلح للنفوس كل ما يحبه ويهواه، ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد، وإن لم يجز أن يكون مقصودًا لنفسه، بل وجب أن يقصد به شيئًا آخر، فإما أن يكون هوي نفسه ومراده أو أمرًا آخر، فأما الأول فيفضي إلى الدور، وذلك أنه إذا قصد بفعلِ أمرٍ لكون نفسه تهواه وتقصده وتحبه، فكونها تحب ذلك وتهواه وتقصده إما أن يجوز أن يكون غايةً مقصودةً بالفعل أو لا يجوز، فإن لم يجز ذلك بطل هذا، وإن جاز أن يكون غاية مقصودة بالفعل صلح في فعلها الأول الذي قصدت به هذا أن يكون لمجرد كونها تحبه وتقصده وتهواه.

ومتى صلح ذلك لم يجب أن تكون لهذه الغاية ولا غيرها، فصار كون هذا مقصودًا لنفسه يمتنع أن يكون مقصودًا لنفسه، وذلك هو الدور. وصار كون الفعل يصلح أن يكون مقصودًا، وذلك يوجب أن لا يمنع متحرك من حركته التي يهواها، ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد،

(1)

سورة الحج: 13.

ص: 115

فوجب أن يكون مقصودُه بذلك الفعل أمرًا آخر، لا مجرد ما تهواه نفسه وتحبه وتريده.

وهذا يبيّن بالدليل العقلي أن اتباع الأهواء مطلقًا موجب للفساد، وأنه لا يصلح أن يعبد الإنسان مجرد ما يهواه، كما قال:(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)

(1)

، وأنه لا بد أن يكون المعبود المقصود يُعبَد لمعنًى فيه، لا لمجرد إرادة النفس وهواها، وحينئذ فذلك المعنى الذي اختص به وصار لأجله محبوبًا معبودًا إما أن يكون لنفع منه إلى المحب القاصد العابد، وإما أن يكون لذاته، بمعنى أن في قصده ومحبته صلاح القاصد العابد.

أما الأول فقد تبين في المقام الأول أن الله هو رب، كل شيء وخالقه، فليس غيره مستقلاًّ بالنفع، وإن كان غيره سببًا فيه، فذلك النفع الذي يفعله إما أن ييسره الله أو لا يُيسِّره، فإن يسّره وصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، وإن لم يُيسِّره لم يصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، فلم يكن في عبادته ما يوجب وصول تلك المنفعة إليك.

وأيضًا فذاك المعبود إما أن يَعلَم بعبادتك أو لا يَعلَم، فإن لم يعلم لم يجز أن يقصد إيصال النفع إليك، وإن علم فالعالم الشاعر لا يعمل إلا لجلب منفعة أو دفع مضرة. وكونك تعبده وتقصده وتجعله هو الغاية المطلوبة بعملك ليس له في هذا منفعة ولا مصلحة، لأنه لو جاز

(1)

سورة الجاثية: 23.

ص: 116

أن تكون نفسه غاية له مقصودةً بعمل غيره، لكان أن تكون غاية له بعمل نفسه أولى وأحرى.

وقد تبين أنه لا يجوز أن تكون نفسه غاية نفسه بعمل نفسه، فأن لا تكون غاية له بعمل غيره أولى وأحرى.

وهذا كما نقول في جانب الربوبية: إذا [كان] كل من المخلوقات فقيرًا عن أن يقيم نفسه، ويكون وجودها به، فهو عن أن يكون مقيمًا لغيره وجوده به أولى وأحرى، إذ ذاته أقرب إلى ذاته من غيره، فإذا لم يجز أن يكون فاعلاً لنفسه، ولا يصلح أن يكون غاية مقصوده لها بعمله، لم يجز أن يكون فاعلاً لغيره ومقصودًا لغيره.

وقد تبين أن المخلوق إذا لم يكن له في مجرد كونه معبودًا مصلحة، فإن حصل له بعبادة غيره له غرض آخر من غيره، مثل إقامة رئاسته وتعظيمه عند الخلق، ونحو ذلك مما يلتذ به، كان ذلك إحسانًا إليه، وكان ما يعطيه إياه من باب المعاوضة، فالمعبود من الخلق مفتقر إلى شيء غيرِه منفصلٍ عنه يحصل به مقصوده من عبادة غيره الذي يحسن إليه بقوة نفسه، وهذا فقير إلى غيره في هذا كفقره إلى غيره في هذا.

