الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-170 -
لوحات حية من حياة أندونيسيا
عيد سعدت فيه برغم البعد
والوحدة والسفر الطويل
وهل عيد أندونيسيا غير عيد المملكة؟ نعم، وغير عيد الشام وعيد مصر. وعيد الأطفال غير عيد الكبار؛ الأطفال عيدهم ثياب جديدة ولعب، ربما وجدهما الطفل موفورَين وربما عزّ عليه وجدانهما. وعيد الموظفين عطلة وراحة من عناء العمل وانطلاق من القيد، وعيد التلميذ بُعد عن مشقّة الدراسة ونظام المدرس، وعيد أكثر النساء مفاخرة ومكاثرة في اللباس وفي الزينة، بل وفي أثاث المنزل ومظاهر الحياة. وعيد كثير من الرجال نفقات تقصر عنها الطاقة وديون يثقل بها العاتق. وجمهورٌ من الناس عيدهم مجرد رقم في التقويم وتهنئات من طرف اللسان.
هذا والعيد واحد وإن تعدّدت أشكاله وطعومه، وهذا من أسرار الله في الخلق، إذ يجعل المختلف من المؤتلف والمتعدّد من المتّحد، فلكل إنسان أنف وعينان وفم وأذنان، ولا تجد إنساناً يطابق في خَلْقه غيرَه من بني الإنسان. والسكّر عند أهل الكيمياء
هو السكّر، ولكن طعمه في التفاح غير طعمه في العنب وغير طعمه في الموز والبطيخ. وكذلك الرائحة العطرة، أين رائحة الفل من رائحة الورد؟ وأين الياسمين من النسرين؟
والعيد الحقّ إنما يشعر به من يولي الإحسان، فيرى آثارَ إحسانه بَريقَ شكر في العيون، وبشاشة وانطلاقاً في الوجوه، وحمداً صادقاً على اللسان، ودعاء مخلصاً في الغيبة والحضور.
* * *
وصلنا جاكرتا في رمضان (1). ولرمضان في كل بلد إسلامي بهجة وجمال، لا تكاد تظهر بهجته ولا يبدو جماله في المدن الكبرى التي فتنها بريق الزجاج في حضارة الغرب عن حقيقة الألماس في دينها فأضاعت سجاياها بتقليدها، ولكن يظهر هذا الجمال في المدن الصغار، وفي القرى الأندونيسية حيث يصوم القوم النهار لا تجد فيهم مفطراً معلناً، فإذا كان العشاء أمّوا المساجد فصلّوا التراويح، ثم تجمّعوا للسهرات في بيوت الإخوان والأصدقاء، سهرات قد تطول حتى تصل الفطورَ بالسحور، يكون في بعضها المطالعة في الكتب والمذاكرة في العلم، ويكون في أكثرها البحث في شؤون التجارة وأحوال البلد، ويكون بعضها للتسلية واللهو، ولكنه لهو لا يصل غالباً إلى الحرام ولا يبلغ حدّ العبث.
(1) هذا القسم من الحلقة مأخوذ من فصل «في جاكرتا» المنشور في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).
يقدَّم في هذه السهرات لونان لا تكاد تخلو منهما أو من أحدهما مائدة: الرز بالحليب، لا كما يُصنع في الشام إذ يفتنّ القوم في «تَرقيده» في الصّواني حتى يصير كأنه القشطة، بل يُصنع مخلوطاً بسمن النارجيل (جوز الهند) فيكون له طعم يقولون إنه طيب. أما أنا فلم أستطع أن أسيغ لقمة واحدة منه. والثاني هو «الأبام» ، وهو شيء يشبه «القطائف» الشامية. وشتّان ما بين هذا وذاك، فما في الدنيا طعام مثل طعام الشام، وما أكَل الشامي في غير بلده طعاماً فاستطابه ولا أكل أحدٌ من طعام الشام إلاّ فضّله على كل طعام.
وأدركَنا عيدُ الفطر ونحن في جاكرتا سنة 1372هـ، وأنا أشهد أنه أنساني أني غريب وأني بعيد عن أهلي وولدي. والغريب لا يحسّ عادة بالعيد ولا بأفراحه لأن العيد لا يراه الإنسان إلاّ في بلده، فلا يمكن أن يوضع في الحقائب ولا أن يُنقل في الطيارات ولا في السيارات.
