الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-180 -
أخبار غير قضائية في محكمة دمشق
جاءتني يوماً معاملة لحصر الإرث، من أصحابها شيخ عجوز كبير السنّ محنيّ الظهر، ترتجف يداه من الكبَر يسيل ريقه من فمه من المرض، فرأفت به وقلت لهم: لماذا كلّفتموه المجيء؟ أنا كنت أذهب إليه. قالوا: ما معنا أجرة السيارة ولا بد من الكشف. قلت: سبحان الله، هل سمعتم من أحد أني أكلّف الناس ما لا يطيقون. إنني أذهب إليكم كما أذهب إلى كثير من أمثالكم لا أرزؤكم شيئاً، وأدفع أجرة السيارة من جيبي.
وأقعدتُه وسألته عن اسمه فقال: مسـ
…
مسـ
…
مسلم. قلت: لا أسألك عن دينك بل عن اسمك. فنطق بحروف مقطعة جاء منها اسم «مسلم وردة» . فدُهشت وقلت: مسلم وردة؟! قال: نعم؛ مسـ
…
مسـ
…
مسلم وردة. قلت: أنت الذي كان
…
واستحييت أن أكمل الجملة. قال: نعم، أنا الذي كان. فقلت في نفسي: لا إله إلا الله.
إنكم لم تعرفوا إلى الآن لماذا دهشت ولماذا تشهّدت. أنا أقول لكم، ليعتبر المغترّ بقوّته المعتزّ بسطوته، وليعلم أنه لا يدوم
في هذه الدنيا غِنى ولا فقر ولا تبقى قوة ولا ضعف، وأنها تُذِلّ العزيز وتُعِزّ الذليل، وتُفقِر الغني وتُغني الفقير، وتُنزِل العالي وتعلو بالذي نزل.
مسلم وردة -يا أيها القراء- اسم كان أهلونا ونحن صغار يخوّفوننا به، فنكفّ عن الحركة ونقف عن الضجيج ونفعل ما نؤمر. كان أحدَ العصاة أيام الأتراك، يعتصم برؤوس الجبال: جبل قاسيون، ومن خلفه جبال مَعْرَبة والتلّ ومن أمامه جبال المِزّة ودُمّر، فيبعثون إليه بالفرقة من الجند فيكسرها وحده ويردّها على أعقابها، وكان يفرض الإتاوة على الأغنياء فلا يملكون منه امتناعاً. انتهت به الحال إلى ما قرأتم.
ولقد أبصرت مرة في الرائي رجلاً ضخم الجسم مُقعَداً على كرسي ذي دواليب، لا يستطيع أن يقف على قدميه ولا يمشي برجليه، قالوا: إنه «طرزان» . طرزان الأصلي الذي كان يراه الناس في الأفلام، يعيش في الغابات مع الوحش يصارع السبع بسكّينه فيغلب السبع، يتخذ حبلاً طويلاً يعلّقه بهَام الأشجار، فيمسك به ثم ينتقل من شجرة إلى شجرة، انتهى به الأمر أن يُربَط بكرسي ذي دواليب!
فمَن لم يعتبر بغيره صار هو العبرةَ لغيره.
* * *
ومن الأخبار غير القضائية أنه كان عندنا في المحكمة دركيّ حمويّ قوي (والدّرَك بين الشرطة ورجال الجيش)، شجاع أمين
متديّن. كان يأتي كل عَشيّة فينام في المحكمة يحرسها ويذهب حين يذهب الليل. جاءني مرة يطلب نقله من المحكمة، فقلت: لماذا؟ قال: يا سيدي أعفِني من ذكر السبب، إني أطلب النقل. قلت: لا بد لهذا الطلب من سبب، فإذا كنتُ أسأت إليك أنا أو أساء إليك أحدٌ بالمحكمة فخبّرني. قال: ما أساء إليّ أحد. قلت: إذن تبقى. قال: لا أستطيع.
