الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يتبعض الحكم فيثبت البعض أو يتعدد فيثبت بعضها أو يعم فيوزع كقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير الشهود فقيل: نعم فقال: أنْ يشهد الرجل قبل أن يستشهد"، وقوله:"ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أنْ يستشهد" فيحمل الأول على حق الله تعالى والثاني على حقنا).
إنما يترجح
(1)
أحد الدليلين على الآخر إذا لم يمكن العمل بكل واحد منهما
، فإن أمكن ولو من وجه دون وجه، فلا يصار إلى الترجيح بل يصار إلى ذلك، لأنّه أولى من العمل بأحدهما دون الآخر، إذ فيه إعمال الدليلين والإعمال أولى من الإهمال، ثم العمل بكل واحد منهما يكون على ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يتبعض حكم كلّ واحد من الدليلين بأنْ يكون قابلا للتبعيض فيبعض بأن يثبت بعضه دون بعض، وعبر الإمام عن هذا النوع بالاشتراك والتوزيع.
ومن أمثلته: دار بين اثنين تداعياها وهي في يدهما فإنّها تقسم بينهما نصفين؛ لأنَّ ثبوت الملك قابل للتبعيض فيتبعض
(2)
. ومنها إذا تعارضت البينتان في الملك على قول القسمة
(3)
.
الثاني: أنْ يتعدد حكم كل واحد من الدليلين، أي يقتضي كل
(1)
في (ص): يرجح.
(2)
(فيتبعض) ساقطة من (ت).
(3)
ينظر: نهاية الوصول لصفي الهندي: 8/ 3663، وينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 543، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 450.
واحد من الدليلين أحكامًا متعددة فيحمل كلّ واحد منهما على بعض تلك الأحكام
(1)
.
ومثاله: ما روي أنّ أعرابيًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال نعم قال: "أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ " قال: نعم قال: "فأذن في الناس يا بلال فليصوموا غدا"
(2)
.
فهذا الخبر يقتضي ثبوت رمضان بشهادة الواحد، ويترتب عليه وجوب الصوم، وحلول الدّين المؤجل، ووقوع الطلاق والعتاق المعلقين به، وهو معارض للقياس، فإنّه يقتضي عدم ثبوته يقول الواحد، كما في سائر الشهور ويترتب على عدم ثبوته عدم ترتب شيء مما ذكرناه، فيحمل الأوّل على وجوب الصوم، والقياس على عدم
(1)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3663.
(2)
أخرجه الدارمي في السنن: 2/ 5، كتاب الصوم، باب الشهادة على رؤية هلال رمضان، وأبو داود في السنن: 2/ 754، كتاب الصوم (8) باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (14)، الحديث رقم (2340)، والترمذي في السنن 3/ 74، كتاب الصوم (6) باب ما جاء في الصوم بالشهادة (7)، الحديث (691)، والنسائي في المجتبى من السنن 4/ 131 - 132، كتاب الصوم (22)، باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان (8)، وابن ماجه في السنن: 1/ 529، كتاب الصيام (7) باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال (6) الحديث رقم (1652)، والحاكم في المستدرك: 1/ 424، كتاب الصوم، باب قبول شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان. والبيهقي في السنن الكبرى: 4/ 211 - 212، كتاب الصيام، باب الشهادة على رؤية هلال رمضان. واللفظ لأبي داود.
حلول الأجل والطلاق والعتاق، وهذا قد صرح به القاضي الحسين والبغوي، لكن قال الرافعي: لو قال قائل: هذا يثبت ذلك ضمنًا كما سبق نظيره لأحوج إلى الفرق
(1)
.
والذي سبق أنا إذا قلنا بالقول الصحيح، وصُمْنَا بقول الواحد، ولم نر الهلال بعد ثلاثين أفطرنا على أحد الوجهين وإن كنّا لا نفطر يقول واحد ابتداء ولا يثبت به هلال شوال على المذهب الصحيح؛ وذلك لأنَّه لا يجوز أنْ يثبت الشيء ضمنا بما لا يثبت به أصلًا ومقصودًا، ألا ترى أنّ النسب والميراث لا يثبتان بشهادة النساء ويثبتان ضِمنًا للولادة إذا شهدن عليها
(2)
.
