المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحالة الثانية: أن يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين - الإبهاج في شرح المنهاج - ط دبي - جـ ٧

[تاج الدين ابن السبكي - تقي الدين السبكي]

فهرس الكتاب

- ‌(الكتاب السادس: في التعادل(1)والتراجيح

- ‌(مسألة إذا نقل عن مجتهد قولان في موضع واحد

- ‌الحالة الأولى: إذا كان في موضع واحد

- ‌الحالة الثانية: أنْ يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين

- ‌(الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌(مسألة لا ترجيح في القطعيات

- ‌إنما يترجح(1)أحد الدليلين على الآخر إذا لم يمكن العمل بكل واحد منهما

- ‌(الباب الثالث: في ترجيح الأخبار

- ‌الأول: بحال الراوي

- ‌الترجيح بكيفية الرواية

- ‌ الترجيح بوقت ورود الخبر

- ‌(الخامس باللفظ

- ‌(السادس بالحكم

- ‌(السابع بعمل أكثر السلف)

- ‌(الباب الرابع: في تراجيح الأقيسة

- ‌ الأوّل: بحسب العلّة فترجح المظنة ثم الحكمة ثم الوصف الإضافي ثمّ العدمي ثم الحكم الشرعي والبسيط والوجودي للوجودي والعدمي للعدمي)

- ‌(الثاني بحسب دليل العلية فيرجح الثابت بالنص القاطع

- ‌(الثالث بحسب دليل الحكم فيرجح النص ثم الإجماع لأنّه فرعه)

- ‌(الرابع بحسب كيفية الحكم

- ‌ بحسب الأمور الخارجية

- ‌(الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء

- ‌الأولى يجوز له صلى الله عليه وسلم أنْ يجتهد

- ‌فائدتان:

- ‌(الثانية يجوز للغائبين عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفاقًا وللحاضرين أيضًا إذ لا يمتنع أمرهم به

- ‌شرط المجتهد أنْ يكون محيطًا بمدارك الأحكام

- ‌(الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد

- ‌أولها: ذهب طوائف المسلمين على طبقاتهم إلى أنَّه: ليس كلُّ مجتهدٍ في الأصول مصيبًا

- ‌البحث الثاني: في تصويب المجتهدين في المسائل الفروعية

- ‌(الباب الثاني: في الإفتاء

- ‌الأولى: النظر فيما يتعلق بالمفتي

- ‌(الثانية يجوز الاستفتاء للعامي

- ‌(الثالثة: إنما يجوز في الفروع وقد اختلف في الأصول ولنا فيه نظر وليكن آخر كلامنا وبالله التوفيق)

- ‌خاتمة

الفصل: ‌الحالة الثانية: أن يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين

وقد وقع في المحصول بدل القاضي أبي حامد المروزي الشيخ أبو حامد الإسفراييني وكأنه اشتبه أبو حامد بأبي حامد، ووقع فيه الجزم بأن المواضع سبعة عشر

(1)

، وهو وَهْمٌ، والذي نقله الشيخ أبو إسحاق ما ذكرناه.

وقال القاضي أبو بكر في مختصر التقريب قال المحققون إنّ ذلك لا يبلغ عشرًا

(2)

.

‌الحالة الثانية: أنْ يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين

بأن ينص في كتاب أو في وقت على إباحة شيء وفي آخر على تحريمه فهو قسمان:

أحدهما: أنْ يعلم المتأخر منهما، فهو مذهبه ويكون الأول مرجوعًا عنه.

وذهب بعض الأصحاب إلى أنَّه لا بد وأنْ ينصّ على الرجوع، فلو لم ينص في الجديد على الرجوع عن القديم لم يكن رجوعًا. حكاه الشيخ أبو إسحاق

(3)

.

(1)

ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 526.

(2)

ونص القاضي في التلخيص لإمام الحرمين: 3/ 418 "حتى قال المحققون: إنّ هذا الفن لا يكاد يبلغ عشرًا".

(3)

قال أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع: 2/ 1079: "ومنها أن يذكر الشافعي قولًا في القديم وينص عليه ثمّ يذكر في الحديث قولًا يخالفه، ولا ينص على الرّجوع، فهذا قد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: الثاني يعتبر رجوعًا عن الأوّل ومذهبه هو الثاني، ومنهم من قال: لا يكون ذلك رجوعًا إلّا أن ينصّ على الرجوع. والأوّل هو الصحيح".

