المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌اللحد أفضل من الشق) - حاشية الروض المربع لابن قاسم - جـ ٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الجنائز

- ‌ هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي

- ‌ لا يؤخذ من الميت شيء

- ‌فصل في الكفن

- ‌ تكفن المرأة في خمسة أثواب

- ‌إذا اجتمعت جنائز: قدم إلى الإمام أفضلهم

- ‌ المطلوب في صفتها ستة أشياء

- ‌فصلفي حمل الميت ودفنه

- ‌كره جلوس تابعها حتى توضع)

- ‌اللحد أفضل من الشق)

- ‌كره لمصاب تغيير حاله

-

- ‌كتاب الزكاة

- ‌باب زكاة بهيمة الأنعام

- ‌فصل في زكاة البقر

- ‌فصل في زكاة الغنم

- ‌الضأن والمعز سواء، والسوم شرط

- ‌لا أثر لخلطة من ليس من أهل الزكاة

- ‌باب زكاة الحبوب والثمار

- ‌إذا اشتد الحب، وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة)

- ‌ الزكاة، إنما تتكرر في الأموال النامية

- ‌يباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه

- ‌باب زكاة العروض

- ‌باب زكاة الفطر

- ‌لا يعتبر لوجوبها ملك نصاب

- ‌باب إخراج الزكاة

- ‌الغنى في باب الزكاةنوعان

- ‌أهل الزكاة قسمان

- ‌ الذي عليه الدين لا يعطيه، ليستوفي دينه

- ‌من أَراد الصدقة بماله كله

-

- ‌كتاب الصيام

- ‌(يجب صوم رمضان برؤية هلاله)

- ‌الأصل أن الله علق الحكم بالهلال والشهر

- ‌إن اشتبهت الأَشهر، على نحو مأْسور، تحرى وصام

- ‌أسباب الفطر أربعة

- ‌ الصوم الشرعي الإمساك مع النية

- ‌باب ما يكره ويستحب في الصوموحكم القضاء

- ‌لا يقضى عنه ما وجب بأَصل الشرع، من صلاة وصوم

- ‌يكره الصمت إلى الليل

-

- ‌كتاب المناسك

- ‌من كملت له الشروط وجب عليه السعي (على الفور)

- ‌يحج النائب من حيث وجبا

- ‌باب المواقيت

- ‌ليس للإحرام صلاة تخصه

- ‌ ابتداء التلبية عقب إحرامه

الفصل: ‌اللحد أفضل من الشق)

(و‌

‌اللحد أفضل من الشق)

(1) لقول سعد: الحدوا لي لحدًا، وانصبوا على اللبن نصبًا، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم (2) . واللحد هو أَن يحفر إذا بلغ قرار القبر، في حائط القبر، مكانًا يسع الميت (3) .

(1) وفاقًا، وحكى الوزير الاتفاق على أن السنة اللحد، وأن الشق ليس بسنة، وأجمع العلماء على أن الدفن في اللحد، وفي الشق جائزان، واللحد أصله الميل، وكل مائل عن الاستواء لحد، بفتح اللام وضمها، لغتان مشهورتان، ولحَدْتُ وأَلحَدْتُ لغتان، والشق بفتح الشين.

(2)

قاله رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه، وقال عروة: كان بالمدينة رجلان، أحدهما يلحد، والآخر يشق، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أيهما جاء أولاً، عمل عمله. فجاء الذي يلحد، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. واتفق الصحابة على ذلك، ونقلوا عَدَدَ اللبن تسعًا، ولولا مزيد فضله ما عانوه، كما في الخبر: فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد وفي السنن «اللحد لنا، والشق لغيرنا» .

وفي رواية لأحمد «لأهل الكتاب» فيسن نصب اللبن عليه نصبًا وفاقًا، ويجوز ببلاط وغيره، كأحجار كبيرة، واللبن بفتح اللام وكسر الباء، ويجوز إسكانها مع فتح اللام وكسرها.

(3)

أي في جانب القبر مما يلي القبلة، إذا نصب اللبن، ولا يعمق، بحيث ينزل فيه جسد الميت كثيرًا، بل يقدر ما يكون الجسد ملاصقًا للبن، هذا إذا كانت الأرض صلبة، وإن كانت رخوة اتخذ لها من الأحجار ونحوها ما يسندها باللحد، ولا يلحد منها، لئلا يخر القبر على الميت.

ص: 117

وكونه مما يلي القبلة أفضل (1) والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانباه (2) وهو مكروه بلا عذر (3) كإدخاله خشبًا، وما مسته النار (4) ودفن في تابوت (5) .

(1) فيكون ظهره إلى جهة ملحده.

(2)

يعني باللبن أو غيره، مما لا يكره إدخاله القبر، أو يشق وسطه، فيصير كالحوض ثم يوضع الميت فيه، ويسقف عليه بأحجار ونحوها، ويرفع السقف قليلاً، بحيث لا يمس الميت.

(3)

قال أحمد: لا أحب الشق، لحديث «اللحد لنا، والشق لغيرنا» فإن كان ثم عذر، بأن كانت الأرض رخوة، لا يثبت فيها اللحد، ولا يمكن دفع انهيارها بنصب لبن ولا حجارة ونحوهما، شق فيها للحاجة، وإن أمكن جعل شبه اللحد من الجنادل والحجارة واللبن فعل به، ولم يعدل إلى الشق، نص عليه.

(4)

فيكره، كما يكره إدخال القبر خشبًا، تفاؤلاً بأن لا تمسه النار، ولأحمد عن عمرو بن العاص: لا تجعلوا في قبري خشبًا، ولا حجرًا، ولكراهة السلف لذلك، ولأنه مُعدَدٌ لمَسَّ النارِ، وما مَسْته نار كآجُرًّ. قال النخعي: كانوا يكرهون الآجُرَّ والبناء بالآجر.

رواه الأثرم، وعن زيد بن ثابت أنه منع منه، وكذا حديد ونحوه، بل حكى الوزير الإجماع على جواز اللبن، وكراهة الآجر والخشب.

(5)

أي ويكره دفن في تابوت، ولو امرأة، إجماعًا، قال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون اللبن، ويكرهون الخشب، ولا يستحبون الدفن في تابوت لأنه خشب. ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، والأرض أنشف لفضلاته.

ص: 118

وسن أن يوسع ويعمق قبر بلا حد (1) ويكفي ما يمنع من السباع والرائحة (2) ومن مات في سفينة، ولم يمكن دفنه، أُلقي في البحر سَلَاّ، كإدْخاله القبر (3) .

(1) لقوله عليه الصلاة والسلام في قتلى أحد «احفروا وأوسعوا وعمقوا» قال الترمذي: حسن صحيح. ولأبي داود «أوسع من قبل رأسه، وأوسع من قبل رجليه» ولأن التوسيع أطيب لأنفس أهله، والتعميق هو الزيادة في النزول، وهو أنفى لظهور الرائحة التي يستضر بها الأحياء، وأبعد لقدرة الوحش على نبشه، وآكد لستر الميت.

(2)

أي ويكفي من التعميق ما يمنع السباع والرائحة، لأنه لم يرد فيه تقدير فيرجع إليه، فرجع إلى ما يحصل به المقصود، وقال بعضهم: قامة وسط، وأوصى ابن عمر أن يعمق قبره قامة، ولم ينكر، فهو إجماع.

(3)

وفاقًا للشافعي، ورواية عن مالك، وصفة إدخاله القبر سَلا أن يجعل رأس الميت في الموضع الذي تكون فيه رجلاه إذا دفن، ثم يسل فيه سلاً رفيقًا، لأنه عليه الصلاة والسلام سل من قبل رأسه، رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح، وأدخل عبد الله بن يزيد الحارث قبره من قبل رجلي القبر.

وقال «هذا من السنة» رواه أحمد وأبو داود، والبيهقي وصححه، وعن أنس، أنه كان في جنازة، فأمر بالميت فسل من عند رجلي القبر، رواه أحمد وغيره، ولأنه ليس موضع توجه، بل دخول، فدخول الرأس أولى، ولأنه المعروف عند الصحابة، وهو عمل المهاجرين والأنصار، رواه الشافعي وغيره عنهم، وقال: لا يختلف في أنه يسل سلاً. اهـ. وإن لم يكن إدخاله القبر من قبل رجليه أسهل، أدخل من حيث سهل، إذ المقصود الرفق بالميت.

وقال أبو حنيفة: يوضع عرضًا من ناحية القبلة، ثم يدخل القبر معترضًا،

وقال مالك: كلاهما سواء، واستظهر في المبدع أنه بحسب الحاجة، وإن أمكن دفن من مات في سفينة، بأن كان البر قريبًا، وجب دفنه فيه، ولو حبسوه يومًا أو يومين، ما لم يخافوا عليه الفساد، قال أحمد: أرجو أن يجدوا له موضعًا للدفن. وروى البيهقي بإسناد صحيح، أن أبا طلحة ركب البحر، فمات، لم يجدوا له جزيرة إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه فيها، ولم يتغير.

ص: 119

بعد غسله وتكفينه، والصلاة عليه، وتثقيله بشيءٍ (1)(ويقول مدخله) ندبًا (بسم الله وعلى ملة رسول الله)(2) لأَمره عليه السلام بذلك، رواه أَحمد عن ابن عمر (3) .

(1) ليستقر في قرار البحر، فيحصل الستر المقصود به، وإن مات في بئر، أخرج وجوبًا، ليغسل ويكفن، ويصلى عليه ويدفن، وإلا طمت عليه إن لم يحتج لها، ومع الحاجة يخرج مطلقًا، سواء تغير أو لا.

(2)

صلى الله عليه وسلم، وملته دينه وشريعته، ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع الميت في القبر قال «بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم» أي بسم الله وضعناك، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمناك.