وأما ما يكون محبوبًا معبودًا لذاته، بأن يكون في مجرد ذلك مصلحة ومنفعة لقاصده، مع تقدير أنه لا يقصد نفع قاصده، فهذا كما يتمتع الإنسان بالنظر إلى المناظر الجميلة، ويتمتع بسمع الأصوات المطربة، وهذا قد يكون من الجانبين، كما أن كلاًّ من الزوجين يتمتع بالَاخر، فهذا يقصد انتفاعه بهذا، وهذا يقصد انتفاعه بهذا، إذ في

ص: 117

مباشرة كل منهما للآخر لذة وسرور. وكذلك المتعاونان على علم أو عبادة أو تجارة أو غير ذلك.

وبالجملة فعامة أمور بني آدم إما معاوضة وإما مشاركة، وكل منهما يقصد ما ينتفع به من الآخر، لا يقصد نفع الآخر، لكن تارة يكون الانتفاع بذاته كما في الزوجين، وتارة بما منه كما في شريكي العنان.

وكل من هذين النوعين لا يجوز أن يكون معبودًا محبوبًا لذاته، فإنه إنما يُحَبُّ لأمر عارض لذاته ليس بلازم لها، ثم ذلك المحبوب تنقضي محبته بحصول الغرض منه، كما ينقضي غرض أحد الزوجين من الآخر إذا انقضت المنفعة.

وكذلك المتمتع بالنظر إلى منظر بهيج، وكلّ ما يُذكر عن عُشَّاق الصور والمال والرئاسة، فإنه لأمر عارض في المحبوب، وعارض في المحب، ليس لذات واحد منهما، ولهذا تكون المحبة في وقت دون وقت، وقد تتبدل بالبغضاء، وما كان الشيء فإنه باق ببقاء ذاته، وإنما هذه المحبوبات تتناول لقضاء الحاجة، وإذا زادت على الحاجة ضرَّتْ على الإنسان وأفسدته.

ولهذا يُقال: إنها في الحقيقة دفع آلام، ولا ريب أن لذَّات الدنيا متضمنةٌ دفعَ ألمٍ، بخلاف لذَّات الآخرة، فإنه يتمتع بها من غير دفع ألم، لكن مع هذا لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته في الأفعال الاختيارية، وذلك أن العلة أكمل من المعلول، سواءً كانت فاعلية أم غائية.

ص: 118

فكما أن الفاعل المبدع أكمل من المفعول، فالمفعول لأجله -الذي هو المحبوب المقصود المعبود- أكمل من الفاعل، بل العلة الغائية أكمل من العلة الفاعلية، فإنها هي التي جعلت الفاعل فاعلاً، ولولا ذلك لم يكن فاعلاً، وإن كان الفاعل مستغنيًا عنها من جهة نفسه، لا من جهة كونه فاعلاً، والغائية غير مفتقرة إلى، الفاعل من حيث كونها غاية ومطلوبة، بل هي في نفسها غاية ومطلوب، سواء قُدِّر وجود الفاعل أو عدمه، لكن لا ينال المقصود بها إلا بالفاعل، فحصول المقصود بها كحصول الفعل من الفاعل.

فالفعل سبب ووسيلة إلى المقصود بها، ومعلوم أن المقاصد أشرف من الوسائل، ولهذا قدم سبحانه قوله:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على قوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) لأن العبادة هي المقصود المطلوب، والاستعانة سبب ووسيلة إليها.

وكونه سبحانه إلهًا معبودًا للخلق أكمل من جهة كونه ربًّا مُعِينًا لهم من جهتهم ومن جهته.

أما من جهتهم فإن من لم يعبده منهم، فلم يؤمن به، ولم يطع رسله، يكون شقيًّا معذَّبًا، وإن كان مربوبًا مخلوقًا، وإنما سعادتهم إذا عبدوه فآمنوا به وأطاعوا رسله.

وأما من جهته فإنه يكون إلهًا يفتقرون إلى ذاته، ويكون ربًّا يفتقرون إلى ما منه، وكون الشيء مقصودًا لنفسه أشرف من كونه مقصودًا لغيره.

