المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المجتهد إجماع الأمّة ولطوينا بساط الاجتهاد. قلت: كأنَّ احتمال نزول النّص - الإبهاج في شرح المنهاج - ط دبي - جـ ٧

[تاج الدين ابن السبكي - تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌(الكتاب السادس: في التعادل(1)والتراجيح

- ‌(مسألة إذا نقل عن مجتهد قولان في موضع واحد

- ‌الحالة الأولى: إذا كان في موضع واحد

- ‌الحالة الثانية: أنْ يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين

- ‌(الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌(مسألة لا ترجيح في القطعيات

- ‌إنما يترجح(1)أحد الدليلين على الآخر إذا لم يمكن العمل بكل واحد منهما

- ‌(الباب الثالث: في ترجيح الأخبار

- ‌الأول: بحال الراوي

- ‌الترجيح بكيفية الرواية

- ‌ الترجيح بوقت ورود الخبر

- ‌(الخامس باللفظ

- ‌(السادس بالحكم

- ‌(السابع بعمل أكثر السلف)

- ‌(الباب الرابع: في تراجيح الأقيسة

- ‌ الأوّل: بحسب العلّة فترجح المظنة ثم الحكمة ثم الوصف الإضافي ثمّ العدمي ثم الحكم الشرعي والبسيط والوجودي للوجودي والعدمي للعدمي)

- ‌(الثاني بحسب دليل العلية فيرجح الثابت بالنص القاطع

- ‌(الثالث بحسب دليل الحكم فيرجح النص ثم الإجماع لأنّه فرعه)

- ‌(الرابع بحسب كيفية الحكم

- ‌ بحسب الأمور الخارجية

- ‌(الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء

- ‌الأولى يجوز له صلى الله عليه وسلم أنْ يجتهد

- ‌فائدتان:

- ‌(الثانية يجوز للغائبين عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفاقًا وللحاضرين أيضًا إذ لا يمتنع أمرهم به

- ‌شرط المجتهد أنْ يكون محيطًا بمدارك الأحكام

- ‌(الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد

- ‌أولها: ذهب طوائف المسلمين على طبقاتهم إلى أنَّه: ليس كلُّ مجتهدٍ في الأصول مصيبًا

- ‌البحث الثاني: في تصويب المجتهدين في المسائل الفروعية

- ‌(الباب الثاني: في الإفتاء

- ‌الأولى: النظر فيما يتعلق بالمفتي

- ‌(الثانية يجوز الاستفتاء للعامي

- ‌(الثالثة: إنما يجوز في الفروع وقد اختلف في الأصول ولنا فيه نظر وليكن آخر كلامنا وبالله التوفيق)

- ‌خاتمة

الفصل: المجتهد إجماع الأمّة ولطوينا بساط الاجتهاد. قلت: كأنَّ احتمال نزول النّص

المجتهد إجماع الأمّة ولطوينا بساط الاجتهاد.

قلت: كأنَّ احتمال نزول النّص في حقِّه صلى الله عليه وسلم، بمنزلة احتمال كونه موجودًا في حقِّ سائر المجتهدين لقرب وجدانه في

(1)

الجهتين

(2)

.

والثاني: أنَّه يحتمل أنْ يكون انتظاره الوحي، إنَّما كان

(3)

فيما لا مساغَ للاجتهاد فيه، ولا أصل يقيس عليه

(4)

.

‌فائدتان:

إحداهما: قال الغزالي: يجوز القياس على الفرع الذي قاسه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى كلّ فرع أجمعت الأمّة على إلحاقه بأصل. قال: لأنّه صار أصلًا بالإجماع والنَّص، فلا ينظر إلى مأخذهم

(5)

.

الثانية: النبي صلى الله عليه وسلم يتصرف في الفتيا

(6)

، والتبليغ، والقضاء، والإمامة، وقد ادَّعى القرافي

(7)

أنّ محل الخلاف في هذه المسألة

(1)

في (غ)، (ت): من الجهتين.

(2)

ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 18، والإحكام للآمدي: 4/ 233، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3809.

(3)

في (غ): يكون.

(4)

ينظر: الإحكام للآمدي: 4/ 233.

(5)

ينظر: المستصفى للغزالي: 2/ 356.

(6)

في (ت): بالفتيا.