وما زلت به أحاوره وأداوره، أفتله بالذروة والغارب كما كان يقول الأولون، حتى أخبرني أنه لا يستطيع البقاء في هذه الدار لأنها «مسكونة». ومعنى أنها «مسكونة» في اصطلاح أهل الشام أن الجنّ تسكنها. قلت: خبّرني، ما الذي رأيته؟ قال: كلما مشيت في الليل أو صعدت درجاً أو نزلت أسمع جرساً يقرع من خلفي. فضحكت وقلت: يا أبا فلان، ما هو عيب عليك، وأنت أنت بطولك وعرضك وشجاعتك المعروفة تقول هذا؟ فانصرف يرحمك الله ودع عنك هذه الأوهام.
وكانت دار المحكمة -كما عرفتم- من أكبر الدور الشامية القديمة، فيها صحن واسع يُفضي إلى صحن، ومداخل ومخارج ومصاعد وأدراج وممرات مستقيمة وملتوية. وكنت أتغدى في المحكمة لأن داري بعيدة، فقد كنت أسكن في الجبل، فإذا انصرف الموظفون بقيت وحدي، وربما اضطجعت على الأريكة بعد الغداء ساعة أو بعض ساعة، وربما بقيت حتى يؤذّن المغرب فأصلّي وأنصرف.
لبثت يوماً حتى أظلم الليل وتأخّر وصول الدركي الحارس،
فسمعت ورائي جرساً، وفي نفسي أنه وهم صوّره لي حديث الدركي. ونزلت الدرَج فسمعت الجرس، وتنبّهت وفتحت أذني فإذا هو جرس حقيقة يُقرَع من خلفي ليس وهماً. فخفت قليلاً، ثم شجّعت نفسي وثبَتّ، ووقفت مكاني ساكناً لا أتحرّك، وجعلت أنظر ورائي فلا أرى شيئاً، فقلت أبقى واقفاً حتى أعرف ما الحكاية. وطال وقوفي، فسمعت الجرس من مكان قريب، فتتبّعت الصوت، وإذا
…
وإذا ماذا؟ هل تحزرون؟ وإذا هي قطة صغيرة لجيران المحكمة في عنقها جرس صغير، تشمّ بقايا الطعام من أثر المراجعين الذين يدخلون المحكمة كل يوم بالمئات، فإذا أحسّت بي هربت وتوارت فلم أعُد أراها.
هذه هي قصة الجنّي الذي أفزع الدركي! وكنا أيام الأتراك نسمّي الدرك «الجِنْدِرْمَة» ، وهي محرَّفة عن الكلمة الفرنسية «جان دارم» أي رجال السلاح. فهل رأيتم كيف أفزعت قطة صغيرة رجلَ السلاح فخاف منها وسلاحه معه؟
* * *
وتأخّرتُ يوماً فقعدت أمام البِركة، وكانت لها نافورة ضخمة يتفجر منها الماء عموداً من البلّور، تتكسر عليه أشعة الشمس حتى كأن فيه -كما قلت من قبل- عشرة آلاف قطعة من الألماس (ولا تقُل: من الماس) تنكسر مياهه وتتمايل، ويكون له خرير شجيّ أحلى في الآذان من المعازف والألحان. فاشتهيت أن تمتلئ البِركة وأن تفيض، فما كانت لتمتلئ، فقمت أنظر أين يذهب هذا الماء
كله، فإذا «الهارب» مفتوح. والهارب كلمة شامية معناها مصرف الماء من البِركة.
وكنت أكتب «كل يوم كلمة صغيرة» ، فجعلت هذا المشهد موضوع كلمة الغد، وكتبت أقول إنها ليست العبرة بكثرة ما يَرِد عليك بل بقلّة ما يخرج منك؛ فمَن كان مورده عشرة آلاف وهو ينفق مثلها لم يبقَ معه شيء، وإن أنفق خمسة بقي معه خمسة، وإن أنفق أحد عشر ألفاً خرج مَديناً بألف.
وقد قرأنا في كتاب المطالعة ونحن صغار هذه الحكمة: «لاتشترِ ما لا تحتاج إليه مهما رَخُص، ولا تدَع ما أنت بحاجة إليه ولو غلا» .
* * *
ووُفّقت مرة إلى صنع شيء ما أظنّ أنه صنعه قبلي أحد، ولعلّه لا يصنعه أحد بعدي.
