الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-159 -
تعليق على مقالة وجواب على رسالة
أنا أقرأ كلّ مجلّة وكل كتاب يصل إليّ أو أطالعه وأمرّ عليه بنظرة شاملة، إن لم تُحِطْ بتفاصيله فإنها تُلِمّ بمُجمَله، ولكني لا أجد فضل هِمّة أمشي بها إلى حيث تُشترى المجلّة أو الكتاب.
وقد حمل إليّ وأنا أُعِدّ هذه الحلقة جارُنا السيد نادر البارودي مجلّة «الوطن العربي» (وأنا قلّما أراها لأنها لا تقع تحت يدي) فوجدت فيها مقالة طويلة كطول ليل المريض الموجع، سوداء مظلمة مثل ظلمته وسواده. وفي فحمة الليل تتشابه المسالك على السالك فيضلّ الطريق، كما ضلّ كاتب هذه المقالة، فجاء فيها بالمتناقضات وهدم في بعضها ما بنى في بعض.
وإذا كان المكتوب يُعرَف من عنوانه فإن عنوان هذه المقالة هو «السلفيون خطفوا من الحركات السياسية شباب هذا الجيل» . وبدأ الكاتب مقالته بكلمة للدكتور زكي نجيب محمود يقول إنه أوردها بكبرياء العالِم وترفّع المثقّف. ووجدته بعد ذلك يتكلّم عمّا سَمّاه الالتزام الأيدولوجي فيقول (وهذا كلامه): "لأن الالتزام الأيدولوجي جزء لا يتجزّأ من شرف العمل الحزبي ومصداقية
الحِرفة السياسية، ولكن هذا الالتزام عندما يتحوّل إلى انغلاق كامل على الإيمان بالعقيدة والانطواء على المبدأ ينقلب إلى صورة مخيفة من صور الهَوَس والانجذاب قد تكون مقبولة في عالَم الدراويش والصوفيين، إلخ".
وضعت خطاً أحمر تحت كلمة «خطفوا» وخطاً تحت كلمة «كبرياء العالم» وخطاً تحت هذه الفقرة لأنتبه إليها فأعلّق عليها، ثم وجدت أنني إذا مشيت إلى آخر المقال امتلأ بالخطوط الحمراء كما يمتلئ بالدم الجسد الذي قُطّع قِطَعاً فصار أشلاء ومِزَقاً، فرفعت القلم وقعدت أفكّر.
أليس في هذا العنوان هجاء ظالِم لشباب هذا الجيل، إذ يجعلهم مَتاعاً كبعض المتاع يُسرَق أو يُخطَف فلا يملك منعاً ولا دفعاً، وينسى أن لهم عيوناً تُبصِر الطرق المفتّحة أمامهم، وآذاناً تسمع الدعوات المعروضة عليهم، وعقولاً تختار من الطرق أقوَمَها ومن الدعوات أحسنها، وحقّ الاختيار لهم؟ أليست هذه هي «الديمقراطية» التي توجعون بها آذاننا وتصدّعون بها رؤوسنا؟ أفئن اختار الشباب من بين الدعوات التي تصخب بكثرتها الآذان، بل أئذا نبذها الشباب كلها واختاروا منها الدعوة إلى الإسلام، تنسون ديمقراطيتكم وتسلبونهم في الاختيار حرّيتهم، وتريدون أن تفرضوا رأيكم عليهم؟
وإذا كان الله قد هدى الشباب إلى الحقّ وأراهم طريقه فسلكوه، فلماذا تناقضون أنفسكم وتنسون أن شريعة الديمقراطية التي تؤمنون بها تجعل حقّ الاختيار لهم؟ وإذا رجعوا إلى المساجد فما الذي يضيركم من رجوعهم إلى المساجد؟ هذا نور الله قذفه
في قلوب الشباب، أفتريدون أن تطفئوا نور الله بأفواهكم؟ والله مُتِمّ نوره ولو كرهتم.