ص: 2707

والثاني: أنْ يجهل الحال فيحكى عنه القولان من غير الحكم على أحدهما بالترجيح

(1)

.

قال: (وأقوال الشافعي رضي الله عنه كذلك وهي دليل على علو شأنه في العلم والدين).

وقد وقع الحالان المتقدمان للإمام المطلبي قدوتنا أبي عبد الله الشافعي ابن عمّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك من الأدلة الواضحة على علو شأنه في العلم والدّين في الحالتين.

أمّا الدليل على العلم في الأولى؛ فإنّه كلما زاد المجتهد علمًا وتدقيقًا، وكان نظره أتمّ تنقيحًا وتحقيقًا ووقوفه

(2)

على الأدلة المزدحمة مستقيمًا، وإدراك وجه الازدحام فيها وكيفية الانفصال عنها عظيمًا، تكاثرت الإشكالات الموجبة للتوقف لديه وتزاحمت المعضلات بين يديه

(3)

.

وأمّا في الدّين؛ فلم يكن ممن إذا ظهر له وجه الرجحان صمّم على مقالته الأولى، ولا قام بنصرتها وشال

(4)

. . . . . . . . . . . .

(1)

ينظر هذه التفاصيل في قولي المجتهد: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 522، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 2/ 299، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 447، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3634 - 3635.

(2)

في (ت): ووقوعه.

(3)

ينظر: المحصول 2 ج/ ق 2/ 527.

(4)

شال: شالَ الميزانُ يشول إذا خفت إحدى كفّتيه فارتفعت، وشالت نعامتهم =

ص: 2708

بضبعها

(1)

حتى ينادي أولى لك فأولى

(2)

، بل صرّح ببطلان تلك واعترف بالخطأ فيها وقصور النظر

(3)

.

وأما الحالة الثانية: وهي تنصيصه على القولين في موضعين فدليل

(4)

على علمه أيضًا؛ لأنّه مبني على اشتغاله طوال عمره القصير بالنظر، والمباحث واشتماله على التدقيق في الوقائع والحوادث، وعلى دينه لإظهاره الشيء إذا لاح له، غير مبال بما صدر منه أولًا، ولا واقف عند كلام عَبِيٍّ ينسبه إلى التناقض في المقال، ولا مرجوح لمذهبه وإن كان ذا القدرة العظمى على ما يرومه، واليد الطولى فيما يحاوله، وقد عاب القولين على الشافعي من لا خلاق له، وأتى بزخرف من القول زكاه ونمقه، والله لا سواه ولا عدله، وذلك لنقصان وقصور، وحسد كامن في الصدور. وقال في العلماء قولًا كبيرًا، وفاه بألسنة حداد ستصلى سعيرًا، وأضمر في نفسه من الذابين عن ملّة سيّد المرسلين عقيدة لا يغسل السيف عارها، ولا يواري الليل غوارها، ونحن لا نحفل بكلمه ولا نقول بكلامه

= طاشوا خوفًا فهربوا، وشال يده رفعها يسأل بها. المصباح المنير: ص 328 "شول"، والقاموس المحيط: ص 1320 "شول".

(1)

الضبع: والضَبْعُ العضد والجمع أضباع كلّها وأوسطها مثل فرخ وأفراخ، والاضطباع والتأبط والتوشح سواء. المصباح المنير: ص 358 "ضبع".

(2)

من العبارات الأدبية التي يستعملها أحيانا حن يستطرد في الكلام. ومعناها: أنه لا يأخذ بأي مسألة تعن له ولا يرفع لها عضديها - وهو معنى مجازي - إلّا بعد التأكد منها.

(3)

ينظر: المحصول ج 2/ ق 2/ 527.

(4)

في (ت): فدليلين. وهو خطأ.

ص: 2709

ولا نرى أنْ يشتمل مثلُ هذا الشرح على مثل ذلك الهذيان الذي هو خيال طرق ذا الخبال في منامه

(1)

ونكتفي بما صنفه أصحابنا قديمًا وحديثًا في نصرة القولين ونحيل الفطن على ذهنه والبليد على الوقوف عليها ولكنّا نورد أسئلة قد تختلج في الصدور وتعتور بني الزمان فيجد بها الغبي نفثة مصدور

(2)

فيقول: قد علمت صفة القولين وكيفية وقوعهما، فإن قلت: التردد في القولين منبئ عن نقصان النظر عن إدراك الأرجح.