ذلك أن الشكوى قد كَثُرَت من قلة القضاة الشرعيين ومن ضَعف بعضهم، وأن حملة شهادة الحقوق يُعرِضون عن القضاء الشرعي ولا يُقبِلون عليه. فقلت للوزير (وكان صديقاً لي): أنا أضمن لك قضاة أولي علم ونزاهة ودين وخلق، بشرط. قال ضاحكاً: وما هو هذا الشرط؟ قلت: أن تدع لي اختيارهم وأن يُعيَّن مَن أختار بلا مسابقة ولا تعقيد. قال: هذا يحتاج إلى قانون. قلت: يا سيدي هذا عملك.
ولم يمضِ وقت طويل حتى استدعاني ودفع إليّ تكليفاً
رسمياً باختيار قضاة للشرع على ما طلبتُ وشرطت. وذهبت أسأل وأستقري (ولا تقُل «أستقرئ» بالهمزة). وذكرتُ أنه كان عندي في الثانوية لمّا كنت أدرّس فيها أخوان من آل سلطان، أخوهما الكبير رفيقي الشاعر جميل سلطان رحمه الله، هما نشأة وعبد القادر، كلاهما يصلح للقضاء. فعرضته عليهما، فاستجاب عبد القادر وأبى أخوه. وذهبت وفتّشت عن أمثالهم، أدقّ عليهم أبوابهم دقاً وأعرض عليهم المنصب عرضاً، أسعى إليهم بدلاً من أن يسعوا هم إليّ، حتى جمعت طائفة صالحة، لا أذكر منهم الآن إلاّ الأستاذ عبد القادر سلطان الذي صار مستشاراً في محكمة النقض والأستاذ هشام الخُجَة الذي سمعت أنه صار عضواً في المحكمة العليا.
نجحوا جميعا، لأني عملت على اختيارهم باذلاً جهدي كله لا أبتغي إلاّ ثواب الله، وعملوا هم جادّين مخلصين لا يريدون إلاّ رضا الله، فكتب الله لهم التوفيق.
* * *
لقد عملت في القضاء أكثر من ربع قرن، فما تدخّل يوماً في قضائي رئيسٌ ولا وزير ولا نائب من النوّاب، ولا فتحت لصديق أو قريب باب التدخّل فيه. وقد وقع لي مرة واحدة على عهد رياسة الشيشكلي أن هتف بي (هتف بي: أي كلّمني بالهاتف، أي التلفون) أخوه يوماً يوصيني برجل له دعوى عندي، فحاولت إفهامه بالحسنى أني لا أقبل وساطة ولا تدخّلاً في دعوى من غير طرفَيها أو المحاميَين فيها. فحسب لطفي ضعفاً وجرّب تخويفي بالرئيس الذي هو أخوه، فثار بي الغضب فأغلظت له القول وأغلقت
الهاتف من غير سلام. وذهبت من فوري إلى الوزارة فأعلنت لهم أني مستقيل وأني سأعلن أسباب استقالتي على الناس.
وكان الأمين العامّ للوزارة، أي وكيلها، صديقاً للشيشكلي، فلم أكَد أعود إلى المحكمة حتى فتح عليّ أخو الرئيس مرة أخرى، فهممت أن أقطع المخابرة، وإذا هو يبادرني بالاعتذار ويطلب أن أعتبر الأمر كأن لم يكن. وفهمت من بعدُ أن الأمين العامّ، أي وكيل الوزارة، رفع الأمر فوراً إلى الشيشكلي. وكان الشيشكلي رجلاً عاقلاً، عرفتُه من قرب وقابلته مرات، وكان يملك أعصابه ويحكّم عقله ولا يريد أن يُثير عليه رجلاً له قلم وله لسان، فلام أخاه لوماً شديداً وألزمه أن يعتذر إليّ فوراً.