(7)

هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي البهنسي القرافي المصري، ولد سنة 626 هـ بقرية بوش كورة بصعيد مصر، كان من أفضل أهل عصره، فقيه مالكي وأصولي ذو باع طويل، له من المصنفات الكثير =

ص: 2875

في الفتاوى، وأنّ الأقضية يجوز فيها من غير نزاع وستعرف الفرق بينهما بسؤال نذكره من

(1)

كلام القرافي.

ومما يدل على جوازه في الأقضية ما روى أبو داود من حديث أبي سلمة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست فقال: "إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه"

(2)

.

فإنْ قلت ما الفرق بين هذه الأمور وبين الرسالة والنبوة؟ .

قلت: تصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتيا

(3)

هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تعالى كما نقول في سائر المفتين.

وتصرفه بالتبليغ هو مقتضى الرسالة. والرسالة

(4)

هي أمرُ الله تعالى في ذلك التبليغ فهو صلى الله عليه وسلم يَنقُلُ عن الحقِّ للخلقِ في مقامِ الرسالة: ما وصَل إليه

= منها: نفائس الأصول في شرح المحصول، وتنقيح الفصول، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، والاستغناء في أحكام الاستثناء، والذخيرة في الفقه، والفروق، والعقد المنظوم في الخصوص والعموم، وغيرها كثير. توفي رحمه الله سنة 684 هـ. ينظر ترجمته في: الوافي بالوفيات للصفدي: 6/ 233، 234 والديباج المذهب لابن فرحون: ص 84، 64، والفكر السامي للحجوي: 4/ 68، وشهاب الدين القرافي حياته وآراؤه الأصولية لعياض السلمي ص 6 - 70.

(1)

في (غ): في كلام.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه: (ت): 551، كتاب الأقضية (18)، باب قضاء القاضي إذا أخطأ (7) رقم (3583).

(3)

في (ت): في الفتيا.

(4)

(والرسالة) ليس في (ص).

ص: 2876

عن الله تعالى فهو في هذا المقام مبلِّغٌ وناقِلٌ عن ربّ العالمين كما ينقل الرواة لنا أحاديثه، فالمحدثون ورثوا عنه هذا المقام كما ورث عنه المفتي الفتيا.

وإذا اتضح بهذا الفرق بين الراوي والمفتي لاح الفرق بين تبليغه صلى الله عليه وسلم عن ربه وبين فتياه في الدّين بهذا الفرق بعينه.

وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالحكم

(1)

فهو مغاير للرسالة والفتيا؛ لأنَّ الفتيا والرسالة تبليغٌ محضٌ واتباعٌ صِرْفٌ، والحكمُ إنشاء وإلزام من قبله صلى الله عليه وسلم بحسب ما يسنح من الأسباب والحجاج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم انْ يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له في شيء من حق أخيه فلا يأخذه إنما أقتطع له قطعة من النار"

(2)

دلّ على أنّ القضاء يتبع الحجاج وقوّة اللحن به فهو صلى الله عليه وسلم في هذا المقام منشئ وفي الفتيا والرسالة مبلِّغ متَّبِع، وهو في الحكم أيضًا متبع لأمر الله تعالى له بأن ينشئ الأحكام على وفق الحجاج والأسباب؛ لا أنّه متبع في نقل ذلك

(1)

(وبين فتياه في الدّين بهذا الفرق بعينه. . . بالحكم) ساقط من (ت).

(2)

رواه البخاري في صحيحه: ص 462 عن أم سلمة في كتاب المظالم (46)، باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه (16) رقم (2458)، وفي ص 1330، في كتاب الحيل (90، باب (10) رقم (6967)، وفي ص 510 في كتاب الشهادات (52)، باب من أقام البينة بعد اليمين (27)، رقم (2680)، وفي ص 1368 في كتاب الأحكام (93) باب موعظة الإمام للخصوم (20) رقم (7169)، رواه مسلم في صحيحه: كتاب الأقضية (30) باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (3) رقم (4/ 1713).

ص: 2877

الحكم عن الله تعالى، لأنَّ ما فوض إليه من أمر

(1)

الله تعالى لا يكون منقولًا عن الله تعالى.

وقد يفرق بين الحكم والفتيا بوجه آخر وهو أنّ الفتيا لقبل النسخ دون الحكم فإنّه لا يقبل إلا النّقض عند ظهور بطلان ما رتّب عليه الحكم، وهذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأمّا بعده فالفتيا لا تقبل النسخ لتقرر الشريعة.