(3)

ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا وضعتم موتاكم في القبور، فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي لفظ: كان إذا وضع الميت قال «بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم» رواه الخمسة إلا النسائي، وحسنه الترمذي، وإن قرأ {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أو أتى بذكر أو دعاء لائق بالمحل فلا بأس به، لفعله صلى الله عليه وسلم، وفعل أصحابه.

ص: 120

(ويضعه) ندبًا (في لحده، على شقه الأَيمن) لأَنه يشبه النائم، وهذه سنته (1) ويقدم بدفن رجل من يقدم بغسله (2) وبعد الأَجانب محارمه من النساء (3) ثم الأَجنبيات (4) وبدفن امرأة محارمها الرجال (5) فزوج فأَجانب (6) .

(1) أي سنة النائم أن ينام على شقه الأيمن، وفي الحديث: كان ينام على شقه الأيمن. رواه البغوي وغيره، وفي الإنصاف: يستحب على جنبه الأيمن بلا نزاع.

(2)

ولأنه عليه الصلاة والسلام تولى دفنه العباس وعلي وأسامة، وهم الذين تولوا غسله، ولأنه أقرب إلى ستر أحواله، وقلة الإطلاع عليه، وقال علي: إنما يلي الرجل أهله.

(3)

أي وبعد الرجال الأجانب محارم الميت من النساء، وإنما قدم الأجانب على المحارم من النساء لضعفهن عن ذلك، وخشية انكشاف شيء منهن، ولأنه لا مدخل لهن في إدخال القبر والدفن إلا لضرورة.

(4)

للحاجة إلى دفنه، وليس فيه مس ولا نظر، بخلاف الغسل.

(5)

الأقرب فالأقرب، لأن امرأة عمر لما توفيت قال لأهلها: انتم أحق بها، ولأنهم أولى بها حال الحياة، فكذا بعد الموت، والمراد من كان يحل له النظر إليها والسفر بها، قال الزركشي: وهذا مما لا خلاف فيه، وعنه: الزوج أولى بدفنها من المحارم، وفاقًا لمالك والشافعي، ورواية لأبي حنيفة، قال في الإنصاف: وعلى كلا الروايتين لا يكره دفن الرجال للمرأة، وإن كان محرمها حاضرًا نص عليه.

(6)

أي ثم بعد محارمها الرجال على المذهب زوج، لأنه أشبه بمحارمها من الأجانب، ثم الأولى بعد الزوج الأجانب، فيقدمون على نساء محارمها، لأنه عليه

الصلاة والسلام أمر أبا طلحة أن ينزل قبر ابنته، وهو أجنبي، فلا يكره مع حضور محرمها، ولأن تولي النساء لذلك لو كان مشروعًا لفعل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وعصر خلفائه، ولم ينقل، ورأى عليه الصلاة والسلام نسوة في جنازة، فقال «هل تحملن؟» قلن: لا، قال «أتدفنه؟» قلن: لا. قال «فارجعن مأزورات غير مأجورات» رواه ابن ماجه، وهو استفهام إنكار، فيدل على أنه غير مشروع لهن، ويأتي لعنه زوارات القبور، وظاهر كلامهم أن الترتيب مستحب لا واجب، ولأنه يحل عقد الكفن، وينبغي أن لا ينظر إلى وجهها، لعدم الحاجة.

ص: 121

ويجب أن يكون الميت (مستقبل القبلة)(1) لقوله عليه السلام في الكعبة «قبلتكم أَحياءً وأَمواتًا» (2) وينبغي أن يدنى من الحائط، لئلا ينكب على وجهه (3) وأَن يسند من ورائه بتراب، لئلا ينقلب (4) ويجعل تحت رأسه لبنة (5) ويشرح اللحد باللبن (6) .

(1) إجماعًا، تنزيلاً له منزلة المصلي.

(2)

رواه أبو داود وغيره، تقدم، ولأن ذلك طريق المسلمين بنقل الخلف عن السلف، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا دفن، وكأنهم نزلوه منزلة المصلي مضطجعًا.

(3)

فيسند وجهه ورجلاه إلى جدار القبر، أو يسند أمامه بتراب.

(4)

أي على ظهره، فهذا يمنعه الاستلقاء، وذلك يمنعه الانكباب.

(5)

فإن لم توجد فحجر، فإن عدم فقليل من تراب، وتكره مخدة وفاقًا، والمنصوص مُضَرَّبَة وفاقًا، وقال أحمد: ما أحبهما، وكذا قطيفة ونحوها.

(6)

أي يبنى عليه باللبن، وعمل المسلمين عليه.

ص: 122

ويتعاهد خلاله بالمدَر ونحوه (1) ثم بطين فوق ذلك (2) وحثو التراب عليه ثلاثًا باليد، ثم يهال (3) وتلقينه (4) .

(1) كالحجارة، ليتحمل ما يوضع عليه من طين ونحوه، والمدر قطع اللبن، يوضع بين خلال اللبن ونحوه.

(2)

لئلا ينتخل عليه التراب منها، لقوله «سدوا خلال اللبن» ثم قال «وليس هذا بشيء، ولكن يطيب نفس الحي» رواه أحمد وغيره عن مجاهد مرفوعًا.

(3)

يعني التراب على القبر، بمساح ونحوها، إسراعًا بتكميل الدفن، «ويهال» أي يصب، يقال: هلت التراب والدقيق وغيرهما، أهيله هيلاً، صببته، فانهال أي انصب، وتهيل تصبب، فيسن ذلك لمن حضره، وفاقًا للشافعي وغيره، لحديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم حثى عليه من قبل رأسه ثلاثًا، رواه ابن ماجه، بسند جيد، ونحوه للدارقطني والبيهقي، عن عامر بن ربيعة، ولأن مواراته فرض كفاية، وبالحثي يكون فيمن شارك فيها، ولأن في ذلك أقوى عبرة واستذكارًا، فاستحب ذلك، ولأحمد بسند ضعيف أنه عليه الصلاة والسلام قال – لما وضعت ابنته في القبر – {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} واستحب بعض أهل العلم أن يقال ذلك عند حثي التراب، استئناسًا بهذا الخبر.

(4)

أي وينبغي تلقين الميت بعد الدفن، فيقوم الملقن عند رأسه، بعد تسوية التراب عليه، فيقول: يا فلان اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانًا، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية، لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. واستجبه الأكثر، وكرهه جماعة من العلماء، وأنكره آخرون، لاعتقاد أنه بدعة مكروهة، وقال

شيخ الإسلام: تلقين الميت الأظهر أنه مكروه، لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، بل المستحب الدعاء له، يقوم على قبره فيقول: اسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل، وقال: لم يكن من عمل المسلمين، المشهور بينهم، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، بل ذلك مأثور عن طائفة من الصحابة، كأبي أمامة وواثلة، فمن الأئمة من رخص فيه كأحمد، وقد استحبه طائفة من أصحابه، وأصحاب الشافعي. ولم ينقل عن الشافعي فيه شيء، ومن العلماء من يكرهه، كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك وغيره، لاعتقاده أنه بدعة، فالأقوال فيه ثلاثة، الاستحباب، والكراهة والإباحة، وهذا أعدل الأقوال.

قال: وقد ثبت أن المقبور يسأل ويمتحن، وأنه مأمور بالدعاء له، فلهذا قيل إن التلقين ينفعه، فإن الميت يسمع النداء، كما ثبت في الصحيح أنه قال «إنه ليسمع قرع نعالهم» وأنه قال «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وأنه أمرنا بالسلام على الموتى، فقال «ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد عليه السلام» وروي فيه حديث، لكنه ما لم يحكم بصحته. اهـ.

واحتج بعض الفقهاء بحديث «لقنوا موتاكم» وهو وإن شمله اللفظ فليس بمراد، كما صرح به في الفروع وغيره، وإلا لنقله الخلف عن السلف، وشاع، ومال بعض المحققين إلى أن الأولى تركه، اقتفاء لما عليه السلف، وقال ابن القيم: لم يكن صلى الله عليه وسلم يقرأ عند القبر، ولا يلقن الميت، وحديث التلقين لا يصح.

ص: 123

والدعاء له بعد الدفن عند القبر (1) .

(1) واقفًا، نصل عليه وفاقًا، لمفهوم قوله تعالى {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قال أكثر المفسرين: بالدعاء والاستغفار، بعد الفراغ من دفنه. فيدل على أن ذلك كان عادة للنبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين، قال شيخ الإسلام: لما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وعن القيام على قبورهم، كان دليل الخطاب أن المؤمن يصلى عليه قبل الدفن، ويقام على قبره بعد الدفن، واستحب هو وغيره من أهل العلم وقوفه، وفعله علي والأحنف وغيرهما، ولأبي داود عن عثمان أنه عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» .

وقال ابن المنذر: قال بمشروعيته الجمهور، وقال الآجري وغيره: يستحب الوقوف بعد الدفن قليلاً، والدعاء للميت، فيقال: اللهم هذا عبدك، وأنت أعلم به منا، ولا نعلم منه إلا خيرًا، وقد أجلسته لتسأله، اللهم فثبته بالقول الثابت في الآخرة، كما ثبته في الدنيا، اللهم ارحمه، وألحقه بنبيك، ولا تضلنا بعده ولا تحرمنا أجره.

قال الترمذي: الوقوف على القبر، والسؤال للميت في وقت الدفن، مدد للميت بعد الصلاة عليه، لأن الصلاة بجماعة المسلمين كالعسكر له، قد اجتمعوا بباب الملك، يشفعون له، والوقوف على القبر، وسؤال التثبيت، مدد للعسكر، وتلك ساعة شغل الميت، لأنه استقبله هول المطلع، وسؤال الفتانين.

ص: 124

ورشه بماءٍ بعد وضع حصباءَ عليه (1)(ويرفع القبر عن الأَرض قدر شبر)(2) .

