الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنتما أولًا: محجوجان بالإجماع قبلكما وبعدكما.
وثانيا: إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد فقد خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام.
وإنْ أريد الخروج عن عهدة التكليف ونفي الحرج كما نقل عن الجاحظ، فالبراهين النقلية من الكتاب والسنّة والإجماع الخارجة عن حدّ الحصر تردّ هذه المقالة
(1)
.
وأما تخصيص التصويب بالمجتمعين على الملّة الإسلامية فنقول: مما خاض فيه المسلمون القولُ بالتشبيه تعالى الله عنه علوًا كبيرًا، والقولُ بخلق القرآن وغير ذلك، مما يعظم خطره، وأجمعوا قبل العنبري على أنَّه يجب على المرء إدراك بطلان القول بالتشبيه.
قال القاضي: ونقول له أيضًا ما الذي حجزك عن القول بأن المصيب واحد فإن احتج بغموض الأدلة قلنا: له فالكلام في النبوات والإحاطة بصفات المعجزات وتميزها من المخاريق والكرامات أغمض عند العارفين بأصول الديانات من الكلام في القدر وغيره، مما يختلف فيه أهل الملّة فهلا عذرت الكفرة بما ذكرت قال وهذا لا محيص له عنه
(2)
.
البحث الثاني: في تصويب المجتهدين في المسائل الفروعية
.
(1)
ينظر هذه الإجابة في: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3838.
(2)
التلخيص للجويني: 3/ 342 - 343.
وقد ضبط صفي الدّين الهندي المذاهب فيه جيدًا، فقال:
"الواقعة التي وقعت إمّا أنْ يكون عليها نصٌّ أوْ لا.
فإنْ كان الأوّل: فإمّا أن وجده المجتهد أو لا.
والثاني: على قسمين؛ لأنَّه إمّا قصّر في طلبه أو لم يقصّر.
فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام.
وإن لم يحكم بمقتضاه فإنْ كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقًا.
وإن لم يكن مع العلم به ولكنه قصّر في البحث عنه فكذلك، وإن لم يقصّر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعثر على وجه دلالته على المطلوب، فحكمه حكم ما إذا لم يجده مع الطلب الشديد وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وإن لم يجده فإن كان
(1)
لتقصيره في الطلب فهو أيضًا مخطئ وآثم.
وإن لم يقصّر بل بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده بأنْ خفي عليه الراوي الذي عنده النّص أو عرفه ولكنه مات قبل وصوله إليه، فهو غير آثم قطعًا.
وهل هو مخطئ أو مصيب؟ على الخلاف الذي يأتي إن شاء الله تعالى فيما لا نص فيه، وأولى بأنْ يكون مخطئًا.
(1)
(كان) ليس في (غ).
وأمّا التي لا نصّ عليها؛ فإمّا أنْ يقال لله تعالى فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أو لا، بل حكمه فيها تابع لاجتهاد المجتهد، فهذا الثاني قول من قال: كلّ مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين منا كالشيخ أبي الحسن
(1)
، والقاضي أبي بكر
(2)
، والغزالي
(3)
. ومن المعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم
(4)
وأتباعهم.
ونقل عن الشافعي
(5)
وأبي حنيفة
(6)
، وأحمد
(7)
، والمشهور عنهم خلافه.
وهؤلاء اختلفوا في أنَّه وإن لم يكن يوجد في الواقعة حكمٌ معين، فهل وُجِدَ فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم لما حكم إلا به، أو لم يوجد ذلك؟ .
والأوّل هو القول بالأشبه
(8)
، . . . . . . . . . . . . . . .
(1)
ينظر: المحصول: 2/ ق 3/ 48، ونهاية الوصول للهندي: 8/ 3846.
(2)
ينظر: المحصول: 2/ ق 3/ 48، والإحكام للآمدي: 4/ 183، ونهاية الوصول للهندي: 8/ 3846.
(3)
ينظر: المستصفى: 2/ 358.
(4)
ينظر: المعتمد: 2/ 949، والمحصول: 2/ ق 3/ 48، والإحكام للآمدي: 4/ 183، ونهاية الوصول للهندي: 8/ 3846.
(5)
ينظر: شرح اللمع: 2/ 1046، والبرهان: 2/ 1319، ونهاية الوصول: 8/ 3847.
(6)
ينظر: تيسير التحرير: 4/ 202، وفواتح الرحموت: 2/ 381.
(7)
المسودة: ص 497، وشرح الكوكب المنير: 4/ 489.
(8)
قال إمام الحرمين في البرهان: 2/ 867 في شرح الأشبه ما نصه: "إذا الذي عليه =
وهو قول كثير من المصوبين"
(1)
.
وإليه صار أبو يوسف
(2)
ومحمد بن الحسن وابن سريج في إحدى الروايتين عنه.
قال القاضي في مختصر التقريب: وذهب بعضهم في الأشبه إلى أنَّه ليس هذا بل هو أولى طرق الشبه في المقاس والعبر، ومثلوا ذلك بإلحاق الأرز بالبر بوصف الطعم أو القوت أو الكيل فأحد هذه الاوصاف أشبه عند الله تعالى وأقرب في التمثيل
(3)
(4)
. وأمّا الثاني فَقَوْلُ الخلَّصِ من المصوِّبة
(5)
.
= التعويل أنا نقول المسألة إذا ترددت بين أصلين في التحريم والتحليل ويجاذبهما أصل التحريم وأصل التحليل فالمطلوب تقرير الأشبه، فإن كانت أشبه بأصل التحريم فالمطلوب الذي هو نهاية التشوف والتحريم وإن كانت على العكس فالتشوف التحليل ومن يسبق إلى الأشبه فله أجرا مصيبٍ فيهما وإن أخطأ الشوف فهو مصيب في العمل مخطئ نهاية الشوف فكأن الذي لم ينته إلى نهاية الشوف مصيب من وجه مخطئ من وجه" اهـ بلفظه.
(1)
ينظر هذا الاقتباس من: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3846 - 3847. وينظر أيضًا: شرح المنهاج للأصفهاني: 2/ 838.
(2)
ينظر قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن في: تيسير التحرير: 4/ 202، وفواتح الرحموت: 2/ 380 - 381.
(3)
التلخيص للجويني: 3/ 383 - 384.
(4)
متابعة النقل من نهاية الوصول للصفي الهندي.
(5)
ينظر: نهاية الوصول للهندي: 8/ 3847، وشرح المنهاج للأصفهاني: 2/ 838.