وأما الرسالة من حيث هي فلا تقبل النسخ ولا النقض.

وأما النبوة فهي الإيحاء لبعض الخلق بحكم الشيء له يختص به كما أوحى الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}

(2)

.

فهذا تكليف يختص به. قال: العلماء فهذه نبوة وليست برسالة فلما نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ}

(3)

كان هذا رسالة؛ لأنّه تكليف يتعلق بغير الموحى إليه فوضح لك بهذا أنّ كلّ رسول نبي من غير عكس.

وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء؛ لأنّ الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق

(1)

(أمر) ليس في (ت).

(2)

سورة العلق الآية 1 - 2.

(3)

سورة المدثر الآية 1 - 2.

ص: 2878

وضبط معاقد المصالح ودرء مواقع

(1)

المفاسد إلى غير ذلك.

وهذا ليس داخلًا في مفهوم شيء مما تقدم؛ لتحقق الفتيا بمجرد الإخبار عن الله تعالى، والحكم بالتصدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة لا سيما الحاكم الضعيف الذي لا قدرة له على التنفيذ إذا أنشأ الحكم على الملوك الجبابرة فهو إنما ينشئ الإلزام على ذلك الملك ولا يخطر بباله السعي في تنفيذه لتعذر ذلك عليه فظهر أنّ الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء، وأمّا قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكمًا فصارت السلطة

(2)

العامة التي هي حقيقة الإمامة مباينة للحكم من حيث كونه حكمًا وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلا التبليغ عن الله تعالى ولا يستلزم هذا تفويض السياسة العامة إليه

(3)

، فكم بعث الله من رسول لم يطلب منه غير التبليغ لإقامة الحجة من غير أنْ يأمره بالنظر في المصالح العامة.

وبوضوح الفرق بين الرسالة والإمامة يظهر بينها وبين النبوة؛ إذ النبوة خاصة بالموحى إليه لا تعلق لها بالغير.

فإن قلت: فهل لهذه الحقائق المفترقة آثار في الشريعة؟ .

قلت: نعم فإنّ كلّ ما فعله صلى الله عليه وسلم بطريق الإمامة من إقامة الحدود وترتيب الجيوش وغير ذلك لم يجز لأحدٍ أنْ يفعله إلا بإذن

(1)

في (غ)، (ت): معاقد المفاسد.

(2)

في (غ): سلطنة.

(3)

في (غ): إليكم.

ص: 2879

إمام الوقت الحاضر؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة ولا استبيح إلا بإذنه.

وكلما فعله بطريق الحكم كفسوخ الأنكحة والعقود وغير ذلك، لم يقدم عليه أحد إلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه لم يقرر تلك الأمور إلا بالحكم.

وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالرسالة والتبليغ أو الفتيا، فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدّين من غير اعتبار حكم ولا إذن إمام، وإنما هو صلى الله عليه وسلم بلّغ الخليقة ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب، وخلَّى بينهم وبين ربّهم كأنواع العبادات وغيرها فإذا تصرف صلى الله عليه وسلم تصرفًا فقد يتضح كونه تصرفًا بالإمامة أو بالقضاء أو بالفتيا.

وقد علمت حكم كلّ قسم وقد يتردد بين هذه الأقسام ويتشاجر العلماء على أيّها نحمل وفي المسائل الداخلة في هذا كثرة.

- ولكنا نورد منها ما شهدت به النظر فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له"

(1)

.

(1)

أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في سننه: 3/ 662، كتاب الأحكام (13) باب ما ذكر في إحياء أرض الموات (38) رقم (1378)، وقال حديث حسن غريب، وأخرجه البخاري في صحيحه: ص 439 بلفظ: "من أعمر أرضا. ." في كتاب المزارعة (41) باب من أحيا أرضًا مواتًا (15) رقم الحديث 2335، وأخرجه أبو داود: في سننه، كتاب الخراج والإمارة والفيء (19) باب إحياء الموات (37)، رقم (3073)، وينظر تخريجه في: نصب الراية: 4/ 288، وتلخيص الحبير: 3/ 1036 رقم (1294).

ص: 2880

قال أبو حنيفة هذا تصرف منه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فلا يجوز لأحد أنْ يحيِيَ بدون إذن الإمام

(1)

.

