المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخا رغم مساوئه - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخا رغم مساوئه

-176 -

‌ما الذي يجعل تعليم الأمس

أكثر رسوخاً رغم مساوئه

؟

أُتِمّ اليومَ الذي بدأتُه في الحلقة الماضية. ذكريات ممّا مرّ بي في تربية الأولاد، ليست بحثاً جامعياً (أكاديمياً) وليس فيها جديد لا يعرفه القرّاء ولم آتِ فيها بما عجزَت عنه الأوائل، لم أصل إلى قبر توت عنخ آمون ولا كشفت البنسلين، وإنما هي وقائع يقع مثلها لكل أب، ينتفع منها من شاء الانتفاع وربما استمتع بها من أراد الاستمتاع، ومن لم يُرِدهما أو لم يجدهما أضاع ربع ساعة من عمره الذي يحرص أكثرنا على إضاعته فيما لا نفع فيه ولا جدوى منه، كأن أعمارنا -وهي رأس مالنا- عبء على عواتقنا علينا أن نتخفّف منه ما استطعنا!

وبعد، فهل استطعتُ بهذه المقدمة أن أقي نفسي نقد الناقدين، الذين سيقولون إذا قرؤوا ما كتبت: ما له يعلّمنا ما نَعْلمه، ويذكّرنا بما لم ننسَه، ويضيع أوقاتنا في كلام مُعاد مكرور؟

* * *

قلت لكم إن التربية كما أفهمها هي غرس العادات الحسنة،

ص: 299

وإن العادة تثبت بمرّة واحدة كما يقول بعض الفقهاء: فمن لم يدخل في عمره ملهى يصعب عليه دخوله، وإن قدّرنا هذه الصعوبة بالرقم وقلنا بأنها مئة مثلاً، فإن دخله مرّة كانت صعوبة الثانية عشرين بالمئة فقط، وإذا دخل المرّة الثانية قعد في المكان الذي اقتعده أول مرّة.

من تجارِبي أنني كنت أحاول تصحيح عادات بنتي من الصغر، فكان الأهل يعجبون مني حين أقول للطفلة التي لم تكمل الأربع: لا تفتحي فمك عند المضغ، وأحرّك فكّي أمامها كأني آكل وفمي مُغلَق أو آكل أمامها فعلاً من غير أن أفتح فمي. أعلّمها بالقول وبالفعل، وهذه هي سنّة رسول الله عليه الصلاة والسلام، المعلّم الأعظم، حين علّم المسلمين أحكام الصلاة ثم صلّى أمامهم وقال «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» ، وحجّ معهم أو حجّوا معه، وقال لهم بعد أن لقّنهم أحكام الحجّ:«خُذوا عني مناسكَكم» . وأعلّم البنت كيف تغسل يدها بالصابون، فما كانت تعرف كيف تمسكها وكلما أمسكَت بها أفلتت منها، فقلت لها: أمسكيها باليمين وحرّكي أصابعك قليلاً، ثم انقليها إلى الشمال فحرّكي أصابعك، وكرّري ذلك. فتعلّمَت كيف تغسل يدها بالصابون.

وكنت من حين تظهر أسنان الطفلة آتيها بفرشاة صغيرة وأعلّمها كيف تستعملها من فوق لتحت ومن تحت لفوق، لا أشرح ذلك باللسان فأجعل منه معادلة كيمائية أو قاعدة نحوية لا نفع منها ولا داعي إليها، بل أصنعه أمامها وأقول لها: اعملي مثلي. وخيرٌ من ذلك أن أعمله من غير أن آمرها صراحة بعمله، بل أجعلها هي تقلّدني فيه. ثم لمّا كبرَت قليلاً علّمتُها كيف تستعمل

ص: 300

الشوكة والسكين، لا حباً بالعادات الإفرنجية بل تدريباً لها على ما سيواجهها في حياتها، حتى إذا اضطُرّت يوماً إليها كانت قادرة عليها. وليس في هذا مخالفة للسنّة كما قد يتوهم بعض القارئين، فالرسول ‘ استعمل السكين لقطع اللحم، ودينُنا لا يمنعنا من أن نأخذ كل ما فيه مصلحة لنا من عادات غيرنا إن لم يكن قد نهانا عنها ربنا ولم تكن مخالفة لشرعنا.