ذكرت في عيد أندونيسيا العيد الذي عرفته في دمشق وأنا صغير من قديم ثم افتقدته ولم أعُد أجده أبداً. أول ما رأينا من مقدّمات العيد في أندونيسيا الاحتفال بليلة السابع عشر من رمضان، ويسمّونه عيد نزول القرآن. ومن أغرب ما وقع لي أني لمّا دنوت من بهو الاحتفال سمعت تلاوة صحيحة بصوت ناعم، كأنه صوت امرأة يقرأ القرآن قراءة صحيحة بنغمة مستحَبّة، فلما سألت علمت أنها زوجة سوكارنو تفتح الحفل بتلاوة عشر من القرآن (1). وكان عيد
(1) وصوت المرأة بالنغَم عورة ولو لقراءة القرآن.
17 رمضان لمّا زرناها أكبر أعياد أندونيسيا. ذلك على ما كنا نأخذه على سوكارنو وحكمه، حتى رأينا ما بعده فإذا الحال كما قال:
رُبّ يومٍ بكَيتُ فيهِ فلمّا
…
صِرتُ في غيرِهِ بكيتُ عليهِ
لما دنا العيد رأينا تباشيره تلوح؛ ففي الأسواق ضجّة وازدحام وفي البيوت حركة واستعداد. فما أهلّ وأصبح صباحه حتى خرج الناس بأبهى الثياب، وثيابهم هذه الأُزُر (الفُوَط) الملوّنة المبرقَشة التي يفتنّون في صنعها وفي تلوينها حتى تحكي ألوانَ الزهر في الروض الأريج. ولبسَت البنات كل زاهٍ من الألوان فاقع وازّيّنَ الأولاد وانتشروا في ساحات جاكرتا كأنهم طاقات من الورد يخطرون في الحدائق إلى جانب الورد، وعُرضت الألاعيب وعلَت في الجوّ طيارات الورق. ولهم فيها صنعة عجيبة، وهي تعلو حتى لتُرى كأنها طيارة حقيقية.
وأَمّ الرجال كلهم المصلّى. كان ذلك قبل أن يُفتح الباب لشياطين الإنس، لجماعة المكفّرين الذين يُسمّون بالمبشرين، وما هم إلاّ من المبشّرين بالعذاب الأليم الذين جعلوا همّهم أن يُخرِجوا المسلم من النور إلى الظلمات ومن الإيمان إلى الكفر، نبّهنا الله إلى الاحتراس من شرّهم ودفع عنّا كيدهم.
حضر صلاةَ العيد في جاكرتا قومٌ يزيدون على مئات الألوف، يكبّرون معاً، ويركعون معاً، ويسجدون معاً. مشهد عظيم عظيم عظيم، أكرّرها ثلاث مرات لتأكيدها وتثبيتها. مشهد لا يرى الإنسان مثله إلا في بلد عاد إلى هذه السنّة (المتبَعة هنا في المملكة) في صلاة العيد في المصلَّيات. وراح الناس يهنئ بعضهم
بعضاً. وأنا لا أفهم من لسانهم إلاّ الألفاظ العربية الباقية فيه، وهي كثيرة. منها ما هو لأسماء البلدان، فعندهم المدينة المنورة والكوفة والبصرة وخور سليمان (والخور كلمة عربية)، ومنها ما هو من أسماء الناس، فعندهم محمد وأحمد ويوسف وداود وعيسى وناصر وفؤاد وعبد الله وزين العابدين وتاج الدين وسراج الدين وعبد الحكيم
…
وربما أضيف الاسم الأندونيسي إلى الاسم العربي، كأحمد سوكارنو وزوجته عائشة ونائبه محمد حتا وزوجته رحمى رحيم، وأحمد سوبارجو وزير الخارجية يومئذ، ومحمد روم وبرهان الدين هاراهاب وشمس الدين سوتن معمور وعلي ساستو
…
ومنها ما هو مستعمَل بلفظه ولكن بتحريف لمعناه كلفظ «الشركة» بمعنى الجمعية، و «سؤال» بمعنى قضية، وفائدة وحاصل وأخلاق وعناصر ومسألة وسياسة
…
وربما حُرّف اللفظ العربي فقالوا في كلمة ظاهر «لاهر» و «أكال» أي عقل و «نسكه» أي نسخة و «خلاياك» أي خلائق و «سابار» أي صبر. ومن أعجب ما عندهم أنهم يحرّفون لفظ الشعر إلى الشعير، فيشترك فيه إخواننا الشعراء مع إخواننا الحمير!
