المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2) - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

-179 -

‌ملاحظات عن المحاماة والمحامين

والقضاء والقضاة (2)

ختمتُ الحلقة الماضية بخبر المحامي الذي دافع عن قاتل زوجته فزعم للمحكمة أنهما اتفقا على أن يقتل نفسه ثم يقتلها، وسحرهم بيانه وبلاغة لسانه فلم ينتبهوا إلى أن ذلك مستحيل، وقلت بأنني نسيت اسمه. لقد ذكرت اسمه الآن، وهو هنري روبير، وهو أحد المحامين العظام في فرنسا، وهو تلميذ المحامي لاشو الذي كان يقول عن نفسه «أنا الدفاع» ، والذي أنصح كل راغب في المحاماة يريد الصورة الكاملة للمحامي الناجح أن يقرأ وصفه الذي كتبه المحامي السياسي الخطيب غامبتا.

ولكن روبير لم يكن يتبع أسلوب لاشو الذي كان دفاعه شيئاً بين التمثيل المسرحي والتقرير القضائي، فيه المنطق ومعه الدليل، ولكنه يأتي به في ثوب من العبارات الطنّانة والجمل المدوّية، يتصرف بصوته فيشدّه حتى يصير كأنه مناجاة الأحبّة ومناغاة العُشّاق. أما روبير فكان يعرض الحقيقة عارية بلا أثواب، يُلقي دفاعه إلقاء سريعاً متتابع الجمل متلاحق الألفاظ، كأنه يخشى ألاّ

ص: 341

يتسع له وقته فهو يتدارك أكثر القول بأقلّ الزمان. ولاشو تلميذ هوغو، فكتور هوغو الذي قال عنه شاعر النيل حافظ إبراهيم:

أعجميٌّ كادَ يعلو نجمُه

في سماءِ الشّعرِ نجمَ العَرَبِ

ولم يكن هوغو محامياً له مكتب محاماة وعلى باب مكتبه لوحة تدلّ عليه وتُرشِد إليه، ولا كان اسمه مسجَّلاً في نقابة المحامين، ولكن له -على ذلك- مرافعات تصعد حتى تقف على ذروة البلاغة، كدفاعه عن ولده شارل أمام محكمة الجنايات.

ولقد خطر لي وأنا أكتب هذه الذكريات أن أعود إلى هذا الدفاع فأقرأه من جديد، فوجدتُه في الصفحة 439 من كتابه «قبل المنفى» ، واستنجدتُ بما بقي عندي من المعرفة باللغة الفرنسية، فوجدتُ ما بقي قليلاً، لأنني لم أفتح كتاباً فرنسياً منذ نلت البكالوريا سنة 1927، بعد أن درسنا تلك اللغة قواعدها وأدبها كدراسة أبنائها، وعرفنا من أدبها، من أخبار كتّابها وشعرائها، مثل الذي كانوا يعرفون. ولكنّ مرّ الأيام وكرّ الليالي يُنسي المرءَ ما كان يحفظه.

وجدتها مرافعة رائعة وإن لم أكن معه في موضوعها، لأن موضوعها طلب إلغاء عقوبة القتل (التي يدعوها الناس «الإعدام»، مع أن الإعدام هو الفقر). والدول التي ألغت هذه العقوبة عادت فأقرّتها، أو هي تعمل على إقرارها، لأن «القتل أنفى للقتل» ، {وَلَكُم في القِصَاصِ حَياةٌ يا أولي الألْبابِ} . وأين أولو الألباب؟

ص: 342

وتمنّيت أن يأتي من يترجم هذه المرافعات العظيمة (كما نُقلت معاني تأبين فولتير للمنفلوطي فكتبها بقلمه، فكانت قطعة أدبية فيها نموذج كامل للأسلوب الخطابي)، كمرافعات برييه الذي يكاد يكون أكبر محامٍ في تاريخ القضاء الفرنسي، وهو الذي دافع عن شاتوبريان ضدّ الملك لويس فيليب، وهو الذي أنقذ من الموت لويس نابليون الذي صار من بعدُ نابليون الثالث، ثم دفن مجده على يد بسمارك في حرب السبعين.