ونحن في حياتنا اليوم أقرب إلى طرائق الحياة الأجنبية منّا إلى ما كان عليه أجدادنا قبل مئة سنة، في طعامنا وشرابنا وفرش بيوتنا ووسائل انتقالنا وأوضاع مدارسنا ووسائل دفاعنا، يستوي في ذلك إمام المسجد وشيخ القبيلة ومن درس من أولادنا في أوربا وأميركا. لقد داخلَتنا مظاهر هذه الحضارة وغلبت علينا، شئنا أم أبينا. فإذا فتحنا أعيُننا وحكّمنا عقولنا وأخذنا الصالح منها باختيارنا وتركنا السيئ بإرادتنا، خيرٌ لنا من أن نصنع مثل الذي صنعنا يوم واجهَتنا ودخلَت فجأة علينا في أعقاب الحرب الأولى، لمّا كنت أنا في آخر مرحلة من الدراسة الابتدائية، فحاول فريق من مشايخنا نبذها كلها والإعراض عنها ومحاربتها، فما استطاعوا، وفريق من مجدّدينا ومقلّدينا أراد أخذها كلها بخيرها وشرّها، فما أفلحوا.

* * *

وكنت -مع هذه العناية بأكل بنتي وسلوكها ونظافتها- أهتمّ بما هو أولى من ذلك كله وأسمى، وهو غرس بذور الإيمان في قلبها. ولي تجرِبة مع بناتي ذكرتها في الرائي وفي الإذاعة مرات، ولعلكم سمعتموها. وأنا أعلم أن أثقل الكلام الحديث المُعاد،

ص: 301

ولكن عذري إذا أعدت الكلام في الجريدة أو في الرائي أو في الإذاعة أن القارئين والمشاهدين ليسوا نفراً محدودين، ولست أتكلّم في مجلس مغلَق ولكنني أخاطب أقواماً يتبدّلون، يذهب منهم ناس ويأتي ناس.

وكنت أظن أني لم أُسبَق إلى هذه التجرِبة حتى عرفت الصديق النبيل فعلاً، السيد عبد الحميد الخطيب رحمة الله عليه، وعندي عنه ذكريات كثيرة ربما جمعتُها في فصل أكتبه، عرفته في المفوضية السعودية في كراتشي (ولم تكن قد صارت سفارة)، وعرفته في قصره في دُمّر في أوائل الوادي، دمر التي تبعد عن دمشق سبعة أكيال فقط. هذا الرجل الذي جمع الله له الأمرين اللذين بيّن عليه الصلاة والسلام أنه لا حسد (أي لا غبطة) إلاّ فيهما: علم يُنتفَع به وينفع به الناس، فهو يكتب ويؤلّف ويوزع كتبه توزيعاً، ومال ينفق منه على ما يُرضي مَن منحه هذا المال.

سمعت منه أن أباه الشيخ أحمد الخطيب كان يقول له بعضاً ممّا كنت أقوله لبناتي، وكنت أظنّ أني لم أُسبَق إليه. وأقول -بالمناسبة- إنني لمّا كنت أكتب عن أندونيسيا بقيَت عندي بقايا، منها فصل عن الرجال المصلحين الذين ظهروا فيها، ومنهم الشيخ أحمد الخطيب العالِم الأندونيسي الجليل الذي قدم مكّة فاتخذها له موطناً، وأقبل التلاميذ عليه وسعوا إليه وأخذوا من علمه (1).

(1) انظروا قصته في فصل «لمحات من تاريخ الدين والوطنية في أندونيسيا» في كتاب «في أندونيسيا» ، والفصل طويل فانظروا الحديث عن الشيخ أحمد هذا تحت عنوان «الإصلاح الديني في أندونيسيا وأثره في الحياة الاجتماعية» (مجاهد).