وقال الشافعي رضي الله عنه بل بالفتيا؛ لأنّه الغالب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم فلا يتوقف الإحياء على إذن الإمام

(2)

.

- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة لما شكت إليه شحّ أبي سفيان: "خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف"

(3)

.

فذهب الشافعي إلى أنّ هذا تصرف بالفتيا، فعلى هذا من ظفر بجنس حقّه أو بغير جنسه إذ لم يظفر بالجنس مع تعذر أخذ الحق

(1)

قال الكاساني في بدائع الصنائع: 6/ 194 "وأما بيان ما يثبت به الملك في الموات وما لا يثبت ويثبت به الحق فالملك في الموات يثبت بالإحياء بإذن الإمام عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى يثبت بنفس الإحياء وإذن الإمام ليس بشرط".

(2)

قال الشيرازي في المهذب: 1/ 423 "يستحب إحياء الموات لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا ميتة، فله فيها أجر وما أكله العوافي منها فهو له صدقة" وتملك به الأرض لما روى سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أحيا أرضا ميتة فهي له" ويجوز ذلك من غير إذن الإمام للخبر ولأنه تملك مباح فلم يفتقر إلى إذن الإمام كالاصطياد".

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه: ص 1062، كتاب النفقات (69)، باب إذا لم ينفق الرجل (9) رقم (5364)، ومسلم في صحيحه: ص 711 - 712، كتاب الأقضية (30) باب قضية هند (4) رقم (7/ 1714)، وأما بلفظ المؤلف فقد أخرجه الدارمي في سننه: 2/ 598، كتاب النكاح (11) باب في وجوب نفقة الرجل على أهله (54) رقم (2176).

ص: 2881

ممن هو عليه جاز له أخذه حتى يستوي حقه

(1)

. وحكى في التهذيب وجهًا أنَّه يجوز أخذ غير الجنس مع الظفر بالجنس، وقد يوجه بعدم التنفيذ في الحديث

(2)

.

(1)

يقول الغزالي في الوسيط: 7/ 400 ما نصه: "فإذا ظفر بجنس حقه فله أن يأخذه ويتملكه مستبدا فإن ظفر بغير جنس حقه ففي جواز الأخذ قولان: أحدهما نعم لقوله عليه الصلاة والسلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" ولم يفرق بين الجنس وغيره، والثاني لا؛ لأنه كيف يتملك وليس من جنس حقه وكيف يبيع ملك غيره بغير إذنه فإن قلنا يأخذ ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو القول المشهور أنه يرفع إلى القاضي حتى يبيع بجنس حقه ولم يذكر القفال غير هذا. والثاني: أنه ينفرد ببيعه كما ينفرد بالتعيين في جنس حقه فإن هذه رخصة ولو كلف ذلك كلفه القاضي البينة وربما عسر عليه. والثالث: أنه يتملك منه بقدر حقه ولا معنى للبيع وهذا بعيد في المذهب وإن كان متجها.

فإن قلنا يبيع فإن كان حقه نقدا باع بالنقد وإن كان حنطة أو شعيرا قال القاضي: يبيع بالنقد ثم يشتري به الحنطة فإنه كالوكيل المطلق لا يبيع بالعرض، وقال غيره وهو الأصح يبيع بجنس حقه ولا معنى للتطويل".

(2)

قال ابن حجر في فتح الباري 9/ 509: ". . . واستدل به [أي حديث هند] على أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه وهو قول الشافعي وجماعة وتسمى مسألة الظفر والراجح عندهم لا يأخذ غير جنس حقه إلا إذا تعذر جنس حقه. وعن أبي حنيفة المنع وعنه يأخذ جنس حقه ولا يأخذ من غير جنس حقه إلا أحد النقدين بدل الآخر. وعن مالك ثلاث روايات كهذه الآراء. وعن أحمد المنع مطلقا. . . . قال الخطابي: يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس وغير الجنس لأن منزل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر". وقد أفاض النووي في روضة الطالبين: 4/ 250 - 255 في باب الدعوى والبينات، فينظر هناك فستجد فيه شفاء للغليل.

ص: 2882

وذهب مالك رحمه الله إلى خلاف ذلك، وقال: إنه صلى الله عليه وسلم تصرف في قضية هند بالقضاء

(1)

.