(1)
كذا عزاه الرافعي لصاحب التهذيب حيث قال: "واعلم أن صاحب التهذيب [أي البغوي] رحمه الله ذكر تفريعًا على الحكم بقبول قول الواحد أنا لا نوقع به العتق والطلاق المعلقين بهلال رمضان، ولا نحكم بحلول الدّين المؤجل به، ولو قال قائل: هلا ثبت ذلك ضمنًا كما سبق نظيره لأحوج إلى الفرق والله أعلم" العزيز شرح الوجيز: 3/ 179.
(2)
قال الرافعي في العزيز شرح الوجيز 3/ 176: "وإذا صمنا بقول الواحد تفريعًا على أصح القولين، ولم نر الهلال بعد ثلاثين فهل نفطر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، لأنا لو أفطرنا لكُنّا مفطرين يقول واحد، والإفطار يقول واحد لا يجوز، ألا ترى أنه لو شهد على هلال شوال ابتداء لم نفطر بقوله.
والثاني: يفطر، [وهو الوجه الذي اختاره السبكي في الشرح] لأن الشهر يتم بمضي ثلاثين، وقد ثبت أوله يقول الواحد، ويجوز أن يثبت الشيء ضمنا بما يثبت به أصلًا ومقصودا، ألا ترى أن النسب والميراث لا يثبتان بشهادة النساء ويثبتان ضمنا للولادة إذا شهدن عليها".
وفرق ابن الرفعة بأن النّسب والميراث وكذا الإفطار عقيب الثلاثين لازم للمشهود فلا يتعقل ولادة منفكة عن النسب والميراث ولا صوم ثلاثين يومًا بوصف كونها رمضان منفكة عن الفطر بعدها
(1)
، والدّين والطلاق والعتاق ليس يلزم استهلال الشهر ويعقل انفكاكه عنه. قال: وقد أشار إلى مثله ابن الصباغ.
الثالث: أنْ يكون كل واحد من الدليلين عامًا أي مثبتًا لحكم
(2)
في موارد متعددة فتوزع ويحمل كلّ واحد منهما على بعض أفراده.
ومثاله ما روي عن زيد بن خالد الجهني
(3)
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها"
(4)
. رواه مسلم وهذا لفظه، وهو معنى اللفظ الذي أورده المصنف وروى المصنف من قوله صلى الله عليه وسلم:"ثم يفشو الكذب فيشهد الرجل قبل أنْ يستشهد"
(5)
. وهذا اللفظ لا أعرفه ولكن في الصحيحين عن عمران بن
(1)
(عن النسب والميراث ولا صوم ثلاثين يومًا بوصف كونها رمضان منفكة عن الفطر بعدها) ساقطة من (ت).
(2)
في (غ): مثبتا بحكم.
(3)
زيد بن خالد الجهني مدني صحابي مشهور شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، مات سنة 78 هـ بالمدينة. ينظر ترجمته: في الإصابة: 3/ 27 رقم (2889)، وتقريب التهذيب: ص 223 رقم (2133).
(4)
أخرجه مسلم في الصحيح: 3/ 1344، كتاب الأقضية (30)، باب بيان خير الشهود (9) رقم (19/ 1719). أخرجه من رواية زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
(5)
أخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في شرح معاني الآثار: 4/ 150، والنسائي في السنن الكبرى: 5/ 387 رقم (9219).
حصين
(1)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم إنّ من بعدهم قومًا يشهدون ولا يستشهدون"
(2)
الحديث. فيحمل الأوّل على حقوق الله تعالى، والثاني على حقوق العباد.
