المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزت دمشق - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزت دمشق

-156 -

‌كيف قابلت عبد الحميد السراج

بعد الخطبة التي هزّت دمشق

لست أستطيع أن أحصي الخطب التي ألقيتها، بل لقد نسيت أكثرها فلا أذكر موضوعاتها ولا زمانها ولا مكانها ولا أذكر ما قلت فيها، ولكن هذه الخطبة بقيَت لأني كتبتها وقرأتها مكتوبة من الورق، لم أرتجلها ارتجالاً كما أصنع دائماً. ثم إنها قريبة العهد ما مرّ عليها ربع قرن، وإنها كانت عميقة الأثر ظاهرة النتائج، وإنها لم تُنشَر من قبلُ في صحيفة ولا مجلّة ولا كتاب، لذلك أستأذنكم أن أتمها في هذه الحلقة، أمشي من حيث وقفت في التي قبلها، فمن اهتمّ بها فليضمّها إليها.

* * *

هل يجرؤ عاقل واحد في الدنيا أن يقول بأن الشابّ لا يفكّر وهو ينظر إلى البنت ترقص أمامه تفكيراً جنسياً، وأنها هي لا تفكّر فيه تفكيراً جنسياً، وأنه لا يتخيلها في أحلامه بعد الحفلة، وأنه لا يسعى إلى الاتصال بها ولا تحنّ هي إلى الاتصال به؟

والمعلّم، المعلّم الشابّ الأجنبي الذي يعلّمها تحريك

ص: 5

الساق وهزّ الوسط وتكسير الأجفان، ويلقّنها الغنج والدلال وتلك الأحوال، التي هي عماد الرقص وهي شروطه وأركانه

هذا المعلم لا يفكّر فيها هو الآخر ولا تفكّر هي فيه، ولا يكون اجتماعها به إلاّ نظيفاً شريفاً عفيفاً خالياً من كلّ خطر، كاجتماعها بأبيها وأمها وأخيها وعمّها؟

هذا مع العلم بأن ذلك كلّه حرام. حرام ولو لم يكن فيه خطر ولو لم ينشأ عنه ضرر، حرام حرام. ومن قال إنه حلال كفر وخرج من دين الإسلام، ومن سكت عنه وهو يقدر على إنكاره كان شيطاناً أخرس، ومن حبّذه ودعا إليه كان شيطاناً ناطقاً. وإذا لم يُنكِره أحد في الأمّة صرنا كبني إسرائيل، الأمّة التي لُعنت على لسان داود وعيسى بن مريم. فأنا أُنكِره بقلمي ولساني لأني لا أملك إلاّ قلمي ولساني، أنكره لأدفع عني وعنكم لعنة الله.

وأنا أسأل: ماذا يريد هؤلاء من تعليم الطالبات الرقص بدلاً من تعليمهنّ العلم والخلق؟ إن تسعمئة وتسعة وتسعين من كل ألف من أهل هذا الإقليم (سوريا) لا يرون في الرقص إلاّ شيئاً حقيراً ساقطاً ويُؤثرون الموت لبناتهم عن أن ينشأن رقّاصات، ويلعنون الأدب والفنّ إن كان في الأدب أو في الفنّ ضياع ذرّة واحدة من أعراض بناتهنّ. فلا تهولوا علينا باسم الأدب والفنّ ولا باسم الرياضة التي تقوّي الجسد، فلا خير في قوّة الجسد إن لم يكن معها قوّة الدين وقوّة الخلق، ولا بالمقاومة الشعبية لأن الحرب صناعة الرجال، فما لنا نحمّل النساء البندقيات والشباب يملؤون المقاهي والسينمات؟

ص: 6

إننا لا نقبل تكشّف البنات واختلاطهن بالرجال واختلاط الرجل بهن أبداً، مهما كان السبب الذي يتذرّع به هؤلاء. هذه هي أعرافنا، وهذه هي أحكام ديننا، وهذه هي سلائق عروبتنا.

إن الكثرة من أهل هذا الإقليم من المسلمين الذين يحرّم عليهم دينهم كشف شيء من جسد المرأة للأجنبي. وليس الأجنبي الإنكليزي والأميركي والروسي فقط، بل الأجنبي في نظر الشرع كلّ من لم يكن مَحْرَماً للمرأة؛ فابن عمّها أجنبي عنها، وابن خالها، وابن خالتها، وزوج أختها، فضلاً عمّن لم يكن قريباً لها.