وجعل بعضهم هذه القضية أصلًا في القضاء على الغائب وهو ضعيف؛ لأنَّ أبا سفياد كان حاضرًا في البلد ظاهرًا لا يمتنع عن الحضور إذا طلبه النبي صلى الله عليه وسلم، والقضاء لا يتأتى على من هو بهذه المثابة على الصحيح من المذهب

(2)

.

واستنبط القاضي الحسين من كونه تصرفًا بالقضاء أنَّه يجوز أنْ يسمع

(1)

ينظر: التمهيد لابن عبد البر: 22/ 220، والتاج والإكليل للمواق حاشية على الحطاب: 6/ 119.

(2)

قال النووي في روضة الطالبين: 4/ 238 ". . . بيان جواز القضاء لحاضر على غائب، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" وهو قضاء منه على زوجها وهو غائب، ولو كان فتوى لقال لها لك أن تأخذي أو لا بأس عليك أو نحوه ولم يقل خذي. وقول عمر رضي الله عنه في خطبته: "من كان له على الأسيفع بالفاء المكسورة دين فليأتنا غدا فإنا بايعوا ماله وقاسموه بين غرمائه وكان غائبا". قال ابن حجر في فتح الباري: 9/ 510 وما بعدها "وذكر النووي أن جمعا من العلماء من أصحاب الشافعي ومن غيرهم استدلوا بهذا الحديث لذلك حتى قال الرافعي في القضاء على الغائب احتج أصحابنا على الحنفية في منعهم القضاء على الغائب بقصة هند وكان ذلك قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم على زوجها وهو غائب قال النووي ولا يصح الاستدلال لأن هذه القصة كانت بمكة وكان أبو سفيان حاضرًا بها وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد أو مستترا لا يقدر عليه أو متعززا ولم يكن هذا الشرط في أبي سفيان موجودًا فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء وقد وقع في كلام الرافعي في عدة مواضع أنه كان إفتاء اهـ".

ص: 2883

إلى أحد الخصمين دون الآخر

(1)

.

واستنبط الرافعي من كونه تصرفًا بالفتيا؛ أنّه يجوز للمرأة أنْ تخرج لتستفتي

(2)

.

وفيه نظر؛ فإنّ هندًا خرجت عام الفتح متقدمة على سائر النّساء لما نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}

(3)

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبايعكن على أنْ لا تشركن بالله شيئا فقالت: هند لو أشركنا بالله شيئًا ما دخلنا في دين الإسلام، فقال: أبايعكن على أنْ لا تقتلن أولادكن فقالت هند: فهل تركتم لنا من ولد ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارًا. فقال أبايعكنّ على أنْ لا تزنين فقالت هند: أوتزني الحرّة! فقال: أبايعكنّ على أنْ لا تسرقن فقالت هند: إد أبا سفيان رجل شحيح"

(4)

. . . . . . . . . . . . .

(1)

ينظر العزيز شرح الوجيز: 10/ 71 - 72.

(2)

ينظر الوسيط: 6/ 220.

(3)

سورة الممتحنة من الآية 12.

(4)

الشُّحُ: الشُّحُّ مُثَلَّثَةٌ: البُخْلُ، والحِرْصُ، شَحِحْتَ، بالكسر، به وعليه تَشَحُّ، وشَحَحْتَ تَشُحُّ وتَشِحُّ، وهو شَحاحٌ، كسَحابٍ، وشَحيحٌ وشَحْشَحٌ وشَحْشاحٌ وشَحْشَحانٌ، وقومٌ شِحاحٌ وأشِحَّةٌ وأشِحَّاء. ينظر: القاموس المحيط: مادة "شحح". ولزيادة الفائدة نسوق كلام ابن حجر في الفتح: 9/ 58 حيث يقول: "رجل شحيح تقدم قبل بثلاثة أبواب رجل مَسِيك، واختلف في ضبطه فالأكثر بكسر الميم وتشديد السين على المبالغة، وقيل بوزن شحيح قال: النووي هذا هو الأصح من حيث اللغة، وإن كان الأول أشهر في الرواية ولم يظهر لي كون الثاني أصح فإن الآخر مستعمل كثيرا مثل شِرِّيب وسِكِّير وإنْ كان المخفف أيضا فيه نوع مبالغة لكن المشدد =

ص: 2884

الحديث

(1)

.