(1) لما روى الشافعي وغيره أنه عليه الصلاة والسلام رش على قبر ابنه إبراهيم ماء، ووضع عليه حصباء، ولأنه فعل بقبر سعد بن معاذ، رواه ابن ماجه.

وأمر به صلى الله عليه وسلم في قبر عثمان بن مظعون، رواه البزار، ولأن ذلك أثبت له، وأبعد لدروسه وأمتع لترابه من أن تذهب به الرياح والسيول، وروي أنه فعل ذلك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم واستمر عمل المسلمين عليه.

(2)

ليعرف فيزار ويحترم.

ص: 125

لأَنه عليه السلام رفع قبره عن الأرض قدر شبر، رواه الساجي من حديث جابر (1) ويكره فوق شبر (2) ويكون القبر (مُسَنَّمًا)(3) لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنمًا (4) .

(1) ورواه الشافعي وابن حبان في صحيحه، وعن القاسم: قلت لعائشة يا أمة اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. رواه أبو داود وغيره، بإسناد صحيح.

(2)

أي يكره رفع القبر فوق شبر، لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي «ولا قبرًا مشرفًا إلا سَوَّيته» رواه مسلم وغيره، والمشرف ما رفع كثيرًا، بدليل ما سبق عن القاسم وغيره، وأمر فضالة بقبر فسوي، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها، رواه مسلم، ويكره زيادة التراب عليه، للنهي، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، إلا أن يحتاج إليه، لحديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر، أو يزاد عليه رواه النسائي وأبو داود، ولأن العادة أنه يفضل من التراب ما يكفي لتسنيمه، فلا حاجة إلى الزيادة.

(3)

أي مُحَدبًا كهيئة السنام، خلاف المسطح وهو المربع، وهو مذهب أبي حنيفة، ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء.

(4)

وعن الحسن مثله، وقال الشعبي: رأيت قبور شهدا أحد مسنمة، وحكاه الطبري عن جماعة أن السنة التسنيم، ولم يزل المسلمون يسنمون قبورهم، والغرض في رفعه ليعلم أنه قبر فيتوقّى، وسفيان التمار هو ابن دينار الكوفي، ثقة أدرك كبار الصحابة، روى عن مصعب وغيره، وعنه ابن المبارك وغيره، ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة أو نحوهما، لما روى أبو داود وغيره، عن المطلب، أنه أمره عليه الصلاة والسلام لما توفي عثمان بن مظعون أن يأتيه بحجر فوضعها عند رأسه، وقال «أعلم بها قبر أخي، أدفن إليه من مات من أهل» ورواه ابن ماجه وغيره عن أنس.

ص: 126

لكن من دفن بدار حرب لتعذر نقله، فالأَولى تسويته بالأَرض وإخفاؤُه (1)(ويكره تجصيصه) وتزويقه، وتخليقه، وهو بدعة (2) .

(والبناء) عليه لاصقَةُ أَولا (3) لقول جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأَن يبنى عليه. رواه مسلم (4) .

(1) لئلا ينبش فيمثل به، وقد أخفى الصحابة قبر دانيال خشية الافتنان به.

(2)

منكرة، أول من أحدثها الرافضة والجهمية، وبنوا عليها المساجد، وتجصيصه بنيه وتبيضه بالجص، وقيل بالجير، وتخليقه طَلْيه بالطيب، وكذا تبخيره وتقبيله، والتمسح به، والتبرك به، والعكوف عنده، والطواف به، وكتابة الرقاع إليه، ودسها في الأنقاب، والاستشفاء بالتربة، ونحو ذلك، كله من البدع المحدثة في الدين، فمنه ما هو من الوسائل المفضية إلى الشرك بأهل القبور، ومنه ما هو شرك أكبر، كتقبيله وما عطف عليه، وكسؤاله النفع والضر، وعبادة القبور أول شرك حدث على وجه الأرض.

(3)

أي سواء لاصق البناء الأرض أو لم يلاصقها، ولو في ملكه من قبة أو غيرها.

(4)

ورواه أبو داود والترمذي وغيرهما وصححه، وتقدم حديث علي وأمره عليه الصلاة والسلام بتسويته، وحديث فضالة، ولأبي داود بسند صحيح «أو يزاد عليه» ولابن ماجه عن أبي سعيد. نهى أن ينبى على القبور. فقد ثبت في الصحيح والسنن من غير وجه نهيه عليه الصلاة والسلام عن البناء على القبور، والأمر بهدمه، وقال الشافعي: رأيت العلماء بمكة يأمرون بهدم ما ينبى عليها. وفي شرح الرسالة: ومن البدع اتخاذ المساجد على مقبرة الصالحين، ووقد القنديل عليها، والتمسح بالقبر عند الزيارة، وهو من فعل النصارى، وكل ذلك ممنوع، بل محرم. اهـ.

وهو من وسائل الشرك وعلاماته وشعائره، فإن الله عز وجل بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجل صالح، لأن اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره، وبنوا عليه بنية، وعظموها، فلما أسلم أهل الطائف، أمر عليه الصلاة والسلام بهدمها فهدمت، وفيه أوضح دليل على أنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القبب التي بنيت على القبور، واتخذت أوثانًا، ولا لحظة، وإذا كانت تعبد فهي أوثان، كاللات والعزى، ومناة، بلا نزاع، بل تعظيم القبور، بالبناء عليها ونحوه، هو أصل شرك العالم، الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، بالنهي عنه، والوعيد على فاعله بالخلود في النار، وكره أحمد الفِسْطاط والخيمة على القبر، وفي الصحيح أن ابن عمر رأى فسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال: انزعه يا غلام، فإنما يظله عمله.

قال شيخ الإسلام في كسوة القبر بالثياب: اتفق الأئمة على أنه منكر إذا فعل بقبور الأنبياء والصالحين، فكيف بغيرهم. اهـ. والمراد كراهة التحريم، وهو مراد إطلاق أحمد رحمه الله الكراهة، في البناء عليه، لما تقدم من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والأمر بهدمه، ولأنه من الغلو في القبور، الذي يصيرها أوثانًا تعبد، كما هو الواقع، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذين عليها المساجد والسرج، وأخبر أن من بنى على قبور الصالحين فهو من شرار الخلق عند الله، ومن ظن أن الأصحاب أرادوا كراهة التنزيه، دون التحريم، فقد أبعد النجعة.

ص: 127

.......................................................

ص: 128

(و) تكره (الكتابة والجلوس والوطء عليه) لما روى الترمذي وصححه، من حديث جابر مرفوعًا: نهى أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن توطأ (1) . وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا «لأن يجلس أحدكم على جمرة، فتخرق ثيابه، فتخلص إلى جلده، خير من أن يجلس على قبر» (2)(و) يكره (الإتكاءُ إليه) لما روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمرو بن حزم متكئًا على قبر فقال «لا تؤذه» (3) ودفن بصحراء أفضل (4) .

(1) أي بالأرجل والنعال، لما فيه من الاستخفاف بأصحابها، والمراد بالكتابة كتابة اسم صاحب القبر ونحوه، في لوح أو غيره.

(2)

وله عن أبي مرثد الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» وقال الخطابي: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن توطأ القبور.

(3)

وهو مذهب الجمهور، ودل على أن الجلوس عليه والوطء من باب أولى، وذلك لما فيه من الاستخفاف بحق المسلم، إذا القبر بيت المسلم، وحرمته ميتًا كحرمته حيًا.

(4)

أي من الدفن بعمران، والصحراء الأرض المستوية، أو الفضاء الواسع، لا آكام به ولا جبال.

ص: 129

لأنَه عليه السلام كان يدفن أَصحابه بالبقيع (1) سوى النبي صلى الله عليه وسلم (2) واختار صاحباه الدفن عنده تشرفًا وتبركًا (3) وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع (4) ويكره الحديث في أمر الدنيا عند القبور (5) والمشي بالنعل فيها (6) .

(1) موضع مشهور بظاهر المدينة، والدفن فيه صحيح متواتر، معروف فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، وهو العوسج، وقال الهروي: هو من العضاه، وهو كل شجر له شوك. اهـ. سمي بشجرات كانت به قديمًا، فذهبت وبقي اسمه، ولأنه أقل ضررًا على الأحياء من الورثة، وأشبه بمساكن الآخرة، وأكثر للدعاء له، والترحم عليه، ولم تزل الصحابة والتابعون فمن بعدهم يدفنون في الصحراء.

(2)

فإنه قبر في بيته، صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة: خشي أن يتخذ قبره مسجدًا. رواه البخاري، ولما روي «تدفن الأنبياء حيث يموتون» ورأى أصحابه تخصيصه بذلك، ولا ينبغي أن يدفن في الدار، لاختصاص هذه السنة بالأنبياء، بل ينقل إلى مقابر المسلمين.

(3)

فأبو بكر أوصى أن يدفن إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، واستأذن عمر عائشة أن يدفن معهما.

(4)

كرؤيا عائشة ثلاثة أقمار في حجرتها، وأخبار: دخل هو وأبو بكر وعمر، وخرج هو وأبو بكر وعمر، فكانوا جميعًا أحياء وأمواتًا.

(5)

لأنه موضع مذكر للموت، وحالة الموتى، والعد معهم، ولأنه غير لائق بالحال، بل هو مزهد في الدنيا، ومرغب في الاستعداد للآخرة.