ورُفعَت إليّ قبل ذلك دعوى لأخت الرئيس شكري بك القوّتلي، أيام كان في ذروة عزّه وقمّة سلطانه، وجاء المدّعى عليه، وهو رجل من آل العطّار، ووجهه منتفخ مُزرَقّ وأثر التعذيب ظاهر عليه والشرطة تحيط به. فقرّرتُ أولاً إخراج الشرطة من قاعة المحاكمة، وطَمْأنتُه إلى أن المحكمة لن تفرّق بين هذه الدعوى وبين غيرها من الدعاوى وأنه لن يجد منها إن شاء الله إلاّ العدالة والمساواة بين الخصمين. وكان ذلك، وسرت فيها كما أسير في الدعاوى كلها، واستعنت بالله فلم أميز دعوى أخت الرئيس عن دعوى أضعف امرأة قروية، فما نظرت فيها إلاّ في موعدها ولا جعلت لها فضلاً على غيرها، وعيّنت لها (وكانت دعوى تفريق) حكمين اثنين من وجهاء البلد ومن علماء التجار (أو من التجار العلماء) لهما منزلة عند الناس، يثق الجميع بهما ويُثنُون عليهما، هما الشيخ موسى الطويل، وسيأتي إن شاء الله كلام كثير عنه،
والشيخ عبد الحميد القَنَواتي، الأستاذ بالكلية الشرعية والعالِم النحوي المعروف. وانتهت الدعوى كما ينتهي غيرها.
* * *
وكنت أمنع النساء السافرات من دخول المحكمة، فوجدت يوماً في مقاعد المحامين امرأة سافرة مكشوفة الشعر بادية النحر وأعالي الصدر، فقلت لها: أما يكفيك أنك خالفت الشرع فتكشّفتِ، وأمرَ المحكمة ألاّ تدخلي فدخلتِ، ثم لم يسَعْك إلاّ أن قعدت في مقاعد المحامين؟ قالت: إنني محامية. وأبرزت بطاقتها، فلما قرأت اسمها وجدت أنها شقيقة أحد أصدقائي القدماء، من الأدباء المعروفين والوزراء الذين ولوا الوزارة مرات كثيرة، جاءت للوكالة عن أخت زميل قديم لنا، كنا معاً ندرس في مدرسة واحدة فاختلف طريقانا، فسلك هو طريقاً غير طريقي وأسّس حزباً كبر ونما حتى صار له الحكم في الشام وفي العراق. ولا أريد أن أزيد في وصفه عما قلت فأكون قد سمّيته، وأنا لا أريد تسميته.
ففتحتُ الجلسة وأثبتّ بالضبط حضورَها بالنيابة عن المدّعية، ثم قرّرتُ هذا القرار: لمّا كان للمحكمة حرمة، وكان من الإخلال بحرمتها أن يأتيها المتقاضون أو وكلاؤهم بثياب يُنكِرها العرف ويراها منافية للآداب العامّة، كأن يجيء المحامي بالتُّبّان (أو بسراويل السباحة) وكأنْ تتكشف المحامية المسلمة، وإبداؤها ما أمر الله بستره أشد من حضور المحامي بالتبان، لذلك تَقرّر إفهامُ الأستاذة المحامية (فلانة) لزومَ حضورها الجلسةَ القادمة
بثياب ساترة يرتضيها الإسلام، وتَقرّر رفع الجلسة وتأجيلها إلى يوم كذا.
فذهبَت ولم تعُد.
* * *
وكنت إذا رأيت بين الحاضرين من تبدو عليه علائم الشرّ أو يُخشى منه الشغب أمرت شرطي المحكمة أن يكون قريباً. فجاءتني يوماً امرأتان مدّعيتان ملفوفتان بالملاءة، صغيرتا الحجم قصيرتا القامة طويلتا اللسان، إحداهما المدّعية والأخرى أمها جاءت معها. وكان زوج المدّعية رجلاً ضخماً تبدو القوة من وجهه ومن عضلاته ومن شواربه المبرومة القائمة كسارية المركب ومن طربوشه المائل زهواً واعتزازاً، فأشرت للشرطي أن يكون قريباً منه.