وأمَّا الأوّل: وهو أنّ لله تعالى في الواقعة حكمًا معينًا؛ فإمّا أنْ يقال عليه دلالة وأمارة فقط، أو ليس عليه لا دلالة ولا أمارة.
فأمّا القول الأول: وهو أنّ على الحكم دليلا يفيد العلم والقطع، فهو قول بشر المريسي والأصمّ
(1)
وابن علية. وهؤلاء اتفقوا على أنّ المجتهد مأمور بطلبه، وأنّه إذا وجده فهو مصيب، وإذا أخطأه فهو مخطئ، ولكنّهم اختلفوا في المخطئ هل يأثم ويستحق العقاب؟ .
فذهب بِشْرٌ إلى التأثيم
(2)
.
وأنكره الباقون لخفاء الدليل وغموضه
(3)
.
واختلفوا أيضًا في أنَّه هل ينقض قضاء القاضي فيه؟
فذهب الأصمّ إلى أنَّه ينقض
(4)
.
(1)
هو عبد الرحمن بن كيسان الأصم أبو بكر من كبار المعتزلة وشيوخهم، كان فقيهًا فصيحًا ديِّنا وقورًا، وصبورًا على الفقر توفي سنة 201 هـ له تفسير وكتاب خلق القرآن، وكتاب الحجّة والرسل، والرد على الملاحدة، والأسماء الحسنى.
ينظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء: 5/ 402 رقم (131)، وتقريب التهذيب: ص 349 رقم (3992)، فرق وطبقات المعتزلة: ص 55 - 65.
(2)
أي أن المجتهد يأثم ويستحق العقاب وهو قول بعيد.
ينظر مذهبه في: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 50، ونهاية الوصول: 8/ 3848.
(3)
ينظر: المصدران نفسهما.
(4)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 51، ونهاية الوصول: 8/ 3848.
وخالفه الباقون
(1)
.
وأما القول الثاني وهو أنَّ على الحكم أمارة فقط، فهو قول أكثر الفقهاء؛ كالأئمة الأربعة
(2)
وكثير من المتكلمين
(3)
.
وهؤلاء اختلفوا:
فمن قائل: إنّ المجتهد غير مكلّف بإصابته؛ لخفائه وغموضه، وإنما هو مكلف بما غلب على ظنّه، فهو وإن أخطأ على تقديرِ عَدَمِ إصابتِهِ، لكنَّه معذورٌ مأجور، وهو منسوبٌ إلى الشافعي رضي الله عنه
(4)
"
(5)
.
وعلى هذا فعلام يؤجر المخطئ؟ فيه وجهان لأصحابنا:
أحدهما: وهو اختيار المزني، وظاهر النّص أنَّه يُؤْجَر على القصد إلى الصواب ولا يُؤْجَر على
(6)
الاجتهاد؛ لأنّه أفضى به إلى الخطأ، فكأنّه لم يسلك الطريق المأمور به
(7)
.
(1)
ينظر: المصدران نفسهما.
(2)
ينظر: المحصول: 2/ ق 3/ 49، ونهاية الوصول: 8/ 3849.
(3)
كابن فورك، والأستاذ أبي إسحاق. ينظر رأيهما في التبصرة: ص 498، وشرح اللمع: 2/ 1048.
(4)
ونسبه الصفي الهندي إلى أبي حنيفة أيضًا. ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 49، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3849.
(5)
ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3847 - 3449.
(6)
في (غ): عند.
(7)
قال الرافعي في العزيز شرح الوجيز: 12/ 478: ". . . وعلام يؤجر المخطئ؟ فيه وجهان عن أبي إسحاق: أحدهما: وهو ظاهر النص، واختيار المزني رحمه الله: أنه =
وشبّهه القفال
(1)
في الفتاوى
(2)
برجلين رميَا إلى كافرٍ فأخطأَ أحدهما، يؤْجر على قصد الإصابة، بخلاف صاحبِه، والساعي إلى الجمعة إذا فاتته، يؤجرُ على القصدِ، وإن لم ينل ثواب العمل.
والثاني: أنَّه يؤجر على القصد وعلى الاجتهاد جميعا؛ لكونه بذل ما في وسعه
(3)
.
= يؤجر على القصد إلى الصواب، ولا يؤجر على الاجتهاد؛ لأنه اجتهاد أفضى به إلى الخطأ، وكأنه لم يسلك الطريق المأمور به. . .".
(1)
هو عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي الإمام الجليل أبو بكر القفال الصغير - سبقت ترجمته - وللفائدة قال النووي في تهذيبه: إذا ذكر القفال الشاشي فالمراد محمد بن علي بن إسماعيل الكبير، وإذا ورد القفال المروزي فهو الصغير ثم إن الشاشي يتكرر ذكره في التفسير والحديث والأصول والكلام والمروزي يتكرر ذكره في الفقيه. ينظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: 2/ 183، وينظر أيضا ترجمة القفال الكبير في المصدر نفسه: 2/ 149.
(2)
الفتاوى من مصنفات القفال المروزي الصغير، وهو في عداد المخطوطات ولم يطبع إلى الآن على حد علمي وحسب اطلاعي.
(3)
للنووي كلام ملخص في روضة الطالبين جدير بأن يسطر في هذا البحث: 11/ 150، قال رحمه الله:"القاعدة الثالثة المسائل الفروعية الاجتهادية إذا اختلف المجتهدون، فيها طريقان: أشهرهما قولان أظهرهما المحقّ فيها واحد والمجتهد مأمور بإصابته والذاهب إلى غيره مخطئ والثاني أن كل مجتهد مصيب والطريق الثاني القطع بالقول الأول وبه قال أبو إسحق والقاضي أبو الطيب، فإن قلنا المصيب واحد فالمخطئ معذور غير آثم بل مأجور لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر". وقال الشيخ أبو إسحاق في اللمع قال ابن أبي هريرة: يأثم والصواب الأول. وفيما يؤجر عليه وجهان عن أبي إسحاق: أحدهما: =
ومن قائل: إنّه مأمور بطلبه ومكلف بإصابته أولًا، فإنْ أخطأه، وغلب على ظنّه شيء آخر، فهناك يتغير التكليف، ويصير مأمورًا بالعمل بمقتضى ظنِّه ولا يأثم.
وأما القول الثالث وهو أنَّه لا دلالة عليه ولا أمارة، فذهب إليه وجمع من المتكلمين
(1)
.