قلت: معاذ الله بل يخبر عن كمال

(3)

ذلك؛ لأنَّ قوة النظر كلما زادت توالت عليها التشكيكات

(4)

كما عرفت.

فإن قلت: من سبق الشافعي إلى ذلك من المجتهدين، وقد كان قبله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبيين

(5)

.

قلت: الفاروق الذي أعزّ الله به الإسلام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث نصّ في الشورى على ستّة

(6)

وحصر الخلافة فيهم تنبيهًا على أنّ الاستحقاق

(1)

(ولا نرى أنْ يشتمل مثلُ هذا الشرح على. . . . . . . . . . هو خيال طرق ذا الخيال في منامه) ساقط من (غ)، (ت).

(2)

النفث: نَفَثَ مِنْ فِيهِ نفْثًا، من باب ضرب، رمى به، ونفث إذا بزق ولا ريق معه، ونفث في العُقْدَة عند الرقى وهو البصاق اليسير، والفاعل نافث ونفّاث مبالغة، ونفث الله الشيء في القلب ألقاه. المصباح المنير: ص 615 - 616 "نفث". والمصدور: من يشكو صدره. المصباح المنير: ص 335 "صدر".

(3)

في (ص): حال.

(4)

في (ت): التشكيلات.

(5)

ينظر: المحصول ج 2/ ق 2/ 527، والبرهان: 2/ 1147.

(6)

وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن =

ص: 2710

منحصر فيهم وأنّ غيرهم ليس أهلًا لذلك، ولم يعترض أحد عليه بل اتبعوا رأيه واقتفوا أثره.

فإن قلت: فما فائدة ذكر القولين؟ .

قلت التنبيه: على أنّ الحق لا يعدوهما، وقصر نظر المتمذهب له على التدقيق فيهما، وعدم الالتفات إلى غيرهما.

فإن قلت: من جملة أقواله، أنْ يذكر قولين مع الإشارة إلى ترجيح أحدهما، وأيُّ فائدة من التنبيه على الراجح في ذكر المرجوح؟ .

قلت: ليعلم طرق الاجتهاد والاستنباط والتمييز بين الصحيح والفاسد، ومخافة أنْ يؤدي اجتهاد غيره من متابعته إليه ولا ينتبه لفساده

(1)

فيتخذه مذهبًا.

وقد عدَّ الأصحاب لأبي حنيفة رضي الله عنه أمثال ذلك، وطالما قال القياس كذا، لكني تركته استحسانًا، وليس لأحد أنْ يعيب عليه ذلك، ولا أنْ يقول ما فائدة ذكرك القياس مع عدم اعتمادك إيّاه؟ .

فإن قلت: أي معنى في إطلاق القولين في وقت واحد من غير ترجيح؟ .

قلت: هذا هو الذي لم يوجد منه سوى النزر اليسير.

= العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين. ينظر: طبقات ابن سعد: 3/ 338، والبداية والنهاية: 4/ 182، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: ص 134.

(1)

(ومخافة أنْ يؤدي اجتهاد غيره من متابعته إليه ولا ينتبه لفساده) ساقط من (غ).

ص: 2711

وقد قلنا: إنّه فيه متوقف، وأنّه دليل على غزارة العلم، والمنتهى في الديانة، وفيه من الفوائد التنبيه على المآخذ، وانحصار جهتها في ذينك القولين، ولذلك جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة، ولم ينص على واحد بعينه، وكان قصده أنّ الخلافة لا تعدوهم، ولو لم يفاجئه هاذمُ اللذات

(1)

، لميز الأصحّ عن غيره.

فإن قلت: فلا معنى لقولكم في هذا القسم للشافعي في هذه المسألة قولان؛ إذ ليس له

(2)

على ما زعمتم في مثل هذه المسائل قولٌ واحد، ولا قولان، بل هو متوقف غير حاكم بشيء.

قلت: قال إمام الحرمين في التلخيص: هكذا القول ولا نتحاشى منه وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما

(3)

.

وقد كان الشافعي رضوان الله عليه حديث السنّ، لم تتسع مهلته كثيرًا لآلام لم تطل راحته ولا يشغله ذلك عمّا هو فيه من حياطة الدّين والنظر المتين والانجماع على طرائق المتقين

(4)

.