ومرافعات باربو ولابوري الذي دافع عن الكاتب الفرنسي إميل زولا في قصّة اليهودي دريغوس، القضية التي شغلت فرنسا يومئذ مدّة من الزمان، ذلك لمّا كتب زولا مقاله المشهور «أنا أتّهم» . ومرافعات والدكروسو وتوريز وشارل شني، والمحامين الذين وصلوا إلى كرسي رئاسة الجمهورية مثل بوانكاره وفيفاني.

وأن يسمع مرافعات المحامين العظام في مصر، وكان منهم يوماً مكرم عبيد وعبد العزيز فهمي ولطفي جمعة، ومنهم المحامي الكبير الهلباوي، وإن لم تستطع أمجاده الكثيرة أن تمحو اللطخة التي تركتها في صحيفته «دنشواي» ، كما أن قضية دنشواي نفسها لطخة عار في التاريخ البريطاني.

* * *

وأنا لو دخلت باب الكلام عن المحاماة وأهلها لم أستطع الخروج منه ولا العودة إلى ذكرياتي. فلماذا إذن قلت ما قلت، وما أنا من المحامين ولا كنت قاضياً في محكمة جنائية ولا في دعوى سياسية أسمع فيها مرافعات هؤلاء المحامين؟ لماذا صنعت ذلك؟

ص: 343

صنعته لأمرين: الأول أني كنت أتمنّى أن أكون محامياً في إحدى تلك القضايا، إذن لَجئتُ بالعجب العجاب ولتركت فيها قطعاً من الآداب الخوالد، لأني أملك بحمد الله كل أسباب النجاح فيها. ولا تعجبوا مني ولا تلوموني إن أشرتُ إليها، فإنما أذكرها تحدّثاً بنعم الله لا تعالياً على عباد الله، وإني لأملك بحمد الله سرعة البادرة والجواب الحاضر، وصوتاً قوياً مؤثراً أستطيع أن أتصرف به، وكل ذلك من شروط النجاح في المحاماة. على أنها أمنيّة من الأماني، وقد تختلط الأمنيات بالذكريات.

والثاني أن يكون فيما أكتب درس نافع للمحامين المبتدئين، لأن المحاماة إن كانت دفاعاً عن محقّ وردعاً لمُبطِل واقترنت بنية الثواب كانت من صالح الأعمال.

وأنا أُقرّ آسفاً أني اختصمت مع طائفة من المحامين لمّا كنت قاضياً في محكمة دمشق. من ذلك أنه كان عندنا محام معروف، شيخ أنيق الثياب قويّ جداً في المادة الفقهية والقانونية، ثقيل جداً على قلوب القضاة، لا يرعى لهم حرمتهم بل ربما ردّ عليهم رداً غير كريم، هو «خ. ق.» ، ثم يُملي هذا الردّ على كاتب الضبط فيسجّله في صفحاته! وكان الذي جرأه على ذلك أن بعض مَن كان يقف أمامهم من القضاة كانوا ضعافاً في نفوسهم وفي اطّلاعهم، وكان هو على اطّلاع واسع، وكان يدرس قضاياه درساً حسناً ويُعدّ دفاعه إعداداً جيداً. ولقد عرفتُ خبره قبل أن أقابله فحاربته بمثل سلاحه؛ فدرست الدعوى التي يرافع فيها دراسة شاملة كاملة، حتى إنني لم أدَع فيها ورقة لم أنظر فيها. وأعددتُ قراراتي وأيّدتها بالنصوص القانونية والنقول الشرعية، فلما سمع أول واحد منها

ص: 344

لم يستطع أن يقول شيئاً، وأراد حفظاً لمكانته واتّباعاً لعادته أن يُملي على كاتب الضبط شيئاً، فقلت له: لا، إن ضبط المحاكمة ملك للقاضي لا يدوَّن فيه إلاّ ما يمليه هو أو يأذن بتدوينه، فإن كان عندك شيء فقله شفاهاً أو اكتبه كتابة.