ص: 119

وبالجملة فمن المستقر في فِطَرِ الناس أنَّ ما يُطْلَب لغيره فذلك الغير أشرف منه، وأن المقاصد أشرف من الوسائل.

ولهذا يقال: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإذا كان كذلك، فكل ما يُقدر أنه هو المقصود المعبود لذاته دون الله تعالى، فإنه محتاج إلى ما يكون مقصودًا معبودًا لذاته، فإن الحي لا بد له من إرادة، ولا بد لكل إرادة من مراد لذاته، فإن المراد إما مراد لنفسه وإما مراد لغيره، واذا أريد لغيره فذلك الغير إما أن يكون مرادًا لنفسه أو لغيره، فإن كان ذلك الغير هو الأول لزم الدور القبلي، وان كان غيرًا آخر لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع. وكل ما دل على أن كل محدَث فله محدِث، وكل ممكن فله واجب، وأن الممكنات المحدثات لا بد لها من قديم واجب بنفسه، قطعًا للدور القبلي والتسلسل في العلل، فإنه يدلّ على أن كل مريد فلا بد له من مراد، وكل متحرك بالإرادة فلا بد له من غاية، وأنه لا بد لجميع الإرادات والحركات الاختيارية من مراد لنفسه ينقطع به الدور القبلي في العلل، فإذن كل متحرك بالإرادة من المخلوقات، بل كل مريد فلا بد له من مراد لنفسه هي الغاية. والمراد لنفسه أكمل من المراد لغيره، فكل مريد من المخلوقات مفتقر إلى مراد لنفسه يكون أكمل منه، فلو كان شيء محبوبًا مرادًا لذاته لكان المحب له يحب محبوبه، لأن محبوب المحبوب محبوب، ومراد المراد مراد بطريق اللزوم. فإن استلزام الحب الأول للأول كاستلزام الحب الثاني للثاني، فكما أن المحبّ لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، فالمحبوب كذلك لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، ولا تتم مصلحة محبوبه إلا بحصول مصلحته، لأنه إذا فسد حال المحبوب فسد حال محبه، فإذا

ص: 120

قُدِّر أن من المخلوقات ما يحب لنفسه، وذلك مستلزم لمحبته محبوبه الذي هو أكمل منه، كان الاكمل محبوبًا مرادًا بطريق اللزوم والقصد الثاني، وكان الأنقص محبوبًا مرادًا بطريق الأصالة والقصد الأول. ومعلوم أن هذا فساد ينافي الصلاح، فإن الحب والإرادة إن لم يتعلق بالأشياء على ما تستحقه الأشياء، لزم حال الحب الفاسد.

وأيضًا فالفطرة السليمة تنافي ذلك، ولا يقع مثل هذا إلا عند فساد الفطرة وتغيرها. وإلا فمن كان تلذذُه بالماَكل الرديئة دون تلذذِه بالمآكل التي هي أطيب منها، دلّ على نوع فساد فيه، وذلك يستلزم الفساد، كما يحصل للمريض من تلذذه بالمآكل الرديئة الضارة دون الجيدة النافعة.

وكذلك القلوب فُطِرَتْ على الصحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة"

(1)

، فهي مع السلامة لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا تسكن إلا إليه، ولا تتألَّه إلا إياه، وافتقارها إلى معرفته وذكره وعبادته لا يشبهه شيء من الأشياء. فإذا قلنا: كافتقار الجائع إلى الطعام، والعطشان إلى الماء، والمغتلم إلى الجماع، كان ذلك كله تمثيلاً ناقصًا.

وكما أن هذه المفتقرات إلى هذه الأمور تفسد إذا لم يحصل ما يصلحها، ففساد النفوس إذا لم تعرف الله وتحبّه وتعبده أعظم بكثير كثير، وهذا حال كل من في السموات والأرض من الملائكة والجن

(1)

أخرجه البخاري (1358) ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة.

ص: 121

والإنس، لا يجوز أن يصلح حالهم إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمالَ محبته وكمالَ الذلّ له، فإن العبادة تجمع كمال الحب وكمال الذلّ، وهذا شأن المراد لذاته المقصود لذاته، وكلّ ما سواه فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا يكون هو مرادًا محبوبًا لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو أكمل منه، بل هو معبود له. والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبًا، والتابع لغيره محبوب لذاته، والمتبوع محبوب لغيره.