والذين يدينون بالنصرانية من أهل هذا الإقليم تحرّم عليهم نصرانيتُهم التبرّجَ والتكشّف والاختلاط كما يحرّمه على المسلم إسلامُه. وكلّهم عرب، وأظهر سمات العروبة الغيرةُ على الأعراض والإغراق في صيانة النساء، وليس في الدنيا عربي لا يغار على حُرَمه ولا يصون عرضه وشرفه.

فمَن هو الذي وضع هذه الخطّة؟ هذه الخطّة التي كانت خفيّة ولكنها ظهرت الآن واضحة بيّنة. لقد زرنا (ونحن خمسون عالماً من علماء سوريا) الوزير كمال الدين حسين وكلّمناه بصراحة وكلمَنا بصراحة، وخرجنا مقتنعين بأنه لا يريد هذا ولا يعمل له. ولقد زرت الرئيس عبد الناصر قبل الوحدة، وكنت أنا والأمير سعيد الجزائري المندوبَين السوريَين في الوفد العربي المشترك (السوري العراقي اللبناني) لنصرة الجزائر، وجلسنا معه في بيته ساعتين وحادثناه من قرب، فلم يقُل لنا إنه وضع هذه الخطّة أو إنه يريدها. وجالست الرئيس السرّاج طويلاً وحادثته على انفراد

ص: 7

لما كان وزيراً للأوقاف، فلم أحسّ منه أنه وضع هذه الخطّة أو أنه يريدها.

وأنتم تعرفون أني لا أتزلّف إلى أحد، ولا أقول هذا الكلام الآن ليصل إليهما لأستغلّه في جلب منفعة لنفسي منهما أو دفع مضرّة عنها، ولكن أقول الحقّ. وليس معنى كلامي هذا أنهما وليّان من أولياء الله ولا أنهما الحسن البصري وسفيان الثوري، ولكن معناه أننا لم نشعر أن الرجلين خصمان للفضيلة ولا للأخلاق. فمن هو إذن الذي وضع هذه الخطّة الشيطانية لإفساد أخلاق الشباب والشابّات؟

وضعها هؤلاء الذين تربّوا في باريس فانطلقوا فيها وراء لذّاتهم انطلاق العطشان الهَيْمان إن رأى الماء، فلما تركوها حنّوا إليها وأرادوا أن ترجع لهم أيامها، وجئنا نحن فسلّمناهم أمر أبنائنا وبناتنا فأرادوا أن يجعلوا دمشق مثل باريس. ونسوا أن هذه الأخلاق هي التي أوْهَت قُوى فرنسا ونخرَت في عظمها نخر السوء فجعلَتها لا تقف أمام جيوش هتلر إلاّ أياماً معدودات.

المسؤول هؤلاء الذين يعملون من وراء الستار. ولكنّ هناك مسؤولاً آخر، هناك من هو مسؤول قبل هؤلاء كلهم، وهذا المسؤول هو الأب. إنهم ما أخذوا بنتاً لترقص إلاّ بموافقة من أبيها، وإنهم ينتقون كل بنت جميلة ليعملوها راقصة في المسارح المدرسية أولاً ثم في غيرها بموافقة من أبيها. والذي نعرفه نحن أن الأب العربي المسلم يطير عقله إن رأى بنته تكلّم شاباً أجنبياً أو تمشي معه، فإن رآها كشفَت أمامه عن ساقها أو هزّت له رجلها

ص: 8

أراق دمها. فما الذي جرى حتى صار الأب يحضر الحفلة التي ترقص فيها بنته كاشفة الفخذين، ويصفّق مع المصفّقين؟

أنا أفهم الدافع الذي يدفع المفسدين إلى الإفساد؛ إنه الشهوة المتسعّرة بين ضلوعهم. إن أعظم فرقة راقصة تكون في أكبر ملهى لا توجد فيها إلاّ راقصتان أو ثلاث من الشابّات الصغيرات، يدخل الناس إليه ويدفعون الأجر الكبير من أجل رؤيتهن. وهذه بطاقة فيها برنامج الملهى الذي ترقص فيه النساء في دمشق استطعت أن أبعث من يأتي به. إن في برنامج الملهى أربع رقصات، وفي بطاقات الحفلات المدرسية في الثانوية الرسمية تسع رقصات، تقوم بها مئة أو مئتان من العذارى الفاتنات من بناتنا بنات ستّ عشرة وسبع عشرة! فما هذه البدعة التي ابتُدعت في هذه الأيام؟ كيف تريدون منهم أن يتركوا هذه المتعة النادرة بعدما وصلوا إليها؟