وواضح أن هذا كله في غير القرار النهائي، لأن القرار النهائي الذي يفصل في الدعوى لا يستطيع أحد من الخصوم أن يردّ عليه بل يرفع الدعوى إلى محكمة أعلى.

ومحامٍ آخر هو «ف. م.» ، وكان سليط اللسان غير مهذّب اللفظ، وكان أحد اثنين في مجلس النوّاب أقامهما الحزب الوطني ليردّا بسفاهتهما وبذاءة منطقهما وصفاقة وجهيهما الهجوم عليه. جاء يقف أمامي، وشرع يجرّب أسلوبه معي يريد أن يُخيفني، وفتح الحاضرون آذانهم ينتظرون نتائج هذه المعركة بينه وبيني. فقلت في نفسي: إن كان سفيهاً فأنا أحفظ نصف أهاجي الشعراء، فإن كانت مباراة بالسباب فأنا أقدَر عليها منه، وإن كانت مناقشة قانونية فأنا أعرَف بالقانون منه، وإن كان يعتزّ بأنصاره من شباب الحزب فأنا عندي من بقايا الشباب الذين كانوا يعملون معي لمّا كنت رئيس اللجنة العليا للطلاب من يأكلهم بلا ملح، ولي بحمد الله من الشعبية ومن نصرة كبار المشايخ والعلماء ما يقوّيني عليه. وإن قابلته في المكان المنقطع كنت أقوى منه جسداً واستطعت أن أدفع أذاه عني، فعلامَ أدعه يجرب فيّ سفاهته؟ وكان لي معه موقف لم أخالف به القانون ولم أخرج به عن حدود الأدب، ولكن أرَيتُه كيف يكون تأديب السفهاء وصغّرتُ إليه نفسه حتى صار هو يخجل بها، ولم يعُد بعدها إلى شيء ممّا يُنكِره عليه غيري.

ص: 345

وجاءنا لمّا سقطَت فلسطين سنة 1948 محامٍ فلسطيني قوي اسمه «س. ع.» يمشي على طريق المحامي الأول الذي حدّثتكم عنه. حضر في دعوى لامرأة من دمشق متزوجة بأفغاني في كابول، وكلّفته أثناء المحاكمة أن يأتي بشهود، فأبرز قائمة بأربعة شهود وطلب استنابة قُضاة بلادهم لسماع شهاداتهم: واحد في كابول في الأفغان وآخر في البرازيل والثالث في بومباي بالهند والرابع في اليمن. فأحسست ببوادر الغضب، ولكنني فكرت: ماذا أستفيد أو تستفيد المدّعية إن أغلظتُ له القول أو أسمعته ما يكره؟ إنه يقصد المماطلة والتطويل لأن وصول الاستنابة إلى البرازيل والأفغان والهند وعودة الجواب منها تستغرق شهراً. وكنت في المواقف الصعبة أتجه بقلبي إلى الله أن يساعدني وأن يُعينني، وجاء العون من الله، فهدَأ الثائرُ من أعصابي واستراحت نفسي، واتخذتُ هذا القرار: لمّا كانت الشهادة لا تكون إلاّ بحضور المشهود عليه وكانت نفقات السفر على طالب الشهادة فقد تَقرّر سؤال المحامي: هل موكِّله مستعدّ لدفع النفقات؟

فقال: إذا وافقَت الجهة المدّعية على السفر فنحن مستعدّون لدفعها. فقررتُ سؤال وكيل المدّعية عن ذلك، وخفت أن يقول لا، وجعلت أفكّر ماذا أفعل إن قالها؟ ففهم عني وقال: نعم، نحن مستعدّون. فقررتُ سؤال غرفة التجارة عن أجور السفر إلى تلك البلاد والإقامة فيها في فندق متوسط المدّةَ التي تستلزمها الشهادة، وتأجيل المحاكمة حتى يَرِد الجواب.

