المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

-164 -

‌عودة إلى رحلة الشرق

في الطريق إلى أندونيسيا

لي في جدّة ستة منازل مفتَّحةٌ لي أبوابها، يرحّب بي ويُسَرّ إن جئتها أصحابُها: بيوت ثلاث من بناتي وثلاث من حفيداتي وأزواجهن أبنائي وأحبّائي، وتمرّ -مع هذا كله- الشهور وأنا أستثقل أن أذهب من مكّة إلى جدّة وأراها سفرة أحمل هَمّها. والذي بين مكّة وجدّة لا يزيد إلاّ قليلاً عمّا بين طرفَيها أو طرفَي الرّياض، إن كان بيتك في مشرقها وذهبت تزور قريباً لك في مغربها ورجعت إلى حيث بدأت.

هذه هي حالي الآن، فكيف ذهبت يوماً إلى آخر أندونيسيا؟ إلى حيث لم يبقَ بيني وبين سيدني في أستراليا إلا مرحلة واحدة من مراحل سفر الطيارة؟ ثم ذهبت بعدها إلى شمالي أوربا الوسطى، إلى فولندام في هولندا؟ كيف تبدّلَت بي الحال حتى انتهيت إلى هذا المآل؟ إنه الشباب الذي فقدته، الشباب الذي يبكيه الشعراء ولا ينفعهم في ردّه البكاء. وما لذّة العيش إلاّ في الشباب، فهل عرفتم قدره يا من يضيّعه في عبث لا يفيد وفي لهو لا ينفع؟

ص: 123

لقد قطعت الكلام عن الرحلة في الحلقة 146 (التي صدرت يوم 11/ 4/1985)، فهل لي اليوم أن أعود إليها بعدما نسيتموها؟ ومَن من القُرّاء الذي يتابع المقالات المتسلسلة ويعيها ويحفظها؟ على أنه إذا انقطع نظامها واضطرب قوامها، فلعلّي إن شاء الله أعيده حين تصدر الطبعة الثانية من كتابي «الذكريات» ، وقد صدر منه الآن جزءان وجزءان سرعان إن شاء الله ما يصدران (1).

لقد كنت أوّل شامي أَمّ تلك البلاد وبلغ منها ما بلغتُ. وإذا لم أكن أول من زارها فأنا أوّل من كتب عنها وحدّث في الإذاعة فعرّف الناس بها، ولكن الذي حدّثت به قبل ربع قرن كامل وكان جديداً على الناس صار الآن قديماً. وهذه سنّة الله في الكون:

إنّ هذا القديمَ كانَ جديداً

وسيغدو هذا الجديدُ قديما

كان ما قلت وصفاً حياً فصار الآن تاريخاً ماضياً؛ تغيّرت البلاد بعدي، مات كثير ممّن كان فيها ووُلد كثير ممّن لم يكن، وذهب حكام وجاء حكام، فسبحان من يغيّر ولا يتغيّر.

وإذا كان الناس يومئذ قرؤوا ما كتبت أو سمعوه على أنه وصف أديب فاقرؤوه أنتم الآن على أنه تدوين مؤرّخ. وأرجو ألاّ يخلو في الحالَين من منفعة أو متعة، وأهون منافعه أن يملأ وقتكم عن المعاصي والآثام، والنجاة من الإثم نصف الطريق إلى الفوز بالثواب.

* * *

(1) وقد صدرا وبعدهما الخامس، وهذا هو السادس بحمد الله.

ص: 124

وصلنا كراتشي في أواخر آذار (مارس) من سنة 1954، وخرجنا منها بعد شهرين اثنين. وكانت الدنيا في رمضان (1)، وكان السفر قُبَيل المغرب فما هي إلاّ أن أظلم الكون. وكان تحتنا غيوم ثِقال فلم نرَ ونحن في الطيارة إلاّ قليلاً من الأنوار، حتى إذا مضى هزيع من الليل كنا قد قطعنا الهند من غربها إلى شرقها في أعرض بقعة منها، مسافة ألفَي كيل، فوصلنا كَلكُتّا. وربما عدت إلى الكلام عن كلكتا وما رأيت فيها، وربما رجعت فأكملت ذكرياتي عن كراتشي وما بقي في ذهني منها.