إذا طالبناهم في دمشق الشام، المدينة العربية المسلمة، بزيادة ساعات الدين في المدارس، قالوا: من أين نأتي بالوقت؟

إن الوقت الذي كان ينبغي أن يُخصَّص لدروس الدين أخذَته الاستعدادات للرقص! إن في كل مدرسة مخبراً للعلوم وملعباً وغرفة للموسيقى وغرفة للرسم، مع أن تصوير ما له روح حرام ومع أن بعض الموسيقى ممّا لا يجوز. ولكن ليس في المدرسة غرفة للصلاة! وقد كنا في المدرسة الثانوية (مكتب عنبر) نصلّي الظهر جميعاً ويصلّي معنا كثير من المدرسين، وكانت صلاة الظهر من جملة أعمال المدرسة وكان الطلاّب مجبَرين عليها، وكان للمدرسة إمام رسمي هو الشيخ أحمد زروق رحمة الله عليه.

ص: 9

فألغينا الصلاة ووضعنا محلّها الرقص!

بدأنا برقص السماح، على من أحياه ونقله من المشايخ الكبار إلى الفتيات الصغار، عليه من الله ما يستحقّ. ثم جزنا بأنواع من الرقص لا أحفظ أسماءها، ثم وصلنا إلى رقص الباليه. ولقد سمعت اليوم خبراً لم أتحقّقه أن مدارس البنات أُبلغت من المرجع الرسمي لزوم تعليم الطالبات رقص الباليه!

هل تعرفون ما هو؟ هو الذي تدع البنت فيه ثيابها المعتادة وتلبس شيئاً كالمطاط يستر جسدها ولكنه يجسّده، فكأنها كاسية عارية، ثم تقفز على رؤوس أصابعها. إنها خطّة شيطانية، كلما رضيتم حلقة منها وسكتّم عليها جاءتكم حلقة أخرى

(وسكتّ هنا سكتة طويلة ثم قلت): لم يبقَ إلاّ أن تُنكَح بناتكم أمام أعينكم!

* * *

إن في المملكة الآن من الذين حضروا هذه الخطبة وسمعوها عدداً كبيراً، فاسألوهم ماذا صنعَت بهم؟ نحن قوم لا يكاد يهزّنا شيء ولا يحرّكنا شيء كالعِرض وما يمسّ العِرض.

هل تريدون أن أحلف لكم أني لما وصلت في الخطبة إلى هذه الجملة كانت قلوب الحاضرين كلها في يدي؛ فلو دعوتهم إلى الهجوم على الموت لهجموا، ولو اعترضَتهم النار لخاضوا لهب النار، أو شفرات السيوف لمشوا على شفرات السيوف. لا لبلاغة كلامي، بل لأن في نفوسهم من الغيرة على الأعراض ما فيها، الغيرة التي كانوا في غفلة عنها فنبّهتهم إليها، وكأنهم قد

ص: 10

نسوا ما كان فذكّرتهم بما كان.

إني لو دعوتهم في تلك اللحظة إلى الثورة لثاروا، ولكني لم أكن يوماً ممّن يدفع إلى الثورة التي تراق فيها الدماء وتُزهق الأرواح، ولا ممّن يريد الفساد في الأرض وقطع حبال الأمن. أنا أدعو إلى الله على بيّنة، بالحكمة والموعظة الحسنة. فإذا جاء الجهاد الذي أمر به الله لإعلاء كلمة الله جاهدنا الكفار والمنافقين وأغلظنا عليهم، ولم ندّخر وسعاً ولم نقبل إلاّ بإحدى الحسنيَين: الظفر أو الشهادة.

أمّا النفخ في نار الثورة وأن تكون البلد فوضى وأن يُقتل الأبرياء، فما كنت في يوم من الأيام مَن يصنع هذا أو يدعو إليه. لذلك أضعفت من درجة حرارة الخطبة وحوّلت الموضوع قليلاً من هذه الوجهة، وبرّدت النفوس التي أوقدت فيها هذه النار وقلت:

أمّا الثمرات السامّة لهذه الزّرعة فقد ظهرت بواكيرها في العلم، وستظهر قريباً في الأخلاق. لقد كان من ثمراتها في العلم أن انصرف الطلاّب والطالبات عن الدرس. ومتى يدرسون؟ وفي النهار الغناء والرقص، وفي الليل هذا الرائي الذي جاءنا ولم نكن نعرفه من قبل (التلفزيون)!