ص: 302

فهل الشيخ أحمد هذا هو والد السيد عبد الحميد؟ لست أدري.

كنت أجيء بنتي ببعض الحلوى أو بعض اللُّعَب فأقول لها: "شوفي شو بعث لك الله، الله بعث لك هذا". فلا تنتبه إليّ، يشغلها فرحها بما جئتها به عن التفكير بما أقول لها، حتى إذا كثر ذلك مني ومنها سألَتني يوماً: الله عنده لعب كثير؟ فقلت لها: عنده كثير كثير، عنده أشياء ما لها آخر. عنده لعب وعنده حلوى وعنده كل شيء، فإذا طلبت منه فإنه يعطيك. قالت: أين هو؟ قلت: إنك لا يمكن أن تريه بعينك، ولكنه يسمع كلامك إذا طلبتِ منه، فقولي: يا الله ابعث لي كذا فإنه يبعث لك.

وصرت كلما سمعتها تدعو تطلب شيئاً جئتها به، ففاجأتني يوماً فقالت: بابا، لقد طلبت من الله لعبة فما جاءتني! فقلت لها: الله يعطي الأولاد الذين يحبّهم، والله يحبّ البنت التي تُطيع أمها والتي لا تكذب والتي تكون نظيفة

(وعددت لها بعضاً من الصفات التي تقدر على مثلها) فإذا طلبتِ شيئاً فلم يُعطِك فمعنى ذلك أنك عملت عملاً لا يحبه الله.

وانتقلتُ بها وبأخواتها من بعدها خطوة خطوة، فكنت إذا أحسنَت الواحدة منهن لا أقول لها: أنا سآتيك بشيء جميل أو أجلب لك لعبة ظريفة، بل أقول لها: إن الله سيُدخِلك الجنّة. وإذا عملَت عملاً سيئاً لا أهدّدها بالضرب أو العقوبة مني، بل أقول لها إن الذي يعمل مثل هذا ربنا يحرقه بالنار.

وسألَتني يوماً: ما هي الجنّة؟ قلت لها: الجنّة دار كبيرة جداً وحولها حديقة عظيمة فيها أنواع من اللعب ومن الأُكول الطيّبة

ص: 303

ومن كل شيء تريدينه، وكله بلا ثمن، تأخذين ما شئت، فالأولاد الذين يسمعون كلام أمهاتهم وآبائهم ولا يكذبون ولا يعملون الأعمال القبيحة يُدخِلهم ربنا الجنّة، والكفار الذين لا يعبدون الله ولا يصلّون ولا يصومون يُدخِلهم النار.

ومشيتُ مع الأولاد على هذا الطريق، وكنت أُلقي عليهم النصائح أو المواعظ في كلمة عارضة؛ كنت إذا سمعتها تقول كلاماً سيئاً أقول لها لمّا كبرَت قليلاً: رحم الله امرءاً قال خيراً فغنم أو سكت عن شرّ فسلم. فإذا أمرتها بشيء أقرنه بثواب الله الذي يُعطيه لمن يعمل مثل هذا الشيء الحسن، فنشأَت من الصغر على خوف الله وعلى مراقبته. ولقد قبستُ هذا عن شيخنا الشيخ عيد السفرجلاني رحمه الله، الذي مرّ خبره في هذه الذكريات وكان مدير مدرسة ابتدائية تخرّج فيها أكثر من نعرف من مشايخنا ومعلّمينا، هذا الرجل الذي لبث سبعين سنة وهو يعلّم، كان يلقي علينا الموعظة بكلمة عابرة تدخل آذاننا فتستقرّ في قلوبنا ولا تخرج منها. وأنا إلى الآن أحفظ كثيراً من الحكم والأحكام التي أخذتها منه، حتى وهو يؤدّبنا بالضرب.