وكان منظر كلكتا ليلاً من الجوّ من أروع المناظر. رقعة واسعة جداً تسلسلَت فيها أضواء الشوارع خطوطاً مستقيمة ومنحنية ومتقاطعة، لا يُرى طرفاها. وما ظنّك بمدينة كان فيها قبل ربع قرن خمسة ملايين ونصف المليون؟ فنزلنا في مطارها ساعة أكلنا فيها واسترحنا، ثم قامت الطيارة إلى رانغون عاصمة بورما، ولم تنزل بها، ومضت مشرّقة حتى وصلت بانكوك عاصمة سيام (التي دُعيت الآن تايلاند) وبينها وبين كلكتا مسافة ألف وسبعمئة كيل (كيلومتر). وكانت أراضي سيام (تايلاند) تبدو من الجوّ مزروعة، فيها الأنهار الكثيرة على ضفافها البيوت ذات الطراز الآسيوي، سقوفها مائلات مزخرَفات، وحولها الأشجار صفوفاً على أشكال هندسية، وليست فيها بقعة جرداء.

ولمّا نزلنا وجدنا في المطار حشداً كأنه كما بدا لنا وداع

(1) من هنا إلى آخر هذه الحلقة منقول عن كتاب «في أندونيسيا» ، انظر فصلَي «من بغداد إلى جاكرتا» و «في الملايا» (مجاهد).

ص: 125

عروسَين مسافرَين في شهر العسل، والعقود الكثيرة من الزهر الفوّاح الأريج معلّقة بالأعناق، فيها زهر كزهر الفُلّ مرصوف رصفاً عجيباً كالسجّاد الملوّن ومربوط بشريط له عُقَد فنية على أشكال الفراشات. ونساؤهم ذوات سِحَن صينية ولكنهن وديعات جذّابات، يلبسن ثياباً ضيّقة مشقوقة من الجانبين تكشف عن السيقان والأفخاذ، وهم مجوس لا يرون في ذلك بأساً، والأيدي مكشوفات إلى المناكب. أما الرجال فباللباس الأوربي حُلَلهم بيضاء.

ولم أرَ في المطار -على كثرة مَن كان فيه يومئذ من أهل سيام- إلاّ ضاحكاً أو ضاحكة، يمزحون ويصرخون. ويظهر عليهم أن هذا الانبساط خُلُق دائم فيهم لا يتكلّفونه. هذا ما خُيل إليّ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وقمنا منها فتركنا الهند الصينية من فيتنام وكمبوديا ولاوُس عن شمائلنا، وأصلَ شبه جزيرة الملايا (ماليزيا) عن أيماننا، وطرنا فوق البحر إلى الجنوب خطاً مستقيماً، سلكنا في آخره على الشاطئ الشرقي للملايا (ماليزيا) حتى انتهينا إلى سنغافورة، وذلك مسافة خمسمئة كيل.

ماذا تعرفون عن سنغافورة؟ ما وصفها؟ ما طبيعتها؟ من يسكنها؟ هل تعرفون عن الملايا (ماليزيا) وهي من بلاد المسلمين أهلها من إخوانكم، عُشرَ الذي تعرفونه عن لندن وباريس ونيويورك؟ ذلك لأننا نرى في السينما وفي الرائي (التلفزيون) مشاهد من أوربا وأميركا، ونقرأ في الصحف أخبارها أو نسمعها

ص: 126

ممّن زارها فعاد وحدّثنا عنها، فنعرف الكثير من أنبائها. وهذا الشرق شرقنا، لا نعرف عن أكثر أقطاره إلاّ الأسطر التي قرأناها في درس الجغرافيا فأودعناها أذهاننا ريثما نؤدّي الحساب يوم الامتحان عنها، ثم أغفلناها وأهملناها حتى نسيناها.