ومن أمثلته أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له"
(3)
مع ما روي أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول: "هل
(1)
عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد، صحابي، أسلم عام خيبر كان صاحب راية خزاعة يوم الفتح توفي سنة 52 وقيل 53 بالبصرة. ينظر ترجمته في: الإصابة: 5/ 26 - 27 رقم (6005)، وتقريب التهذيب: ص 429 رقم (5150).
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري في الصحيح: 7/ 3، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (1) رقم (3651، وأخرجه مسلم في الصحيح: 4/ 1963، كتاب فضائل الصحابة (44)، باب فضل الصحابة (52) رقم (121/ 2533). واللفظ
(3)
أخرجه أحمد في المسند: 6/ 287، والدارمي في السنن: 2/ 6 - 7، كتاب الصوم، باب من لم يجمع الصيام من الليل، وأبو داود في السنن: 2/ 823، كتاب الصوم (8)، باب النية في الصيام (71) الحديث رقم (2454) والترمذي في السنن: 3/ 108، كتاب الصوم (6) باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل (33) رقم (730)، وأخرجه النسائي مرفوعًا في المجتبى من السنن: 4/ 196 - 197 كتاب الصيام (22) باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في النية في الصيام (68)، وأخرجه ابن ماجه في السنن: 1/ 542، كتاب الصيام (7)، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل (26) رقم (1700)، وأخرجه ابن خزيمة في الواجب قبل طلوع الفجر (46) رقم (1933)، وأخرجه الدارقطني في السنن: 2/ 172 - 173، كتاب الصيام، باب تبييت النية في الليل وغيره، رقم (2، 3، 4)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 4/ 202، كتاب الصيام، باب الدخول في الصوم بالنية. ولمزيد من التفصيل ينظر: تلخيص الحبير لابن حجر: 2/ 778 رقم (881).
من غداء فإن قالوا لا، قال: إني صائم"
(1)
ويروى "إني إذن أصوم"
(2)
فيقتصر
(3)
على الأوّل، وإنْ كان عامًا في كل صوم على صوم الفرض. ويحمل الثاني على صوم النفل.
ومنها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(4)
مع قوله في آية أخرى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
(5)
فظاهر الأولى وضع السيف فيهم حيث يثقفون
(6)
، وظاهر الآية الثانية يقتضي جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير فصل.
وقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا من كل حالم دينارًا"
(7)
وقال: "أمرت أنْ أقاتل
(1)
أخرجه مسلم في الصحيح: 2/ 809، كتاب الصيام (13)، باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال. . (32) رقم (170/ 1154).
(2)
رواه الدارقطني: 2/ 176، 175، والبيهقي: 4/ 203.
(3)
في (ص): فيقصر.
(4)
سورة التوبة من الآية 5 كذا في الأصل، وصوابها:{فَاقْتُلُوا} .
(5)
سورة التوبة من الآية 29.
(6)
ثقف: ثقفت الشيء ثقفًا من باب تعب أخذته وثقفت الرجل في الحرب أدركته وثقفته ظفرت به. المصباح المنير: ص 82. مادة "ثقف".
(7)
حديث معاذ بن جبل لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن. يقول معاذ: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافر" الحديث رواه أحمد في المسند: 5/ 230 - 233، وأبو داود في السنن: 3/ 428، كتاب الخراج والإمارة (14)، باب في أخذ الجزية (30) رقم (3038، 3039، والترمذي في السنن: 3/ 20، كتاب الزكاة (5)، باب ما جاء في زكاة البقر (5)، رقم (623)، والنسائي في المجتبى من السنن: 5/ 26، كتاب الزكاة (23)، باب زكاة البقر (8)، والحاكم في المستدرك: 1/ 398، كتاب الزكاة، باب زكاة البقر، وقال (صحيح على شرط الشيخين) وأقره الذهبي.
الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"
(1)
الحديث، وظاهر هذا أنّ الجزية لا تؤخذ، وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإِسلام فيجمع بين الظاهرين ونأخذ الجزية من أهل الكتاب بآية الجزية ونضع السيف فيمن ليس مستمسكًا
(2)
بكتاب ولا شبهة كتاب لظاهر الآية الواردة في القتل
(3)
.