فهند لم تخرج لأجل الاستفتاء فلا يحسن الاستدلال به عليه

(2)

.

= أبلغ، وقد تقدم عبارة النهاية في كتاب الأشخاص حيث قال: المشهور في كتب اللغة الفتح والتخفيف وفي كتب المحدثين الكسر والتشديد. والشحّ البخل مع حرص، والشح أعمّ من البخل؛ لأن البخل يختص بمنع المال والشح بكل شيء وقيل الشح لازم كالطبع والبخل غير لازم".

(1)

أخرج أبو يعلي في مسنده: 8/ 194 قال: "عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه فنظر إلى يديها فقال لها: اذهبي فغيري يدك قال فذهبت فغيرتها بحناء ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا ولا تسرقي ولا تزني، قالت: أوتزني الحرة! قال: ولا تقتلن أولادكن خشية إملاق، قالت: وهل تركت لنا أولادًا نقتلهم، قال فبايعته ثم قالت له وعليها سواران من ذهب: ما تقول في هذين السوارين؟ قال: جمرتان من جمر جهنم".

وأخرج البخاري في صحيحه: ص 726 كتاب مناقب الأنصار (63) باب ذكر هند بنت عتبة بن ربيعة رضي الله عنها (23) رقم الحديث (3825) قال: "عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت هند أم معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرا؟ قال: خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف".

فهذان حديثان قد جمع بينهما الشارح ودمجهما في حديث واحد. ولعلهما حديث واحد لكني لم أقف عليه بعد البحث والتقصي. وأخرجه مسلم أيضًا: ص 712 في كتاب الأقضية (30) باب قضية هند (4) رقم الحديث (1714).

(2)

قال ابن حجر في فتح الباري: 9/ 510 وما بعدها ". . واستدل بهذا الحديث على جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء والاشتكاء ونحو ذلك. ." فكأنه يرى أن هندًا جاءت للاستفتاء.

وقال بعدها بصفحات: ". . . على الخلاف في قصة هند فإن كانت إفتاء جاز لها الأخذ بغير إذن، وإن كانت قضاءً فلا يجوز إلا بإذن القاضي ومما رجح به أنه كان قضاء =

ص: 2885

- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فله سلبه"

(1)

.

قال بعض العلماء هذا تصرف منه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فلا يجوز لأحد أنْ

= لا فتيا، التعبير بصفة الأمر حيث قال لها: خذي، ولو كان فتيا لقال مثلا: لا حرج عليك إذا أخذت؛ ولأن الأغلب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو الحكم، ومما رجح به أنه كان فتوى وقوع الاستفهام في القصة في قولها هل عليَّ جناح؟ ولأنه فوض تقدير الاستحقاق إليها، ولو كان قضاءً لم يفوضه إلى المدعى؛ ولأنّه لم يستحلفها على ما ادعته ولا كلفها البينة. والجواب أن في ترك تحليفها أو تكليفها البينة حجة لمن أجاز للقاضي أنْ يحكم بعلمه فكأنه صلى الله عليه وسلم علِم صدقها في كل ما ادعت به، وعن الاستفهام أنه لا استحالة فيه من طالب الحكم وعن تفويض قدر الاستحقاق أن المراد الموكول إلى العرف كما تقدم.

تنبيه: أشكل على بعضهم استدلال البخاري بهذا الحديث على مسألة الظفر في كتاب الأشخاص حيث ترجم له قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه واستدلاله به على جواز القضاء على الغائب لأن الاستدلال به على مسألة الظفر لا تكون إلا على القول بأن مسألة هند كانت على طريق الفتوى والاستدلال به على مسألة القضاء على الغائب لا يكون إلا على القول بأنها كانت حكما.

والجواب أن يقال: كل حكم يصدر من الشارع فإنه ينزل منزلة الإفتاء بذلك الحكم في مثل تلك الواقعة فيصح الاستدلال بهذه القصة للمسألتين والله أعلم. ."

