الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما صلاتُها مع الظهر فقد سنَّه في الجملة، ومعلومٌ أن جنسَ ما توعَّد عليه محرَّمٌ، وجنس ما فَعلَه مشروعٌ، فَعُلِمَ أن الجمع بينهما في وقت الظهر خيرٌ من التأخير إلى أن تفوتَ. وهذا مذهب جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، بل لا يُجوِّزون التأخير ولا غيره، ويُجوِّزون الجمعَ لما هو دونَ القتال. وأحمد وإن قال في روايةٍ عنه: إن المقاتل يُخيَّر بينَ الصلاةِ في الوقت والتأخير، فلا يختلف قوله: إن الجمعَ أولى من التفويت، وإنما يقول -على تلك الرواية-: إذا لم يمكنه أن يُصلِّي بالنهار لأجل القتال خُيِّرَ بين الصلاةِ حالَ القتال في الوقت وبين الصلاة بعد المغرب. وأما على ظاهرِ مذهبه فلا يُجوِّز تفويتَها إلى الغروب بحالٍ.
والمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قد صلَاّهما بالمسلمين في وقت الظهر لاشتغالِه عن فِعْلِهما في الوقت المختصّ باتصال الدعاء والذكر، ف
الجمعُ للاشتغال بالجهادِ
أولَى وأحرى. هذا إذا أمكنَه أن يُصلِّي مع الجهادِ صلاةً تامَّةً، لكن يتعطَلُ عن بعض مصلحة الجهاد.
وأمّا إذا قُدِّرَ أنه لا يمكنُه أن يُصلِّي إلا على دابَّتِه إلى غير القبلة لأجل القتال، فلا ريبَ أن صلاتَه بالأرض صلاةً تامَّةً جمعًا بين الصلاتين خيرٌ من أن يصلِّي العصرَ في وقتها المختصّ صلاةً ناقصةً، لما فَعَلَه النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، ولحديث المستحاضة، ولأن تكميلَ العبادة بفعل واجباتها أمرٌ مقصودٌ في نفسِه، والجامعُ مُصَل لها في وقتها لا في غير وقتِها، لكن صلاها في وقت المعذور، وهو الوقت المشترك، وما حصلَه بالتكميل المأمور به في الصلاة أكملُ مما فاتَه من الوقت المختصّ. فإذا كان تكميل الدعاء والذكر بعرفةَ أفضلَ من الصلاة في
الوقت المختصّ، فتكميلُ نفسِ الصلاة أفضلُ من الوقت المختصّ.
ولهذا لا يجوز التكميل
(1)
المأمور به في الصلاة لأجل تكميل اتصال الدعاء، لأن ذلك واجبٌ وهذا مستحبٌّ. ولو كان عادمًا للماء والسُّترة ولم يمكنه تحصيلُ ذلك إلا بتفويتِ بعض الدعاء والذكر كان مأمورًا أن يُصلي بالماء والسُّترة، وإن كان ذلك في أثناء الدعاء.
ولهذا كان الجمعُ بين الصلاتين بطهارةٍ كاملةٍ أولَى من الصلاة في الوقت المختصّ بطهارةٍ ناقصةٍ، فالمستحاضة التي تجمع بين الصلاتين بغُسلٍ واحدٍ، هو أفضلُ من الصلاة في الوقت المختصِّ بوضوءٍ.
ومثل ذلك من جمعَ بين الصلاتين بوضوء، فإنه أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختص بتيمُّمٍ، ومن جَمعَ بين الصلاتين قائمًا فهو أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختصّ قاعدًا، ومن جمعَ بين الصلاتين في جماعةٍ فهو أكملُ ممن صلَّى في الوقت المختصّ منفردًا.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يجمعون بين المغرب والعشاء للمطر ونحوِه، مع إمكان أن يُصلِّيها وحدَه في بيته، لكن لما كان الجمعُ لمصلحة الجماعة وكان صلاتُه معهم أكملَ من الانفراد= كان صلاتُه معهم جمعًا أكملَ من صلاتِه منفردًا في الوقت المختصّ. وهكذا في صلاةِ الخوف الصلاةُ في جماعة مع استدبار القبلة في أثناء الصلاة -مع العمل الكثير ومع مفارقة الإمام قبل السلام وغير ذلك- أكملُ من أن يُصلِّي كلُّ واحد منفردًا مع عدمِ هذه المحاذير.
(1)
في الهامش: "هنا سقط ولعله: ترك التكميل".
وإذا صلَّى بالتيمُّم في الوقت المشترك هل هو أكملُ من الصلاة في الموضع المنهي عنه في الوقت المختصّ؟ فإن هذا حَصَلَ فيه نَقصانِ: نقص التيمم والوقت المشترك، وهناك حصلَ نقصُ المكان المنهي عنه فقط. وسيأتي الكلامُ على هذه المسألة، ونبيِّنُ أن الصلاةَ بالتيمُّم في الوقتِ المشترك خيرٌ من الصلاة المنهيّ عنها في الوقت المختص، لأنّ الصلاة في الوقت المشترك بالتيمم أصلاً يَؤُمُّ فيها المتيممُ للمتوضئ بخلاف الصلاة في المكان المنهي عنه، فإنها لا تُفعَل إلا لضرورة.