وهذا الأصل هو أصل أصول الشرائع والملك، فإن الرسل جميعهم إنما بعثوا لأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وكما أنه مبرهن بالمعقول والقياس والنظر، فهو أيضًا معروف بالوجد والإحساس والذوق، فإن العبد يحس من قلبه فقرًا ذاتيًّا إلى ذكره وعبادته، غير فقره إليه من جهة إعطائه سُؤلَه، وجلب المنافع له، ودفع المضار عنه، فإن الفقر إليه من هذا الوجه هو أظهر في الابتداء، ولكن الإنسان يجد نفسه إلى أي موجود توجه بقلبه وذكره، لا يجد الطمأنينة ولا السكينة حتى يذكر الله ويُوجّهَ قلبه إليه، فإنه يجد الطمأنينة والسكينة فلا يبقى عنده منازعة إلى شيءآخر.

فكما أن السائل الداعي الراغب في قضاء حاجته إذا توجّه إلى الله بصدقٍ اطمأنَّ طمأنينة من وصل إلى من نال منه المطالب والحاجات، فكذلك المريد المحب [السائل]

(1)

لما يطمئن إليه إذا توجه إلى الله

(1)

بياض في الأصل بمقدار كلمة.

ص: 122

بصدقٍ، اطمأنَّ طمأنينة من حصَّل بُغْيَته ووجد محبوبَه ومألوهَه وطَلِبَتَه، وهذا الأصل إنما يستقر لأهل المِلَلِ أتباع ملة إبراهيم، أهلِ الحنيفية، فأما غيرهم فلا، حتى المتفلسفة الإلهيونَ ومن سلك سبيلهم من أهل الملل مع دعواهم أنهم حققوا المعارف اليقينية والحكمة الحقيقية، وقالوا: سعادة النفوس كمالها علمًا وعملاً، هم من أبعد الناس عن هذا، وذلك أن عندهم غاية سعادة النفوس نيل العلم فقط، وحقيقة العلم بالكليات التي لا وجود لها في الخارج كليات، والوجود الذي يثبتونه لواجب الوجود هو من هذا النمط.

ويقولون: غاية الإنسان أن يصير عاقلَا معقولاً موازيَا للعالم الموجود.

ويقولون: كمال الإنسان أن يتشبه بالخالق بحسب الإمكان.

وقد سلك نحوَا من سبيلهم أبو حامد في "المقصد الأسنى

(1)

في شرح الأسماء الحسنى"، وهم يزعمون أن الأفلاك إنما تتحرك للتشبيه في قوتها، وهم في هذا ضالون من وجوه:

أحدها: جعلهم غاية العبادة مجرد العلم، والنفس لها قوة العلم وقوة الحب والإرادة، فإذا حصل مجرد العلم من غير معلوم محبوبٍ مرادٍ لذاته فسدت النفس، فكيف يكمل مجرد ذلك؟

(1)

في الأصل: "القصد". وانظر "المقصد الأسنى"(ص 45 - 58) حيث ذكر أن كمال العبد وسعادته في التخلق بأخلاق الله تعالى والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه بقدر ما يتصور في حقه.

ص: 123

ومن هنا تجدهم معرضين عن العبادات، بل مستخفين بأهلها، وقد يظنون أن الرسل إنما أمروا بحفظ قانون يُستعان به على نيل الحكمة النظرية

(1)

فقط، كما ذكر ذلك من ذكره من متفلسفة المسلمين واليهود وغيرهم. وأما الرسل فأول دعوتهم الأمر بعبادة الله، ولهذا كان نهاية المتفلسف أول قدم يدخل به الإنسان في الإسلام.

الوجه الثاني: أنهم جعلوا المعلوم الذي تكمل به النفوس هو العلم بالمجردات التي عند التحقيق لا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع. فاما الموجودات الخارجية فهم لا يعلمونها بأنفسها، ولا يعترفون بالله ولا ملائكته، وإنما يقرون بوجودِ مطلقٍ بشرط الإطلاق لا حقيقةَ له في الخارج.