فهبط مستوى المناهج، فما كنا نقرؤه في السنة الأولى المتوسّطة لمّا كنا تلاميذ في الثانوية في أوائل العشرينيات من هذا القرن صار يُقرأ الآن في أواخر الدراسة الثانوية، وجاء خبراء التعليم بأمر ما سمعنا به من قبل، هو أن التلميذ الابتدائي لا يسقط

ص: 11

في صفه، بل ينجح من صفّ إلى صفّ (أي من سنة إلى سنة) نجاحاً تلقائياً، قرأ أم لم يقرأ! واخترعوا في العربية نحواً جديداً غير النحو الذي كنا نقرؤه، فنشأ الطلاّب على جهل بالعربية. أمّا الدين فقد نزلوا به أوّلاً فسمّوه تربية دينية، وجعلوه كالتربية البدنية والتربية الفنية ولم يعطوه إلاّ ساعة في الأسبوع، ولمّا ناضلنا وطالبنا منّوا علينا بساعة أخرى.

(والخطبة كما قلت لكم طويلة، لذلك أجتزئ منها بخاتمتها):

إننا نراجع الحكام ونُلِحّ عليهم، لأن إبطال المنكَرات من عمل الحاكمين. نراجع الحكام ليمنعوا اللصّ من أن يسرق منّا عِرضنا وشرفنا. ولكن علينا قبل مراجعة الحكام ليمنعوا اللصّ عنّا أن نغلق نحن أبوابنا وأن نحمي متاعنا حتى لا يدخل اللصّ علينا، والعوامّ يقولون «المال السائب يعلّم الناس السرقة» .

مراجعة الحكام واجبة، ولكنها ليست هي العلاج الشافي ولا الحلّ الأخير، لأن الأمر بأيديكم أنتم، بأيدي الآباء، فإذا أصلح الآباء أنفسهم وعادوا إلى ربهم ووقفوا عند حدود دينهم، وربّوا أولادهم وبناتهم على خوف الله وعلى طاعته، صلحت الأمّة وزالت المفاسد.

لذلك نفتتح اليوم هذا الموسم ونبدأ هذه المحاضرات. إننا نريد تعليم المسلمين أمور دينهم وتلقينهم خوف ربهم

(إلى آخر ما جاء في الخطبة).

* * *

ص: 12

لقد كان أثر هذه الخطبة في الناس أضعافَ ما كُنّا نقدّر لها؛ لقد أشعلَت الحماسة في نفوس الذين استمعوا إليها، ونقلوا ما أحسّوا به إلى غيرهم، فما كان الغد حتى كانت حديث الناس في بيوتهم وفي مجالسهم، ولم يبقَ بعدها إلاّ أن ندعو إلى عمل لا نرغب فيه ولا نأمن عواقبه. فاجتمعنا، ورأيت بعض المشايخ كأنهم قد عتبوا عليّ وغضبوا لأنني لم أخبرهم بهذا الذي نويت أن أقوله ونفّذته وهم لا يدرون به. وكان الاتفاق على أن ألقي محاضرة من جنس ما كنت أقول في برنامج «نور من القرآن» في عشيّات أيام رمضان. لقد كان فيها تنبيه وكان فيها تحذير، وكان فيها بيان للحقّ وكان فيها إنكار للمنكَر، ولكن بأسلوب هادئ، فجئت الآن أصنع ذلك بهذا الأسلوب الثائر المثير.

ورأيت أن من الحكمة أن نهدّئ بعض ما أثرنا، فلجأت إلى العالم الجليل صديقنا الشيخ محمد أبي زهرة رحمة الله عليه، وكان في الشام، فرجوته أن يُلقي هو المحاضرة المقبلة، لأننا وعدنا الناس أن يكون هذا الاجتماع أسبوعياً يتنقّل من مسجد إلى مسجد من مساجد دمشق الكبار. فقبل الرجل جزاه الله خيراً، على أن تكون محاضرة فيها بيان للحقّ وفيها هدوء، وأن تكون بعيدة عن الإثارة وأن تكون خفيفة الحرارة.