وشرعت في المحاكمة، فسألت المدّعية الأسئلة المعتادة، ثم تلفّتُّ إليه أسأله عن اسمه فأجاب، فكلّفته أن يُبرِز بطاقته الشخصية، فقال: معها. قلت: وكيف تكون معها وهي بطاقتك؟ قال: شوف يا سيدي. ورفع كمّه عن ساعد ضخم لو لوى به قضيباً من الحديد لالتوى، وإذا عليه أثر ظاهر لعَضّة! قلت: من فعل بك هذا؟ قال: هي وأمها، ضربتني وعضّتني وأخذت مني البطاقة. فقلت لها: لماذا فعلت ذلك؟ فانفتح فمها عن سيل من الشتائم القذرة المنتنة ملأت رائحتها المكان كله واشمأز منها الحاضرون.
وإذا هي امرأة سليطة اللسان بذيئة القول عالية الصوت،
وإذا شيء ما رأيت في عمري مثله. فأشرت للشرطي أن يقف إلى جانبها هي لأن الخطر منها لا منه. ومضيت في المحاكمة حتى انتهت الجلسة، وخرجَت هي وأمها وبقي هو واقفاً، فلم أمنعه لأن المحاكمة علنيّة لمن شاء من الناس أن يدخل فيقف ويستمع، حتى إذا انتهت القضايا كلها ولم يبقَ عندنا شيء وهممت بالقيام قلت له: ماذا تريد؟ قال: لا أريد شيئاً. قلت: لماذا لا تذهب إذن؟ قال: يا سيدي، إنها تربط لي هي وأمها تحت القنطرة.
وكانت المحكمة في حيّ القنوات، ومن بعدها جسر قصير يمرّ فوق النهر وينزل الماشون تحته دركات (أي درجات) ثم يصعدون من الطرف الآخر. وهو يخاف أن يخرج فتهجم عليه المرأتان تحت الجسر فتبطشا به. فضحكت في سرّي ولم أظهر له، وأمرت الشرطي أن يمشي معه حتى يكفّ أذى المرأتين عنه.
وجعلت أعجب من هذا المشهد الذي ما رأيت مثله، لأن المعروف أن النساء ضعيفات وأن الرجل هو القوي وأنهن يَحتَجْنَ إلى حمايته، فإذا أنا أرى رجلاً بطوله وعرضه وعمقه وارتفاعه وعضلاته وشنباته يفزع من امرأتين ضئيلتين!
* * *
وكانت سوريا كلما جاء موسم الحجّ اهتمّ الناس به، وكتبت صحفها عن قضية نقل الحجّاج، وبحثت الحكومة عن ماخرة (بالميم) صالحة لنقلهم وعن متعهد أمين يضمن راحتهم في السفر. وكان لقاضي دمشق الممتاز الرأي الأول في اختيار الباخرة (أو الماخرة) وانتقاء المتعهد. فلما كان الموسم الذي كنت فيه
القاضي الممتاز في دمشق رجع الحجّاج يشكون شكاوى كثيرة من المتعهدين وسوء معاملتهم وإخلالهم بشروط الاتفاق بينهم وبين الحكومة.
وكان من هذه الشروط أنه يرجع عند الاختلاف إلى مجلس تحكيم مؤلَّف من خمسة أعضاء رئيسهم قاضي دمشق، ينتخب المتعهدون اثنين. فاختاروا اثنين من دُهاة الرجال وممن له منزلة وشأن، وهما الشيخ أحمد القاسمي مدير الأوقاف، والمحامي سعيد الغزي الذي ولي -كما قلت- الوزارة مراراً وصار رئيسها مرة أو مرتين، لم أعُد أدري. ففكّرت مَن أختار أنا وأين أجد اثنين من وزنهما ليقفا أمامهما، فهداني الله إلى اختيار اثنين من مستشاري محكمة النقض، قاضيَين من أنزه القُضاة الثقة بهما عامّة، هما الأستاذ عبد الوهاب الطيب والأستاذ منير المالح، وقد ذهبا إلى رحمة الله. ووكّل المتعهّدون عنهم أبرع محامٍ في دمشق في الأمور المدنية، وهو أستاذنا في كلية الحقوق وهو شارح «المجلة» يوم كانت هي القانون المدني في الشام قبل أن يقوم حسني الزعيم بانقلابه المشؤوم وأن يستبدل بالمجلة المستنبطة من شريعة الله القانونَ المدني الذي وضعه عباد الله، لم يستندوا فيه إلى كتاب منزَل ولا إلى سنّة نبي مرسَل.