وإذا رأت البنت في دار إحدى صديقات الأسرة عندما تزورها مع أمها، إذا رأت امرأة سافرة مثلاً أقول لها: لا تعملي مثلها، هذه لا تسمع كلام الله؛ الله خلقها وأعطاها كل ما تريد وقال لها لا تكشفي جسمك أمام الرجال الأجانب فعصت. فتقول البنت: لماذا لا يعاقبها الله؟ فأقول لها: متى ترتقين يابنتي بالمدرسة من صف إلى صف؟ تقول: بعد الامتحان. أقول لها: نعم، عند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان، وهذا الامتحان في المدرسة امتحان صغير،

ص: 304

التي ترسب في صفها تتألّم أياماً وتُفتضَح أمام أهلها ورفيقاتها، ولكن أمامنا الامتحان الأكبر، امتحان يدخل فيه الناس كلهم تلاميذ، الصغار والكبار والمعلّم والمتعلّم والحاكم والمحكوم، كل مَن مات ودُفن من عهد آدم إلى آخر البشر، فيُحييهم ربهم ويجمعهم في مكان واحد وتُوزَن أعمالهم: فمَن عمل خيراً ومات مؤمناً ذهب إلى الجنّة، ومن كان كافراً أو عمل سيئاً يُعاقَب بالنار، وهنالك الفضيحة تكون أمام البشر كلهم لا أمام الرفاق والأهل فقط، إلخ.

كذلك كنت أُلقي على البنات أصول العقائد وأغرس في قلوبهم بذور الإيمان، بكلمات عارضة تأتي خلال الكلام وبأسلوب يفهمه الصغار، فما كلّ كلام يفهمه الصغار، وأكثر الأحاديث التي تُلقى في الإذاعة على أنها أحاديث أطفال وأكثر الكتب التي تُؤلَّف للأطفال لا يفهمها الأطفال. ذهب حفيدي عمرو مرّة مع أبيه إلى الشركة، وكان صغيراً، فلما رجع سألته: ماذا يعمل أبوك في الشركة؟ قال: عنده ثلاجة كبيرة يضع فيها الأوراق. ثلاجة يضع فيها الأوراق؟! ما هي هذه الثلاجة؟ هي صندوق الحديد.

صندوق الحديد كلمة ليست داخلة في معجم الطفل، لذلك حوّلها إلى ما يعرف. فإذا أردتم أن تكتبوا للأطفال فاجمعوا من أولادكم وأولاد الجيران والأقرباء جماعة منهم، وليتكلّم مَن يريد أن يحدّث الأطفال، فإن تركوا ما هم فيه وانصرفوا عمّا يشغلهم وأقبلوا عليه يستمعون منه يكون قد نجح في حديثه، وإذا تركوه يتكلّم وأقبلوا على ما هم فيه يكون محدّثاً خائباً. والدليل على

ص: 305

ذلك أن أحاديث الأطفال التي تُعرض في الرائي، إذا نظرتَ إليهم وجدتهم بين غافل عن الحديث أو منشغل بغيره أو متحدث مع رفيقه، ذلك لأنهم لا يفهمون ما يُلقى عليهم وما يُقال لهم.

* * *

ولي تجارِب صغيرة أسرد طائفة منها، لعلّ في سردها ما ينفع الآباء أو صغار المربّين.

لقد بكّرتُ في تعليم الأولاد حمل التبعات، فلما كانت بنتي الأولى تدرج، أي تتعلّم المشي ولا تُحسِنه، وكنا نأكل في صحن الدار، أخذتُ طبقاً فيه بقية طعام وقلت لها: لقد صرتِ كبيرة فاحملي هذا إلى المطبخ. فصاحوا جميعاً: إنها تكسره، فقلت: إنها كبيرة. ووضعتُه في يدها ووضعت الثقة في نفسها، فحملَته ومشت وعيني عليها، وكنت متأهّباً، حتى إذا رأيتها مالت إلى السقوط وثبتُ إليها فأمسكت بها.