(6)

أي في المقبرة، لقوله صلى الله عليه وسلم لبشير بن الخصاصية «ألق سبتيتيك» رواه أبو داود، وقال أحمد: إسناده جيد ولأن خلع النعلين أقرب

إلى الخشوع، وزي أهل التواضع، واحترام أموات المسلمين، وذكر ابن القيم أن إكرامها عن وطئها بالنعال، من محاسن هذه الشريعة، وقال: من تدبر نهيه عن الجلوس على القبر، والإتكاء عليه، والوطء عليه، علم أن النهي إنما كان احترامًا لساكنها، أن يوطأ بالنعال على رؤوسهم، قال: والقبور دار الموتى، ومنازلهم، ومحل تزاورهم، وعليها تنزل الرحمة، فهي منازل المرحومين، ومهبط الرحمة، ويلقى بعضهم بعضًا على أفنية قبورهم، يتجالسون ويتزاورون، كما تظافرت به الآثار، وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة، تذهب حيث شاءت، قال الشيخ: ولهذا روي أنها على أفنية القبور، وأنها في الجنة، والجميع حق.

ص: 130

إلا خوف نجاسة أو شوك (1) وتبسم، وضحك أشد (2) ويحرم إسراجها (3) واتخاذ المساجد (4) .

(1) ونحوهما مما يتأذى منه، كحرارة الأرض أو برودتها، فلا يكره المشي بالنعال فيها، لأنه عذر، ولا يكره بخف، لأنه ليس بنعل، ولا في معناه، وأما وطء القبر نفسه فمكروه مطلقًا، للأخبار.

(2)

أي من التبسم كراهة، لمنافاته حالة المحل.

(3)

أي إسراج القبور إجماعًا، للخبر الآتي وغيره، والوقوف عليها باطلة، وتصرف على المساجد، وفي المصالح.

(4)

أي على القبور أو بينها إجماعًا، قال شيخ الإسلام: يتعين إزالتها، لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء، سواء كانت قبور أنبياء أو غيرها، لما في السنن وغيرها «لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج» وفي الصحيح «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ولهما «قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» والنهي عنه مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن القيم: لو وضع المسجد والقبر معًا لم يجز، ولم يصح الوقوف ولا الصلاة، وتعظيم القبور بالبناء عليها، وإسراجها، واتخاذها أعيادًا ومساجد، هو أصل شرك العالم.

ص: 131

والتخلي عليها، وبينها (1)(ويحرم فيها) أي في قبر واحد (دفن اثنين فأكثر) معًا (2) أو واحدًا بعد آخر، قبل بلاء السابق (3) لأَنه عليه السلام كان يدفن كل ميت في قبر، وعلى هذا استمر فعل الصحابة، ومن بعدهم (4) .

(1) لما روى ابن ماجه وغيره عن عقبة بن عامر، مرفوعًا «لأن أطأ على جمرة أو سيف، أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم، ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق» بل القبور أولى، وتقدم، لأن حرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا.

(2)

أي جميعًا، في حال الاختيار من جنس، لا من غير جنس، ونقل أبو طالب: إذا ماتت امرأة، وقد ولدت ولدًا ميتًا، فدفن معها، جعل بينها وبين حاجز من تراب، أو يحفر له في ناحية منها، وإن لم يدفن معها فلا بأس. ولعله يختص بما إذا كانا أو أحدهما ممن لا حكم لعورته لصغره، لأجل النص، وعنه: يكره، وفاقًا لأبي حنيفة والشافعي، واختاره ابن عقيل والشيخ وغيرهما، واستظهره في الفروع، وجزم في المحرر: لا يحرم رواية واحدة.

(3)

أي صيرورته ترابًا، ويكفي الظن في ذلك، ويرجع إلى أهل الخبرة في تلك الناحية.

(4)

من السلف والخلف، لا ينازع في ذلك مسلم، وإنما يجعل الإثنان فأكثر في قبر عند الحاجة.

ص: 132

وإن حفر فوجد عظام ميت دفنها (1) وحفر في مكان آخر (2)(إلا لضرورة) ككثرة الموتى، وقلة من يدفنهم، وخوف الفساد عليهم (3) .

(1) أي في محلها، ولم يجز دفن ميت آخر عليه.

(2)

لكي يدفن ميته فيه، ويحرم نبش قبر ميت باق، لدفن ميت آخر، ومتى ظن أنه بلي الأول جاز عند الأكثر، ومتى كان رميمًا جازت الزراعة والحرث وغير ذلك، ما لم يخالف شرط واقف إجماعًا، وإلا فلا، وفي المدخل: اتفق العلماء على أن الموضع الذي دفن فيه الميت وقف عليه، ما دام منه شيء موجود فيه، حتى يفنى، فإذا فني حينئذ يدفن غيره فيه، فإن بقي شيء ما من عظامه فالحرمة باقية كجميعه، ولا يجوز أن يحفر عليه، ولا يدفن معه غيره، ولا يكشف عنه اتفاقًا، قال تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} فالستر في الحياة ستر العورات، وفي الممات ستر جيف الأجساد، وتغير أحوالها، فالبنيان في القبور ونحو ذلك سبب لخرق هذا الإجماع، وانتهاك حرمة موتى المسلمين، في حفر قبورهم، والكشف عنهم، وصرح غير واحد أنه لا يجوز تغييرها، ولا حرثها، ولا غير ذلك. اهـ. وقال غير واحد: ومن نبش القبور التي لم تبل أربابها، وأدخل أجانب عليهم، فهو من المنكر الظاهر، وليس من الضرورة المبيحة لجمع ميتين فأكثر في قبر، أما إن صار الأول ترابًا، ولم يمكن أن يعد لكل ميت قبر، لا سيما في الأمصار الكبيرة، جاز، وإلا لزم أن تعم القبور السهل والوعر.

(3)

فإذا كان ذلك جاز، لأن الضرورات تبيح المحظورات، وقال تعالى {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وإن انتفت الضرورة، كان مكروهًا، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي والجمهور.

ص: 133

لقوله عليه السلام يوم أُحد «ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد» رواه النسائي (1) ويقدم الأَفضل للقبلة وتقدم (2)(ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب) ليصير كل واحد كأنه في قبر منفرد (3) وكره الدفن عند طلوع الشمس، وقيامها، وغروبها (4) .

(1) وصححه الترمذي، وذلك لما قالوا له صلى الله عليه وسلم: الحفر علينا لكل إنسان شديد. وروى عبد الرزاق، عن واثلة أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد، فيقدم الرجل، ويجعل المرأة وراءه، وكأنه كان يجعل بينهما حائلاً من تراب، ولا سيما إن كانا أجنبين، وإذا دفن اثنين فأكثر في قبر واحد، فإن شاء سوى بين رؤوسهم، وإن شاء حفر قبرًا طويلاً، وجعل رأس كل واحد عند رجلي الآخر أو وسطه كالدرج، ويجعل رأس المفضول عند رجلي الفاضل.

(2)

يعني في تقديم الأفضل إلى الإمام، في الصلاة عليه مفصلاً، فكذلك مثله يقدم الأفضل فالأفضل إلى القبلة في القبر، لحديث هشام بن عامر قال: شكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة الجراحات يوم أحد، فقال «احفروا وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا الأكثر قرآنًا» يعني إلى القبلة، صححه الترمذي.

(3)

ويقال: حجزه حجزًا منعه، وحجز بينهما فصل، والحاجز الحائل، والمراد على سبيل السنة لا الوجوب، كما صرح به في الإقناع وغيره.

(4)

نص عليه عند طلوعها، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك، وعند غروبها وفاقًا لمالك أيضًا، وخالف عند قيامها، وقيامها وقت الزوال، من قولهم: قامت به دابته، أي وقفت، والمعنى أن الشمس إذا بلغت وسط السماء، أبطأت حركة الظل، إلى أن يزول، وتقدم اختيار الشيخ وغيره، أنه إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره.

ص: 134

ويجوز ليلاً (1) ويستحب جمع الأَقارب في بقعةٍ، لتَسْهُلَ زيارتهم (2) قريبًا من الشهداء والصالحين، لينتفع بمجاورتهم (3)

(1) ذكره النووي والحافظ وغيرهما قول جمهور العلماء، وذكره الوزير إجماعًا، لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم، وإنما أنكر عدم إعلامه بذلك، والصحابة دفنوا أبا بكر ليلاً، وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز، وصح أن عليًا دفن فاطمة ليلاً، ونهارًا أولى إجماعًا، للأحاديث الصحيحة المشهورة، وليحضره كثير من الناس، فيصلون عليه، وقيل: عن رداءة الكفن، فلا يبين في الليل، قيل: ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قصدهما، وعنه: لا يفعل إلا لضرورة، فيتأكد استحبابه نهارًا للإجماع، والأخبار، والخروج من الخلاف، وقال الحافظ: إن رجي بتأخيره إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب، وإلا فلا.

(2)

لما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام – لما دفن عثمان بن مظعون، وعلم قبره، قال - «لأدفن إليه من مات من أهلي» وغير ذلك، ولأنه أبعد لاندراس قبورهم، والبقعة القطعة من الأرض وواحدة البقاع.

(3)

أي ويستحب أيضًا الدفن قريبًا مما كثر فيه الشهداء والصالحون، لينتفع بمجاورتهم، ولأنه أقرب إلى الرحمة.

وقال الشيخ: إنه يخفف العذاب عن الميت، بمجاورة الرجل الصالح، كما جاءت بذلك الآثار المعروفة، ولتناله بركتهم، ولذلك التمس عمر الدفن عند صاحبيه، وسأل عائشة ذلك، حتى أذنت له.

ص: 135

في البقاع الشريفة (1) . ولو وَصَّى أن يدفن في ملكه دفن مع المسلمين (2) ومن سبق إلى مسبلة قدم، ثم يقرع (3) وإن ماتت ذمية حامل من مسلم، دفنها مسلم وحدها إن أَمكن (4) .