وكانت طيارتنا تسير بمقدار وتقف بمقدار، فإذا كان موعد طيرانها في الدقيقة الثالثة من الساعة الخامسة -مثلاً- لم تطِر في الدقيقة الثانية ولا الرابعة. وكان مقدَّراً لها أن تقف في سيام (تايلاند) نصف ساعة، وأنا أنظر إليها وأراها جاثمة على الأرض كأنها عمارة مستقرّة ذات أساس. فضاق صدري ونفد صبري، فكنت أسأل وأبحث فلا يُجاب لي سؤال ولا يُثمِر بحث، والركّاب (وكلهم من الإنكليز إلاّ أنا وصاحبي) لا يتحركون ولا يبالون، ولم يقُم واحدٌ منهم يسأل لِمَ وقفت. فعجبت منهم، وازداد عجبي حتى شككت في نفسي وفيهم، وحسبتُني في متحف الشمع في القاهرة لا في مطار بانكوك في سيام. ثم نادى المنادي إن الطيارة ستقوم، فتحرّكَت تماثيل الشمع ومشت على هينتها (والكلمة فصيحة) كأن لم تتأخر الطيارة ولم يُتوقّع حادث ولم يُخشَ خطر.

وطارت بنا، حتى إذا اقتربنا من سنغافورة (وأصلها «سنغا بورا»، أي ميناء الأسد) نظرت تحتي فإذا أنا أرى خريطة مجسّمة من شبه جزيرة الملايا (ماليزيا) وفي آخرها جزيرة صغيرة جداً محاذية لها هي سنغافورة. ثم لفّت الطيارة ودنَت لتهبط، فرأيت المدينة في نصف الجزيرة الجنوبي، شوارعها فساح وأبنيتها عالية، وفيها عمارتان رفيعتان كأنهما برجان (ولا تنسوا أنني

ص: 127

أصف ما رأيت سنة 1954 لا الآن) والمرفأ فيها واسع وحياله مستودعات ضخمة جداً، ونصف الجزيرة الشمالي حدائق متصلة وبساتين متسلسلة.

* * *

وكنا قد أبرقنا إلى وجيه العرب في سنغافورة، وهو السيد إبراهيم السقاف، فلما نزلنا وجدنا وفداً من العرب لاستقبالنا، وكان بينهم واحد وعشرون مندوباً عربياً عن إحدى وعشرين جمعية عربية، فما استطعت أن أنتظر حتى ينقضي الاستقبال بل سألتهم: لماذا لا تكون لهم جمعية واحدة يمثّلها رجل واحد، ما دام الأصل العربي واحداً والدين الإسلامي واحداً؟!

ودعَونا إلى حفلة شاي صغيرة في مطعم المطار. ففهمنا منهم أن هذه الجزيرة كانت إلى ما قبل مئة وأربعين سنة (صارت الآن مئة وسبعين) حدائق وبساتين ومتنزَّهات وجنّات، فحلّ بها الوباء البشري الذي اسمه الإنكليز، فاشتراها قائدهم رفلس المشهور من سلطان جوهور لتكون ميناء حُراً، ونصب فيها العلم البريطاني في 29/ 1/1819، وشرع يُقيم فيها المدينة التي بلغ عدد سكانها يوم زرناها مليوناً وربع المليون، منهم ثمانمئة ألف من الصينيين، وفيها جالية كبيرة من العرب الحضارمة.

والعجب أن حضرموت، هذه البقعة الصغيرة الفقيرة، قد غزت بأبنائها الشرق كله؛ فما في الملايا ولا في أندونيسيا بلد ليس فيه ناس منهم. وهم تُجّار بارعون وأمناء صادقون ومغامرون شجعان، ولكن عيبهم وعيبنا معشر العرب في كل مكان هو

ص: 128

الانقسام. وما ذاك عن ضعف فينا، بل عن قوّة في نفوسنا وأن كل واحد منّا يرى نفسه رأساً، والرأس يقود ولا ينقاد، لذلك كانت الأعمال الفردية أنجح فينا من الأعمال الجماعية، ولذلك كان في استقبالنا واحد وعشرون مندوباً عربياً عن إحدى وعشرين جمعية عربية.