ونظير ذلك من كان في مكانٍ قد نُهِي عن الصلاة فيه -كالحمام والمكان النجس وغير ذلك- فإنه إذا لم يمكنه أن يُصلِّي في الوقت إلا فيه صلى فيه، فإنَ فَعْلَ الصلاة في وقتها واجب، أعني الوقت المطلق، فلا يجوز له أن يؤخِّر صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار أصلاً، بل يُصلي في الوقت المطلق: إمّا المختصّ وإمّا المشترك بحسب الإمكان. فإذا كان قد دخلَ إلى الحمَّام، وإن لم يُصلِّ فيه خَرَجَ الوقتُ، صَلَّى فيه. وكذلك من حُبسَ في موضع نجسٍ لا يخرجُ منه إلا بعد فوتِ الوقت صلَّى فيه، ولا إعَادةَ عليه، كما نصَّ على ذلك أحمد وغيرُه. وهذا بينٌ، لكن إن أمكنه أن يجمعَ بين الصلاتين خارجًا عن الموضع المنهيِّ عنه، فالجمعُ خارجًا عن الموضع المنهيّ عنه خيرٌ من الصلاةِ فيه، والصلاةُ فيه خير من التفويت.
وذلك مثل المرأة إذا كان عليها غسلُ جنابة أو حيضٍ، ولا يمكنها الاغتسال في الوقت، فعليها أن تصلِّي بالتيمم، فإذا صلَّت الفجر بالتيمم ثم لم يمكن الحمام إلا بعد الظهر، وإذا دخلت الحمامَ لم
يمكنها الخروجُ منه إلا بعد الغروب، فالصلاةُ في الحمام بعد التطهر مع سَتْرِ رأسِها وبدنِها خير من التفويت بلا ريب، إذ التفويتُ إلى الغروب لا يجوز بحالٍ، بل المصلِّي للعصر بعد الغروب كالصائم لرمضان في شوال باتفاقِ العلماء، فإنهم متفقون على أنه لا يجوز تفويتُ رمضانَ إلى شوالَ لمن يجب عليه، والصلاة في وقتها أوكدُ من الصوم في وقتِه كما بيَّناه. وهذه المرأة إذا صلَّت الظهر والعصر جمعًا بينهما بالتيمم كان خيرًا من صلاتِها في الحمام مغتسلةً، والصلاة في الحمام مغتسلةً خير من التفويت، لأن الصلاة في الحمام منهيٌّ عنها كالصلاةِ في المقبرة وأعطانِ الإبل والمكان النجس والثوب النجس وصلاةِ العُريان، ففي صلاتها جمعَّاَ تكميلُ الصلاة من هذا الوجه، كما تقدم.
والصلاة بالتيمم إذا لم يمكن الصلاة في الوقتِ بالماء جائزةٌ أيضًا، بل هي الواجبة، فقد ثبت بالنص والإجماع أن المتيمِّم العادم للماء في سفره يجبُ عليه أن يُصلِّي في الوقت بالتيمم، ولا يجوز له أن يؤخرها ليُصلي بعد الوقتِ بوضوء. وكذلك العُريان عليه أن يصلِّي في الوقتِ عُريانًا مع إمكان الصلاة بعد الوقت بالثياب.
وكذلك المريض يجبُ عليه أن يُصلِّي في الوقت قاعدًا أو مضطجعًا، وإن أمكنه أن يُصلِّي بعد الوقت قائمًا. وكذلك الخائف يُصلِّي في الوقت صلاةَ الخائف، وإن أمكنَه أن يُصلِّي بعد الوقت صلاةَ أَمْنٍ. كَما دلَّ على أمثالِ هذه المسائل الكتابُ والسنة والإجماع، إذ ليس في واجبات الصلاةِ أوكدُ من وجوب الوقت، وهذا مجمعٌ عليه
في عامة المسائل، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وهذا مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وكذلك مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما في أكثر الصور، لكن اختلف مذهب أبي حنيفة والشافعي في أكثر الصور، وتَابَعهم بعضُ أصحابِ أحمد.