(1) أي ويستحب الدفن في البقاع الشريفة، فقد سأل موسى ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة، وعمر سأل الشهادة في سبيل الله، والموت في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، متفق عليهما، وأما القتلى فلا، لحديث «ادفنوا القتلى في مصارعهم» و «جاوره مجاورة» صار جارًا له، والجار ما قرب من المنازل، وحقيقته إنما يتناول الملاصق، والمجاورة الملاصقة، أو يتناول الملاصق وغيره ممن يسكن محلته، ولا بأس بتحويل الميت ونقله إلى مكان آخر بعيد، لغرض صحيح، كبقعة شريفة ومجاورة صالح، مع أمن التغير، قال مالك: سمعت غير واحد يقول: إن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ماتا بالعقيق، فحملا إلى المدينة فدفنا بها، وأوصى ابن عمر أن يدفن بسرف، وقال جابر: دفن مع أبي رجل، فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة. رواه البخاري، وحول طلحة، وحولت عائشة رضي الله عنهما، فيجوز نبشه لغرض صحيح، وأخرج عبد الله بن أبي، بعدما دفن، فنفث فيه ريقه الشريفة، صلوات الله وسلامه عليه، وألبسه قميصه، متفق عليه، قال ابن القيم: وفيه دليل على جواز إخراج الميت من القبر بعد الدفن، لعلة أو سبب.

(2)

لأن دفنه بملكه يضر بالورثة، لمنعهم من التصرف فيه، فيكون منتفيًا، لحديث «لا ضرر ولا ضرار» ولا بأس بشراء موضع قبره، ويوصي بدفنه فيه، فعله عثمان وعائشة رضي الله عنهما.

(3)

أي فإن لم يحصل السبق بل جا آمعًا أقرع.

(4)

أي دفنها وحدها، في مكان غير مقابر المسلمين، وغير مقابر الكفار،

نص عليه، وحكاه عن واثلة بن الأسقع، ورواه البيهقي وغيره، وقال شيخ الإسلام: لا تدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر النصارى، لأنه اجتمع مسلم وكافر فلا يدفن الكافر مع المسلم، ولا المسلم مع الكفار، بل تدفن منفردة. اهـ. لأنها إذا دفنت في مقبرة المسلمين، تأذوا بعذابها، وإذا دفنت في مقبرة النصارى، تأذى الولد بعذابهم، فإن قيل: فالولد يتأذى بعذابها؟ قيل: هذا ضرورة، وهو أخف من عذاب المجموع.

ص: 136

وإلا فمعنا، على جنبها الأَيسر، وظهرها إلى القبلة (1)(ولا تكره القراءَة على القبر)(2) لما روى أَنس مرفوعًا «قال من دخل المقابر، فقرأَ فيها (يس) ، خفف عنهم يومئذ، وكان له بعددهم حسنات» (3) .

(1) أي وإلا يمكن دفنها منفردة، إما لخوف، أو لعدم محل تدفن فيه، فتدفن معنا، على جنبها الأيسر، وظهرها إلى قبلة، ليكون الجنين على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة، لأن ظهر الجنين لوجه أمه، قال الشيخ: فإذا دفنت كذلك، كان وجه الصبي المسلم مستقبل القبلة، والطفل يكون مسلمًا بإسلام أبيه، وإن كانت أمه كافرة، باتفاق العلماء. وقال: لا بد أن تكون مقابر أهل الذمة متميزة عن مقابر المسلمين، تميزًا ظاهرًا، بحيث لا يختلطون بهم، ولا يشبه قبور المسلمين بقبور الكفار، وهذا آكد من التمييز بينهم حال الحياة، بلبس الغيار ونحوه، فإن مقابر المسلمين فيها الرحمة، ومقابر الكفار فيها العذاب، بل ينبغي مباعدة مقابرهم عن مقابر المسلمين، وكلما بعدت عنها كانت أصلح.

(2)

قالوا: ولا في المقبرة، بل تستحب، وفاقًا للشافعي، لما ذكر من الخبرين.

(3)

لم يعزه إلى شيء من كتب الحديث المعروفة، وإنما رواه عبد العزيز

صاحب الخلال، بسنده عن أنس، وللدارقطني نحوه عن علي، في قراءة سورة الإخلاص، ونحوه أيضًا عن اللجلاج عند الطبراني، وكلها ضعيفة لا تقوم بها حجة، وليس فيه حديث صحيح ولا حسن، والأحاديث الصحيحة، في النهي عن العكوف عند القبور، واعتيادها متظاهرة.

ص: 137

وصح عن ابن عمر أَنه أَوصى إذا دفن، أَن يقرأَ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها، قاله في المبدع (1)(وأَيّ قربة) من دعاء واستغفار، وصلاة وصوم، وحج وقراءة وغير ذلك (فعلها) مسلم (2) .

(1) وكان أحمد ينكر ذلك، ولا ريب أن القراءة على القبر عكوف، يضاهي العكوف في المساجد بالقرب، وعنه: يكره، وفاقًا لأبي حنيفة ومالك وعامة السلف، بل أنكروه وشددوا فيه، قال شيخ الإسلام: نقل الجماعة كراهته، وهو قول جمهور السلف، وعليه قدماء الأصحاب. اهـ. ولو كان مشروعًا لَسَنّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وفيه مفسدة عظيمة، كما في الصلاة عنده، بل هو عكوف عند القبور، مضاهاة لما كان يعتاده عباد القبور، عن العكوف عندها بأنواع القرب، بل وسيلة إلى عبادتها، وعنه: بدعة، وفاقًا للشافعي، لأنه ليس من فعله عليه الصلاة والسلام، ولا من فعل أصحابه، فعلم أنه محدث، وسأله عبد الله: يحمل مصحفًا إلى القبر، فيقرأ فيه عليه؟ قال: بدعة.

وقال شيخ الإسلام: ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن القراءة عند القبور أفضل، ولا رخص في اتخاذها عند أحد منهم، كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم، أو الذكر، أو الصيام قال: واتخاذ المصاحف عنده ولو للقراءة فيها بدعة، ولو نفع الميت لفعله السلف، ولا أجر للميت بالقراءة عنده، كمستمع، ومن قال: إنه ينتفع بسماعها دون ما إذا بعد القارئ. فقوله باطل، مخالف للإجماع.

(2)

سواء كان من أقارب المدعو له أو غيرهم، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه، ودعائهم له عند قبره.

ص: 138

(وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك)(1) قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه. ذكره المجد وغيره (2) .

(1) قال ابن القيم: من صام أو صلى أو تصدق، وجعل ثوابه لغيره، من الأموات والأحياء جاز، ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة، ويحصل له الثواب بنيته له قبل الفعل، أهداه أو لا، ولكن تخصيص صاحب الطاعة نفسه أفضل، ويدعو كما ورد في الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة، واعتبر بعضهم إذا نوى الثواب حال الفعل أو قبله، واستحب بعضهم أن يقول: اللهم اجعل ثوابه لفلان. ويثاب كل من المهدي والمهدى له، وظاهره أنه إذا جعلها لغير مسلم لا ينفعه، وهو صحيح لقوله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية، وغيرها من الآيات والأحاديث.

(2)

وقال شيخ الإسلام: أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له، وبما يعمل عنه من البر، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. وذكر استغفار الملائكة والرسل والمسلمين للمؤمنين، وما تواتر من الصلاة على الميت، والدعاء له، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن توفيت أمه، وقال: أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال «نعم» وتصدق لها ببستان، ومن توفيت ولم توص، وقال ابنها: هل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال «نعم» وقال لعمرو بن العاص «لو أقر أبوك بالتوحيد فصمت عنه، أو تصدقت عنه، نفعه ذلك» وذكر اتفاقهم على وصول الصدقة ونحوها، وتنازعهم في العبادات البدنية، كالصلاة والصوم والحج والقراءة، وذكر ما في الصحيحين من حديث عائشة «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وعن ابن عباس وفيه «فصومي عن أمك» وحديث عَمْرو «إذا صاموا عن المسلم

نفعه» ، وما ورد في الحج وغير ذلك، ثم قال: فهذا الذي ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم مفصل مبين، ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته، وإنما خالفها من لم تبلغه.

وأما الحي فيجزئ، عند عامتهم، ليس فيه إلا اختلافًا شاذًا، وما تقدم لا ينافي قوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} ولا قوله «إذا مات ابن آدم انقطع عمله» الخ، لأن ذلك ليس من عمله، والله تعالى يثيب هذا الساعي، وهذا العامل على سعيه وعمله، ويرحم هذا الميت يسعي هذا الحي، وعمله بسعي غيره، وليس من عمله، ولكن ذكر أن أفضل العبادات ما وافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه، وقول ابن مسعود: من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن الذي كان معروفًا بين المسلمين، في القرون المفضلة، أنهم كانوا يعبدون الله بأنواع العبادات المشروعة، فرضها ونقلها، ويدعون للمؤمنين والمؤمنات، كما أمر الله بذلك، لأحيائهم وأمواتهم، في قيام الليل وغيره، وفي صلاتهم على الجنائز، وعند زيارة القبور، وغير ذلك من مواطن الإجابة، ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعًا، أو صاموا تطوعًا، أو حجوا أو قرؤا القرآن، يهدون ذلك لموتاهم المسلمين، بل كان من عادتهم الدعاء كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق السلف، فهو أفضل وأكمل.

ص: 139

وحتى لو أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم جاز، ووصل إليه الثواب (1) .

(1) ولم يره شيخ الإسلام وغيره من أهل التحقيق، فإن له صلوات الله وسلامه عليه كأجر العامل، فلم يحتج إلى أن يهدي إليه ثواب صلاة، أو صوم، أو صدقة أو قراءة من أحد، ورآه هو وبعض الفقهاء بدعة، ولم يكن الصحابة يفعلونه، وفي الاختيارات: لا يستحب إهداء القرب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو بدعة، هذا هو الصواب المقطوع به. اهـ. وذلك بخلاف الوالد، فإن له أجرًا كأجر الولد.