وكان الكهول منهم بأزياء بلادهم، أي بالعمامة الحجازية التي تكون على القلنسوة المطرّزة المزخرَفة (والتي انقرضَت الآن أو كادت) والجبّة يلبسونها فوق ثيابهم، وهم يحافظون على هذا الزيّ في كل بلد ينزلونه.

وأخذونا إلى فندق صيني ما كدت أدخله وأنشق ريحه حتى رجعت من فوري أبادر الباب، ووقفت في الشارع تحت المطر. وأي مطر؟ إن أمطار البلاد الحارّة أعجوبة في كثرتها وانسكابها. وأنتم تعرفونها في مكّة وفيما حولها، فما ظنّك بمطر سنغافورة وهي قائمة على خطّ الاستواء؟ وكنا ننتظر وهم يتكلّمون عن الفندق المناسب لنا، فما انتهى كلامهم حتى كان الماء قد اخترق ثيابنا وجلودنا وأحسسنا به في عظمنا! ثم أخذونا إلى الفندق الكبير وهو فندق رفلس.

ولم يكن إعراضهم عنه أوّل الأمر جهلاً به، فهو معروف. ثم إن عمارة الفندق هي ملك للسيد إبراهيم السقاف، ولكن صرفونا عنه كرهاً للاسم الذي يحمله وهو اسم القائد رفلس، وكرهاً بالقوم الذين يديرونه وهم من قوم رفلس. والناس في سنغافورة يكرهون «الرفاليس» جميعاً، وحقّ لهم أن يكرهوهم فإنهم أصل

ص: 129

بلائنا، وهم الذين أضاعوا فلسطين علينا، من أيام بلفور الذي وعد وعده الظالم إلى المندوب السامي الذي جاؤونا به وهو من اليهود ليعمل على توطيد أقدام قومه اليهود، إلى تخلّيهم عن فلسطين فجأة بعدما سلّحوا اليهود وجعلوا منهم قوّة عسكرية ومنعونا نحن أن نحمل مسدساً أو سِكّيناً.

أعود إلى الفندق. في الفندق حديقة فخمة فيها من غرائب الأشجار ما لا تجد مثله في غير البلاد الاستوائية من ألوان الزهر ومختلف الورد، وتحمله الأشجار الكبار صيفاً وشتاء، وهو شيء لا مثيل له في بلادنا.

وهو فخم الردهة واسع الغرف، لكن طعامه من أسوأ الطعام. وقد سرقونا فيه من أول ساعة؛ أعطيتهم البذلة لكيّها، والكيّ وصبغ الحذاء يكون عادة في الفنادق الكبيرة مجّاناً محسوباً مع أجرة الفندق أو يكون بأجر زهيد، فأخذوا مني لكيّ البذلة الواحدة نحواً من الجنيه الإسترليني! وكانت كل ليلة لكل واحد منّا بخمسة جنيهات.

وذهبنا ندور في البلدة، فإذا هي جميلة نظيفة بالغة الأناقة، والمواصلات فيها كثيرة وسائلها متعددة أنواعها، من «الركشة» إلى الحافلات (الأوتوبيسات) ذات الطبقتين، والمرفأ فيها من أعظم مرافئ الدنيا وأوسعها. وهو أكبر مركز تجاري وحربي في آسيا أو هو من أكبرها، تقف عليه كل سنة ستّة آلاف سفينة قادمة من عشرين دولة.

فإذا تركت المرفأ وسرتَ في الشارع المُفضي إليه وجدت

ص: 130

عمارة المحكمة العليا، وهي بناء فخم له واجهة قائمة على أعمدة عالية، وعلى ظهر البناء قبّة مشمخرّة من أرفع ما رأيت من القباب، ومن حولها الأبنية البارعة.