وتحت هذا العنوان الكبير للمقالة عنوان آخر هو «لماذا يصبح التلفزيون العربي وقفاً على الشيخين الشعراوي والطنطاوي والسلفيين؟» ، ويسأل لماذا لا يأتون إليه بمن سَمّاهم الكاتب المفكّرين والكُتّاب القوميين والعلمانيين؟
هذا هو منطق الكاتب وأمثاله: يُعطون الناس حقّ الاختيار بحكم الديمقراطية، ثم يريدون أن يسلبوهم هذا الحقّ وأن يفرضوا عليهم غير ما يرون! أليس في كلامه عن الالتزام طعن للعقيدة الإسلامية؟ أليس فيه دعوة الشباب إلى الخروج عليها؟ فليست القضية إذن في الالتزام أو ترك الالتزام، ولكنها مسألة كفر وإيمان.
إن الذي يُغيظ الكاتب وأمثالَه هو هذه الرجعة إلى الدين، هذه الصحوة الإسلامية، وأن علماء المسلمين ودعاة الإسلام هم الذين صاروا قادة الشباب. وهذا كلامه بحروفه يقول:"فمعظم الذين يمسكون اليوم بزمام هذه الكتلة البشرية هم من المدرسة السلفية ذاتها، مدرسة حصار الإسلام في إطاره السلفي والتاريخي، مدرسة العودة إلى الممارسة التاريخية الأولى بكل بساطتها وعفويّتها، ومحاولة فرضها على العصر".
وهذه الممارسة التاريخية الأولى هي عهد الصحابة (كما يدرك ذلك كل من يفهم الكلام). أفيسوء هذا الكاتبَ أن نعود إلى مثل أخلاق أهل الصدر الأول، ومثل عزّتهم، ومثل سموّهم وكرم نفوسهم؟
لو قال هذا الكلامَ خوري أو حاخام لما كان عليه فيه ملام، أمّا أن يقوله رجل يسمّي نفسه غسان إمام؟ إلاّ أن يكون من الأئمة الذين خبّرنا الله عنهم أنهم يدعون إلى النار ويوم القيامة لا يُنصَرون.
إنه يصف خطبة الجمعة بأنها "عاطفية اجتيازية ساخنة صاعقة لا حدود لتنديدها بالسلطة الكافرة أو المشركة! لا حدود لتحريكها عواطف المتديّنين البسطاء". ثم يقول (وهذا نصّ كلامه): "التلفزيون أيضاً بات يكمل دور المسجد، هنا أيضاً يصول ويجول علماء الدين والسلفيون، العمّة واللحية والعباءة تزيد هيبتهم هيبة ووقاراً، بعضهم زُرع ليصبح بحق نجماً تلفزيونياً ينتظره بمحبة وخشوع مئاتُ الألوف. الشيخ الشعراوي والشيخ الطنطاوي الذي بلغ من الكِبَر عتياً، انتقل من الإذاعة السورية إلى التلفزيون السعودي منذ عشرين سنة، وهو لا يكتفي بالإطلالة على الشاشة الصغيرة، بل يكتب في الصحف التي تنتقل بين أيدي العرب في مختلف أقطارهم بلا رقيب ولا حسيب، ليزيد تطرّفه وزلاّت لسانه وقلمه، في الفرقة بين المذاهب والطوائف عبر ما يقوله عن المسيحيين والدروز".
أنا ما أنشأت هذه الكلمة لأردّ عليه، وليس بيني وبينه ما يُوجِب الردّ، بل أنا لم أسمع باسمه قبل اليوم. ولكني مثّلت بما يقول لطائفة من الناس لتعرفوا كيف ينظر إلى الإسلام ودُعاة الإسلام. وإلا فما دامت الصحف موجودة والمطبعة مفتوحة والنشر سهلاً، فإن كل من شاء أن يقول قال. ولكن ما كل من قال أصغى إليه الناس، ولا كل مَن أصغوا إليه صدّقوه. والوطن العربي
أكبر من أن تدّعي النطق باسمه مجلّة ما بيدها توكيل عنه وليس لها حقّ النطق باسم أهله!
والذي بدا لي من هذه المقالة ومن مقالة قبلها وقعت إليّ مصادفة يتكلم فيها صاحب هذه المجلّة عن جريدة «الشرق الأوسط؛ ومجلاّتها الملحَقة بها. لقد جعلني ما قرأته اليوم وما قرأته من قبلُ أوقِن أن أصحاب هذه المجلّة وكُتّابها {يَحسُدُونَ الناسَ على ما آتاهم اللهُ من فضلِهِ}، والحاسد لا يُرضيه منك إلاّ أن تزول النعمة عنك، ولا يُغيظه إلاّ أن تزداد. لذلك اجعلوا أَسَدّ جواب لهم وأكبرَ حجر تسدّون به أفواههم أن يستمرّ الشباب المؤمن في طريقه المستقيم وأن يزداد إقباله على المساجد، وأن تستمرّ «الشرق الأوسط» في تقدّمها المطّرد، ذلك هو الردّ عليهم وفي ذلك عقابهم.