واعلم أنّ بعض الفقهاء زعم أنّ هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحد من الدليلين ورأي هذا الجمع مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دليل
(4)
.
قال إمام الحرمين: وهذا مردود عند الأصوليين بل لا بد من دليل من خارج على ذلك
(5)
وأمّا أنْ يجعل أحدهما دليلًا في تخصيص الثاني والثاني في تخصيص الأول فهذا ما لا سبيل إليه
(6)
.
قال: (مسألة إذا تعارض نصان وتساويا في القوة والعموم وعلم المتأخر فهو ناسخ وإن جهل فالتساقط أو الترجيح).
(1)
سبق تخريجه.
(2)
في (غ): متمسكًا.
(3)
ينظر: البرهان: 2/ 1193.
(4)
ينظر: المصدر نفسه.
(5)
(ذلك) ليس في (غ).
(6)
ينظر: البرهان: 2/ 1193 - 1194. (من المواطن التي نقل السبكي فيها بالتصرف في العبارة).
النّصان المتعارضان
(1)
على ضربين:
[الضرب]
(2)
الأول: أنْ يكونا متساويين في القوة باشتراكهما
(3)
في العلم أو الظنّ، وفي العموم بأنْ يصدق كلٌّ منهما على ما يصدق عليه الآخر وله ثلاثة أحوال:
أولها: أنْ يتأخر ورود أحدهما على الآخر ويكون معروفًا بعينه فينسخ المتأخر المتقدم سواءً أكانا معلومين أم مظنونين، آيتين أم خبرين، أم أحدهما آيةً والآخر خبرًا عند من يجوز النسخَ عند اختلاف الجنْس، وأمَّا من يمنعه فيمتنع عنده النسخ في هذا القسم الأخير. وهذا إذا كان حكم المتقدم قابلًا للنسخ.
(1)
إذا تعارضا دليلان:
فإما أن يكونا: عامين أو خاصين أو أحدهما عامًّا والآخر خاصًا. أو كلّ واحد منها عامًّا من وجه خاصًا من وجه.
وعلى التقديرات الأربعة، فإمَّا أن يكونا معلومين، أو مظونين، أو أحدهما معلومًا والآخر مظنونًا.
وعلى التقديرات كلّها: فإمّا أن يكون المتقدم معلومًا والمتأخر معلومًا، أو لا يكون واحدًا منهما معلومًا.
ينظر: تفاصيل هذه التقسيمات وأحكام كل قسم في المحصول: ج 2/ ق 2/ 544 - 545، وشرح تنقيح الفصول: ص 421، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 455 - 460، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3665 - 3668 ..
(2)
زيادة يقتضيها السياق، وإن كانت الجملة تصحّ بدونها على حذف المضاف. لكن لكونه ذَكَرَها في الثاني، اقتضت المنهجية أن يذكرها في الأول أيضًا.
(3)
في (غ): فاشتراكهما.
أمّا إذا لم يقبل النسخ، ولم يذكره في الكتاب كصفات الله تعالى:
فإنْ كانا معلومين؛ قال الإمام: فيتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر
(1)
.
واعترض عليه النقشواني بأنّ المدلول إن لم يقبل النسح يمتنع العمل بالمتأخر فلا يعارض المتقدم بل يجب إعمال المتقدم كما كان قبل ورود المتأخر
(2)
.
وإنْ كانا مظنونين
(3)
طلب الترجيح.
ولو كان الدليلان خاصين فحكمهما حكم المتساويين في القوّة والعموم من غير فرق، ولم يذكر المصنف ذلك.
وثانيها: أنْ يجهل المتأخر منهما:
فإنْ كانا معلومين فيتساقطان، ويرجع إلى غيرهما؛ لأنَّه يجوز في كل واحد منهما أنْ يكون هو المتأخر.
وإنْ كانا مظنونين تعين الترجيح.
وإلى هذا أشار المصنف بقوله: "وإن جهل فالتساقط" أي فيما إذا كانا معلومين، أو الترجيح، أي فيما إذا كانا مظنونين.