وكانت هذه البنت تحب السهر، فلا تستطيع أن تأوي إلى فراشها حتى يدخل كل من في الدار في فراشه، ولا تقدر أن تُغمِض عينيها وفي المنزل واحد مفتوحة عيناه. وقد جرّبنا فيها الأساليب وبلونا معها الحيل، فلم ينفع معها ترغيب ولا ترهيب، حتى أخذ السهر من لون خدّيها ومن بريق عينيها ونال من صحّتها. وسألت إخواني فوجدت أكثرهم يلقى من أولادهم من كرههم للنوم وحبهم للسهر مثل الذي ألقى منها، ولم أجد عندهم دواء لهذا الداء. ففكّرت، فخطر لي خاطر.

فقلت لأم البنت: أنا أستطيع أن أحبّب إلى بنتك المنام وأكرّه

ص: 306

إليها السهر، ولكن الدواء مرّ، فهل تعدينني أن لا تأخذك بها رأفة إذا أنا جرّعتها هذا الدواء؟ قالت: نعم. فقلت: عنان! قالت: نعم؟ قلت: سنسهر الليلة، فهل تحبين أن تسهري معنا؟ ففرحت وأشرق وجهها وجعلَت تقفر من الابتهاج وتقول: إي، إي يا بابا. قلت: ولا تتأخرين في القيام إلى المدرسة صباحاً؟ قالت: لا، لا، لا والله، جرّبني. قلت: أسمح لك بالسهر ولكن بشرط واحد. فجزعَت قليلاً وقالت: ما هو؟ قلت: أن لا تنامي حتى أنام أنا. فعاودها الفرح لِما تتصور من مسرّات السهر ومباهجه وقالت: قبلت.

وامتدّت السهرة، وتعمّدت أن أحشد فيها كل ما تحبه البنت من قصص حلوة وألاعيب وأنقال (1)، حتى نعسَت وكادت تنام في مكانها، ثم نامت. فقالت أمها: لقد نامت، أفأحملها إلى سريرها؟ قلت: هيهات، الآن بدأ العلاج، فشدي أعصابك.

وعمدتُ إلى البنت وهززتها حتى أيقظتها، فاستيقظَت مُكرَهة. ومرّت ربع ساعة فعادت إلى المنام، وعُدت إلى إيقاظها. وتكرّر ذلك حتى صارت تتوسل إلي وتقبّل يدي أن أدعها تنام، وأنا أقول لها بدم بارد: لا، السهر أحلى. ألا تحبين السهر؟ حتى قالت: لا، لا أحبه، بدّي أنام

وانطلقت تبكي.

وبرئت من علّة السهر من تلك الليلة.

تجرِبة أخرى: كنت أطالع يوماً في غرفتي فسمعت حواراً بين ابنتي الصغرى بيان (وهي الآن محاضِرة في الجامعة بجدّة،

(1) النّقُل: من العامّي الفصيح، وهو كل ما يُتسلّى به من المكسَّرات وأشباهها.

ص: 307

وكان عمرها أربع سنوات) وبين أمها. قالت البنت: ماما، في غرفة بابا ضبع. قالت لها أمها: ضبع؟! قالت: إي والله تحت كومة المجلاّت. قالت: حرام الكذب يا بنت. قالت: والله، والله، في غرفة باب ضبع. قالت بَسْ (كلمة «بَسْ» فصيحة) يا بنت، لا تكذبي. فبكت البنت وهُرعت إليّ تستشهدني، فضحكت وقلت لأمها: اسأليها ما هو حجم الضبع الذي رأته وما لونه؟ قالت: هو أسود بقدر الأصبع. فغضبَت الأم وقالت لي: كيف تقول إن الأطفال لا يكذبون وهذه البنت تكذب وتُصرّ على الكذب؟ قلت: إنها لم تكذب، فتعالي حتى أريك هذا الضبع. وذهبنا فإذا هو صرصور، فقلت لها: الأولاد مفطورون على الصدق، فإذا كذب الطفل فإنما يكذب لسوء التقدير كما قدّرَت أن الصرصور ضبع، ذلك أنها تسمع أن الضبع حيوان مخيف قبيح ولا تعرف ما هو، فلما رأت الصرصور فخافت منه واستقبحته ظنّته هو الضبع.