على أنني لا أحبّ أن أجد الكاتب وأمثاله في ألم دائم وفي أرق متّصل بسبب مني، فأنا أمتنع لأرضيه عن الحديث في الرائي لأفتح الباب لمن سَمّاهم، ومنهم عفلق والبيطار. ولكن إن امتنعت أنا فهل أمنع الشيخ الشعراوي؟ وإن امتنع الشعراوي فهل يسكت الناس الذين يحرصون على مشاهدته وسماعه ويطالبون به؟ وإن سكتوا ورضوا فمَن يكفل أن يأتي مكانهم البيطار وعفلق، وأن يرضى الناس عن عفلق والبيطار؟
إن البيطار كان رفيقي في الصف، كنا على مقعد واحد، وعفلق بحكم رفيقي، كنا زملاء في الدراسة وإن اختلفَت المدرسة. والبيطار قد مات. وعفلق أصدَقُ من وصف بلاغته وطلاقة لسانه
الرئيس جمال عبد الناصر بعد مفاوضة معه طويلة، قال في خطبة له في جماهير الناس: إن عفلق يحاول أن يأتي بالجملة فلا تجيء واضحة، فيقول:«يعني» ، ويحاول توضيحها وصوغها من جديد، فلا يزال في «يعني» و «يعني» وهو، "هو ما يعنيش حاجة"!
وهذا تعليق لم يكن مقصوداً وليس من صلب ذكرياتي ولا هو من مقاصدي، ولكنها كلمة جاءت عَرَضاً.
* * *
أمّا الكتاب الذي جاءني فهو من «مصري» يعمل هنا في المملكة، لم يكتب اسمه ولم يعرّف بنفسه، يحمل عليّ. يقول بأنني أكتب عن عهد الوحدة وعن عبد الناصر كتابة ليس فيها شيء من الحقيقة وليس فيها تسجيل لتاريخ، ولكنها عداوة مستقرّة في نفسي لمصر وللرئيس عبد الناصر، وكره للوحدة وحبّ للانفصال.
هذه هي خلاصة الرسالة. على أنها ليست شيئاً جديداً، فإن ما جاء فيها قد قِيل عنّي من ربع قرن، من يوم الانفصال، وأُعلِن ونُشر في الصحف وكُتبت فيه مقالات واشتغل به الناس أمداً، فما أنت بأوّل من كتبه. لقد كشفت أميركا ولكن على الخريطة، فظننت بأنك سبقت بذلك كرستوف كولومبس إلى هذا المجد!
إن الصداقة والعداوة إنما تكونان بين الأكْفاء والنظراء، فهل تراني كُفؤاً لعبد الناصر أو نظيراً له حتى أصادقه أو أعاديه؟ وأين أنا منه؟ أمّا قبل أن يفعل فعلته التي فعل فقد كان ضابطاً من آلاف الضبّاط لا يدري به أحد خارج دائرته الصغيرة، وكنت أنا كاتباً معروفاً ومؤلّفاً يقرأ له الناس، فلما صار الرئيس عبد الناصر صار
مالئ الدنيا وشاغل الناس، وغدا اسمه في كل صحيفة وذِكْره على كل لسان، وغدوت أنا واحداً من غمار الناس. فمن أين تدخل الصداقة أو العداوة بيني وبينه، ولا سنّي من سنّه، ولا طريقي على طريقه، ولا أصحابي هم أصحابه؟ أصحابه تيتو ونهرو والملوك والرؤساء وسكناه القصور (1)، إنْ حلّ بلداً انتفض البلد فخرج أهله لاستقباله وإن رحل عنه اجتمعوا لوداعه عند ترحاله، يعرف الناس أخباره ويتابعونها، فما الذي يجمعني به أو يقرّبني منه حتى أكون عدواً له أو أكون صديقاً؟
قابلته مرّة مع وفد عربي مشترك من أجل الجزائر كما قابله آلاف من الناس، وقعد معنا وحدّثَنا كما قعد معه وسمع حديثَه آلاف من الناس، ومشى معنا إلى باب داره لمّا خرجنا يودّعنا، وكنت أمشي إلى جنبه، فلما فاجأَتنا عدسة المصوّر تأخّرت أريد الابتعاد حتى لا أظهر في الصورة ولكنني ظهرت فيها معه. ولست أكره الآن ذلك ولا أفتخر به، ولكن أذكر ما كان. فلئن جمعَتني به صورة فإن مئات من الناس جمعتهم به الصور.