وثالثها: أنْ يعلم مقارنتهما، ولم يذكره في الكتاب.
(1)
ينظر: المحصول: ج 2/ ق 2/ 545 - 547.
(2)
ينظر: تلخيص المحصول لتهذيب الأصول للنقشواني: 2/ 968.
(3)
في (ت): معلومين.
فإن كانا معلومين فقد قال الإمام: إنْ أمكن التخيير بينهما تعين القول به، فإنّه إذا تعذّر الجمع، لم يبق إلا التخيير، ولا يجوز أنْ يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أنّ العلوم لا تقبل الترجيح.
قال: ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم نحو كون أحدهما حاضرًا
(1)
أو مثبتًا حكمًا شرعيًا؛ لأنّه يقتضي طرح المعلوم بالكليَّة وهو غير جائز
(2)
انتهى.
ولم يذكر حكم
(3)
القسم الآخر وهو عدم إمكان التخيير بينهما، وإنْ كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى، فإن تساويا في القوة قال الإمام فالتخيير
(4)
.
قال: (وإن كان أحدهما قطعيا أو أخص مطلق عمل به وإن تخصص بوجه طلب الترجيح).
الضرب الثاني: أنْ لا يتساويا في القوة والعموم جميعًا فإمَّا أنْ يتساويا في العموم ولم يتساويا في القوة أو عكسه أو لم يحصل بينهما تساوٍ، لا في العموم ولا في القوة فهذه أحوال ثلاثة: -
أولها: التساوي في العموم والخصوص مع عدم التساوي في القوة بأنْ
(1)
في (ص): حاضرًا.
(2)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 546.
(3)
(حكم) ليس في (ت).
(4)
المصدر نفسه.
يكون أحدهما قطعيًا والآخر ظنيًا، فيعمل بالقطعي سواء أعُلِم تقدم أحدهما على الآخر، أم لم يعلم، وسواء تقدم القطعي أم الظني. وهذا الإطلاق يشمل ما إذا كان المقطوع عامًا والمظنون خاصًا
(1)
.
والصحيح
(2)
أنّ المظنون يخصص المقطوع
(3)
كما سبق في التخصيص
(4)
.
وثانيها: أنْ يتساويا في القوّة مع التساوي في العموم والخصوص بأنْ يكونا قطعيين أو ظنيين، ويكونا عامين لكن أحدهما أعمّ من الآخر، إمّا مطلقًا أو من وجه، أو يكونا خاصين.
فإنْ كانا عامين أو كان أحدهما أعمّ من الآخر مطلقًا عمل بالأخصّ سواءً كانا قطعيين من جهة السند أم ظنيين علم تقدم أحدهما على الآخر أم لم يعلم، اللهمّ إلا أنْ يعلم تقدم الأعمّ وورود الأخص بعد العمل به. فإن الأخصّ حينئذ يكون ناسخًا له فيما تناوله الأخص، لا مخصصا لامتناع تأخير البيان عن وقت العمل، وإن كان أحدهما أعمّ من الآخر من وجه وأخص من وجه
(5)
كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ
(1)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 549 - 550، وينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3668 - 3669.
(2)
من مواطن التصحيح عند الشارح.
(3)
في (غ)، (ت): المعلوم.
(4)
ينظر ص: 1471.
(5)
(أخص من وجه) ساقط من (ت)، (غ).
الْأُخْتَيْنِ}
(1)
مع قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
(2)
فيصار إلى الترجيح بينهما سواء كانا قطعيين أم ظنيين، لكن لا يمكن الترجيح في القطعيين بقوة الإسناد، بل يرجح يكون حكم أحدهما حظرًا والآخر إباحة وأنْ يكون أحدهما شرعيًا والآخر عقليًا أو مثبتًا والآخر نافيًا ونحو ذلك. وفي الظنيين يرجح بقوة الإسناد
(3)
(4)
.
وثالثها: أنْ لا يحصل بينهما تساو لا في العموم والخصوص ولا في القوة.