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه: ص 815 كتاب المغازي (64)، باب قول الله تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} رقم (4321)، وأخرجه مسلم في صحيحه: 726 - 727، كتاب الجهاد والسير (32)، باب استحقاق القاتل سلب القتيل (13) رقم (41/ 1751). والسَّلْبُ: هو فرس المحارب المقتول وسرجه، ولجامه، وكل ما عليه من لباس وحلية وكل ما على المقتول من سلاح أو مال في نطاقه أو في يده أو كيفما كان. ينظر: المصباح المنير: ص 284 مادة: "سلب"، والتوقيف على مهمات التعاريف: ص 411، والتعريفات للجرجاني: ص 126.

ص: 2886

يختص بسلب إلا بإذن الإمام

(1)

.

وقال الشافعي: هو تصرف بالفتيا فلا يتوقف على إذن الإمام

(2)

(3)

.

قال: (فرع لا يخطئ اجتهاده وإلا لما وجب اتباعه).

(1)

يقول ابن حجر في فتحه ما نصه: 6/ 247 وما بعدها "ذهب الجمهور وهو أن القاتل يستحق السلب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلا فله سلبه أو لم يقل ذلك وهو ظاهر حديث أبي قتادة ثاني حديثي الباب وقال إنه فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار عن الحكم الشرعي.

وعن المالكية والحنفية: لا يستحقه القاتل إلا إن شرط له الإمام ذلك.

وعن مالك: يخير الإمام بين أن يعطي القاتل السلب أو يخمسه".

(2)

قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: 12/ 59 "من قتل قتيلا له عليه بينه فله سلبه" اختلف العلماء في معنى هذا الحديث. فقال الشافعي ومالك والأوزاعي والليث والثوري وأبو ثور وأحمد وإسحق وابن جرير وغيرهم: يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلا فله سلبه أم لم يقل ذلك، قالوا: وهذا فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار عن حكم الشرع فلا يتوقف على قول أحد.

وقال أبو حنيفة ومالك ومن تابعهما رحمهم الله تعالى: لا يستحق القاتل بمجرد القتل سلب القتيل بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة إلا أن يقول الأمير قبل القتال من قتل قتيلا فله سلبه، وحملوا الحديث على هذا وجعلوا هذا إطلاقا من النبي صلى الله عليه وسلم وليس بفتوى وإخبار عام وهذا الذي قالوه ضعيف لأنه صرح في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم والله أعلم".

(3)

نقله السبكي على طوله لما فيه من الفائدة العظيمة في بابه مع شيء من التصرف من كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي تحقيق أبو غدة: 95 - 118.

ص: 2887

عبّر عن هذا بالفرع لكونه مبنيًا على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم.

والذي جزم به من كونه لا يخطئ اجتهاده هو الحقّ

(1)

.

وَأَنَا أطهرُ

(2)

كتابي أنْ أَحْكِي فيه قولًا سِوَى هذا القوْلَ بل لا نَحْفَلُ به ولا نَعْبَأ.

واستدل في الكتاب بأنه لو جاز الخطأ عليه لوجب علينا اتباعه في الخطأ، وذلك ينافي كونه خطأ

(3)

.

ونحن نقول: - لمن زخرف قوله، وقال: يجوز بشرط ألَّا يُقِرَّ

(1)

وهو قول جمهور العلماء منهم الإمام الشافعي كما حكاه الزركشي في البحر المحيط، وهو قول ابن فورك، والحليمي، وقول بعض الحنفية منهم البزدوي، والمختار عند المالكية، وقال الإمام الرازي في المحصول:"إنه الحق" واختاره البيضاوي، والسبكي والصفي الهندي. ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 22، والإحكام للآمدي: 4/ 290 - 291، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 2/ 303، والمسودة: ص 509، وفواتح الرحموت: 2/ 372، والتبصرة: ص 524، والتحصيل: 2/ 283، ومعراج المنهاج: 2/ 286، والسراج الوهاج في شرح المنهاج: 2/ 1071، وسلاسل الذهب للزركشي: ص 437، وتشنيف المسامع له: 4/ 580، والبحر المحيط له: 6/ 218، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3811، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 537، وكشف الأسرار: 3/ 209، ونشر البنود: 2/ 326.

(2)

في جميع النسخ، (أظهر) والذي أثبته لا يخلو من وجاهة. إنما الذي دفعني لإثباته هو السياق فيما بعد، حين قال:"وأنا قد اقتصرت على ما ذكرت تطهيرا لكتابي من البحث" والله أعلم.

(3)

ينظر: الدليل في: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 22، والإحكام للآمدي: 4/ 291، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3811.

ص: 2888