وقد زعم هؤلاء أنّ ذلك الحكم كدفين يتفق عثور الطالب عليه ويتفق تعديه
(2)
قال القاضي في مختصر التقريب: واختلف هؤلاء فذهب بعضهم إلى أنَّ
(3)
العثور عليه ليس بواجب وإنما الواجب الاجتهاد.
وذهب بعضهم إلى أنّ العثور عليه مما يجب على المكلف وإن لم يكن
= وهو ظاهر النص واختيار المزني يؤجر على قصده الصواب ولا يؤجر على الاجتهاد؛ لأنه أفضى به إلى الخطأ وكأنه لم يسلك الطريق المأمور به والثاني يؤجر عليه وعلى الاجتهاد جميعا. وإذا قلنا كل مجتهد مصيب فهل نقول الحكم والحقّ في حق كل واحد من المجتهدين ما ظنه أم الحق واحد؟ وهو أشبه مطلوب إلا أن كلا منهم مكلف بما ظنه لا بإصابة الأشبه وجهان: اختار الغزالي الأول وبالثاني قطع به أصحابنا العراقيون، وحكوه عن القاضي أبي حامد والداركي" اهـ.
(1)
في (غ): المكلفين.
(2)
ينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 48، والحاصل: 2/ 1010، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3847، وشرح العبري: ص 678، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 562.
(3)
(أنّ) ليس في (غ).
عليه دليل
(1)
.
هذا شرح المذاهب في المسألة فلنعد إلى لفظ الكتاب
(2)
.
قوله: "اختلف في تصويب المجتهدين في مسائل الفروع": إشارة إلى أنّ خلاف العنبري في الأصول لا احتفال به، وقد أصاب؛ فإنّه لا ينبغي أنْ يعدَّ ما ذهب إليه هذا الرجل قولًا في الشريعة المحمدية، مع أنّه مصادم بالإجماع قبله
(3)
.
والذي نراه غير شاكين فيه
(4)
، أنّ المجمعين لو عاصروا العنبري لم يلتفتوا إلى ما قاله ولعدّوا الإجماع قائمًا دونه.
قوله: "بناءً على الخلاف. . . إلى آخره" مقتضاه: أنَّ كلَّ من قال: بأنَّ لكلِّ صورة حكمًا معينًا، وعليه دليل قطعي أو ظني، قال: بأنّ المصيب واحد، ومن لم يقل بذلك صوب الكلّ
(5)
.
قوله: "والمختار. . . . إلى آخره" باح باختيار المذهب الذي حكيناه من اشتمال الحادثة على حكم معين، وعليه دليل قطعي أو ظني لا يكلف المجتهد به، وإنما يكلف بما غلب على ظنّه
(6)
.
(1)
ينظر: التلخيص للجويني: 3/ 360.
(2)
ينظر: التلخيص للجويني: 3/ 387 - 388.
(3)
قال الآمدي: "وما أظنّ عاقلًا يذهب إلى ذلك" وقد ردّ قوله بالكتاب والسنة والإجماع. ينظر: الإحكام للآمدي: 4/ 239 - 240.
(4)
من ترجيحات السبكي.
(5)
ينظر: نهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 561 - 562.
(6)
ينظر: نهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 565.
قال: (لأنَّ الاجتهاد مسبوق بالدلالة لأنّه طلبها والدلالة متأخرة عن الحكم فلو تحقق الاجتهادان
(1)
لاجتمع النقيضان ولأنه قال صلى الله عليه وسلم: "من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر").
هذان وجهان
(2)
استدل بهما على اختياره:
أحدهما: أنّ الاجتهاد مسبوق بدلالة الدليل على الحكم؛ لأنّه عبارة عن طلب دلالة الدليل على الحكم، والطلب مسبوق على المطلوب، فيكون الاجتهاد متأخرًا عن الدلالة، والدلالة متأخرة عن الحكم بها؛ لأنها نسبة بين الدليلين الذي هو المطلوب، والمدلول الذي هو الحكم، والنسبة متأخرة عن كلّ واحد من الأمرين؛ لتوقف تحققها على تحققهما، فيلزم منه أنْ يكونَ الاجتهادُ متأخرًا عن الحكم بمرتبتين؛ لتأخره عن الدلالة المتأخرة عن الحكم، فلو تحقق الاجتهادان أي كان كلّ مجتهد مصيبًا لاجتمع النقيضان
(3)
لاستلزامه ثبوت حكمين متناقضين
(4)
(1)
في (غ): الاجتهاد.
(2)
الأول عقلي، والثاني نقلي.
(3)
(النقيضان) ليس في (ت).
(4)
وذلك لأن الإثبات والنفي نقيضان ليس بينهما واسطة، ومتى اختلف المجتهدون فأحدهم مثبت، والآخر ناف قطعًا، ولا ثالث، والإثبات والنفي لا يجتمعان في الواقع في آن واحد. فأحدهما حق ثابت بيقين، والآخر باطل غير متحقق بيقين، فكان الحق بهذا المعنى واحدًا لا تعدد فيه بيقين، فمن أصابه فهو المصيب، ومن لا يصيبه فهو المخطئ.
أفاده المطيعي في حاشيته على الإسنوي: 4/ 568.
في نفس الأمر بالنسبة إلى مسألة واحدة
(1)
.
وهذا الدليل فيه نظر:
أنّا وإنْ سلمنا أنّ الاجتهاد طلب الدلالة، فلا نسلم أنّ طلبَ الشيءِ يتوقفُ على ثبوتِه في الخارج، بلْ على تصوره فقط، ثمّ إنّه لا يثبت به إلَّا أحدَ شطرَي ما ادّعاه، فإنّه لا يدلُّ على سقوطِ الإثم عن المخطئ وحصولِ الأجرِ له
(2)
.
الوجه الثاني: الحديث الذي ذكره في الكتاب، واللفظ في الصحيحين:"إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"
(3)
.
(1)
قال الجاربردي في السراج الوهاج: 2/ 1079 عن هذا الدليل: "وتقريره: لو لم يكن المصيب واحدًا لاجتمع النقيضان، والتالي باطل، فالمقدم مثله. أما الملازمة؛ فلأنّ الاجتهاد طلب الدلالة فيكون متأخرًا عن الدلالة، والدلالة متأخرة عن المدلول الذي هو الحكم، لتأخر النسبة بين المنتسبين، فيكون الاجتهاد متأخرًا عن الحكم. إذا تقرر ذلك فنقول: إذا اجتهد مجتهد وأدى اجتهاده إلى الحرمة، واجتهد مجتهد آخر وأدى اجتهاده إلى الوجوب، فلو كان كل منهما حقًا لزم اجتماع النقيضين". وينظر الدليل في: الحاصل: 2/ 1012، وشرح العبري: ص 679 - 680، ومعراج المنهاج للجزري: 2/ 293، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 567 - 568.