أو يكذب الأطفال (وذلك هو الغالب) خوفاً من عقوبة الآباء والأمهات، فلينتبه المربّون والأهلون الذين يقسون على أولادهم: إنهم يدفعونهم إلى الكذب. أما الولد بفطرته فلا يكون إلاّ صادقاً، وما قاله المتنبي:

والظّلمُ مِن شِيَمِ النفوسِ فإنْ تَجِدْ

ذا عفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ

هذا الذي قاله كذب، لأن من شيم النفوس العدل لا الظلم، والخير لا الشر، والإيمان لا الكفر؛ هذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها. ورُبّ بيت قاله الشاعر أفسد به أخلاق أمة؛ هذا أبوفراس، أما أفسد الناس حين قال: «إذا بِتُّ ظَمآناً فلا نزلَ

ص: 308

القَطرُ»؟ أليست هذه هي الأثَرة، أو ما يسمّونه الأنانية؟ أين هذا من قول المعري:

فلا هَطلَتْ عَليَّ ولا بأرضي

سَحَائِبُ ليسَ تَنْتَظِمُ البلادا

أوَ لم يُفسِد أبو فراس بقوله: «لنا الصّدرُ دونَ العالَمينَ أوِ القبرُ» ؟ إما أن يأخذ الطالب في الامتحان مئة على مئة أو الصفر؟ إما أن ينجح بدرجة ممتاز أو أن يختار الرسوب؟! أليس بين الصدر والقبر منزلة يمكن أن نأوي إليها وأن نُقبِل عليها؟ والذي قال: «وداوِني بالّتي كانَت هيَ الدّاءُ» ، هل كان صادقاً؟ ومتى كان الداء دواءً؟ لقد كذب الفاسق أبو نواس فما يكون الداء دواء أبداً.

* * *

ومن تجارِبي مع بناتي أن إحداهن كانت تخشى الخروج إلى الحديقة ليلاً، وكنا نسكن في سفح قاسيون. وأين مني الآن قاسيون؟ حرم الله الجنّةَ ونعيمَها مَن حرمني من جواره، حتى إنني لأخشى أن أموت قبل أن تكتحل عيناي برؤية قاسيون.

كنا نسكن في دار لها حديقة، فإذا جنّ الظلام وأظلمَت خافت البنت أن تخرج إليها. فأعطيتها مرّة كشّافاً كهربائياً، وخرجتُ بها إلى الحديقة وهي ممسكة بيدي وبيدها الأخرى الكشّاف، فلما توسطنا الحديقة قلت لها: أضيئي نور الكشاف. فأضاءت، وقلت لها: ألا ترين؟ هذه هي الشجرة التي كنا نراها في النهار، وهذه البِركة الصغيرة؛ ما تغيّر شيء، كل شيء في

ص: 309

مكانه. فلماذا تخافين الخروج؟ ألا تخرجين في النهار؟ قالت: نعم. قلت: ما الذي تغيّر؟

والخوف إن كان له سبب معقول كان طبيعياً، فمن كان له طفل يخاف من الظلام وأمثاله فدواؤه أنه يهجم به على ما يخاف منه، فإذا اطمأنّ إليه زال خوفه. أما الخوف الذي هو انحراف سلوكيّ قد يحتاج إلى طبيب نفسي وإذا ازداد صار مرضاً نفسياً، فهو الخوف بلا سبب معقول، ذلك الذي يجب أن نهتمّ به وأن نحرص على مداواته.

* * *

أعود إلى تجارِبي في المدرسة.