فإنْ
(5)
اختلفا في كل واحد من هذين بأن يكون أحدهما قطعيًا والآخر ظنيًا وهما عامان ولكن أحدهما أعمّ من الآخر مطلقًا أو من وجه، أو خاصان فإنْ كانا عامين أو أحدهما أعمّ من الآخر
(6)
مطلقًا عمل بالقطعي. إلّا إذا كان القطعي هو الأعمّ فإنّه يخصّ بالظني عند الأكثرين، وإن كان أحدهما أعمّ من الآخر من وجه صير إلى الترجيح، فإنّه قد يترجح الظني بما يتضمنه الحكم من كونه حظرًا أو نفيًا أو غير ذلك سواءً
(1)
سورة النساء من الآية 23.
(2)
سورة النساء من الآية 24.
(3)
(بل يرجح بكون حكم أحدهما حظرًا. . . . . . . . . . وفي الظنيين يرجح بقوة الإسناد) ساقط من (ت).
(4)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 551، وينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3671.
(5)
في (غ): بأن اختلفا.
(6)
(من الآخر) ليس في (ت).
عُلِم تأخر القطعي عن الظني، أم تقدمه أم جهل الحال، وأمّا إن كانا خاصين فالعمل بالقطعي مطلقا
(1)
.
قال: (مسألة قد يرجح بكثرة الأدلة لأنَّ الظنيين أقوى.
قيل: يقدم الخبر على الأقيسة.
قلت: إن اتحد أصلها فمتحدة وإلا فممنوع).
ذهب الشافعي ومالك إلى أنَّه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة
(2)
، والخلاف مع الحنفية
(3)
.
واستدل المصنف بأنّ كل واحد من الدليلين يفيد ظنًّا مغايرًا للظنّ المستفاد من صاحبه، والظنَّان أقوى من الظنّ الواحد، فيعمل بالأقوى؛
(1)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3671 - 3672.
(2)
وهو مذهب الإمام أحمد أيضًا ينظر: شرح تنقيح الفصول: ص 421، والمحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 534، وتخريج الفروع على الأصول للإسنوي: ص 376، وشرح الكوكب المنير: 4/ 634، وهو رأي محمد بن الحسن من الحنفية كما في فواتح الرحموت: 2/ 210.
(3)
وهو مذهب الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف والكرخي: ينظر: كشف الأسرار: 4/ 78، وتيسير التحرير: 3/ 154، والتوضيح على التلويح: 2/ 232، وفواتح الرحموت: 2/ 210، والأقوال الأصولية للإمام الكرخي لشيخنا (ص). حسين الجبوري: ص 120 ذكرها في مسألة الترجيح بكثرة الرواة وهي إحدى صور المسألة التي نحن بصددها كما نوه عنها الصفي الهندي في نهاية الوصول: 8/ 3656، والمحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 534.
لكونه أقرب إلى القطع، كما رجحنا الكتاب على السنّة، والسنّة على الإجماع، والإجماع على القياس
(1)
.
فإن قلت: الفرق
(2)
بين الترجيح بكثرة الأدلة والترجيح بالقوّة والوصف الذي يعود إليه أنّ الزيادة حصلت مع المزيد عليه في محل واحد بخلاف الترجيح بقوة
(3)
الأدلة
(4)
.
قلت: هذا ضعيف لأنَّه لا أثر لذلك.
واحتج الخصم بأنّ كثرة الأدلة، لو كانت سببًا للرجحان لكانت الأقيسة المتعددة مقدمة على خبر الواحد إذا عارضها، وليس الأمر كذلك.
وأجاب: بأنّ أصل تلك الأقيسة إنْ كان متحدًا، وهذا كما قيل: في معارضة ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان السمك والجراد"
(5)
(1)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 2/ 535، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3657، ونهاية السول: 4/ 473.
(2)
(الفرق) ساقط من (ت).
(3)
في (ت): بكثرة.
(4)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3659.