(2)
قال الإسنوي في نهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 568 "وفي الدليلين نظر [أي الدليل العقلي والنقلي] أما الأول: فلا نسلم أن طلب الشيء يتوقف على ثبوته في الخارج، بل على تصوره، ألا ترى أن المتيمم إذا طلب الماء في برية، فإنه ليس متحققا لوجوده، بل مقصوده إنما هو التحصيل على تقدير الوجود. . .". وينظر: المحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 54.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: ص 1400 كتاب الاعتصام (96) باب أجر =
دلّ الحديث على أنّ المجتهد قد يخطئ وقد يصيب وهو المدَّعَى
(1)
.
فإن قلت: لا ينافي ذلك كون كلِّ مجتهدٍ مصيبًا، إذ
(2)
يتصور الخطأ عند القائلين بهذه المقالة، وذلك فيمن لم يستفرغ الوسع في الطلب مع كونه غير عَالِمٍ بالتقصير، فإنّه مخطئ غيرُ آثمٍ؛ للجهل بالتقصير، فلعلّ هذه الصورة هي المرادة من الحديث
(3)
.
قلت: هذا تخصيصٌ بصورةٍ نادرةٍ من غيرِ دليل.
وأيضًا: إنْ تحقق الاجتهاد المعتبر فيما ذكرته، فقد ثبت المدعى وهو خطأ بعض المجتهدين في الجملة، وإلا فلا يجوز حمل الحديث عليه من غير صارفٍ عن حمله على الاجتهاد المعتبر؛ لأنَّ الشرعي مقدم على العرفي واللغوي
(4)
.
واعلم أنّ الاستدلال بالحديث قويٌّ، لو كانت المسألة ظنية، ولكنَّ المسألةَ قطعيةٌ، كما صرَّح بها الأصوليون على اختلاف طبقاتهم.
وبذلك تحلّ شبهة من قال: ليس كلّ مجتهد مصيبًا؛ لقول من قال من
= الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (21) رقم (7352). وأخرجه مسلم في صحيحه: ص 713، كتاب الأقضية (30) باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (6). رقم (1716).
(1)
ينظر: نهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 568.
(2)
في (غ): أو.
(3)
ينظر: نهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 570.
(4)
ينظر: نهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 570 - 571.
المجتهدين: ليس كل مجتهد مصيبًا؛ لأنّه إنْ أصاب فما قاله حقّ، وإن أخطأ فقد أخطأ بعض المجتهدين، فلم يكن كلّ مجتهد مصيبًا.
فنقول: الخلاف في أنّ المصيبَ واحدٌ إنما هو
(1)
في مسائل الفروع الظنيّة كما عرفت، أمّا مسائل الأصول القطعية، فالمصيب فيها واحد بلا خلاف.
ولك في حلّ هذه النكتة طريقة أخرى فنقول:
نلتزم أنَّه مصيب في قوله: ليس كلّ مجتهد مصيبًا.
ولكن لم قلت: إنّه يلزم من ذلك أنْ يكون الواقع في نفس الأمر ليس إلّا أنَّه ليس
(2)
كل مجتهد مصيبًا.
وقولك: لأنّه مصيب.
قلنا: وكذا خصمه أيضا مصيب بناءً على القول بالتصويب.
فحكم الله في حقّ هذا أنَّه ليس كل مجتهد مصيبا غير
(3)
أنَّه في حقّ خصمه أنّ كلّ مجتهد مصيبٌ.
فهاتان طريقتان في حلّ هذه الشبهة:
الأولى: على تقدير كونها من مسائل الأصول
(1)
(هو) ليس في (غ).
(2)
(ليس) ليس في (غ).
(3)
(غير) ليس في (ص).
والثانية: على التزام كونها من مسائل الفروع.
ومن جيّد ما استدل به القائلون بأنّ المصيب واحد، اجتماع الصحابة فمن بعدهم للمناظرة، وطلبُ كلِّ واحدٍ من المتناظرين خصمَه إلى ما ينصره، فلوْ أنّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، لم يكن إلى الحجاج والنَّظرِ فائدة.
وأجاب عنه القاضي: بأنّ التناظر ثابت، وأمّا ما ادعيتموه من غرض المتناظرين، فأنتم منازعون فيه، ولسنا نُسَلِّم أنّ العلماء إنما تنازعوا؛ ليدعو
(1)
كلّ واحد منهما خصمه، بل للتدرب في طرق الاجتهاد ولاحتمالِ وضوحِ
(2)
نصٍّ يقطعُ البحثَ، وغير ذلك
(3)
.
قال: (قيل لو تعين فالمخالف له لم يحكم بما أنزل الله فيفسق أو يكفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قلنا: لما أمر بالحكم بما ظنه وإن أخطأ حكم بما أنزل الله.
قيل: لو لم يصوب الجميع لما جاز نصب المخالف وقد نصب أبو بكر زيدا
(4)
رضي الله عنه.
(1)
ليدعو في (ص): ليدعي.
(2)
(كلّ واحد منهما خصمه بل للتدرب في طرق الاجتهاد والاحتمال وضوح) ساقط من (ت).
(3)
ينظر: التلخيص للجويني: 3/ 355.
(4)
(زيدا) ليس في (غ).
قلنا: لم يجز تولية المبطل، والمخطئ ليس بمبطل).
احتج المصوّبون بوجهين
(1)
:
أحدهما: أنَّه لوْ لم يكنْ كلُّ مجتهدٍ مصيبًا، لتعين الحكمُ في الواقعةِ قبلَ الاجتهادِ، وحينئذٍ فيكونُ المجتهدُ المخالفُ باجتهادِه لذلك الحكمِ حاكمًا، بخلاف ما أنزل الله فيفسق لقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
(2)
، أو يكفر بالآية الأخرى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
(3)
(4)
.
وأجاب بأنَّا لا نسلم أنَّه والحالة هذه يكون حاكمًا، بخلاف ما أنزل الله، فإنَّه لما كان مأمورًا بالحكم بموجب ظنِّه بعد الاجتهاد، فحكمُه به حكمٌ بما أنزل الله، وإن أخطأ في اجتهاده بعدم إصابة ذلك الحكم المتعين
(5)
.
(1)
هذا شروع في الاحتجاج للقائلين أنه ليس لله في الواقعة حكم معين، بل حكمها تابع لظنّ المجتهدين.