وقفتُ بكم في الحلقة الماضية عند مقابلة ما كنا عليه نحن تلاميذ الأمس بما عليه تلاميذ اليوم، فقلت لكم إننا كنا نجيء المدرسة بثوب البيت، ومن تقدّمَت سِنّه ووصل إلى الصفوف العالية جاء ببذلة فصّلَتها له أمه من قديم ثياب أبيه. لم نكن نعرف هذه الثياب الجاهزة، ولم يكن أكثرنا يتردّد على الخيّاطين ولا يعرف تطوّر الأزياء. وكنا نمشي إلى المدرسة في حارات البلد، ولم أقُل في شوارعها لأنه لم يكن في دمشق ونحن صغار إلاّ شارع واحد، هو الذي فتحه جمال باشا سنة 1916. كنا نخوض غبار الصيف ووحل الشتاء، يتناثر من أعقابنا على ذيول ثيابنا حتى يصل إلى رُبع الثوب ممّا يلي الأرض، والمطر يهطل فوق رؤوسنا وميازيب الماء (أي المزاريب) التي كانت تنزل على الطريق ينصبّ ماؤها علينا. كانت تلك حالنا أو حال أمثالنا من أوساط الناس

ص: 310

وفقرائهم، أما الأغنياء، وهم أولاد البشوات والأكابر، فكان يوصلهم الخدم على الدواب، وأحياناً بالعربات. وهؤلاء قِلّة قليلة وحالتهم نادرة، والنادر لا حُكمَ له.

فكيف يأتي التلاميذ اليوم إلى المدارس؟ سلوا السيارات التي تسدّ الطريق عند أبوابها. وماذا يلبسون للمدارس؟ سلوا باعة الثياب وخيّاطيها. وانظروا حال الشوارع المزفَّتة (ولا تقُل المسفلَتة) التي لم يعرف مجتازوها ما معنى الوحل الذي كنا نغوص فيه.

وفي المدرسة من كان أرفه عيشاً ومن يجد معاملة ألطف وعطفاً أكثر، نحن أم أنتم؟ هل من أبناء اليوم من يعرف ما هو «الفلق» (أي الفلقة) الذي كانت تُربط به أرجلنا، وينقع بعض القساة من المعلّمين (وأكثرهم كانوا قساة جبارين) ينقعون قضبان الرمّان بالماء حتى يشدّها الماء ويَزيد منها البلاء، أو يأتون بأعواد الخيزران، فيضربون بذلك الأولاد حتى تحمرّ الأرجل وتتورّم، وربما انبثق منها الدم! يضرب بعضهم ضرب موتور منتقم لا ضرب مربٍّ رحيم.

والسجن في أقبية المدارس أو في غرفة منها مظلمة؟ والأب يُعين المعلّم على هذا الظلم، يحسب أنه طريق التربية والتهذيب، يقول للمعلم: هذا ولدي استلمه، اللحم لك والعظم لي!

هذه كانت حالنا، وهذه حالكم يا تلاميذ اليوم. ولكن أعود فأسأل مرّة ثانية: مَن منّا كان أكثر جِداً وإقبالاً على الدرس واستفادة من العلم؟

ص: 311

لقد تقدّم اليومَ العلم وارتقى الفكر، وقطعت البشريّة في طريق الحضارة في هذه السنين الخمسين، منذ أكملتُ دراستي إلى الآن، أكثر ممّا قطعَت في الخمسمئة سنة التي سبقَتها، في الفكر، في فروع العلم، في الفيزياء، في الطب، في علوم الفضاء

ولكن ما درسناه (أو ما درسته أنا إذا قصرتُ الكلام على نفسي) في الثانوية التي خرجت منها سنة 1347هـ، ما درسته لا أزال أحفظ أكثره، لا في علوم الدين والعربية وحدهما، بل في علوم الطبيعة وفي الجغرافيا وفي علوم كنا ندرسها فأعرض الناس عنها: المحاسبة (وكنا نسمّيها مسك الدفاتر) والموسيقى العربية بمقاماتها والإفرنجية بسلّمها وعلاماتها وشاراتها، والطوبوغرافيا، وتحسين الخطّ بأنواعه: الرقعة والفارسيّ والثلُث والنسخي والكوفي، وعلوم أخرى، لماذا تُركت وأُهملت ولطالما أفادت ونفعَت؟