(1)

ومفرق الجماعات كناية عن الموت. وهذم من باب ضرب، هذمت الشيء أهذمه أي قطعته بسرعة ومن أكثروا هاذم اللذات. المصباح المنير: ص 636 "هذم" ..

(2)

(له) ليس في (غ).

(3)

ينظر: التلخيص للجويني: 3/ 421، وينظر: تشنيف المسامع للزركشي: 3/ 482، والبحر المحيط له: 6/ 120.

(4)

في (ت): اليقين.

ص: 2712

وقد سئل بعضهم ما السبب في قصر عمر الشافعي؟ فقال: حتى لا يزالون مختلفين، ولو طال عمره لرفع الخلاف، ولسنا نمعن القول فيما لا يحصره مختصر

(1)

ولا مطول من مناقب هذا

(2)

الخبر ولكن القلم استطرد ووجد للمقال مجالا.

فقال: ونختم الفصل بما هو من توابع أبواب الترجيح وأمور المقلدين فنقول: إنّ قصر نظر بعض المصنفين

(3)

عن فهم مراتب المجتهدين فلا عليه لو اقتدى بقوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش"

(4)

وقوله صلى الله عليه وسلم: "قدّموا قريشا ولا تقدموها"

(5)

ولم يكن أحد من أصحاب المذاهب معتريًا إلى صليبة قريش بالمسلك الواضح إلّا الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذلك وأنه المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: "عالم قريش يملأ طباق الأرض علمًا"

(6)

؛ لأنّه الذي طبق الأرض وتخلق بالطيب وردّ ليلها المسود وجبين نهارها المبيض وصار اسمه في مشارقها ومغاربها، وعلا على أنجم السماء طوالعها وغواربها.

(1)

في (غ): منحصر.

(2)

(هذا) ليس في (ت).

(3)

في (غ): المنصفين.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

أخرجه الشافعي في مسنده: ص 268، وأحمد في فضائل الصحابة: 2/ 622 رقم (1066)، والبيهقي في السنن الكبرى: 3/ 121، رقم (5080).

(6)

أخرجه الشافعي في المسند حديث رقم: (691)، والبيهقي: 3/ 172 في كتاب الصلاة، باب من قال يؤمهم ذو نسب (741). رقم (5297). قال ابن حجر في تخليص الحبير: 2/ 537 الحديث رقم (579)"وقد جمعت طرقه في جزء كبير".

ص: 2713

وقد فاه إمام الحرمين مناديًا بما لوح به جماعة من الأصحاب من وجوب تقليد الشافعي فقال في كتابه الترجيح بين المذهبين أنَّه يدّعي أنَّه يجب على كافة المسلمين وعامة المؤمنين شرقًا وغربًا بعدًا وقربًا انتحال مذهب الشافعي بحيث لا يبغون عنه

(1)

حِوَلًا ولا يريدون به بَدَلًا.

والذي نقوله: نحن إنّ كتابنا هذا شارح لمختصر أصوليّ

(2)

لا نرى أنْ نخرج عنه إلى ما لا يتعلق به من الترجيح بين المذاهب، ولكن الذي نفوه به هنا أنَّه يتعين على المقلد النظر بعين التعظيم إلى قدوته والإيماء بطرف التقديم نحو إمامه ونحن نراعي ذلك في حق إمامنا رضوان الله عليه ونقول بجمع الكلام فيما نحاوله أمور ثلاثة:

أولها: أنّ السابق وإن كان له حقّ الوضع والتأسيس فللمتأخر الناقد حقّ التهذيب والتكميل، وكلّ موضوع على الافتتاح فقد يتطرق إلى مبادئه بعد التسبيح ثمّ يندرج الناقد إلى التهذيب والتكميل

(3)

فيكون المتأخر أحق أن يتبع وهذا واضح في الحِرَف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون.

فإن قلت: فيلزمكم على هذا أنْ توجبوا الاقتداء بمن بعد

(1)

(عنه) ليس في (ص).

(2)

يكفي هذا دليلا على نسبة شرح هذا المختصر الأصولي إليه.

(3)

(وكلّ موضوع على الافتتاح فقد يتطرق. . . . . . . الناقد إلى التهذيب والتكميل) ساقط من (ت).

ص: 2714

الشافعي من الأئمة.

قلت: إن ثبت لأحد بعده رتبة الاجتهاد والتنحل وترتيب ما لم ينظم والاطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها فيلزم ذلك.