(2)
سورة المائدة الآية 47.
(3)
سورة المائدة الآية 44.
(4)
واللازم باطل اتفاقًا، فالملزوم مثله. بمعنى: لكن المخالف ليس بفاسق ولا كافر إجماعًا، فلا يكون في الواقعة حكم معين وهو المطلوب. ينظر الدليل: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3851، وشرح العبري: ص 681 - 682، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 572.
(5)
ينظر الجواب في: شرح العبري: ص 681 - 682، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 572 - 573.
ولقائل أنْ يقول: إذا كان الحقُّ واحدًا متعينًا، فهو الذي أنزله الله تعالى، والحكم بخلافه حكم بخلاف ما أنزل الله.
نعم هو حكم بشيء أنزل الله؛ أنّ الحاكم به يؤجر، ولا يأثم لبذله الوسع في اجتهاده، فكان ينبغي تقريره هكذا، إنما يفسّق أو يكفّر الحاكم بخلاف ما أنزل الله من كلّ وجه؛ لأنّه الذي يصدق عليه إطلاق قول القائل: حَكَمَ بخلافِ ما أنزل الله.
أمَّا الحاكم بما أنزل الله أنّ له أنْ يحكمَ به، وإن لم يحكم به وإنْ لم ينزل المحكوم به، ولم يجعله الحقّ عنده فليس حاكمًا، بخلاف المنزل. أو نقول: هو حاكم بخلافه، ولكن هو معذور لما ذكرناه. والفسق والكفر يختصان بغير المعذور.
والثاني: أنَّه لو لم يكن كلُّ مجتهدٍ مصيبًا، لما جاز للمجتهدِ أنْ ينصِّبَ حاكمًا مخالفًا له في الاجتهاد؛ لأنّه في ظنِّه قد مكَّنه من الحكم بغير الحقّ، وليس كذلك؛ لأنّه جائز بدليل أنّ أبَا بكر رضي الله عنه نصّب زيدًا رضي الله عنه مع أنَّه كان يخالفه في الجدّ
(1)
وفي غيره، وشاع ذلك بين الصحابة من غير نكير
(2)
.
وأجاب: بأن الممتنع إنما هو تولية المبطل؛ أي الذي يقضي بالباطل،
(1)
ينظر كلام الحافظ ابن حجر في التلخيص، وفتح العزيز: 6/ 485 - 486.
(2)
فكان إجماعًا. ينظر: العدّة: 5/ 1568، والمحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 68، والإحكام للآمدي: 4/ 251 - 252، ونهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3855، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 573.
ومن كان مجتهدًا مخطئًا فهو غير مبطل؛ لإتيانه بالمأمور به
(1)
.
(2)
وهذا أيضًا فيه عندنا نظر
(3)
، فإنّ المجتهد في مسألة القائل: بأنّ المصيب واحد، يظنّ خطأ صاحبه، ولا معنى لذلك إلَّا أنَّه مبطلٌ فيما أتى به، وإنما بذْلُ الوسعِ أقامَ عذرَه.
نعم، قد يجاب بأنّه ليس يعلم حال التولية، أنَّه يحكم بخلاف ما يعتقده، وذلك لأنَّ على الحاكم أنْ يجتهد في الحكم عند كلِّ حادثة، وربما تغير اجتهاده.
وأيضًا، فلعل أبا بكر رضي الله عنه نهى زيدًا عن الحكم فيما يخالفه فيه، وقصر توليته على الحوادث التي يوافقه فيها.
وقد صرح بجواز مثل هذا الماوردي كما نقله الرافعي فقال: ولو ولَّى الإمام رجلًا، وقال: لا تحكم في قتل المسلمِ [بـ] الكافرِ
(4)
والحرّ [بـ] العبيدَ
(5)
، جاز وقد قصر عمله على باقي الحوادث
(6)
.
(1)
(به) ليس في (غ).
(2)
ينظر: شرح العبري: ص 682.
(3)
من ترجيحات السبكي.
(4)
[بـ] الكافر في (ت)، (غ): الكافر، والمثبت من العزيز شرح الوجيز: 12/ 434.
(5)
[بـ] العبد في (ت)، (غ): العبد، والمثبت من العزيز شرح الوجيز: 12/ 434.
(6)
يقول الرافعي في العزيز شرح الوجيز: 12/ 434 "ولو قال: لا تحكم في قتل المسلم بالكافر، والحرّ بالعبد، جاز، وكان قصْرًا لعمله على بقية الحوادث، وحكى وجهين فيما لو قال: لا تقض فيهما بالقصاص: أنه يلغو، أو يكون منعًا له من الحكم بالقصاص نفيًا وإثباتًا. الثالث: حيث لا يجوز الاستخلاف. . .". وينظر: الحاوي =
وواقعة زيد واقعة عين، لا يمكن فيها نفي هذا الاحتمال.
وأيضا فلعل أبا بكر رضي الله عنه كان يرى أنّ كلّ مجتهدٍ مصيبٌ، فالمسألة مشهورة باضطراب الآراء فيها قديما وحديثا
(1)
.
قال: (فرعان الأول لو رأى الزوج لفظًا
(2)
كناية ورأته المرأة صريحا فله الطلب ولها الامتناع فيراجعان غيرهما).
هذان فرعان من فروع حكم الاجتهاد
(3)
.
الأول: لو كان الزوجان مجتهدين، فخاطبها الزوج بلفظة يرى أنها كناية في الطلاق ولا نيّة، وترى المرأة أنها صريحة فيه، فللزوج طلب الاستمتاع منها، ولها الامتناع عملًا مع كلِّ منهما بمقتضى اجتهاده.
وطريق قطع المنازعة بينهما أنْ يرَاجعَا مجتهدًا آخر غيرهما حاكمًا أو حكمًا من جهتهما، ليحكم بينهما بما أدّى إليه اجتهاده.
= للماوردي: 20/ 404.
(1)
وهذه توجيهات من السبكي كلها محتملة.
(2)
لفظًا في (ص): لفظ.
(3)
ينظر: الفرعان في التلخيص للجويني: 3/ 348 - 349، والمحصول للرازي: ج 2/ ق 3/ 90 - 91، والحاصل: 2/ 1018 - 1019، والتحصيل: 2/ 297، والإحكام للآمدي: 4/ 254، وشرح العبري: ص 684 - 686، وشرح تنقيح الفصول: ص 441، وشرح الأصفهاني: 2/ 542 - 843، ونهاية السول مع حاشية المطيعي: 4/ 573 - 576.