(5)
ولفظه: "أحلت لنا ميتتان ودمان، الميتتان الحوت والجراد والدّمان الكبد والطحال". أخرجه الشافعي في المسند: 2/ 173، كتاب الصيد والذبائح، الحديث رقم (607)، وأحمد في المسند: 2/ 98، وابن ماجه في السنن: 2/ 1101 - 1102، كتاب الأطعمة (29) باب الكبد والطحال (31) الحديث رقم (3314)، والدارقطني في السنن: 4/ 271 - 272، كتاب الصيد والذبائح والأطعمة، الحديث رقم (25)، والبيهقي في السنن الكبرى: 1/ 354، كتاب الطهارة باب الحوت يموت في الماء =
السمك الميت حرام قياسًا على الغنم الميتة، وعلى الطائر الميت، والبقر والإبل والخيل، بجامع الموت
(1)
في كلّ ذلك. فتلك الأقيسة حينئذ تكون أيضًا متحدة، وتكون قياسًا واحدًا لا أقيسة متعددةً لوحدة الجامع، فإنّها لا تتغاير إلا أنْ يعلل حكم الأصل في كلّ قياس منها بعلّة أخرى وتعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين ممنوع على ما سلف فيكون الحقّ من تلك الأقيسة واحدًا وإذا قدمنا عليها الخبر لم يكن قد قدمناه إلا على دليل واحد.
وإن لم يكن أصلها متحدًا بل متعددًا، فلا نسلم تقديم خبر الواحد عليها، كذا أجاب المصنف تبعًا للإمام
(2)
.
والحقّ
(3)
أنّ خبر الواحد مقدم على الأقيسة وإن تعددت أصولها ما لم تصل إلى القطع، ولا يفرض اللبيب صورة تحصل فيها من الأقيسة ظنّ يفوق الظنّ الحاصل فيها من خبر الواحد.
ونقول: هذا رجحت أرجح الظنين؛ لأنّه لا تجد ذلك إلا والقياس جليّ مقدّم دون ريب ولا خصوصية إذ ذاك لتعدد الأقيسة بل لقوة الظنّ.
وقد ذكر الإمام أنّ من صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواة ولكن قد وافق في هذا الفرع بعض المخالفين في المسألة ولا
= والجراد، وفي 9/ 257، كتاب الصيد والذبائح، باب ما جاء في أكل الجراد.
(1)
(الموت) ليس في (غ).
(2)
ينظر: المحصول: ج 2/ ق 2/ 535، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3656.
(3)
من ترجيحات السبكي.
شك أنّ الخلاف فيه أضعف
(1)
.
وقد نقله إمام الحرمين عن بعض المعتزلة، وقال: الذي ذهب إليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد
(2)
.
ثمّ نقل أنّ القاضي قال: ما أرى تقديم الخبر بكثرة الرواة قطعيًا والوجه فيه أنّ المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكًا إلا الخبرين، واستوى رواتهما في العدالة والثقة وزاد أحدهما بعدد الرواة فالعمل به
(3)
.
قال: وهذا قطعي لأنا نعلم أنّ الصحابة لو تعارض لهم
(4)
خبران بهذه الصفة لم يعطلوا الواقعة بل كانوا يقدمون هذه.
قال: وأمّا إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرت رواة أحدهما، فالمسألة الآن ظنية.
وهذا الذي ذكره القاضي حقّ ويشبه أنْ لا يكون محل الخلاف إلا في الصورة التي جعلها ظنية فإنه كما ذكر قد يقال: فيها بالنزول عنها والتمسك بالقياس وقد يظنّ أنّ الصحابة كانوا يقدمون الخبر الكثير الرواة ويضربون عن القياس، فالخلاف في هذه الصورة متجه وأما في الأولى فلا مساغ له.
(1)
ينظر: المحصول: ج 2/ ق 2/ 541 - 542.
(2)
ينظر: البرهان للجويني: 2/ 1162.
(3)
ينظر: المصدر نفسه: 2/ 1163.
(4)
في (غ)، (ت): لهما.