ص: 140

(ويسن أن يصلح لأَهل الميت طعام، يبعث به إليهم) ثلاثة أيام (1) لقوله عليه السلام «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد جاءهم ما يشغلهم» رواه الشافعي وأحمد، والترمذي وحسنه (2) .

(1) حاضرًا كان الميت، أو غائبًا وأتاهم نعيه، وأهل الميت عائلته الذين كانوا في نفقته وكلفته، استظهره ابن نصر الله وغيره وقيل: الذين كانوا يأوون معه في بيته، ويتولون أمره وتجهيزه، والأول هو المعروف في اللغة.

(2)

من رواية عبد الله بن جعفر، ورواه أحمد وابن ماجه أيضًا من رواية أسماء بنت عميس، قال الزبير: فعمدت سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شعير فطحنته، وآدمته بزيت جعل عليه، وبعث به إليهم. ولشغلهم بالمصيبة، وهو قول الشافعي، ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: فما زالت تلك السنة فينا، حتى تركها من تركها. ويقصد به أهل الميت، لا من يجتمع عندهم، قال شيخ الإسلام: لكن إنما يطيب إذا كان بطيب نفس المهدي، وكان على سبيل المعاوضة، مثل أن يكون مكافأة عن معروف مثله، فإن علم الرجل أنه ليس بمباح لم يأكل منه، وإن اشتبه أمره فلا بأس بتناول اليسير منه، إذا كان فيه مصلحة راجحة، مثل تأليف القلوب ونحو ذلك. اهـ.

وجعفر رضي الله عنه هو ابن أبي طالب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد السابقين الأولين، شقيق علي، ولد قبله بعشر سنين، قال أبو هريرة: إنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيح «أشبهت خَلْقي وخُلُقي» أسلم النجاشي على يده، وقتل رضي الله عنه في جمادى، سنة ثمان من الهجرة، في غزوة مؤتة، موضع معروف بالشام، عند الكرك، اقتحم عن فرسه فعقرها، وكان أول من عقر في الإسلام، ثم قاتل حتى قتل، قال ابن عمر: ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين، من طعنة ورمية. وسمي ذا الجناحين، لأنه قاتل حتى قطعت يداه، قالت عائشة: لما جاءت وفاته رؤي في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن.

ص: 141

(ويكره لهم) أَي لأَهل الميت (فعله) أي فعل الطعام (للناس)(1) لما روى أَحمد عن جرير قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. وإسناده ثقات (2) .

(1) لأنه معونة على مكروه، وهو اجتماع الناس عند أهل الميت، بل بدعة وخلاف للسنة، فإنهم مأمورون أن يصنعوا لأهل الميت طعامًا، فخالفوا، وكلفوهم صنع الطعام لغيرهم، وقد علل صلى الله عليه وسلم بما هم فيه من الشغل بمصابهم، وفي الطراز: وأما إصلاح أهل الميت طعامًا، وجمع الناس عليه، فقد كرهه جماعة، وعدوه من البدع، لأنه لم ينقل فيه شيء، وليس ذلك موضع الولائم.

(2)

وقال شيخ الإسلام: جمع أهل المصيبة الناس على طعامهم، ليقرؤا ويهدوا له، ليس معروفًا عند السلف، وقد كرهه طوائف من العلماء من غير وجه، وقرب دفنه منهي عنه، عده السلف من النياحة، وذكر خبر جرير، وهذا في المحتسب، فكيف من يقرأ بالكراء، قال: واكتراء من يقرأ ويهدي للميت بدعة، لم يفعلها السلف، ولا استحبها الأئمة، والفقهاء تنازعوا في جواز الإكتراء على تعليمه، فأما اكتراء من يقرأ ويهدي فما علمت أحدًا ذكره، ولا ثواب له، فلا شيء للميت، قاله العلماء، ولا تنفذ وصيته بذلك. اهـ. وقال أحمد: هو من فعل أهل الجاهلية، وقال الموفق وغيره: إلا من حاجة، كأن يجيء من يحضر ميتهم، من أهل القرى البعيدة، ويبيت عندهم، فلا يمكن إلا أن يطعموه. اهـ.

ويكره الأكل مما صنع، وقال الطرطوشي: أما المآتم فممنوعة بإجماع العلماء، والمأتم هو الاجتماع على المصيبة، وهو بدعة منكرة، لم ينقل فيه شيء، وكذا ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث، والرابع والسابع، والشهر والسنة، فهو طامة، وإن كان من التركة، وفي الورثة محجور عليه، أو من لم يأذن حرم فعله، وحرم الأكل منه، وجرير هو ابن عبد الله بن جابر بن مالك البجلي،

الصحابي الشهير، بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الخلصة، فهدمها، وقدمه عمر في حروب العراق على بجيلة، وأرسله علي إلى معاوية، ثم اعتزل، وسكن قرقيسًا، ومات سنة إحدى وخمسين. اهـ.

ص: 142

ويكره الذبح عند القبر، والأَكل منه (1) لخبر أنس «لا عقر في الإسلام» رواه أحمد بإسناد صحيح (2) وفي معناه الصدقة عند القبر، فإنه محدث، وفيه رياءٌ (3) .

(1) وقال شيخ الإسلام: يحرم الذبح والتضحية عند القبر، ولو نذره، ولو شرطه واقف كان شرطًا فاسدًا.

(2)

أصل العقر ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم، فنهى عنه صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا إذا مات الميت عقروا عند قبره شاة أو بعيرًا، ويقولون: إنه كان يعقر للأضياف أيام حياته، فيكافيه بمثل صنيعه بعد وفاته، أو ليكون مطعمًا بعد وفاته.

(3)

أي وفي معنى الذبح عند القبر الصدقة عنده، فإنه محدث، لم يفعله السلف، ولم يرد الأمر به «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وفيه أيضًا رياء، وهو محرم.

قال شيخ الإسلام: إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة، وهو يشبه الذبح عند القبر، ولا يشرع شيء من العبادات عند القبور، لا صدقة ولا غيرها، قال: وأنكر من ذلك أن يوضع عند القبر الطعام أو الشراب ليأخذه الناس.

ص: 143

فصل (1)

(تسن زيارة القبور)(2) وحكاه النووي إجماعًا (3) لقوله عليه السلام «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها» رواه مسلم، والترمذي وزاد «فإنها تذكر الآخرة» (4) .

(1) في سنية زيارة القبور، وهي مشروعة بالسنة والإجماع، فإنها تورث رقة القلب، وتذكر الموت والبلى، وينتفع المزور بدعاء الزائر له.

(2)

للذكور بلا شَدَّ رَحْلٍ، لما في الصحيحين «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» وأجمعوا على العمل به في الجملة.

ولمسلم «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد» لاختصاصها بما اختصت به، ولازمة منع السفر إلى كل موضع غيرها.

(3)

وكذا حكاه الموفق وغيره، للذكور دون النساء، ولما ينشأ بقلب زائرها من الرجال، دون النساء لضعفهن.

(4)

والحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة.

وقال: أبو هريرة زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، وقال «استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» متفق عليه، ولأحمد وغيره عن أبي سعيد «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن فيها عبرة» ولفظ ابن ماجه بسند صحيح عن ابن مسعود «فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر الآخرة» وقال تعالى {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فزيارة الميت المشروعة بالدعاء والاستغفار، هي من هذا القيام المشروع.

وذكر شيخ الإسلام أن الزيارة على قسمين: شرعية وبدعية، فالشرعية المقصود بها السلام على الميت، والدعاء له، كما يقصد بالصلاة على جنازته، من غير شد رحل، والبدعية أن يكون مقصود الزائر أن يطلب حوائجه من ذلك الميت، وهذا شرك أكبر، أو يقصد الدعاء عند قبره، أو الدعاء به، وهذا بدعة منكرة، ووسيلة إلى الشرك، وليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا استحبه أحد من سلف الأمة، وأئمتها. اهـ. والمقصود من زيارة القبور الاعتبار، ونفع المزور، والزائر، بالدعاء، فلا ينبغي أن يغفل الزائر عن الدعاء لنفسه، وللميت، ولا عن الاعتبار بحاله، كيف تقطعت أوصاله، وتفرقت أجزاؤه، وكيف يبعث من قبره، وأنه عما قريب يلحق به، وقال القرطبي: ينبغي أن يتأدب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها ويتعظ بأهلها وأحوالهم، ويعتبر بهم، وما صاروا إليه.

ص: 144

وسن أن يقف زائر أمامه، قريبًا منه، كزيارته في حياته (1)(إلا للنساء) فتكره لهن زيارتها (2) .

(1) وتقدم، فينبغي أن يدنو منه، من جهة رأسه، بقدر ما يدنو من صاحبه في الحياة، ويكون مستقبلاً وجهه مستدبرًا القبلة، ولا يتمسح به، ولا يصلي عنده، ولا يقصده لأجل الدعاء عنده، قال شيخ الإسلام: ليس هذا ونحوه من دين المسلمين، بل مما أحدث من البدع القبيحة التي هي من شعب الشرك. وقال: اتفق السلف والأئمة على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء والصالحين، فإنه لا يتمسح بالقبر، ولا يقبله، بل اتفقوا أنه لا يستلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود، والركن اليماني يستلم ولا يقبل، على الصحيح.

(2)

يعني كراهة تحريم، لصراحة الحديث، ورجحه الشيخ وغيره، وقال: وعلى هذا العمل في أظهر قولي أهل العلم، واحتج أهل القول الآخر بالإذن، وليس بجيد، فإن اللفظ لفظ مذكر، وهو مختص بالذكور، أو متناول لغيرهم، فإن كان مختصًا فلا ذكر للنساء، وإن كان متناولاً كان لفظ الحديث الآتي وغيره مختصًا، ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة، فكان مقدمًا على العام، عند عامة أهل العلم، كما لو علم أنه بعدها. اهـ. وفي الخبر:«واحتملها الرجال» ، ولأبي يعلى من حديث أنس قال «أتحملنه؟» قلن: لا قال «أتدفنه؟» قلن: لا. قال «فارجعن مأزورات، غير مأجورات» ونقل النووي أنه لا خلاف في ذلك.