وعقد مجلس التحكيم سبع عشرة جلسة كل منها في ساعتين أو ثلاث ساعات، سمعنا فيها عشرات من الشهود ممن ذهبوا في تلك السنة إلى الحج وركبوا السفينة، منهم مشايخ وعلماء ومنهم تجار ووجهاء ومنهم جماعة من عامّة الناس، ثم أعلنّا ختام الجلسات وانتظار صدور الحكم.
وقد ظهر لنا كما ظهر لمن كان معنا من جهة المتعهد، أن المخالفة ظاهرة وإن التقصير بَيّن. فلم يكن من العضوين في المجلس اللذين جاء بهما المتعهدون (وهما الأستاذان القاسمي والغزي) إلا أن ينسحبا، ظناً منهما أن انسحابهما يعطّل التحكيم ويمنع صدور الحكم. فقرّرنا القرار الآتي: لمّا كانت الجلسة قد فُتحت بصورة قانونية، وكان انسحاب العضوين بعد انتهاء المحاكمة وسماع الشهود لا يؤثّر في إصدار الحكم، وكان صدور الحكم بالأكثرية كافياً لسريانه بمقتضى الاتفاق بين الحكومة وبين المتعهدين، فقد قرّرنا السير في المحاكمة وإصدار الحكم.
وصدر القرار بإلزام المتعهدين بما ثبت عليهم. وكان مبلغاً كبيراً بحساب تلك الأيام، وخفنا أن يتهربوا من دفعه فأبلغنا صورة القرار لوزارة المالية، ووزارة المالية لا تردّ مالاً يدخل إلى الخزينة ولا تُخرِج مالاً منها إلا بمستند قانوني صحيح. فحُصّل منهم المبلغ ولم يقدروا بعون الله على شيء.
* * *
وطلبني مرة في الهاتف وأنا في المحكمة الوزير البريطاني المفوَّض في دمشق، وكلّمني رجل بالعربية يطلب مني باسم الوزير موعداً ليزورني هو أو الملحق الثقافي نيابة عنه. فقلت لمن يكلّمني: إن المحكمة ليست لها صلة رسمية بالوزير البريطاني، فإن كان له شيء فليرجع إلى وزارة الخارجية. فقال: إنه لا يريد أن يجيء لأمر رسمي بل زيارة خاصّة ليسألني بعض الأسئلة الدينية. فلم أجد بداً من الموافقة، فحدّدتُ له موعداً يزورني فيه.
وقال لي إخواني في المحكمة: عليك أن تقدّم له مع شراب الليمون مثلاً قطعة من الشكلاطة. وسحروني بقولهم فغرّموني ثمن علبة منها دلّوني على نوعها، أذكر أن اسمها «بلاك ماجيك» ، ولم أكن قد سمعت بهذا الاسم من قبل. وفهمتُ أن معنى الكلمة «السحر الأسود» ، أي أن سحرهم إياي كان أسود والعياذ بالله لأنني دفعت فيها ثمناً كان ثقيلاً على كيسي لذلك اليوم.
وجاء في الموعد رجل إنجليزي ومعه ترجمان له، لأني لا أفهم عنه ولا يفهم عني. فسلّم وسلّمت، ثم تكلّم فشرّق في الحديث وغرّب، وأنا أستمع إليه على حذر أحاول أن أدرك ما الذي يريد أن يصل إليه، وإذا هو يريد أن يسألني عن حكم الإسلام في الشيوعية، ففهمت عندئذ ماذا يريد. وكان قد صدر قبل ذلك فتوى من بعض علماء الأزهر بأن الشيوعية مخالفة للإسلام، وكتبت في «الرسالة» أعلّق عليها وأقول إنها فتوى صحيحة، ولكن محاربة الشيوعية لا تكون بإصدار الفتاوى بل بتحقيق العدالة الاجتماعية الإسلامية التي تسدّ الطريق على الشيوعية وعلى غيرها (1).