وجاء جواب غرفة التجارة فأعلنته في الجلسة التي بعدها، وإذا هو مبلغ كبير جداً، فكلّفت هذا المحامي إيداعه في صندوق

ص: 346

المحكمة ورفعتُ الجلسة. فجاءني بغير الوجه الذي كان يلقاني به في المحكمة، جاء خاضعاً متذلّلاً يطلب أن أخلّصه من هذه الورطة لأن موكّله حمّله التبعة، فعرضتُ عليه أن يُرضي المدّعية وأن تؤدّى إليها حقوقها وأن يضمن لها ألاّ يعود إلى إيذائها. وكان ذلك، وخرج الخصمان متّفقَين. وهذا ممّا يُحمَد الله عليه.

* * *

وكنت أحرص على النظام وعلى ظهور هيبة القضاء، ولا أدع أحداً مهما علَت منزلته أن يقطع النظام، فاتفق مرّة أن اثنين من أكبر المحامين، كلاهما اسمه سعيد وكلاهما علَم من الأعلام في ديار الشام، الأول كان أستاذاً لنا في كلية الحقوق وكان مرّة وزيراً، وهو أقدر محام مدني في بلادنا ولولا حبسة في لسانه لَما قام له أحد، والثاني صار وزيراً مرات كثيرة وصار رئيساً للوزراء، وكان حسن الهيئة حلو اللسان، ولكنه على استعداد ليمشي مع كل إنسان أو ليمشي ضدّ أي إنسان! فكان من مزاياه أنه يترك الوزارة أو تتركه هي، فيعود في اليوم التالي إلى مكانه في المحكمة محامياً من المحامين كأنه لم يكن أمس وزيراً أو رئيساً للوزراء.

رأيتهما يتهامسان ويضحكان، فقرعتُ خشب القوس أمامي وقلت لهما: هل نسيتما القراءة؟ فتعجّبا، فقلت: هل كتبنا على باب العمارة «القصر العدلي» أم «قهوة الكمال» ؟

وتجرّأ مرّة محام فلسطيني أصله من الشام اسمه «ب. س.» وقال كلاماً لا يليق، فأمرتُه بالسكوت، فزاد في صفاقته وفي جرأته وفي استطالته على المحكمة، فرفعت الجلسة وأمرته

ص: 347

بالخروج فأبى. ورأيت أن الموقف لم يعُد يتحمّل، فلا هو يكفّ عن بذاءته ولا أنا أستطيع أن أُسكِته. وأعترف الآن أن الغضب تملّكني، وإذا غضب القاضي حاد عن طريق الصواب، فأمرت الآذن (الفرّاش) أن يُمسِكه من ربطة عنقه وأن يجرّه جراً حتى يلقيه خارج الباب.

ووجم المحامون، وانتشر الخبر وكبرَت المسألة، وقرّرَت نقابة المحامين (أو كادت تقرّر، نسيت الآن) مقاطعة المحكمة ما دمت أنا فيها. واهتمّت الوزارة واستدعاني الوزير بحضور الأمين العامّ، أي وكيل الوزارة، وهو القاضي الكبير العادل الأستاذ عبد الرؤوف سلطان الذي كنا نسهر عنده ليلة الأربعاء من كل أسبوع. وكان الوزير هو الزعيم الوطني الأستاذ زكي الخطيب، فقال لي بعد كلام طويل: هل ترضى أن أكون أنا الحكَم؟ فقلت له: يا سيدي، إن زكي بك الخطيب هو وزير العدل، وزكي بك الخطيب هو محام واسمه مسجَّل في سجلّ النقابة، وخصومتي أنا مع المحامين. وزكي بك الخطيب هو زعيمنا وأحد قادتنا الذين كنا نمشي وراءهم ونأتمر بأمرهم، وزكي بك الخطيب هو ابن عمّ أمي (لحّاً)، فأيهم الذي يريد أن يكون حكَماً؟ إذا كان القريب أو الزعيم فله أن يأمر وعليّ أن أطيع، وإذا كان الوزير فله كلّ حقّ يمنحه القانون وعليّ كل واجب يُلزِمني به القانون، وإن كان المحامي فليسمح لي أن أقول إن خصومتي مع نقابة المحاماة، أي مع المحامين وهو واحد منهم، فكيف يكون خصماً ويكون حكَماً؟

ولا أريد أن أسرد بقية القصّة، بل يكفي أن أقول إنها انتهت

ص: 348

باعتذار منه وتراجع مني ومصالحة بيني وبين النقابة، وعادت المياه -كما يقولون- إلى مجاريها.