ص: 145

غير قبره صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه رضي الله عنهما (1) روى أحمد والترمذي وصححه عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور (2) .

(1) يعني أبا بكر وعمر، وهذا الاستثناء فيه نظر ظاهر، فإنها تحرم زيارتهن لقبره صلى الله عليه وسلم، وقبريهما رضي الله عنهما لعدم الاستثناء في النصوص الصحيحة الصريحة في نهيهن مطلقًا، ولبقاء العلة المعلل بها في زيارة القبور.

(2)

وفي لفظ «زائرات القبور» وهذا صريح في التحريم، وعن ابن عباس مرفوعًا: لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، قال شيخ الإسلام: وفي نسخ صحيحة تصحيحه، وقد تعددت طرقها، وليس فيها متهم، ولا خالفها أحد من الثقات، وقد روي هذا عن صاحب وهذا عن صاحب آخر، وذلك يبين أن الحديث في الأصل معروف، وفي الصحيح أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز، وفي السنن، وصححه أبو حاتم من حديث ابن عمر، قال: فلما فرغنا – يعني من دفن الميت – انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفنا معه، فلما توسطنا الطريق، إذا نحن بامرأة مقبلة، فلما دنت إذا هي فاطمة، فقال لها «ما أخرجك؟» قالت: أتيت أهل هذا البيت فعزيناهم بميتهم، فقال «لعلك بلغت معهم الكدى؟» قالت: معاذ الله أن أكون بلغت معهم الكدى، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر. فقال «لو بلغتيها معهم، ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك» وقد فسر الكدى بالقبور، وبالأرض الصلبة، لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة، والنبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك يذكر بالموت، ويرقق القلب، ويدمع العين.

ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب، أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة، لما فيها من الضعف، وكثرة الجزع، وقلة الصبر، وأيضًا فإن ذلك سبب لتأذى الميت ببكائها، والرجال بصوتها وصورتها، كما في الخبر «فإنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت» وإذا كانت مظنة، فمن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية، أو غير منتشرة علق الحكم بمظنتها، فيحرم هذا الباب سدًا للذريعة، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها، ولهذا قال الفقهاء: إذا علمت من نفسها أنها إذا زارت المقبرة بدا منها ما لا يجوز، من قول أو عمل، لم تجز لها الزيارة بلا نزاع. وقال: إذا كانت زيارة النساء فطنة ومنشأ للامور المحرمة، فغنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، اما لو مرت في طريقها على مقبرة وسلمت فلا بأس، لأنها لا تسمّى زائرة، وقال: وإن اجتازت بقبر في طريقها، ولم تكن خرجت له، فسلمت عليه ودعت له فحسن.

ص: 146

(و) يسن أن (يقول إذا زارها) أو مر بها (1)(السلام عليكم دار قوم مؤمنين (2)

(1) أي زار قبور المسلمين قاصدًا ذلك، أو مر بها على طريقه، من غير قصد زيارتها.

(2)

أو أهل الديار من المؤمنين. فالمتن: لفظ حديث أبي هريرة. ودار منصوب على النداء، وقيل: على الاختصاص. وفي المطالع: يجوز جره يعني أهل دار، وعلى البدل.

ص: 147

وإنا إن شاءَ الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأْخرين (1) نسأل الله لنا ولكم العافية (2) اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) (3) للأخبار الواردة في ذلك (4) .

(1) أي المتقدمين بالوفاة، والمستأخرين بها، ليعم أولهم وآخرهم، ولفظ مسلم «منا ومنكم» .

(2)

من كل مكروه، وعافاه الله معافاة وعفاء وعافية، أو العافية اسم منه وهب له العافين من كل سوء، والحديث في الصحيح من حديث أبي هريرة، ولمسلم من حديث بريدة: كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم «السلام عليكم أهل الديار من المسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» .

(3)

رواه أحمد من حديث عائشة، وللترمذي من حديث ابن عباس «السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا، ونحن بالأثر» و «حرمَهُ» الشيء يحرمُه حرمانًا إذا منعه إياه، وكان بعض السلف إذا وقف على المقابر قال: أنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز من سيئاتكم، وقبل حَسَناتكم. وروي «ما الميت في قبره إلا كالغريق المبهوت، ينتظر دعوة تلحقه، من ابنه أو أخيه أو صديقه، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها، وإن هدايا الأحياء للأموات الدعاء والاستغفار» والزيارة الشرعية: المقصود منها ثلاثة أشياء، الدعاء للميت، والإحسان إليه بذلك الدعاء، واعتبار الزائر بحاله، والتفكر في مآله، وتذكر الآخرة كما في الخبر.

(4)

المستفيضة مما تقدم وغيره، وللإجماع، واستمرار فعلها خلفًا عن سلف.

ص: 148

وقوله «إن شاء الله بكم للاحقون» استثناء للتبرك، أو راجع للحوق لا للموت، أَو إلى البقاع (1) ويسمع الميت الكلام (2) ويعرف زائره يوم الجمعة، بعد الفجر، قبل طلوع الشمس، وفي الغنية: يعرفه كل وقت، وهذا الوقت آكد (3) .

(1) فالأول قاله أكثر العلماء، وقال النووي: هو أصحها، لأن الموت واقع لا محالة، وامتثالاُ لقوله {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} والثاني ذكره البغوي وغيره، والثالث ذكره في الشافي وغيره، والتبرك التّيَمُّنُ والفوز بالبركة، والتبرك به تفاؤل بالبركة منه، واللحوق اللزوم في الإسلام، واللحاق الإدراك، والبقاع والبقعة القطع والقطعة من الأرض في الدفن معهم فيها.

(2)

في الجملة لما في الصحيحين وغيرهما، قال «إنه ليسمع خفق نعالهم» وقال في قتلى بدر «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وقال «إنهم ليسمعون الآن» وأمر بالسلام على أهل القبور، ولم يكن ليأمر بالسلام على من لا يسمع، وغير ذلك من البراهين الدالة على أن الميت يسمع في الجملة، وقال الشيخ، وابن كثير وغيرهما: سماع الموتى هو الصحيح من كلام أهل العلم، وهذا السمع سمع إدراك، لا يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي في القرآن، وإن سمع فلا يمكنه إجابة الداعي، ولا ينتفع بالأمر والنهي، ولا يجب أن يكون السمع له دائمًا، بل قد يسمع بحال دون حال، كما يعرض للحي.

(3)

قال ابن القيم: والأحاديث والآثار تدل على أن الزائر متى جاء، علم به المزور، وسمع كلامه، وأنس به، ورد عليه، وذلك عام في حق الشهداء وغيرهم، ولا توقيت في ذلك. اهـ. وقال شيخ الإسلام: استفاضت الآثار بمعرفة الميت بأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وجاءت الآثار

بأنه يرى، ويدري بما فعل عنده، ويُسَرُّ بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا. وقال: جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم، وعرض أعمال الأحياء على الأموات، فيجتمعون إذا شاء الله، كما يجتمعون في الدنيا، مع تفاوت منازلهم، وسواء كانت المدافن متباعدة في الدنيا أو متقاربة، لكن الأعلى ينزل إلى الأسفل، والأسفل لا يصعد إلى الأعلى، وللروح اتصال بالبدن متى شاء الله، وذلك في اللحظة بمنزلة نزول الملك وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم، كما تظاهرت به الآثار، وقال مالك: بلغنا أن الأرواح مرسلة، تذهب حيث شاءت.

ص: 149

وتباح زيارة قبر كافر (1)(وتسن تعزية) المسلم (المصاب بالميت)(2) ولو صغيرًا، قبل الدفن وبعده (3) .

(1) ولا يسلم عليه، كحال الحياة، ولا يدعو له، لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه، وقال شيخ الإسلام: تجوز زيارته للاعتبار، ولزيارته عليه الصلاة والسلام قبر أمه.

(2)

أي تسليته، صغيرًا كان أو كبيرًا، بلا خلاف، وحثه على الصبر، بوعد الأجر، والدعاء للميت والمصاب، «وعزاه تعزية» سلاه وصبره، وأمره بالصبر، وقال له: أحسن الله عزاك. أي رزقك الصبر الحسن، وعزى وتعزى عنه تعزيًا تصبر، وقيل: أصله تعززت أي تشددت، وفي الحديث «من لم يتعز بعزاء الله فليس منا» قال الأزهري: أصلها التصبير لمن أصيب بمن يعز عليه. اهـ. والعزاء اسم أقيم مقام التعزية، وفي الصحيحين لما أرسلت إحدى بناته، تخبره أن صبيًا لها في الموت، قال «أخبرها أن الله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» وتواتر حديث «لا يموت لأحد ثلاثة، من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» .

(3)

أي تسن تعزيته، ولو كان صغيرًا، لعموم الأخبار، وكذا صديق للميت، وجار ونحوهما، وسواء قبل الدفن أو بعده، من حين الموت، وفاقًا

للشافعي، وبعده، أولى، لاشتغال أهل الميت بتجهيزه، إلا أن يرى منهم جزعًا، ولا بأس بالجلوس بقرب دار الميت، ليتبع الجنازة، أو يخرج وليه فيعزيه، قال في الإنصاف وغيره: فعله السلف.

ص: 150

لما روى ابن ماجه وإسناده ثقات، عن عمرو بن حزم مرفوعًا «ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة، إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» (1) ولا تعزية بعد ثلاث (2) فيقال لمصاب بمسلم: أَعظم الله أَجرك، وأَحسن عزاك، وغفر لميتك (3) .