وقد بنى الإنكليز في هذه البلاد بناء من ظنّ أنه سيقيم فيه إلى الأبد. ومن روائع الأبنية في الدنيا قصر نائب الملك في دهلي، ودار البلدية في كراتشي، والمحكمة العليا والعمارات العظيمة في بومباي عروس آسيا.

ووراء المدينة من جهة البَرّ البساتين والحدائق، فإذا جُزْتَ بها وجدت بين الجزيرة (أي سنغافورة) وشبه جزيرة الملايا مضيقاً لا يجاوز عرضه عرض نهر دجلة، عليه جسر ثابت يوصل إلى مدينة جوهور.

وأكثر سُكّانها من أهل الصين، الأسواق ممتلئة بهم، تعرفهم من الحروف الصينية على مخازنهم ومن هيئاتهم وملامحهم، ونساؤهم يشاركن الرجال في الأعمال كلها، ولباسهن (هذا الإزار الضيّق) كاد يصل مع الأسف إلى بعض نسائنا، وهُنّ يتّخذن له شِقّين من الجانبَين فتبدو منه أفخاذ المرأة أو أكثرها، وهن يمارسن كل عمل، ولست أدري من يتولى عنهن أمر بيوتهن!

فإن طلبتَ سيارة وجدت مكان السائق امرأة صينية، وإن أردت أن تحلق شعرك وجدت بدل الحلاّقين حلاّقات صينيات، وفي الدكاكين بائعات من أهل الصين

والصينيون شعب تجاري بارع، وأولادهم يحملون السلع في الشوارع يعرضونها على السياح والأجانب بأساليب عجيبة. وقد تعلّق بي صبيّ صيني صغير

ص: 131

ليبيعني علاوة للنظارات لا أحتاج إليها، ولم يزَل بي يكلّمني بلغته كلاماً لا أفهمه ويدلّ بإشارات وجهه وحركات يديه على ما يريد، ثم وثب ليصل إلى وجهي ليضع العلاوة على نظّاراتي! فضحكت منه وأعلنت الهزيمة بعدما سار معي دقائق، واشتريت العلاوة على رغم أنفي، ولم يأخذ مني إلاّ ثلاثة أضعاف ثمنها فقط لا غير!

وسنغافورة ميناء حُرّ مثل هونغ كونغ، ليس فيها مكوس (جمارك)، لذلك تجد فيها منتجات الدنيا كلها، تُباع البضاعة فيها بأقلّ من سعرها على باب المصنع الذي صنعها. وقد اشتريت منها أشياء برُبع ثمنها في جاكرتا وعُشر ثمنها في كراتشي. وقد اشتريت منها حذاءَين أنيقين لا يزال أحدهما عندي، نعلهما من المطّاط ووجههما من المُخمَل ثمن كل منهما ثلاث ليرات سورية (تساوي اليوم، أي وقت كتابة هذه الحلقة، ريالاً واحداً!). ذلك أن كل شيء فيها رخيص، وأرخص ما فيها مصنوعات المطّاط، ومنها ومن أندونيسيا يأتي ثلاثة أخماس مطّاط العالَم، وشجره يُشبِه شجر الأوكالبتوس الذي كان يملأ شوارع دمشق ونسمّيه شجر الكينا، ولكنه أكبر منه ويكون منه غابات، وهم يشقّون جذع الشجرة فيسيل منها ماء قليل، فيجمعونه في أوانٍ ويحملونه إلى المعامل فيعالجونه فيها. ولم أزُر معامله لأرى ما يصنعون به حتى يصير المطّاطَ الذي نعرفه.

وكانت الحركة الوطنية في ماليزيا كلها (وسنغافورة معها) على أشدّها لمّا زرناها، فكان الوطنيون يخرجون ليلاً إلى الغابات يقصدون الشجر ويسيلون ماءها هدراً على رغم ما يتّخذه الإنكليز من وسائل لحراستها، لأن أكثرها ملك لهم أو لمن يلوذ بهم.