نعم إذا اجتمع مزية الثقة وقوة العدد بأن روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخرَ جمع لا يبلغ آحادهم مبلغ راوي الخبر إلا في الثقة والعدالة فهذه صورة أخرى
(1)
.
وقد اعتبر بعض أهل الحديث مزيد العدد، وبعضهم مزيد الثقة
(2)
.
قال إمام الحرمين: والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة، فإن الذي يغلب على الظنّ
(3)
أنّ الصدّيق رضي الله عنه لو روى خبرًا وروى جمع على خلافه لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين يؤثرون رواية الصديق
(4)
انتهى.
وأبلغ قول في ذلك ما ذكره الغزالي من أنّ الاعتماد في ذلك على ما غلب على ظنّ المجتهد فإنّ الكثرة وإنْ قوّت الظنّ فرب عدل أقوى في النفس من عدلين ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والرواة، وأمّا تقديم خبر الصديق رضوان الله عليه فلأنّ الظنّ الحاصل بخبره أقوى من الحاصل بخبر الجمع الكثير وقد لا يتأتى ذلك في غيره.
ومن صور مسألة الكتاب أيضًا إذا انضم إلى أحد الخبرين قياس، والذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه تقديم الحديث الذي وافقه القياس؛ لأنَّ الترجيح يجوز بما يوجب تغليب الظنّ تلويحًا مع أنّ مجرد التلويح لا يستقل
(1)
ينظر: البرهان للجويني: 2/ 1168.
(2)
ينظر: المصدر نفسه: 2/ 1168.
(3)
(التعلق بمزية الثقة فإن الذي يغلب على الظنّ) ساقط من (غ).
(4)
ينظر: البرهان للجويني: 2/ 1168.
دليلًا فإذا اعتضد أحد الخبرين بما يستقل دليلًا فلأن يكون مرجحًا أولى.
وقال القاضي: يتساقط الخبران، ويرجع إلى القياس والمسلكان مفضيان إلى موافقة حكم القياس، ولكن الشافعي رضي الله عنه يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بموافقة القياس والقاضي يعمل بالقياس ويسقط الخبرين مستدلًا بأنّ الخبر مقدّم على القياس، ويستحيل تقديم خبر على خبر بما يسقط الخبر. وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدّم عليه إذا وافقه
(1)
.
وقال إمام الحرمين: القول عندي في ذلك لا يبلغ مبلغ الإفادة، ولمن نصر الشافعي أنْ يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر أحدهما إلى التأكيد بما يغلب على الظنّ
(2)
.
قلت: ويناظر هذا الخلافَ الخلاف الذي ذكره الأصحاب في البينتين إذا تعارضتا ومع أحدهما يد، فإنّ الحكم لذات اليد، ولكن هل القضاء للداخل باليد أم بالبينة المرجحة باليد؟ اختلفوا فيه، وينبني على الخلاف أنَّه هل يشترط أنْ يحلف الداخل مع بينته ليقضى له؟ فيه وجهان أو قولان أصحّهما لا، كما لا يحلف الخارج مع بينته
(3)
.
(1)
ينظر: البرهان للجويني: 2/ 1178.
(2)
ينظر: المصدر السابق: 2/ 1179.
(3)
قال الرافعي: في العزيز شرح الوجيز: 13/ 231 ". . . . وعلى هذا فلو كانت اليد مع صاحب الشاهد واليمين وجهان: أحدهما: أن اليد وقوّة الحجّة الأخرى يتقابلان. وأشبههما: أن جانب صاحب اليد يرجح؛ لاعتضاده باليد المحسوسة. هكذا نقله =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= الإمام وصاحب الكتاب، وحكى في التهذيب الخلاف في المسألة قولين، ولم يحل التعادل، لكن قال: أحد القولين ترجيح صاحب اليد. والثاني: ترجيح الآخر لقوة حجته، ويمكن بناء القولين على أن صاحب اليد هل يحلف مع البينة أم لا؟
الباب الثالث: ترجيح الأخبار