كان الوسيط بيني وبينه صديقي وأخي ورفيقي في حياتي كلها، القاضي الفاضل الذي صار وزير العدل في الجمهورية العربية المتّحدة، الأستاذ نهاد القاسم رحمة الله على روحه. لقد أحبّه أخي نهاد واعتقده صادقاً وبقي على حبّه واعتقاده حتى بعد موته. وكنا متّفقَين في كل شيء، حتى إذا جاء ذكر عبد الناصر اختلفنا اختلافاً كان يؤدّي بنا أحياناً إلى النزاع، فاتفقنا على أن نترك الحديث عنه جملة واحدة ويحتفظ كل واحد منّا برأيه فيه.
(1) أي بعد الرئاسة، أما قبلها فكان يسكن حيث تعرفون.
وسأكتب عن نهاد القاسم كما سأكتب إن شاء الله عمّن عرفت في حياتي من الرجال. وكان ينقذني من مواقف كثيرة كادت تؤدّي بي إلى الضرر، منها أنه لما أُلغِيت المحاكم الشرعية في مصر أوفد إلينا الرئيس موظفاً كبيراً نسيت الآن اسمه، فاجتمع بأعضاء لجنة قانون الأحوال الشخصية وهم الشيخ مصطفى الزرقا والشيخ صبحي الصبار والشيخ الأسطواني وأنا، ليقنعنا بأن نصنع في الشام مثل الذي صنعوا في مصر وأن تُلغى المحاكم الشرعية وتحلّ محلّها محاكم جديدة، تُدعى محاكم الأحوال الشخصية. فناقشناه مناقشة طويلة، وساق له إخواننا الأدلّة والبراهين فلم يقتنع. فضاق صدري وقلت لهم: اسمحوا لي فسأتكلّم باسمي أنا، لا بأني عضو في اللجنة. فسكتوا، والتفَت إليّ ليستمع مني فقلت له: إن المحاكم الشرعية لا يمكن أن تُلغى في الشام، وإذا لم تصدّق هذا الذي أقول فانزل إلى الشارع فاسأل عني، هل أستطيع أن أفتح النافذة أمامك فأخطب فأستوقف الناس وأجمعهم وأخرجهم بمظاهرة تمشي إلى دار الحكومة لتطالب بإبقاء المحاكم الشرعية إذا أردتم إلغاءها أم أنني لا أستطيع؟
فبُهت ونال منه العجب من هذا الذي أقول، ثم استردّ أنفاسه فقال: هل هذا تهديد؟ قلت: نعم، إنه تهديد. لا بالمظاهرة ولا بإثارة الناس، فهذا كلّه هيّن. ولكنه تهديد لكم من الله بجهنّم الحمراء التي يصلاها كلّ من أراد أن ينسخ حُكماً من أحكام الله أو أن يعدّله أو أن يُبطِله.
فانتفض الرجل وخرج إلى غرفة الوزير، وكان بيننا وبينه أمتار معدودة لأن الوزارة في القصر العدلي الذي تكون فيه المحاكم.
غاب مدّة قصيرة ثم رجع بغير الوجه الذي ذهب به. ذهب متنمّراً غاضباً وعاد ليّناً راضياً، بل عاد يسترضيني أنا ويحاول أن يُزيل أثر ما كان. فأدركت بالحدس شيئاً ممّا قدرت أن الوزير قاله له، ولِنت معه بالقول حتى انتهينا إلى مسالمة واتفاق ومحونا أثر ذلك الصدام.