الثالث: جعلهم غاية كمال الإنسان التشبّه بالإله، وأن المتحركات العلوية إنما تتحرك للتشبُّه بمن فوقها، مع أنهم أشد الناس إنكار، للتشبيه، وأدخلهم في التعطيل، [فينكرون]

(2)

من التشبيه ما يخلقه الله، ويدعون من التشبيه ما يفعلونه بكسبهم.

وقد استدل أبو حامد

(3)

بحديث ذكره مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخلَّقوا بأخلاق الله"

(4)

.

(1)

في الأصل: "والنظرية".

(2)

هنا بياض في الأصل بقدر كلمة.

(3)

في المقصد الأسنى (ص 150).

(4)

حديث لا أصل له قال ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 341): باطل، وانظر الضعيفة (2822).

ص: 124

وأنكر أبو عبد الله المازري وغيره ذلك، وقالوا: ليس للرب خلق يتخلق به العبد. وتحقيق هذا في موضع آخر.

وذكر هذا أبو طالب المكي، وأنكره عليه الشيخ أبو البيان الدمشقي، فيما أنكر عليه.

الرابع: أن هذا القدر في ثبوته نزاع مذكور في غير هذا الموضع، كما قرره أبو حامد وغيره، فليس الكمال والسعادة في أن يقصد العبد التشبّه بالرب فقط، بل أن يقصد عبادته، فإنه بدون أن يكون معبودًا له مقصودًا، يفسد حاله، فلا تكون له سعادة بحال، وإذا عبده مع نقيض اتصافه بصفات الكمال حصل له من السعادة بقدر ما عبده، فإذا اتصف مع ذلك بما يحبه الرب كانت سعادته أكمل، وجميع ما في العباد من صفات المدح والكمال التي يوصف الرب بالكمال المطلق فيها كالعلم والرحمة والقدرة ونحو ذلك، إنما يصير صاحبها سعيدًا كاملاً نائلاً سعادته إذا قصد المقصود المعبود لذاته، فأما بدون ذلك فلا سعادة له أصلاً. فمثل هذه الصفات من توابع الكمال والسعادة ومكملات ذلك، وأما عبادة المعبود المقصود لذاته فإنه من لوازم السعادة والفلاح، لايتصور وجود السعادة والفلاح بدون ذلك.

فالمتحركات العلوية جميعها حركاتها عبادة لله، كما وصف الله بذلك الملائكة وغيرهم، وقال:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ثم قال (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)

(1)

، فبيّن بذلك أنه ليس

(1)

سورة الحج: 18.

ص: 125

المراد بالسجود مجرد دلالتها على الخالق وشهادتها، بل إن الحال له فإن هذا يشترك فيه جميع الناس (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38))

(1)

، وقال تعالى:(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19))

(2)

.

ولهذا عدل أبو الحكم بن بَرَّجان في شرحه للأسماء الحسنى من لفظ التخلق والتشبه إلى لفظ التعبد، فصار يذكر معنى الاسم واشتقاقه، ثم الاعتبار إثبات مقتضاه في المخلوقات، ثم تعبد العبد بما شرع له من مقتضاه.

فقد تبيّن بذلك أنه لا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات مقصوداً لنفسه، لا مقصوداً له ولا مقصوداً لغيره، وأن ذلك مستلزم لكون شيء من المخلوقات لا يكون ربًّا بنفسه، لا ربّا لنفسه ولا ربّا لغيره.

لكن هذا ممتنع الوقوع كما اعترف به المشركون.

وأما الأول فهو محرم الوقوع، بمعنى أنه إذا وقع كان فيه فساد، لكون الحركات إلى غير غاية نافعة، بل إلى غاية ضارة، كما قال تعالى:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)

(3)

، ولم يقل: عُدِمَتا، إذْ لو جاز أن يشرع أن تكون المخلوقات آلهة مقصودة معبودة لذواتها لزم من

(1)

سورة فصلت: 38.

(2)

سورة ص: 18، 19.

(3)

سورة الأنبياء: 22.

ص: 126

ذلك تجويز عبادة كل شيء، وتجويز كل فعل وكل قصد، وذلك مستلزمٌ فساد السموات والأرض، قال الله تعالى:(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)

(1)

، فإذا لم يكن الدين لله فتكون حركات العباد لغير الله، كانت الفتنة والفساد، فالصلاح أن تكون الحركات لله، والفساد أن تكون لغير الله، وهذا- والله أعلم- من أحسن الأمور، لكنه يحتاج إلى بسط وإكمال.