ولكنا لسنا نرى أحدًا من الأئمة بعده بلغ هذا المحل، كذا أجاب إمام الحرمين، وتغالى غيره وقال: لم يبلغ أحد بعد الشافعي منصب الاجتهاد المطلق فضلا عن الوصول إلى ما وصل إليه الشافعي.

وثانيها: أنّ المذاهب تمتحن بأصولها لأنَّ الفروع تستند إليها وتستقيم بتقومها وتعوج باعوجاجها ولا يخفى على الشادي في العلم

(1)

رجحان نظر الشافعي في الأصول التي هي أهمّ ما

(2)

ينبغي للمجتهد وأنّه أوّل من أبدع ترتيبها ومهّد قوانينها وألف فيها رسالته ولم لا يكون ذلك؟ وأعظم ما يستمد منه أصول الفقه اللغة، والشافعي كان من صميم العرب العرباء ممن تفقأت عنه بيضة بني مضر

(3)

وأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الأقيسة بالأمارات المنصوبة علامات على الأحكام

(4)

.

ولهذه الأصول مراتب ودرجات، فأمّا الكتاب فهو عربي مبين والشافعي إذا أنصف الناظر عرف أنَّه المميز

(1)

في (ص): الظلم. وهو خطأ.

(2)

(ما) ليس في (ت).

(3)

قال ابن حاتم الرازي في آداب الشافعي ومناقبه: ص 137 "كان الشافعي عربي النفس عربيّ اللسان"

(4)

في (ص): الإجماع.

ص: 2715

عن غيره فيما يحاوله منه؛ لأنّه القرشي البليغ ذو اللغة التي يحتج بها، الواصل إلى الذروة في معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومعرفة الروايات.

وأما الحديث فلا والله لا ينكر منصف مقامه في الأخبار وإلقاءه الأحاديث من حفظه ولذلك ربما قال أخبرني الثقة ومن لا يحضرني اسمه الآن أنّ ذلك من آيات حفظه وشدّة ضبطه وتحريه لا كما زعمه غبي في غمرته ساهي وفي غباوته متناهي

(1)

حتى قال أبو زرعة: ما عند الشافعي حديث غَلَطَ فيه

(2)

. وقال أبو داود: ما أعلم للشافعي حديثًا خطأ

(3)

(4)

.

وهو في معرفة الرجال وغير ذلك من فنون الحديث الواصل إلى النهاية ينزل الأحاديث منازلها ويقبل كل ما صحّ منها ويجعله مذهبه لا يفرق بين كوفي ومدني.

ولذلك قال لأحمد: أنتم أعلم بالحديث منّا فقل لي: كوفيه وبصريه، يعني أنّكم يا أهل العراق أعلم منا معشر الحجازيين بأحاديث الكوفة والبصرة، من حيث إنّكم أهل تلك البلاد فقل لي: كوفيه وبصريه

(5)

حتى أنظره، فإن كان صحيحًا عملت به

(6)

.

(1)

(لا كما زعمه غبي في غمرته ساهي وفي غباوته متناهي) ساقط من (ت)، (غ).

(2)

ينظر: سير أعلام النبلاء: 10/ 47.

(3)

(حتى قال أبو زرعة ما عند الشافعي. . . . . وقال أبو داود ما أعلم للشافعي حديثًا خطأ) ساقط من (ت).

(4)

ينظر: سير أعلام النبلاء: 10/ 48.

(5)

(من حيث أنكم أهل تلك البلاد فقل لي: كوفيه وبصريه) ساقط من (ص).

(6)

ينظر: أدب الشافعي ومناقبه للرازي: ص 24 - 95.

ص: 2716

ولا يظنن به ظان الاقتصار على أحاديث المدينة والحجاز من حيث إني من أصحاب مالك، وأتى بصيغة

(1)

الجمع في المخاطب، والمخاطب بقوله: أنتم ومنا ولم يرد الشافعي أن ابن حنبل أعلم منه بالحديث كما ظنّ بعض الأغبياء حاشا لله، وإنما أراد ما ذكرناه، والملك العظيم إذا أتاه رسول من أخيه الملك من بلدة أخرى يقول له: أنتم أعلم بأخبار أخي منا.

وأما الإجماع فيتلقى من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهو المنتهي في ذلك.