وكانوا يأخذون عليّ أنني لا أدع الخصوم يقولون كل ما يريدون. وعذري أني أسمع كل ما يقال ثم ألخّصه بكلمات، وأصنع مثل ذلك مع المحامين: أثبت بالضبط ما يُفيد الدعوى وأدع ما عداه. فإن ادّعت امرأة مثلاً أنه طلّقها أسأله، فيبدأ قصّة ربما تستمرّ -لو تركتُه- عشر دقائق، يقول: كنا يا سيدي في الدار، وقد تعشّينا رزاً بالفول واللحم وشربنا الشاي، وكان في زيارة دارنا أبو، أبو

أبو إيش؟ الله يلعن الشيطان، نسيت، هذا الذي كان ولده يعمل في وزارة المالية وكانت له دكان في سوق الحميدية

وأمثال هذا الكلام، يُبدئ فيه ويُعيد وهو لا ينفع ولا يُفيد، فأصرخ به: أجب على السؤال فقط: هل طلّقتَ كما تدّعي أم لا؟ ذلك أنه إن قال «نعم» فقد أقرّ وانتهت الدعوى، وإن قال «لا» كلّفتها أن تُثبِت دعواها، وهذا الكلام كله الذي يريد أن يقوله لا أثر له في الدعوى إلاّ أنه يُضيع وقت المحكمة ويؤخّر رؤية الدعاوى.

* * *

وكنا أحياناً نقرّر انتقال المحكمة إلى موضع الخلاف، للكشف على المسكن أو لتقدير القيمة في القضايا الوقفية. وكانت العادة المتّبَعة أن يُعِدّ طالب الكشف طعاماً كثيراً، وأن يجمع وجوهَ القرية إذا كان الكشف في إحدى القرى أو وجوهَ الحيّ إذا كان في

ص: 349

البلد، ويجعلها وليمة للقاضي ولمن معه. فأبطلتُ هذه العادة، وكنت إذا أردت الخروج من المدينة وقفتُ السيارة عند أحد الأفران فأخذت رغيفاً سخناً وقلت لمن معي: لن نأكل شيئاً حتى نرجع ولن نحضر دعوة ولن ندخل داراً لطعام، فمَن خاف منكم الجوع فليصنع مثلي. وآكل الرغيف، ثم أقف على أحد السبل المبثوثة في أرجاء البلد (من أيام الوالي التركي ناظم باشا رحمه الله، يأتي ماؤها من نبع «الفيجة» بارداً ناعشاً كأنه الماء المثلَّج، أو كأنه الثلج المموَّه، ولم أجد مثل ذلك في مدينة من المدن التي مشيت إليها في شرقي الأرض وغربيها) فأشرب منه بكفّي.

وإذا كان بعض المحامين يريد حضور الوليمة فإنني أدَعه وأعود بالسيارة. أما الأجرة المقرَّرة قانوناً على هذا الكشف فكانت أربع ليرات سورية في البلد وعشراً خارجها، والعَشر تعدل بأسعار هذه الأيام ثلاثة ريالات ونصف الريال؛ هذا ما يأخذه القاضي عندما يخرج للكشف.

ولقد وقعَت لي في هذه الكشوف حوادث طريفة فيها تسلية للقارئ، منها أننا ذهبنا يوماً إلى كشف على مسكن في طرف دمشق، وكان معي في السيارة كاتب المحكمة والزوجة وزوجها. فلما وصلنا جاء عسكري قريب للزوجة فأراد أن يتدخّل فمنعته، وكان للعسكري أيام الفرنسيين بعض الرهبة في قلوب الناس، فلما ابتعدنا راجعين قال الزوج: أنا سكتُّ عنه إكراماً لكَ (أي لي أنا) ولولاك لَمصعتُ رقبته. فقلت للسائق: قف. فوقف، وقلت للزوج: أنا لم أرَ في عمري رجلاً «يَمْصع» رقبة آخر وأحب أن أرى هذا المشهد، ولا يضرّني أن أنتظر، فسأدعوه لك حتى

ص: 350

تصنع به ما تريد. وفتحتُ نافذة السيارة ومددتُ رأسي فناديت العسكري.

