الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة المحقق أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العالم الورع عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم الورع الفاضل أبي البركات بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه:
فصل في التوحيد
قال الله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22))
(1)
، قد كتبنا فيما تقدم قواعد تتعلق بذلك في توحيد الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي أنه كما يمتنع أن يكون للخلق رَبان، يمتنع أن يكون له إلهان، وتكلمنا على العللِ والأسباب الفاعلية والغائية، وما يتعلق بقوله:(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) وفي أن جميع الحركات ناشئة عن المحبة التي هي حقيقة العبادة، وبسطنا الكلام في هذه المواضع بسطًا شريفا نافعا كاشفًا، ولله الحمد.
فنقول: إنه
يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له
، لما فيه من الدور القَبْلِيّ، ولا يمتنع شيئان كل منهما مع الآخر بشرط فيه، وهو الدور المَعِيّ.
وقد بينَّا هذا في جواب مسائل الدَّور، وذلك أن العلة والسبب
(1)
سورة الأنبياء: 22.
والفاعل يجب أن تتقدم المعلول والمسبب والمفعول، فإذا كان هذا علة ذاك، وجب أن يكون هذا قبله. وإذا كان ذاك علة هذا وجب أن يكون ذاك قبله، فيجب أن يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا، وهو ممتنع، إذ هذا إذا كان قبل ذاك، وذاك قبله، كان ذاك قبلَ قبلِ نفسِه، وهو لو كان قبل نفسه كان ممتنعًا، لالتزامه اجتماع النقيضين، إذ هو قبل نفسه معدوم، فإذا كان قبلها كان معدومًا موجودًا، فيلزم هنا اجتماعهما مرتين.
وكذلك إذا قيل: يلزم أن يكون ذاك قبل هذا، وهذا قبله، يلزم مثل ذلك، فيلزم أن يكون ذاك قبلَ قبلِ نفسِه، وهذان الاجتماعان هما ذانك باعيانهما، وإنما فيه التقديم والتأخير، ومضمونه أن يكون الشيء موجودًا قبل أن يكون موجودًا بدرجتين، فإن كون الشيء فاعلاً لنفسه ممتنع، فكيف يكون فاعلاً لفاعل نفسه، وكذا كونه علة نفسه يعني أن نفسه وُجدَت فأوجدتْ نفسَه، وهذا الممتنع لازم في العلتين جميعًا، فيلزم اجَتماع النقيضين أربع مرات.
وكذلك يمتنع في العلة الغائية، التي يقال لها الحكمة والعاقبة، سواءً كانت العلة جوهرًا أو عرضًا. وذلك أن الغائية يجب تأخرها عن المعلول في الوجود، كما يجب تقدم العلة الفاعلة التي هي السبب، فإذا كان هذا علة ذاك لزم تاخر هذا عن ذاك، وبالعكس، يلزم تاخر ذاك عن هذا، فيكون هذا متاخرًا عن نفسه بدرجتين، فيلزم هنا مثل ما لزم هناك، وهو اجتماع النقيضين أربع مرات، فإن امتناع تأخر هذا عن نفسه بدرجة أو درجتين، وهكذا ذاك.
وكذا إذا قدر أن الغاية عرض من الأعراض، كاللذة مثلاً والتنغُم والانتفاع وغير ذلك، فإنه يجب تأخر هذا عن ذاك، وذاك عن هذا، فيلزم ما تقدم من التناقض أربع مرات.
وأيضًا فالعلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية، لأنها متقدمة في العلم والقصد، فيجب أن يكون هذا متقدمًا على ذاك علمًا وقصدًا، فيكون هو المقصود بالقصد الأول، وأن يكون ذاك متقدمًا على هذا، فيكون هو المقصود بالقصد الأول، فيلزم تقدم هذا على ذاك، أو تقدم ذاك على هذا، وبالعكس، فيلزم تقدم كل منهما على نفسه بمرتبتين، فكما لا يفعل هذا لذاك، وبالعكس، لا يكون هذا هو المقصود من فعل ذاك وبالعكس.
وهذا يبين في الفاعل الواحد الذي هو القاصد، قُدِّر كل منهما فاعلاً مفعولاً، والغاية غيرهما، وهنا قدِّر كل منهما مفعولاً وغايةً، والفاعل غيرهما، ويجوز أن يكون اثنان مفعولان لفاعل واحد معًا، ويكون وجود أحدهما مشروطًا بالآخر، بحيث لا يوجد كل منهما إلا مع الآخر، كالمتضايفات، مثل: الأبوة والبنوة وغيرهما، فهما مقترنان متلازمان لفاعل ثالث، فكذلك يجوز أن تكون غايةً واحدةً مقصودةً من مفعولين، ويكون وجود أحدهما مشروطًا بوجود الآخر، لا يوجد إلا معه، والغاية أمر ثالث غيرهما، كالأجزاء المركبة، والأمور المتلازمة، والأعضاء ونحو ذلك.
والفاعلان إذا تعاونا على فعل واحدٍ كتعاونِ المتناظرين والمتحاملين والجيش والسابين ونحو ذلك، لم يكن أحدهما فاعلاً