ولهذا يستدل بالحركات السماوية على وجود الرب وعلى أنه هو الإله المعبود، فإن الحركة تستلزم وجود مبدأ هو السبب الفاعل، وغاية هي المنتهى المقصود، والمقصود بتلك الحركات لو كانت المتحركات يقصد بها غير الله لزم الفساد في المتحركات.

كما بيناه في أنه متى قدر أن يكون المخلوق مقصودًا لذاته لزم الفساد، ومعلوم أن الحركات السماوية جارية على انتظام لا فساد فيها، فعُلِمَ أنها عائدة بهذه الحركات لله قاصدة له، كما دلّ على [ذلك] الكتاب والسنة، لا كما يقوله المشَّاؤون من الفلاسفة أن ذلك لاستخراج الأيُون والأوضاع، فإن ذلك من أفسد الكلام.

وأما المبدأ فقد عُلِمَ أن الحركة ليست طبيعية، لأن تلك إنما تكون إذا خرج المتحرك عن مستقره، وذلك إنما يكون في الحركات المستقيمة، فأما إذا كان المطلوب من جنس المتروك امتنع أن يكون تاركًا لأحدهما طالبًا للآخر، فعُلِمَ أن الحركة إرادية.

(1)

سورة الأنفال: 39.

ص: 127

والحركة الصادرة عن إرادة إما أن تكون الإرادة أحدثها ذلك المتحرك أو غيره من المخلوقات، لا يجوز أن يكون هو المُحدِث لها، ولا غيره من المخلوقات، لأن إحداثه لها يجب أن يكون بإرادة، فيلزم الدور والتسلسل، فوجب أن تكون تلك الإرادة المقتضية للحركة حدثت بإرادة من الله، وهذا هو المقصود.

وأيضا فمن المعلوم أن كل واحد من ذوي الحركات المختلفة السماوية له حركة تخصه، فلا يجوز أن تكون حركة أحدهما بحركة الآخر، كحركة الشمس والقمر الخاصتين بهما، فتبين أنه ليس بعضها خالقًا لبعضٍ ومُحدِثًا لحركتِه، فيكون المُحدِث لذلك غيرها، وهو المقصود.

ولا يجوز أيضا أن يكون المحدث لذلك هو الفلك الأعلى وحركته، لأنها حركة واحدة بسيطة متشابهة الأجزاء، ولو كانت هي المُحدِثة لما سواها لوجب أن تكون جميع الحركات من جنس واحد بسيطة، ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، وهذا يبين أن حركات الأفلاك والكواكب الحركات المختلفة ليست صادرة عن الفلك، فعُلِمَ أن المحرِّك لها غير الفلك، وإذا ثبت أن المحرك لها غير الفلك التاسع، ثبت وجود موجود غير الفلك التاسع يكون مبدأ الحركات.

ومعلوم أن حركة الفلك التاسع من جنس هذه الحركات، بل الفلك من جنس هذه الأفلاك، فإذا كانت هذه محدَثةً مخلوقة امتنع أن لا يكون الفلك التاسع وحركته محدثة مخلوقة، لأن القديم الواجب الوجود لا يكون مثل المخلوق المحدث، ولأن الفلك التاسع لو كان

ص: 128

وحده قديمًا واجبًا- وهو أيضا محرك للأفلاك، ولهذا أيضًا حركته من غيره- لكان في الأفلاك محرِّكانِ كل منهما قديم واجب الوجود، فإن اختلفا في الإرادة لزم تضادُّ الحركات والتمانع، وهو خلاف الواقع. وإن اتفقا في الإرادة لزم اتفاقهما في الفعل، والاتفاق في الفعل يوجب أن لا يكون أحدهما فاعلاً له مستقلاًّ به، لا هذا ولا هذا، وإذا كان ذلك يوجب عجز كل منهما عن أن يكون فاعلاً- والعاجز يمتنع أن يكون قديمًا واجب الوجود خالقًا- امتنع أن يكون الفلك كذلك.

ص: 129

فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح

ص: 131

فصل

في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل صالح.