هنالك تبخّرَت حماسة هذا الرجل، وضاعت جرأته وهربَت شجاعته وجعل يقول: أرجوك أرجوك يا سيدي، أقبّل يدك سامحني، لا توقِعني معه. وأنا ساكت لا أقول شيئاً حتى وصل العسكري، وصار لون وجه الرجل بلون قشرة الليمون، فقلت: يبدو عليك أنك رجل خير ومَن يعمل خيراً يكافئه الله، فاذهب فحاول أن تصلح بينهما، أو الحقنا إلى المحكمة لعلك توفَّق بإقناع قريبتك وزوجها بإزالة الخلاف بينهما.

ولحقَنا وتم الصلح بينهما. أمّا الرجل فما صدّق أنه خلص من هذه الورطة، وأحسب أنه لم يعُد بعدها إلى هذه العنترية الفارغة. والعوامّ عندنا في الشام يقولون إن من يهدّد لا يفعل، والذي يفعل حقيقة لا يهدّد.

وقد وقعت لي أخرى مثلها؛ كنا ذاهبين إلى كشف فاعترضنا سائق «كميون» ، والكميون في لغة أهل الشام عربة طويلة لها ستّة دواليب تحمل عليها وتجرّها ثلاثة من البغال القوية، ويسوقها غالباً ناس لهم ألسنة طويلة لا يتحاشون فاحش القول. فسدّ الطريقَ على سيارتنا، فقلت للسائق:«زَمِّرْ له» ، فالتفت إلينا وبدأ معزوفة (مونولوج) له أول ما له آخر ضمّنه من أنواع الشتائم كل مبتكَر وكل بذيء، والسائق ساكت، حتى إذا بلغ الماء حافة الكأس ولم يعُد للصبر مكان نزل إليه فأمره بأن يسكت، فعاد يسبّ ويشتم، فلكمه تحت فكه لكمة ألقته كومة واحدة على الأرض، فقام

ص: 351

متخاذلاً متذلّلاً وساق أصحابه الثلاثة البغال ومشى من طريقنا.

ومن أعجب ما لقيت أن عندنا قريتين عُرف أهلهما بالقوة والشدة، قرية رَنْكوس التابعة لدوما وقرية سَرْغايا التي تتبع الزَّبَداني، في الأولى أسرة آل سرسق وفي الثانية أسرة الشمّاط. وليس العجب أن يكون في هذه الأسر رجال أقوياء أو أبطال شجعان، ولكن العجب أنها كانت تأتينا امرأة كاشفة الوجه على عادة تلك القرى، ما أظنها قد جاوزت الخامسة والثلاثين، بارعة الجمال، وهي زعيمة فرقة من هذه الفرق والدعاوى بينها وبين خصومها مستمرّة، وهي تحمل السلاح وتستعمله، فكنا نعجب منها.

فجاءتنا يوماً ابنة أخ لها ما جاوزت العشرين أجمل منها جمالاً وأشجع شجاعة، فذهب معها قاضي الصلح (وكان صديقنا وابن شيخنا الأستاذ المغربي رئيس المجمع العلمي) فلما بلغا الموضع وقع النزاع وبدأ إطلاق الرصاص، فاختبأ هو رحمه الله تحت السيارة وبرزَت هذه البنت التي لم تُكمِل العشرين وسلاحها بيدها تخوض المعركة، تطلب النزال ومواجهة الرجال، وكانت هي الظافرة بهم الغالبة عليهم!

وطرائف أخرى وقعت لنا لا أريد أن أفيض الآن بذكرها، ولعلّ المناسبة تأتي بها يوماً من الأيام.

* * *

ص: 352