وهذا الطريق متعين لدفع المشاجرة في نحو الصورة المفروضة، سواءً قلنا: المجتهد واحد أم كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ، وهذا إذا لم تكن المنازعة فيما يجري فيه الصلح، فإنْ جرى فيها الصلح كالحقوق المالية، فينقطع بطريق الصلح أيضًا. هذا ما في الكتاب
(1)
.
وقد ذكر القاضي في مختصر التقريب هذا الفرع، وجعله من أدلة خصومه القائلين: بأنّ المصيب واحد، وأنهم قالوا: هذا يقتضي الجمع بين التسليط على الاستمتاع والامتناع منه.
ثم أجاب عنه: بأنا نسألكم عن هذه الحادثة إذا عنت وكل ما قدرتموه جوابًا ظاهرًا في حقهما فهو حكم الله قطعًا، قال: فإن زعموا أنّ المرأة مأمورة بالامتناع جهدها والرجل مباح له الطلب للاستمتاع وإنْ أدّى إلى قهرها ولم يعدوا ذلك تناقضًا في ظاهر الجواب فهو حكم الله تعالى عندنا ظاهرًا وباطنًا
(2)
.
قال: ومما تمسكوا به أنّ المنكوحة بغير ولي إذا زوجها وليُّها ثانيًا من شافعي والذي تزوج بها أولًا حنفي، والمرأة مترددة بين دعوتهما
(3)
وهما مجتهدان فما وجه القول في جمع الحلّ والتحريم؟
(4)
.
(1)
ينظر هذا المثال في: التلخيص للجويني: 3/ 346.
(2)
ينظر: المصدر نفسه: 3/ 347 - 348.
(3)
(من شافعي والذي تزوج بها أولا حنفي والمرأة مترددة بين دعوتهما) ساقط من (ت).
(4)
بالنظر إلى أن الحنفية لا يشترطون الولي والشافعية عكس ذلك.
وأجاب بجوابه الأوّل: وأنّ كلّ ما أجبتم به في ظاهر الأمر، ولم تعدوه تناقضًا، فهو حكم الله تعالى عندنا.
ثم قال: وإن اجتزيت بهذا القدر كفاك وإن أردت التفصيل في الجواب. قلنا: من القائلين بأن المصيب واحد من صار في هذه الصورة إلى الوقف حتى يرفع الأمر إلى القاضي كما قدمناه في الصورة
(1)
المعلومة الأولى فعلى هذا نقول: حكم الله فيهما الوقف ظاهرًا وباطنًا حتى نرفع أمرهما إلى القاضي فينزلهما على اعتقاد نفسه وهذا حكم الله حينئذ، ومنهم من قال نسلم المرأة إلى الزوج الأول فإنْ نكحها نكاحا يعتقد صحته وهو السابق به فلا يبعد أنْ يكون هذا هو الحكم، قال وهذه الصورة وأمثالها من المجتهدات وفيها تقابل الاحتمالات فيجتهد المجتهد فيها عندنا، وما أدى إليه اجتهاده فهو حقّ من وقف أو تقديم أو غيرهما من وجوه الجواب
(2)
.
قال: (الثاني إذا تغير الاجتهاد كما لو ظنّ أنّ الخلع فسخٌ ثمّ ظنّ أنَّه طلاق فلا ينتقض الأوّل بعد اقتران الحكم وينتقض قبله).
إذا أداه اجتهاده إلى أنّ الخلع فسخٌ فنكح امرأة كان قد خالعها ثلاثًا بمقتضى هذا الاعتقاد
(3)
، ثمّ تغير اجتهاده، وأدّاه إلى أنَّه طلاق
(4)
.
(1)
(إلى الوقف حتى يرفع الأمر إلى القاضي كما قدمناه في الصورة) ساقط من (غ).
(2)
ينظر: التلخيص للجويني: 3/ 348 - 349.
(3)
في (ت): الاعتبار.
(4)
هذا هو الفرع الثاني. وعبر عنه الأصوليون بنقض الاجتهاد. وهما بحثان: =
فإمَّا أن يتغير بعد قضاءِ القاضي بمقتضى الاجتهاد الأوّل المقتضي لصحة النّكاح، فلا ينقض بالاجتهاد الثاني، بل يبقى على النكاح.
وإمَّا أنْ يتغير قبل القضاء بالصّحة، فيجب عليه مفارقتها؛ لأنَّ الظنّ المصاحب له الآن قاضٍ بأنّ اجتهاده الأوّل خطأ فليعمل به.
وهذا ما أراده المصنف بقوله: "وينتقض قبله" ومراده بالنّقض: ترك العمل بالاجتهاد الأوّل، وإلّا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهذا فيما إذا
= الأول: المجتهد إذا أدَّى اجتهاده إلى حكم في حقّ نفسه ثم تغيَّر اجتهاده، كما إذا أدى اجتهاده إلى أن الخلع فسخ، فنكح امرأة خالعها ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده إلى أنه طلاق، فإن حكم حاكم قبل تغير اجتهاده بصحة ذلك النكاح بقي صحيحًا لأن حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية لا ينقض، وإن لم يحكم بها حاكم قبل تغير اجتهاده لزمه تسريحها، ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده؛ لأنه حينئذ يكون مستديما لحرمة الاستمتاع بها نظرًا إلى اعتقاده.
الثاني: إذا أفتى المجتهد على وفق اجتهاده للعامي، فعمل العاميّ بذلك، وبقي مستديمًا عليه، كما إذا أفتاه بجواز نكاع المختلعة ثلاثًا، ثم تغير اجتهاده إلى أن الخلع طلاق، فإن حكم حاكم بصحة النكاح قبل تغير اجتهاده، فالحكم ما سبق في حق المجتهد، وإن لم يحكم بها حاكم فقد اختلفوا: والأظهر أنه يجب عليه تسريحها، كما في المجتهد في حق نفسه، وكما لو قلد من ليس له أهلية الاجتهاد في القِبلة لمن له أهلية الاجتهاد فيها، ثم تغير اجتهاده إلى جهة أخرى في أثناء صلاة المقلد له، فإنه يجب عليه أن يتحول إلى الجهة التي تغير اجتهاد متبوع إليها تنزيلًا له منزلة متبوعه، ومنهم من لم يوجب ذلك لزعمه أنه يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وهو ممتنع. ينظر: نهاية الوصول للصفي الهندي: 8/ 3880. بتصرف.
تغير اجتهاده في حقّ نفسه.