كما اختلفوا فيما إذا وجد المسافر بئرًا، ولم يُمكِنْه أن يَصنع الحبلَ حتى يَخرجَ الوقت. أو وَجَدَ العُراةُ ثوبًا، ولم يمكنهم أن يُصلُّوا فيه واحدًا بعد واحدٍ حتى يَخرُجَ الوقت. أو كانوا جماعةً في سفينةٍ، وليس هناك موضع يقومون فيه إلا موضعًا واحدًا، ولا يمكنه الصلاة في الوقت إلا مع القعود، أو أمكنَه تعلُّم دلائلِ القبلةِ، ولكنه لا يتعلم ذلك حتى يخرج الوقت، أو أمكنَه أن يَخِيطَ ثوبَه ولا يتم ذلك حتى يخرج الوقت. ففي هذه المسائل نزاعٌ في مذهب الشافعي، ونصوصُه اختلفت في ذلك، فمن أصحابه من خرَّج، ومنهم من أقرَّ، ووافقَه بعض أصحاب أحمد. وأما أحمد وسائرُ أصحابه وكذلك مالك وغيرُه ما علمتُهم اخَتلفوا في تقديم الوقت في هذهَ المواضع، كما اتفق المسلمون كلُّهم على تقديم الوقت في المتيمم إذا عَدِمَ الماءَ في السفر، وفي العُريان، وفي المريض والخائف، فإنهم متفقون على أنَّ هؤلاء يُصلون في الوقت بحسب حالِهم، ولا يُفوِّتون الصلاةَ. ولم يتنازعوا إلا في حالِ القتال كما تقدم، وكذلك الآمن الذي لا يمكنه التعلُّم حتى يخرج الوقت.
والمقصود هنا ذِكرُ الجمع، وأن الجمع بين الصلاتين بالتيمم خيرٌ من الصلاةِ في المكان المنهيِّ عنه، كما أنها خيرٌ من الصلاةِ عُريانًا،
ومن الصلاة إلى غير القبلة ونحو ذلك، فإن الصلاة في الوقت المشترك صلاة في الوقت يُفعَل فيه للمصلحة الشرعية، بخلاف الصلاة بدون شروطِها، فإنه يحرم، [و] لا يجوز إلا لضرورة.
ولهذا كانت الصلاة بالغسل وبالوضوء في الوقت المشترك خيرا من الصلاة بطهارة ناقصة في الوقت المختصّ. ومن ذلك الأجير والمملوك إذا أدخله سيدُه الحمامَ والمكانَ النجسَ، ولم يُخرِجه منه إلى المغرب، فصلاتُه فيه خير من التفويت، وذلك واجب عليه، والجمعُ بين الصلاتين خيرٌ له من الصلاة في ذلك المكان المنهي عنه، وهذا الجمع بطهارة الماءِ، وتلك بطهارةِ التيمم.
فإن قيل: هذه المرأة تُفوتُ الوقتَ المختصّ وطهارةَ الماء، فهذانِ نَقصانِ، والصلاةُ في الحمام ليس فيها إلا نقص واحد، فَلِمَ كان هذا أولى؟
قيل: الصلاةُ في الحمام منهيٌّ عن جنسها، ليس لأحد أن يفعلها لغير ضرورة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الأرضُ كلُّها مسجد إلا المقبرةَ والحمامَ"
(1)
. وأما الجمعُ فيجوز للحاجة والمصلحة الراجحة كما تقدم، وأما التيمم فإن الصلاة بتيمُّم خيرٌ من الصلاة في الحمام، لأن التيمُّم طهارة مأمورٌ بها، وهي تقوم مقامَ الماء عند عدمِ الماء وخوفِ
(1)
أخرجه أبو داود (492) والترمذي (317) وابن ماجه (745) من حديث أبي سعيد الخدري. قال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، ثم بين ذلك بأنه رُوِي مرسلا وموصولاً، والمرسل أصح.
الضررِ باستعمالِه، ومن لم يمكنه أن يُصلي بالماء إلا في المكان المنهيِّ عنه لم يمكنه الصلاة بالماء، كما لو لم يمكنه أن يُصلِّي بالماء إلا عريانًا أو إلى غير القبلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الصعيدُ الطيِّبُ طَهورُ المسلمِ ولو لم يَجدِ الماءَ عَشْرَ سنينَ، فإذا وَجدتَ الماءَ فأمِسَّهُ بَشْرَتَكَ، فإنّ ذلك خير"
(1)
. فكلُّ ما يُباح بالماء يُباحُ بالتيمم، من صلاة الفرض والنفل ومس المصحف وقراءة القرآن.
والتيمم يجوز عند الحدث الأكبر في مذهب أحمد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، [و] الذي يقوم عليه الدليل الشرعي أنه كلُّ ما يجوز قبل الوقت ويبقى بعده، سواء نوى به فرضًا أو نفلاً أو غير ذلك مما يُستباح بالتيمُّم، فيجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"الصعيد الطيب طَهورُ المسلم ولو لم يجد الماءَ عَشْرَ سنين، فإذا وجدتَ الماءَ فأمَسَّه بَشرَتَك، فإن ذلك خير".
ويجوز أن يؤمَّ المتيمِّم المتطهِّرين بالماء، كما أمَّ عمرو بن العاص أصحابَه في غزوة ذات السلاسل، وكما أمَّ ابنُ عباس أصحابَه بالتيمُّم وكان قد أجنبَ من وطءِ أَمَتِه. وهذا جائز عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم، وإن كان أكثر هؤلاء يُجوِّز اقتداء القارئ بالأمي خلفَ العُريانِ ونحوه.
فعُلِمَ أن طهارة التيمم حيث أُمِرَ بها خير من الصلاةِ في المكان
(1)
أخرجه أحمد (5/ 146، 147، 155، 180) وأبو داود (332، 333) والترمذي (124) والنسائي (1/ 171) من حديث أبي ذر. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.