وفي حيّ من الأحياء الشعبية القديمة التي كانت في طرف دمشق يُدعى حيّ العقيبة (وكان من قبل ضاحية من ضواحي الشام تُسمّى منزل الأوزاع، وإليها يُنسَب الإمام الأوزاعي)، ذهب مع طائفة من الشباب إلى الاجتماع فوجد -كما خبّرني هو من بعد- حشداً لم يرَ مثله ولم يكن يظنّ (وهذه عبارته) أنه يمكن أن يرى

ص: 13

مثله؛ فالمسجد بصحنه وحرمه والطرق المؤدّية إليه والسقوف المشرفة عليه والساحات القريبة منه، كلها مزدحمة بالناس ليس فيها موطئ قدم لماشٍ ولا مكان يقعد فيه قاعد، وقد مُدّت إليها الأسلاك ونُصبت فيها مكبّرات الصوت ووُضعت فيها المصابيح في الأمكنة التي لا تكفي فيها أضواء الشوارع.

وخبّرني رحمه الله أنه كان يريدها محاضرة علمية هادئة، ولكن هذا الجوّ الحماسي أعداه وهزّه وأثاره، فكانت الخطبة على غير ما كان يقدّر، تحمّس فيها وحمّس، وإن لم يبلغ في ذلك مبلغ ما كنت فيه في الخطبة الأولى.

وكانت عيون الحاكمين منبثَّة بين الناس، وكان المُخبرون بالمئات مختلطين بالحاضرين، فلما رأوا أن ما صنعوه لم يُغنِ عنهم شيئاً قطعوا التيار الكهربائي في وسط الخطبة عن الحيّ كلّه، فَخَفَتَ صوت الخطيب وعمّت الظلمةُ المسجدَ وما حوله. ولكن المفاجأة -كما خبّرني الشيخ رحمه الله أنها لم تمضِ دقيقتان حتى عادت الأنوار كما هي ورجعت الأصوات عالية مجلجلة؛ ذلك أن القوم (ولست أعرف من هم، ولكن الله يعرفهم) قد أعدّوا لكلّ مفاجأة متوقَّعة عدّتها وهيّؤوا محرّكات لوصل ما يمكن أن ينقطع من التيار، ونجحَت خطتهم نجاحاً عجيباً.

وكان الأسبوع الثالث في المسجد المعروف باسم جامع زيد ابن ثابت، وهو في الطرف الثاني من أطراف دمشق. وكان مدرسة شرعية يقوم عليها شيخ من أتقى الشيوخ العاملين لله، الذين تجرّدوا من حبّ الدنيا ومن الرغبة في الجاه، وأخلصوا في دينهم وابتغوا

ص: 14

ثواب ربهم لا يبتغون غيره، هو الشيخ عبد الكريم الرفاعي.

وذهبت إلى هذا الاجتماع وصعدت المنبر، فقلت كلاماً لم أكتبه كما كتبت الخطبة الأولى بل انطلقت فيه -على عادتي- أرتجل الكلام ارتجالاً، ولكنني أذكر معاني ما قلت وإن لم أحفظ ألفاظه. قلت:

إن الناس يتساءلون: ما الذي دفع المشايخ إلى إقامة هذا الأسبوع؟ ماذا يريد المشايخ؟ هل يريد المشايخ أن يستلموا الحكم؟ هل يريد المشايخ أن يُحدِثوا في البلد ثورة؟ وأنا أؤكّد لكم أنه ما دفع المشايخَ إلى ما صنعوا أحدٌ، ولا يريدون سياسة ولا رياسة، وما دفعهم إلى ما عملوا رغبةٌ في منصب ولا في مال، إنما دفعَتهم إلى ذلك غيرتهم على دينهم والعهدُ الذي أخذه الله على أهل العلم أن يبيّنوه للناس ولا يكتموه.

لا يريد المشايخ منكم شيئاً. إنما يريدون أن يحموكم من عذاب ربكم، إنما يريدون أن تسلم لكم آخرتكم، إنما يريدون طهارة أبنائكم وبناتكم. وطريقُهم له بداية وله نهاية، فبدايته الإخلاص ونهايته إطاعة الله وإعزاز دينه ونشر علومه وتعريف الناس به. وكل من مشى على هذا الطريق فهو منّا وهو معنا، ونحن مع كل عامل مخلص للإسلام.

ولقد أدركت عهداً كان العلماء فيه هم قادة الشعب وهم مرجعه في أمور دينه وفي أمور دنياه، إن تردّد الناس بين أمرَين رجعوا إلى العالِم فأرشدهم إلى أرضى الأمرَين لله وأقربهما إلى رضاه. وإذا اختلف اثنان كان الحَكَم بينهما العالِم، وإن دهم

ص: 15

الناس أمر كان الفزع فيه إلى العالم.