فلو تغير في حقّ غيره؛ كما إذا أفتى مقلده بصحة نكاح المختلعة ثلاثًا، ونكحها المقلد عملًا بفتواه، ثمّ تغير اجتهاده ولم يكن الحاكم قد حكم بصحة النّكاح قبل تغير اجتهاده.
فالمختار: أنَّه يجب عليه تسريحها كما في حقّ نفس المجتهد.
ولو قال: مجتهد للمقلد - والصورة هذه -: أخطأ بكَ من قلدته.
فإنْ كان الذي قلّده أعلمَ من الثاني، أو
(1)
استويا، فلا أثر له لقوله.
وإن كان الثاني أعلم.
قال الرافعي: فالقياس أنّا إنْ أوجبنا تقليدَ الأعلم، فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده وإلا فلا أثر له
(2)
.
قال النووي: وهذا ليس بشيء بل الوجه الجزم بأنّه لا يلزمه شيء ولا أثرَ لقولِ الثاني
(3)
.
(1)
في (غ): واستويا.
(2)
ينظر العزيز شرح الوجيز: 12/ 426.
(3)
وهنا ننقل كلام النووي من الروضة: 8/ 93 لما له من فائدة في الموضوع قال رحمه الله: "فرع: متى تغير اجتهاد المجتهد دار المقلد معه وعمل في المستقبل بقوله الثاني ولا ينقض ما مضى، ولو نكح المجتهد امرأة ثم خالعها ثلاثا لأنه رأى الخلع فسخا ثم تغير اجتهاده قال الغزالي: يلزمه مفارقتها، وأبدى ترددًا فيما لو فعل المقلد مثل ذلك ضم تغير اجتهاد مقلده قال: والصحيح أن الجواب كذلك كما لو تغير اجتهاد المقلد في الصلاة فإنه يتحول، ولو قال مجتهد للمقلد والصورة هذه: أخطأ بك من قلدته، فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني، أو استويا، فلا أثر لقوله، وإن كان الثاني أعلم، =
خاتمة: القاضي إذا حكمَ في هذه الواقعة، ثمّ تغير اجتهاده لم يكن له النّقض لكون المسألة اجتهادية
(1)
.
= فالقياس أنا إن أوجبنا تقليد الأعلم، فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده، وإلا فلا أثر له.
قلت: هذا الذي زعم الإمام الرافعي رحمه الله أنه القياس ليس بشيء بل الوجه الجزم بأنه لا يلزمه شيء ولا أثر لقول الثاني، وهذا كله إذا كانت المسألة اجتهادية، وقد لخص الصيمري والخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا هذه المسألة بتفصيل حسن فقالوا إذا أفتى ثم رجع فإن علم المستفتي رجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز له العمل به وكذا إذا نكح بفتواه أو استمر على نكاح بفتواه ثم رجع لزمه فراقها كنظيره في القبلة، وإن كان عمل به قبل الرجوع فإن كان مخالفا لدليل قاطع لزم المستفتي نقض عمله وإن كان في محل الاجتهاد فلا لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ولا يعمل خلاف هذا لأصحابنا وما ذكره صاحبا المستصفى والمحصول فليس فيه تصريح بمخالفة هذا" اهـ.
(1)
إذا بان للقاضي أنه قد أخطأ في حكمه، أو بان له أن غيره من القضاة قد أخطأ في حكمه، فذلك ضربان:
أحدهما: أن يخطئ فيما يسوغ فيه الاجتهاد.
والثاني: أن يخطئ فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد.
فإن أخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد وهو أن يخالف أولى القياسين من قياس المعنى الخفي أو لأولاهما من قياس التقريب في الشبه، كان حكمه نافذًا، وحكم غيره من القضاة به نافذًا، لا يتعقب بفسخ ولا نقض.
والدليل على ذلك: أنّ عمر رضي الله عنه لم يشرك في عام، وشرّك في عام. فلما قيل له: إنك لم تشرك في العام الماضي بين ولد الأم وبين ولد الأب والأم، فكيف تشرك الآن؟ قال:"تلك على ما قضينا وهذه على قضيناه". ينظر: الحاوي للماوردي: 20/ 239. بتصرف.
ولنا: - فيما إذا حكم الحاكم بحكم، ثم انقدح له ما لو كان مقاربٌ لمنع الحكم - قولٌ بليغٌ، فلنورده، فنقول ذلك على أقسام:
أحدها: أنْ يَكونَ أمرًا متجدِدًا لم يكنْ حالَةَ الحكْمِ.
مثاله: أنْ يباعَ مالُ يتيمٍ بقيمتِه؛ لحاجته، ويُحْكَمَ بصحَةِ البيْعِ، ثمّ تَغْلُو الأسعارُ بعد ذلك، فتصير قيمتُه أكثرَ، فهذا لا اعتبار به؛ لأنَّ الشرطَ البيعُ بالقيمةِ ذلك الوقت، لا بعده.
الثاني: أنْ يحكم باجتهاده لدليلٍ أو أمارةٍ، ثمّ يظهرُ له دليلٌ أو أمارةٌ أرجحُ
(1)
من الأوّل، ولا ينتهي إلى ظهور النّص. فهذا أيضًا
(2)
لا اعتبار به، وإنْ كانَ لو قارنَ لوجب الحكم به؛ لأنَّ الحكمَ بالراجحِ، وإنْ كانَ واجبًا لكن الرجحان حاصلٌ الآن في ظنّه، ولا يدري لو حصل ذلك الاحتمال عنده حالة الحكمِ هلْ يكون عنده راجحًا أو مرجوحًا؟ والاعتبار إنما هو بالرجحان حال الحكم، ولا يلزم من الرجحان في وقت الرجحانُ في وقت غيره؛ لتفاوت الظنون بحسب الأوقات، وما يكون فيها من أمور لا تنحصر يتغير بها الظنّ، ولا يتمكن الظانّ من الجزم بأنّ الظنّ الذي عنده في وقت، لو نظر في وقت آخر لكان مستمرًا، ورجحان الاعتقاد إنما يحصل حالًا فحالًا، وأمّا اعتقاد الرجحان، فقد يكون يعتقد - في وقت قطعًا - رجحانَ أمرٍ عنده في الماضي، وهو
(1)
في (غ): راجح من الأول.
(2)
(أيضًا): ليس في (غ).
من الأمور الوجدانيات
(1)
ليس مما نحن فيه.
نعم
(2)
، سيأتي قسم منه هنا، فاضبط هذا هنا؛ لتنتفع به إذا قلناه.