ص: 132

والأحزاب الوطنية كثيرة، وأكبرها حزب «أمانو» واسمه الحزب الوطني الاتحادي، ولم يكن يرى التعاون مع الحكومة، يؤيّده الحزب الصيني الكبير وحزب فارتي ناكارا، أي حزب البلاد. وكان رئيس أمانو تنكو عبد الرحمن، وقد لقيته في حفلة فلسطين وسيأتي حديثها.

* * *

وكنا كلما وصلنا بلداً ألقينا فيه الخطب والمحاضرات للتعريف بقضية فلسطين وشرح أدوارها، ثم عملنا على تأليف لجنة لها. وكانت الحفلة قد أُقيمَت في عاصمة جوهور، وهي بلدة صغيرة ما بينها وبين سنغافورة إلاّ هذا الجسر، ليس لها عَظَمة سنغافورة ولا ضخامة بنيانها، ولكنها بلدة شرقية هادئة أحسست فيها بالأنس والاطمئنان.

وكانت الحفلة في نادٍ كبير فيه مسجد واسع، وكانوا قد أوصوني وأنا في الهند أن لا أتكلّم عن الإنكليز في سنغافورة، لأن سنغافورة مستعمَرة إنكليزية وليس من مصلحة القضية -كما قالوا- أن أتكلّم عنهم في بلادٍ الحُكمُ فيها لهم. وسمعت ذلك منهم وكتمت أمراً. فلما كانت الحفلة وقمت لأخطب قلت للحاضرين: لقد أوصوني أن لا أعرض للإنكليز بشيء ولا أذكر شيئاً عمّا عملوه في فلسطين.

وما كاد المترجم ينقل هذه الجملة إلى الحاضرين (وهم بضعة آلاف) حتى ضجّوا ضجّة عظيمة، وتكلّموا بكلام تردّدَت فيه كلمة أمانو. وإذا نحن في نادي حزب أمانو، وهو الحزب الذي

ص: 133

يناوئ الإنكليز ويقاومهم ويناضل لاستقلال البلاد، وإذا الضجّة احتجاج منهم على هذه الوصيّة وطلب وإلحاح على أن أقول عن الإنكليز ما أريد.

وكنت كالقنبلة المعَدّة التي يمسكها عن أن تنفجر مسمار صغير، فسحبوا المسمار وانطلقَت القنبلة. وألقيت خطبة مجلجلة وصفت فيها نكبة فلسطين ومصاب أهلها، وأصبت ووفّق الله، فتكلّمت من قلبي فوقع كلامي في قلوبهم، وأفلتَت الدموع من العيون وعلا صوت البكاء، ونزعَت السيدات -والله- حليّهنّ وقدَّمْنَها، وألقى الرجال بكل ما معهم.

وكان من خطّتنا ألاّ نستلم بأيدينا قرشاً واحداً، فسُلّم ما جمع إلى لجنة انتخبناها فوراً من أهالي البلاد لتُرسِله هي إلى فلسطين.

وأذّن المغرب فقام الحاضرون جميعاً إلى الصلاة، ولقيت رئيس الحزب فإذا هو أمير من الأسرة التي تحكم إحدى السلطنات التي كانت تتقاسم ماليزيا بينها، وهو تنكو عبد الرحمن، وكان شقيق السلطان، ولكنه آثر العمل لمصلحة بلاده وخدمة أمته على أبّهة المُلك وألقاب السراب.

وكان حزب أمانو قد قرّر يوم الحفلة التي خطبتُ فيها مقاطعة الوظائف الحكومية، وكان هذا الأمير رئيس المجلس التشريعي وله راتب ضخم ومنزلة عالية، وكان نائبه الدكتور إسماعيل وزيراً، فاستقالا وتبعهما كلّ الموظفين من حزب أمانو.

* * *

ص: 134