ولقد سمعتم مني في خطبة الاستسقاء من الإذاعة كيف كان الناس لما انقطع المطر واستمرّ الجفاف واحترق النبات يرجعون إلى الإمام النووي في دار الحديث، فيدعو العلماء ويبيّن للناس ما ينبغي أن يصنعوا (وسأحدث إن شاء الله حديث صلاة الاستسقاء التي دعوت إليها أيام الوحدة بعد انقطاع المطر ثلاث سنين، وكيف تجلّى الله برحمته فأمطرت السماء).

* * *

لقد اهتمّت الحكومة ورجالها بهذا الموسم وما أُلقِيَ فيه من خطب، ولكن لم يَدْعُني أحدٌ منهم ولم يسألني سائل ماذا صنعت. وكان السرّاج يومئذ رئيس الحكومة، حكومة الإقليم الشمالي، أي سوريا أيام الوحدة. فكان يأتيني من يحثّني على لقائه فأقول: إن دعاني أجبته، وإن لم يدعُني فلا حاجة لي بلقائه.

حتى اقتنعت يوماً بأن لقاءه ينفع المسلمين. وكان الوسيط بيني وبينه مدير دائرة الإفتاء الشيخ فخر الدين الحسني، ولا يزال حياً فاسألوه. فرجوته أن يطلب لي موعداً من السراج. وكان طلب الموعد يتأخّر جوابه أسبوعاً أو أكثر من ذلك، فلما طلبت الموعد في صلاة الظهر رجع إليّ بالجواب بالموافقة على أن ألقاه في منتصف الساعة الثانية (أي الواحدة والنصف).

فذهبت إليه مع الشيخ فخري، وقلت له: إن لي حاجة أعرضها قبل أن أبدأ الحديث، هي أنني اشتغلت في عمري

ص: 16

بمهنتين: مهنة التعليم ومهنة القضاء، وكلا المهنتين بعيد عن أساليب السياسة وعن طرائق الدبلوماسيين، فطلبي أن تسمح لي أن أتكلم على سجيّتي وأن أقول ما في نفسي، ولك عليّ عهد الله الذي هو المطّلع على قلبي على ألاّ أقول لك إلاّ الحقّ.

قال: تفضّل. وتكلّمت، وقلت له أكثر ممّا قلت في الخطبة على المنبر، بيّنت له ما يصنع موظفو وزارة المعارف بالطلاّب والطالبات، وشرحت له ما نراه من الانحرافات، ونصحت له كما أمر الرسول ‘ طلبةَ العلم أن ينصحوا للحاكمين كما ينصحون لعامة المسلمين

وهو ساكت لا يتكلّم ولا يبدو على وجهه رضا ولا سخط ولا استزادة من كلامي ولا ملل منه. حتى انقضت ثلاثة أرباع الساعة، وأنا أتكلّم وأنظر إلى الساعة في يدي. ولم يبقَ عندي ما أقول فسكتّ، وبقي ساكتاً، فقلت له: هل تأذن لنا بالانصراف؟ فوقف يودّعنا، وكأنه همّ بأن يمشي معنا فعزمت عليه أن يبقى في مكانه، وما كنت أدري هل كان سيمشي معنا يودّعنا حقيقة أم قد أوهمَنا بذلك؟

فلما خرجت قلت للشيخ فخري (وهو كما قلت لكم حيّ فاسألوه): هل تراه غضب من كلامي؟ قال: لا أدري. قلت هل تراه وافق عليه وسُرّ به؟ قال: لا أدري؟

ولم يقُل خلال الجلسة كلها إلاّ جملتين؛ جملة قال فيها إنه كان يستمع أيام رمضان كلها إلى أحاديثي «نور من القرآن» ، وكان ينتبه إلى كل ما يجيء فيها ولكنه يسكت عنه لاعتقاده حسن نيّتي. والجملة الثانية كانت عتاباً على كلمة صدرَت مني لما خطبت في

ص: 17

مسجد زيد بن ثابت إذ قلت: هذا منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحين أقوم عليه تكون قدمي أرفع من أعلى الرؤوس.

وكرّر كلمة «أعلى الرؤوس» ، فتغابيت وقلت له: الناس في المسجد يقعدون على الأرض وأعلى رأس يرتفع عنها سبعين معشاراً (سنتيمتراً)، والمنبر علوّه ثلاثة أمتار.

فنظر إليّ نظرة من يقول إنه فهمها ولم يصدّقها، ولكنه سكت عنها، ولاحت على شفتيه شبه ابتسامة.

* * *

ص: 18