الثالث: أنْ يظهر دليلٌ أو أمارةٌ تساوي الأوّل فبطريق الأولى لا اعتبار به، وإن كان لو قارن لمنع من الحكم.
وبهذا تعلم أنّ إطلاق من أطلق أنَّه إذا ظهر بعد الحكم ما لو قارن؛ لمنع من الحكم
(3)
بنقض الحكم، ليس بجيد
(4)
.
الرابع: أنْ يظهر نصٌّ، أو إجماع، أو قياس جليّ بخلافه فينقض الحكم؛ لأنَّ ذلك أمرٌ مقطوعٌ به، فلم ينقضه بظنّ، وإنما نَقَضَه بالدليلِ القاطعِ على تقديمِ النّص، والإجماع والقياس الجليّ على الاجتهاد، فهو أمرٌ لو قارنَ العلمَ به لوجب تقديمه قطعًا، فلذلك نُقِضَ به.
الخامس: أنْ يظهر أمر لو قارن لمنع ظنًّا لا قطعًا كبيّنة الداخل فإنّ في
(5)
تقديمها على بيّنة الخارج خلافًا، فهو أمر مظنون مجتهد فيه، ولكنّ الحاكم الذي يراه اجتهادًا أو تقليدًا قاطعٌ بظنّه، ووجوبِ العملِ به، فلو
(1)
هكذا في جميع النسخ. ولعلها من الأمور الوجدانية، أو من أمورِ الوجدانيات. أما هكذا فحسب اطلاعي المتواضع، لا أدري هل تصح لغة أم لا؟
(2)
(نعم) ليس في (ص).
(3)
(وبهذا تعلم أنّ إطلاق من أطلق أنَّه إذا ظهر بعد الحكم ما لو قارن لمنع من الحكم) ساقط من (غ).
(4)
من ترجيحات السبكي وتصحيحاته.
(5)
(في) ليس في (غ).
قارنَ لوجبَ الحكم به، وهو يعلم من نفسه أنَّه إنما يحكم به، فإذا حكم للخارج
(1)
معتقدًا أنَّه لا بينة للداخل، ثمّ جاءت البينة، فقد ظهر أمر لو قارن لمنع ظنًّا، والظنّ السابق معلومٌ الآن. وهذا هو اعتقاد الرجحان الذي أشرنا إليه من قبل.
وقد اختلف الأصحاب ها هنا في النّقض:
فمن ذهب إلى أنَّه لا ينقض؛ فوجهه أنَّه أمرٌ مجتهَدٌ فيه.
ومن قال بالنّقض؛ فوجهه أنَّه عالم بظنّه وبأنّه إنما حكم معتقدًا عدم بينة الخارج فهو قاطع بما كان يمنعه من الحكم لو قارن.
فانظر هذا التفاوت بين المراتب، وأنّ هذه المرتبة بين ظهور النّص، وبين ظهور الدليل الراجح أو المساوي، فلذلك نقض في النّص قطعًا ولم ينقض في الدليل أو الأمارة قطعًا وحصل التردد في هذا على وجهين.
السادس: أنْ يظهر معارض محضّ من غير مرجح.
كما إذا حكم للخارج ببينة، ثمّ جاءت بينة لخارج آخر، فهذه البينة لو قارنت لمنعت الحكم للتعارض.
فإذا ظهرت بعد الحكم؛ فلوالدي - أيده الله تعالى - في المسألة احتمالان:
أحدهما: أنْ يقال إنّه كظهور الأمارة المساوية فلا ينقض به قطعًا.
(1)
في (ص): الخارج.
وأرجحهما عندي، أنّها ليست كالأمارة المساوية؛ لأنَّ مساواة الأمارة المساوية مظنونة، وجاز أنْ تضعف في وقت آخر ويستمر رجحان الأمارة المحكوم بها لعدم الوثوق بالظنون، وجاز أنّها لو لاحت له في
(1)
وقت الحكم لكانت مرجوحة غير مساوية، وأمّا البينة إذا عارضت أخرى فمساواتها معلومة ميؤوس فيها من الترجيح فلا يبقى لاحتمال استمرار ذلك الحكم أو غيره فيرد
(2)
الأمر إلى ما كان عليه قبل الحكم ويقف لقطعنا باستواء الجانبين بخلاف الأمارات التي لا يوثق بحال الظنون فيها فإنّه لو لم يمض الحكم فيها أدّى إلى عدم استمرار الأحكام وأنْ لا يحكم بشيء.
وقد مال والدي - أيده الله تعالى - إلى ترجيح الأوّل. وقال: لم أجد في كلام الأصحاب إلى الآن ما أعْتَضِد به في الجزمِ بأحدهما، غير أني أميلُ إلى عدمِ النقضِ، وأنَّ الحاكمَ لا يحكمُ ولا ينقض إلَّا بمستند.
ولك أنْ تقول: ظهورنا يقطع بمساواته مستند، وقد تخلّص
(3)
من هذا أنّ العلم بمقارنة ما يقطع بتقديمه على مستند الحكم موجب لنقضه قطعًا، والعلم بمقارنة ما يظنّ تقديمه فيه وجهان كبينة الداخل، والعلم بمقارنة ما يمنع الحكم ويوجب التوقف فيه الاحتمالان المذكوران. وهذا هو القسم السادس
(4)
(1)
(في) ليس في (غ).
(2)
في (غ): فتردد.
(3)
في (ت): تلخص.
(4)
أن يظهر معارض محضّ من غير مرجح.
والذي قبله الخامس
(1)
والذي قبله الرابع
(2)
والثلاثة الأوّل لا نقض فيها قطعًا.
أمّا الأوّل
(3)
؛ فللعلم بعدم المقارنة.
وأمّا الثاني
(4)
والثالث
(5)
؛ فللشك فيها وعدم استقرار الأحكام.
(1)
أن يظهر أمر لو قارن لمنع ظنا لا قطعًا كبينة الداخل.
(2)
أن يظهر نصّ أو إجماع أو قياس جلي بخلافه فينقض الحكم.
(3)
وهو أنْ يَكونَ أمرًا متجدِدًا لم يكنْ حالَةَ الحكْمِ.
(4)
أنْ يحكم باجتهاده لدليلٍ أو أمارةٍ، ثمّ يظهرُ له دليلٌ أو أمارةٌ أرجحُ من الأوّل، ولا ينتهي إلى ظهور النّص.
(5)
أنْ يظهر دليلٌ أو أمارةٌ تساوي الأوّل فبطريق الأولى لا اعتبار به، وإن كان لو قارن لمنع من الحكم.
الباب الثاني: الإفتاء