لا أقول -كما يقول الشيوخ من أمثالي- أن زماننا كان خيراً من هذا الزمان ولا أن أهله كانوا أحسن من أهله، ولا أن العلم في أيامنا أرقى من العلم في هذه الأيام ولا أن المدرّسين كانوا في الجملة أكثر علماً وأوسع اطّلاعاً

بل أقول إن الشواغل التي ازدحمَت على الطالب اليوم والمُلهيات التي حفّت به، من الرائي والسينما وكرة القدم وأنواع الفنون، وأمثال هذا ممّا لم يكن على عهدنا منه شيء أو كان منه شيء لا يكاد يُعَدّ شيئاً، هذا الذي جعلنا أحرص على دروسنا وأوعى لها.

علّمت -كما قلت لكم- من ستين سنة، وشهدت مسيرة القافلة وعرفت طريقها، ورأيت ما فيه من هضبات تعلو بسالكها

ص: 312

وأودية تهبط بمن يمرّ بها، وكذلك الدنيا صعود وهبوط. وأنا أؤكّد بعد هذا أن تلاميذ الأمس ليسوا في الجملة أذكى من تلاميذ اليوم، وأؤكّد أن أساليب التدريس اليوم أحسن منها بالأمس، وأن أكثر الأساتذة يعلمون من فروع العلوم الكونية والعقلية ما لم يكن يعرفه معلّمونا، ولكن التلاميذ -على هذا كله- صاروا أضعف.

خذوا كتبنا المدرسية وكتب الطلاّب في هذه الأيام: في كتبهم من العلم ما لم يكن في كتبنا مثله، بل إن فيها ما لم يكن يعرفه على عهدنا العلماء الكبار فضلاً عن التلاميذ الصغار. نعم، وهذه حقيقة لا يُنكِرها أحد، بل إنها لم تكن على أيامنا كتب وكنا نخطّ المقرَّر بأيدينا. ولكن هل يقرأ تلاميذ اليوم كل ما في هذه الكتب؟ وإذا قرؤوه فهل يفهمونه كله؟ وإذا فهموه فهل يهضمونه حتى تستقرّ خلاصته في أذهانهم، كما يتمثّل الجسمُ الطعامَ المهضوم حتى يمشي في دمه ويكون منه بناء جسده؟

أمامي هنا بعض الكتب التي كنت أقرأ فيها سنة 1338هـ وأنا في الصف الخامس الابتدائي، فهل يحتفظ التلاميذ اليوم بكتب المدرسة، أم يُفرغون ما فيها في رؤوسهم لتحفظها إلى يوم الامتحان، فإذا خرجوا منه ضربوا عنها صفحاً، كأن في هذه الكُرات المركَّبة بين أكتافهم شرائط تسجيل لا عقولاً واعية وأدمغة مفكّرة؟

لقد طالما سألتُ طلاب الجامعة عن بعض ما درسوه في الثانوية أو المتوسطة، فلا أجد عندهم منه ذكراً. ولو كان السؤال في التاريخ أو الجغرافية لعذرتهم؛ إن الطالب يستطيع أن

ص: 313

يقرأ تاريخ العباسيّين وهو لا يعرف تاريخ الأمويّين، أو أن يقرأ جغرافية آسيا وهو لم يقرأ جغرافية أوربا، لأن ذلك مستقلّ بعضه عن بعض. أما اللغات والرياضيات فلا يمكن أن تفصل بعضها عن بعض؛ التاريخ والجغرافية كدارات (فيلاّت) صغار في أرض واسعة، أمّا اللغات والرياضيات فطبقات من بناء واحد تقوم كل طبقة منها على الطبقة التي تحتها، فإن انهدمَت انهدم ما فوقها.

* * *

ص: 314