(1) وله عن ابن مسعود مرفوعًا «من عزى مصابًا فله مثل أجره» أي من عمد إلى قلب قد أقلقه ألم المصيبة، فداواه بآيات الوعيد، وثواب الصبر، وذم الجزع، حتى يزيل ما به، أو يقلله، فيصير ثواب المسلي كثواب المصاب، لأن كليهما دفع الجزع، ورواه الترمذي وغيره، وله «من عزى ثكلى كسي بردًا في الجنة» والثكلى المرأة تفقد ولدها، أو من يعز عليها، وللطبراني مرفوعًا «من عزى مصابًا كساه الله حلتين، من حلل الجنة، لا تقوم لهما الدنيا» .

(2)

إلا إن كان غائبًا، فلا بأس بتعزيته بعدها، ما لم ينس المصيبة، قال في الفروع: ولم يحدها جماعة، منهم شيخ الإسلام، فالظاهر تستحب مطلقًا، وهو ظاهر الخبر.

(3)

قاله شيخ الإسلام وغيره: ولا تعيين في ذلك، بل يدعو بما ينفع، قال الموفق وغيره: لا أعلم في التعزية شيئًا محدودًا، إلا أنه يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عزى رجلاً فقال «رحمه الله، وآجرك» رواه أحمد. و «آجره الله» أعطاه أجره، وجزاه صبره، وهمه في مصيبته، و «أحسن عزاك» أي رزقك الصبر الحسن، وروي أنه عزى امرأة في ابنها فقال «إن لله ما أخذ، وله ما أعطي، ولكل أجل مسمى، وكل إليه راجع، فاحتسبي واصبري، فإن الصبر عند أول الصدمة الأولى» وللطبراني عن معاذ أنه مات ابن له، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، فإن أنفسنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله عز وجل، الرهينة، وعواريه المستودعة، متعك الله به في غبطة وسرور، وقبضه منك في أجر كبير، الصلاة والرحمة والهدى، فاصبْر ولا يحبط جزعك أجرك، فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد شيئًا، ولا يدفع قدرًا، وما هو نازل فكائن مدرك» وإن شاء أخذ بيد من عزاه.

ص: 151

وبكافر: أَعظم الله أَجرك، وأحسن عزاك (1) وتحرم تعزية كافر (2) وكره تكرارها (3) ويرد معزى بـ «استجاب الله دعاءك، ورحمنا وإياك» (4) .

(1) ويهون عليه المصيبة، ويسليه منها ويحظه على الرضا بالقضاء، ويدعو له يجزيل الثواب، إذ لا يمتنع أن يؤجر به، ويمسك عن الدعاء للميت الكافر، لأن الدعاء والاستغفار له منهي عنه.

(2)

سواء كان الميت مسلمًا أو كافرًا، لأن فيها تعظيمًا للكافر، كبداءته بالسلام، ويأتي كلام الشيخ أنها تجوز.

(3)

أي التعزية، و «كرر الشيء» أعاده مرة بعد أخرى، فلا يعزى عند القبر من عزي قبله، ولا بعده من عزي عنده، ويكره الجلوس لها، لما في ذلك من استدامة الحزن، وفاقًا لمالك والشافعي، وقيل بقدرها، إلا بقرب دار الميت ليتبع جنازته، أو ليخرج وليه فيعزيه.

(4)

وهكذا رد الإمام أحمد وكفى به قدوة، ولا تعيين في ذلك، كما تقدم، و «معزى» بفتح الزاي المشددة، من أصابته المصيبة.

ص: 152

وإذا جاءته التعزية في كتاب ردها على الرسول لفظًا (1)(ويجوز البكاءُ على الميت)(2) لقول أَنس: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تذرفان. وقال «إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا – وأَشار إلى لسانه – أَو يرحم» متفق عليه (3) .

(1) فيقول: استجاب الله دعاءه، ورحمنا وإياه.

(2)

إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة، فإن أخبار النهي محمولة على بكاء معه ندب أو نياحة، أو أنه كثرة البكاء، والدوام عليه أيامًا كثيرة، فالبكاء المباح، والحزن الجائز هو ما كان بِدَمْع العين، ورقة القلب، من غير سخط لأمر الله، قال الشيخ: ولا بد من حمل الحديث على البكاء الذي معه ندب ونياحة، ونحو ذلك، وما هيج المصيبة، من وعظ، وإنشاد شعر، فمن النياحة، وأما البكاء فيستحب، رحمة للميت، وهو أكمل من الفرح، لقوله صلى الله عليه وسلم «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده» متفق عليه، ولأحمد وغيره مرفوعًا «مهما كان من العين والقلب فمن الله، ومن رحمته، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان» والاعتدال في الأحوال، هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة، لا يفرط في الحزن، حتى يقع في المحذور، من اللّطْمِ والشق، ولا يفرط في التجلد، حتى يفضي إلى القسوة، والاستخفاف بقدر المصاب، قال الجوهري: البكاء يمد ويقصر، فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون معه البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها.

(3)

أي يعذب إن قال بلسانه سوءًا، أو يرحم إن قال خيرًا، فمجرد البكاء بدمع العين، من غير زيادة عليه، لا يضر، وكذا مجرد الحزن، والحزن الهم،

وضده السرور، وجمعه أحزان، «وتذرفان» أي يجري دمعهما، وفيهما أنه عليه الصلاة والسلام رفع إليه ابن ابنته، ونفسه تقعقع، كأنها شن، يعني لها صوت وحشرجة، كصوت ما ألقي في قربة بالية، ففاضت عيناه: فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال «هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» وقال «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا» ولما قتل زيد وجعفر وابن رواحة، جلس صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن، وكذلك حزن لما قتل القراء، وقال تعالى عن يعقوب عليه السلام {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} والبث شدة الحزن، ولذلك كان أرضى الخلق عن الله في قضائه، وأعظمهم له حمدًا، فالبكاء على الميت على وجه الرَّحْمَةِ حسن مستحب، ولا ينافي الصبر، بل ولا الرضي، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه.

ص: 153

ويسن الصبر والرضى (1) .

(1) أما الصبر فواجب إجماعًا، حكاه شيخ الإسلام وغيره، وذكر في الرضى قولين، ثم قال: وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة، لما يرى من إنعام الله عليه بها، اهـ. والصبر المنع والحبس، وشرعًا حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود، وشق الجيوب، ونحوها، وهو خلق فاضل، يمتنع به من فعل ما لا يحسن، وقوة به صلاح العبد، قال تعالى {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقال {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وغير ذلك في أكثر من تسعين موضعًا.

وقال عليه الصلاة والسلام «والصبر ضياء» وقد وردت أخبار في ثواب أهل البلاء، وأجر الصابرين كقوله «من يرد الله به خيرًا يصب منه» وقوله «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه» إلى قوله «فما يزال به، حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة» وقال «إن عظم الجزاء مع عظم

البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فَمَنْ رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط» حسنه الترمذي، وله «إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له العقوبة في الدنيا» وغير ذلك.

وفي الصبر على موت الولد أجر كبير، وردت به الأخبار، منها في الصحيحين «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم» وفيهما «وكانوا حجابًا له من النار» وفيهما «ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة» قال ابن المنير: ويدخل الكبير في ذلك بطريق الفحوى، وفي الصحيح «يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» ولأحمد والترمذي وحسنه «إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟، فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟، فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد» وفيه: عن صهيب مرفوعًا «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» .

ولأحمد وابن ماجه وغيرهما عن الحسن مرفوعًا «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة، فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث عند ذلك استرجاعًا، إلا جدد الله له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب» ومن نظر في كون المصيبة لم تكن في دنيه، هانت عليه مصيبته بلا شك، والثواب في المصائب على الصبر عليها، لا على المصيبة نفسها، فإنها ليست من كسب ابن آدم، وإنما يثاب على صبره، وأما الرضى فمنزلة فوق الصبر، فإنه يوجب رضى الله، واختار الشيخ استحبابه، وقال: لم يجيء الأمر به، كما جاء بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم.

ص: 154

.....................................

ص: 155

والاسترجاع، فيقول (إنا لله وإنا إليه راجعون)(1)«اللهم آجرني في مصيبتي، وأَخِلف لي خيرًا منها» (2) ولا يلزم الرضى بمرض وفقر وعاهة (3) .

(1) الاسترجاع سنة إجماعًا، قال تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي على الرزايا والبلايا، «واسترجع في المصيبة» استعاذ بقوله (إنا لله) أي عبيد له، وملك له، يفعل فينا ما يشاء (وإنا إليه راجعون) يوم القيامة، فيجازي كلا بعمله، وقال ابن كثير وغيره: تسلوا بقولهم هذا، عما أصابهم، وعملوا أنهم ملك لله، عبيد له، يتصرف فيهم بما يشاء، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده، وراجعون إليه في الدار الآخرة. ولهذا أخبر عما أعطاهم على ذلك فقال {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} أي ثناء من الله عليهم {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} في الدنيا والآخرة. اهـ. فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة، فإنه إذا تحقق بمعرفتها تسلى عن مصيبته، وإذا علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هانت عليه المصيبة.

(2)

آجرني بالمد والقصر، وكسر الجيم، و «اخلف» بقطع الهمزة، وكسر اللام، يقال لمن ذهب منه ما يتوقع مثله: أخلف الله عليك. أي رد عليك مثله، فإن ذهب منه ما لا يتوقع مثله: خلف الله عليك. أي كان الله خليفة منه عليك، وفي صحيح مسلم وغيره عن أم سلمة مرفوعًا «ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها. إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها» .

(3)

لأن الرضى إنما يجب بالقضاء والقدر، لا بالمقضي والمقدور، لأنهما صفتان للعبد، والأوليان صفتان للرب، والعاهة الآفة، وأصلها عوهة، وجمعها عاهات، وأهل العاهات المصابون بها.

ص: 156