هذا بيان الأصول وأما تنزيلها منازلها فهو شوف

(2)

الشافعي فإنه قدم كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم مع نهاية التأدب والوقوف عندما ينبغي الوقوف

(3)

عنده للناظر في الشريعة، فإذا لم يجدها تأسى بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعلق

(4)

بالرأي الناشئ من قواعد الشريعة المنضبطة بأصولها ولم ير التعلق بكل وجه في الاستصواب ولا الاستحسان بما يهواه، ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وما لا يعلل فانسحب على الاتباع فيما لا يعقل معناه. وقد يقيس إذ لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى المختل المناسب وهو

(1)

في (ت): بصفة.

(2)

شوف في (ت): شرف.

(3)

الوقوف في (ص): الشوف.

(4)

التعلق في (ص): التعليق، وغير واضحة في (غ).

ص: 2717

في كل ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع لا

(1)

يبغي بها بدلا ويقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي

(2)

.

وثالثها: أنّ المذاهب كما يمتحن بأصولها يستخبر بفروعها، ولينظر المنصف

(3)

في كتب الخلافيات المنتشرة في الآفاق فإنْ كان مع اتصافه أهلًا للنظر، فليعرضها على الشريعة من كتاب وسنة وإجماع وقياس، وليحكم بما أراه الله وإن لم يكن أهلًا للنظر فلا كلام له معنا وبالله التوفيق.

وآخر ما نذكره دليلًا لم نَر من سبقنا باستنباطه يدل على ما نحاوله وهو حديث: "يبعث الله على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها"

(4)

.

(1)

لا في (ص): ثم لا.

(2)

ينظر: آداب الشافعي ومناقبه أبي حاتم الرازي: ص 325.

(3)

المنصف في (ص)، (غ): المصنف.

(4)

الحديث رواه الحاكم في المستدرك 4/ 568، في كتاب الفتن والملاحم (50) رقم الحديث (8592/ 301 - 8593/ 302). وأورد قصة قال: "فسمعت الوليد في مجلس أبي العباس بن شريح إذ قام إليه شيخ يمدحه، فسمعته يقول: حدثنا أبو طاهر الخولاني، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن شرحبيل بن يزيد عن أبي علقمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وذكر الحديث. فأبشر أيها القاضي فإن الله بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وبعث في المائة الثانية محمد بن إدريس الشافعي، وأنت على رأس الثلاثمائة. أنشأ يقول:

اثنان قد مضيا وبورك فيهما

عمر الخليفة ثم خلف السؤدد

الشافعي الأبطحي محمد

إرث النبوة وابن عم محمد

أبشر أبا العباس إنك ثالث

من بعدهم سقيا لتربة أحمد =

ص: 2718

واتفق الناس على أنّ المبعوث على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز.

وعلى الثانية الشافعي، ويأبى الله أن يبعث مخطئا في اجتهاده، أو يختص ناقص المرتبة بهذه المزية، بل هذا صريح في أنّ ما يأتي به المبعوث فهو دين الله الذي شرعه لعباده.

ومن الغرائب الواقعة في هذا الأمر المؤيدة لما ذكرناه وما حاولناه تأييدًا لشرع ينثلج به الصدر أنّ الله تعالى خصّ أصحاب الشافعي بهذه الفضيلة

(1)

:

فكان على رأس الثلاثمائة ابن سريج وهو أكبر أصحابه.

وعلى رأس الأربعمائة الشيخ أبو حامد إمام العراقيين من أصحابه.

وعلى رأس الخمسمائة الغزالي القائم بالذب عن مذهبه والداعي إليه بكل طريق.

وعلى السادسة الإمام فخر الدين الرازي أحد المقلدين له والمنتحلين مذهبه والذابين عنه.

وعلى السابعة الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد الذي رجع إلى مذهبه

= قال فصاح القاضي أبو العباس رحمه الله تعالى بالبكاء، وقال: قد نعى إلي نفسي هذا الشيخ .. "المستدرك: 4/ 568، وينظر: طبقات الشافعية للسبكي: 1/ 200 - 206، فقد نظم السبكي كل من جاء على رأس كل مائة وذكر القصة بكاملها.

(1)

ينظر: الطبقات الشافعية للسبكي: 1/ 200 - 206، فقد ذكر فيها من جاء على رأس كل سنة والخلاف فيهم.

ص: 2719

وانتحله وتولى القضاء له، وحكم به بعد أنْ كان في أول نشأته مالكيًا

(1)

.

(1)

بل كان إمام المذهبين.

ص: 2720

الباب الثاني: الأحكام الكلية للتراجيح

ص: 2721