فقلت له إن الشيوعية والرأسمالية والروس والإنكليز والأمريكان كلهم عدو للإسلام. وترجم له الترجمان هذا الكلام، وختمت الجلسة فانصرف غير مسرور.
وكلمني بعد ذلك بيوم واحد رجل كنت أعرفه في العراق
(1) انظر مقالة «محاربة الشيوعية» في كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).
معلّم رسم، فقال لي إن الملحق الثقافي الروسي يريد هو الآخر أن يزورني. فأخبرته أنه لا شأن لي به ولا بالآخرين وأنهم كلهم عدو، فانصرف عني غير مسرور.
وجعلت أفكر في هذا الحال التي لا يمكن أن تصل إلى أسوأ منها أمة ذات كرامة واستقلال، فجعلت موضع كلمتي الصغيرة في اليوم التالي هذه القصة، ذكرت فيها ما قصصته عليكم ثم قلت:
أين الحكومة لتفتح عينيها لترى ما يصنع هؤلاء الناس وكيف يتصلون برجال منا؟ يزورني أحدهم أول مرة فيكون التعارف، ثم يدعوني فتكون المودة، ثم يتصل الود فتكون الصداقة، ثم أصير جاسوساً وأنا لا أشعر.
وإلاّ فما هو الجاسوس وماذا يصنع أكثر من هذا؟ وهؤلاء الوسطاء، أليسوا منا؟ ألا يُعَدّ عملهم هذا خيانة لنا وعوناً لعدونا علينا؟ ألا تمتدّ إليهم يد القانون. لقد تخلّصت أنا من الرجلين بأني قد تعوّدتُ أن أقول ما يجب أن يُقال ولو خالفت هذه الآداب المايعة التي يسمّونها آداب المجاملة، ولأن الناس قد عرفوا ذلك عني فصاروا يقبلونه مني، ولكن ما كل واحد يستطيع أن يصنع ما صنعت.
فأين الحكومة والعلماء؟ ألا يشعرون أن عليهم واجباً ثقيلاً هو أن يُفهِموا الشباب أن النظام الشيوعي والنظام الرأسمالي ليسا هما كل شيء، ولا يجب حتماً أن نتبع واحداً منهما وأن نكون مطايا لأصحابه، وأن لنا طريقاً مستقلاً، نظاماً كاملاً شاملاً يحلّ مشكلاتنا كلها على طريقتنا نحن، وهو الإسلام. لقد قام من عهد
قريب جداً مسلم فصرح بهذه الحقيقة وسط الكونغرس الأمريكي، هو لياقت علي خان، قبل أن يقوم العلماء المسلمون فيصرّحوا بها في المساجد.
فأين العلماء؟ ومتى نشعر بكرامتنا فلا يطمع فيها كل راغب ولا يستامُنا كل طالب؟ ومتى نعرف ثروتنا فلا نمدّ أيدينا لنشحد (1) المبادئ الاجتماعية ونشحد الأساليب الأدبية كما نشحد الموضات وأدوات الزينة؟ متى نكون رجالاً نأخذ النافع ونرفض الضارّ، ونرى الحقّ حقاً ولو كان مصدره الشرق ونرى الباطل باطلاً ولو كان عليه دمغة أوربا وأميركا؟
متى نعرف قيمة أنفسنا، فلا نذوب ونُمحى إذا وقفنا أمام «المسيو» ولا تنعقد ألسنتنا إذا قال لنا «المستر» ، بل نواجههم مواجهة الرجال نأخذ منهم ونردّ عليهم؟ ومتى تتنبّه الحكومة فتمنع الدبلوماسيين الأجانب ووسطاءهم من الوصول إلى قُضاتها وإلى موظفيها، ومتى تُلزِمهم الاتصال بها من الباب المفتوح وهو وزارة الخارجية، لا الدخول من النوافذ على الموظفين وعلى القضاة وعلى العلماء؟
(إلى آخر الكلمة).
* * *
(1) استعملت كلمة «شحد» كما يستعملها الناس.