فلما لقيت الوزير الأستاذ نهاد القاسم رحمه الله قال لي: ما هذا الذي فعلت؟ قلت: وهل عرفت ما الذي كان؟ قال: نعم، لقد عرفته منه، وقلت له: إنك لا تعرف مَن هذا الرجل الذي أثرتَه ولا تعرف أثره في البلاد، فإذا وقع شيء تكون أنت المسؤول عنه أمام سيادة الرئيس لأنك لم تستشِرْني ولم تأخذ رأيي.
وساق له من أمثال هذا الكلام ما ملأ نفسه خوفاً من العواقب، حتى سأله: وما العمل الآن؟ قال: تعود إليه فتُصلح الأمر حتى لا يبقى لهذا الجدال أثر ولا ينشأ عنه ضرر.
* * *
ولهذا الموقف أمثال. وما كنت أريد أن أتكلّم الآن عن عهد الوحدة والانفصال بل كنت أنتظر أن أصل في الذكريات إلى الكلام عنهما، ولكن هذه الرسالة جعلتني أتعجّل القول قبل أوانه.
تحت يدي الآن مقالة منشورة في جريدة «الأيام» في الشهر الحادي عشر من سنة 1961 عنوانها «جواب واحد على سبع وأربعين رسالة» . لا أعرف رقم العدد الذي نُشرت فيه ولا تاريخه لأنني قصصت المقالة من الصحيفة وتركت سائرها، فليسمح
لي الأخ الذي كتب إليّ أن أقرأ عليه طرفاً منها، فإن فيها جواب رسالته. وهذا نَصّ المقالة:
لم أكن كاذباً لمّا قلت في حديثي في الرائي (التلفزيون) أني لم أجد من الأثر الطيّب لكلمة كتبتها أو ألقيتُها (وأنا أكتب وأخطب من سنة 1345هـ) ولم أسمع من الثناء عليها مثل الذي وجدت من الأثر وسمعت من الثناء عن كلمتي الأولى في الإذاعة صبيحة ليلة الانتفاضة (1).
ولا أكون كاذباً إذا قلت إني تلقّيت كذلك طائفة من
(1)«الانتفاضة» هي التسمية التي أُطلقت في صحف وإذاعة الشام على ما صار يُدعى بعد ذلك «حركة الانفصال» . وفي هذه الفقرة يشير علي الطنطاوي إلى حديث ألقاه في الرائي (التلفزيون) وإلى كلمة أذاعها من الإذاعة صبيحة ليلة الانفصال، وهما سابقتان لهذه المقالة (جواب واحد على 47 رسالة). وقد كان ينبغي أن تؤخَّر هذه المقالة لتأتي في سياقها الطبيعي بعد الحلقة 163 في هذه الذكريات، وقبلها كان ينبغي أن تأتي الأحاديث التالية بالترتيب:(1) خطبة الانفصال، وقد أذيعت من إذاعة دمشق يوم الثلاثاء 3/ 10/1961 (حركة الانفصال تمت يوم الخميس 28/ 9/1961)، ثم نُشرت هذه الكلمة في جريدة «الأيام» في اليوم التالي، الأربعاء 4/ 10، (2) وبعدها خطبة الجمعة التي ألقاها علي الطنطاوي في جامع التوبة يوم الجمعة 6/ 10 وأذاعتها الإذاعة على الهواء، (3) وبعدها الحديث الذي أذيع من الرائي، وهو أول حديث قدّمه علي الطنطاوي في الرائي (التلفزيون) قط، وكان يوم السبت 21/ 10 ونشرته في اليوم التالي جريدة «الوحدة» ، وأخيراً هذه المقالة:«جواب واحد على 47 رسالة» التي نُشرت في جريدة «الأيام» يوم الخميس 9/ 11/1961 (مجاهد).
الرسائل بلغ عددها إلى اليوم سبعاً وأربعين رسالة، فيها أشدّ العتب وأقسى النقد وأفظع الشتائم. وهذه الرسائل لا تمثّل رأي الأمّة، فإن الأمّة قد صرّحَت بآرائها في الانفصال بألسِنة علمائها وأدبائها وسياسييها وصحفيّيها ونسائها وتجّارها وصنّاعها وبدوها وحضرها، ولا يُطلَب من أُمّة أن تُجمِع كلها على رأي ولا يمكن ذلك. وإذا جاءني سبع وأربعون رسالة في إنكار كلمتي والردّ عليّ وتقبيح رأيي، مع الذي سمعت وكُتب من الثناء عليها، لا يكون في ذلك ضرر.