وهذا المعنى قد تكلمنا عليه مرارًا في القواعد المتقدمة وغيرها، وفي مراسيل مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أخلصَ لله أربعين صباحًا تفجرتْ ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه "

(1)

، هكذا رواه الإمام أحمد فيما رواه عنه المروذي في الإخلاص ونحوه من أعمال القلوب. وقد روي هذا- فيما أظن- من حديث يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف ساقط.

ولهذا ذكر أبو الفرج بن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات"

(2)

، وطعن على الصوفية الذين جعلوه عمدتهم فيما يفعلونه من الخلوة أربعين يومًا، وأبو الفرج فيما ينكره على الصوفية في مثل "تلبيس إبليس" ونحوه، قد شاركه طوائف في إنكار ما أنكره، وكلّ من المُنكِرين والمُنكَر عليهم مجتهدون، لهم علم ودين، والصواب تارة يكون مع هذا الطرف، وتارة يكون كل منهما مصيبًا من وجه مخطئًا من وجه، فيقتسمان الصواب والخطأ، ويكون الصواب

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (13/ 331) وهناد في الزهد (678) وأبو نعيم في الحلية (10/ 70) عن مكحول مرسلاً. وإسناده ضعيف، انظر "المقاصد الحسنة" للسخاوي (ص 395).

(2)

"الموضوعات"(3/ 144، 145).

ص: 133

تارة في غير ما عليه الطائفتان المتقابلتان، وهذا في مواضع كثيرة، ولعل هذا منها.

فأما الطعن في الإخلاص لله أربعين صباحًا فهذا ليس بسديد، فإن نفس الإخلاص وكونه أصل كل خير قد دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه الأمة، وسنذكر من ذلك ما شاء الله.

وأما توقيته بأربعين ففيه هذا الحديث المرسل، ولكن لم يذكره أبو الفرج، فما أظنُّه بلغَه، ورآهم اعتمدوا حديثًا ضعيفًا، فكثيرًا ما يعتمدون على أحاديث واهية.

ثم مراسيل مكحول فيها نظر، وفي الاستدلال بالمرسل نزاع، لكن يُقال: المرسل إذا عَضَدتْه أدلة أخرى استدل به.

والأربعين فيها يتحول الإنسان من حال إلى حال، كما ثبت في الصحيحين

(1)

من حديث [ابن مسعود]، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يُجمَعُ خَلْقُ أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يُنفَخ فيه الروح ".

ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن

(2)

: "مَن شرب الخمر لم تُقبَل له صلاةُ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم

(1)

البخاري (7454) ومسلم (2643).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 35) والترمذي (1862) من حديث ابن عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد روي نحو هذا عن عبد الله بن عمرو وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 134

تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم تُقبل له صلاةُ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا على الله أن يَسقِيَه من طِيْنةِ الخَبال".

وفي صحيح مسلم

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى عَرَّافًا فسأله عن شيء لم تُقبَل له صلاة أربعين يومًا".

ومثل هذا كثير، وقد جمع الحافظ عبد القادر الرُّهاوي في أول كتابه في الأربعين حديثاً أربعين بابًا، في كل بابٍ حديثٌ فيه ذِكرُ الأربعين.

فإخلاص أربعين يومًا له شواهد في أصول الشريعة، لكن الخلوة المعينة قد يشترطون فيها شروطًا مبتدعة خارجة عن المشروع، بل منهيًّا عنها، مثل اشتراط الصمت الدائم، والجوع الدائم، أو السهر الدائم، أو طعامًا مُعيَّنَ القدر والوصف، واشتراط شيخ يُدخِلُه الخلوة، وتسمية ذلك خلوة، ومثل ترك الصلاة في جماعة، وبعضهم قد يترك الجمعة.

وبالجملة فالمشروع من هذا الباب هو الاعتكاف الشرعي الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأما ما كان يفعله بحِراءَ قبل المبعث، فلسنا مأمورين باتباع ذلك، فإنه من حين بُعِثَ إلى الخلق وجب على الخلق كلهم طاعته واتباعه، والعبادة بما شرعه بعد المبعث دون العبادة التي لم يشرعها هو، ولو أراد أحد أن يفعل بغار حراء ما

(1)

برقم (2230) عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 135