والذين أثنوا عليها -على كثرتهم- ناس معروفون لهم منزلتهم في هذا البلد، والذين كتبوا هذه الرسائل مجهولون، وأكثرهم شباب ناشئون مخدوعون غرّهم من كان بيده أمر تعليمهم فحشا لهم الكتب المدرسية بالأضاليل التي أرتهم الحقّ باطلاً والقبيح جميلاً
…
(إلى أن قلت): لقد سمعوا كلام الرئيس الذي كان يُلقيه في حشود القاهرة. فلما وصفتُ هذه الحشود وقلت إنها لا تُصغي إليه ولا تفهم ما يقول، بل تصيح في موضع الإنصات وتَجمُد في مكان الهتاف وتقطع عليه جملته وتتركه يتكلّم وحده لتهزج وترقص
…
لما قلت هذا لم يَعُد يخطب في الحشود (أو لم يعُد يجد حشوداً يخطب فيها)، فصار يتكلّم من الإذاعة كلاماً فيه بكاء بلا دمع، وأرقام بلا وثائق، وأخبار بلا حقائق.
سمعوا هذا من بعيد فظنّوا البكاء عاطفة والأرقام صادقة والأخبار واقعة، ولم يروا ما كان عندنا ولم يعرفوا ما أصابنا،
فمالوا معه فحكموا له علينا. فإن سألتهم: ما ذنبنا عندكم؟ كان ذنبنا أنّا كرهنا الوحدة وأعرضنا عن تلك الجنّة وملنا مع المستعمرين.
أنحن نكره الوحدة وَيْحَكم؟ أنكره الوحدة وفينا وُلدت، وتحت أيدينا نشأت، ونحن أحقّ بها وأهلُها؟ هل صدّقتم أننا نكره الوحدة؟ هل صدّقتم أننا استجبنا إلى المستعمر؟ أنستجيب إلى المستعمر ونحن كنا أولَ من حاربه ونازله في إبان قُوّته وعنفوان سلطانه؟ أين كان هؤلاء الذين يكتبون عنّا اليوم فيجرائد عبدالناصر في لبنان يوم كنا نحارب فرنسا في الساحل وفي الشمال وفي الجبل وفي الغوطة؟
(إلى أن قلت): أفحاربناها وثرنا عليها، وروينا أرضنا من دمائنا وتركنا نصف دمشق خراباً في قيامنا عليها، لنعود الآن إليها وإلى أخواتها من دول الاستعمار؟ معاذ الله. ولئن كان فينا نفر رُبّوا في مدارسها وعاقروا كؤوس اللذّات في مواخيرها فاستهوتهم بفسوقها، فما هؤلاء هم الأمّة وما هؤلاء من الأمّة، ولا تخلو من أمثال هؤلاء أمّة.
فدعوا هذا الكلام المكرّر المُعاد المَمْلول، فلقد عرف الناس جميعاً أنه ليس عندكم ولا عند البوم الناعب من «صوت العرب» (1) إلاّ مقطوعة واحدة تردّدونها كلما خالفكم مخالف في رأي، هي التهمة بالرجعية والاستعمارية والصهيونية وأن مخالفكم
(1) أي في تلك الأيام، وأظنّ أن اسمه أحمد سعيد؛ لم أعرف في عمري مَن هو مثله في صفاقة الوجه ووساخة اللسان وثقل الدم.
عميل مأجور. وهي كلمات صارت من طول التكرار مثل الثوب البالي، وفقدَت معانيها ولم يبقَ لها من أثر في نفس سامعها إلاّ السخرية بقائلها.
إنها طريقة كبيركم الذي علّمكم السحر. ولكن سحر فرعون لم يَعُد يَروجُ على أحد. لقد ألقينا عليه عصا موسى:
إذا جاءَ مُوسى وألقى العصا
…
فقَدْ بَطَلَ السّحرُ والسّاحِرُ (1)
* * *
(1) نُشرت هذه المقالة في جريدة «الأيام» بعد الانفصال بنحو ستة أسابيع كما مرّ بكم، وهي مقطوعة هنا غير تامة، وتجدون تتمتها في آخر الحلقة 163 من هذه الذكريات (مجاهد).