وهذا مشهد رأيته في جاكرتا أيام العيد، وقد أخذونا إلى دار واسعة فيها غرف مصفوفة حول حديقة فسيحة وممرّات تُطيف بها، سمعت لمّا اقتربتُ منها ضجّة أولاد وبكاء أطفال فقدّرت أنها مدرسة للصغار، فلمّا دخلتها لم أجد التلاميذ الذين يتعلمون، بل وجدت أطفالاً منهم من يزحف -لصغره- على الأرض ومنهم من يدرج يقوم ويقعد، ومنهم الكبير ومنهم الصبيان ومنهم البنات. أولاد بالعشرات، في كل غرفة أولاد، وفي الحديقة أولاد،
وحيثما سرت أولاد. أولاد في الأسرّة نائمون، وأولاد أكبر منهم يخدمونهم أو يطعمونهم أو ينظفونهم، والهيئات مختلفات والألوان متباينات، فمن بيض ومن سمر ومن سود، ومَن لهم هيئات صينية أو سمات عربية أو ملامح هولندية، فقلت: ما هذا؟ مستشفى؟ قالوا: لا. قلت: روضة أطفال؟ قالوا: لا. قلت ما هؤلاء؟ قالوا: أُسرة واحدة، لهم أب واحد وأم واحدة. قلت: لكلّ هؤلاء أم واحدة وأب واحد؟ قالوا: نعم ولا. قلت: ما هذه الأحاجي والمعميات؟ قالوا: هاك من يخبرك الخبر اليقين.
ونظرت فإذا امرأة أندونيسية في نحو الخمسين أو تزيد ورجل شيخ أندونيسي فوق الستين قد أقبلا علينا، وعرّفوهما بنا فإذا هما صاحبا الدار، وإذا خبرهم العجيب، العجيب حقاً، أن هذه المرأة ورثت من أبيها مالاً كثيراً، وكان قد توفّي وهي صغيرة فربّاها خالها (والخال في أندونيسيا هو الذي يتولّى أمر بنات أخته قبل العَصَبات من أهليهم). فلمّا كبرَت خطبها هذا الرجل وكان من الأغنياء، ووفّق الله بينهما وألقى بينهما المودّة والرحمة فعاشا سعيدَين. اجتمع لهما المال الذي يملأ اليدين والحب الذي يملأ القلبين، ولكنهما اشتهيا الولد فما جاءهما الولد. كانا من الصنف الرابع؛ وقد صنّف الله الناس أصنافاً، فالصنف الأول من يَهَب له البنات، والثاني من يهب له الذكور، والثالث من يزوّجهم ذُكراناً وإناثاً، والرابع من يجعله عقيماً. فكان هذان الزوجان من الصنف الرابع: اشتهيا الولد فما جاءهما الولد، وما نفعهما طِبّ طبيب ولا وصفة مجرّب ولا سحر ساحر ولا شعوذة دجّال. وتفطّر قلبها وكرهت حياتها وضاقت بها، وضيّقت على الرجل حياته وكرّهتها
إليه، وأوشكَت الحال أن تصل بهما إلى أن تُجَنّ هي أو تجنّن الزوج أو أن تُختَم فصول الرواية بالطلاق، لولا أن كانت مصادفة بدّلت حياتهما، كما تبدّل موجةٌ صغيرة مسيرَ الزورق من الشرق إلى الغرب أو تحول لحظةٌ عارضة وجهةَ إنسان من طريق النار إلى طريق الجنان.
ذلك أنهما وجدا يوماً ازدحاماً أمام مخفر الشرطة، فسألت: ما الخبر؟ فقالوا: إنه لقيط، ابن حرام، وهو طفل مولَّد. والمولَّد عندهم الذي يجيء من أب جاوي وأم هولندية. فدفعتها غريزة الأمومة المتوثّبة بين جوانحها إلى رؤية الولد، فإذا هي طفلة جميلة فتّانة جمعَت حلاوة أهل جاوة وجمال نساء هولندا.
وكان الناس بين مُشفِق على الطفلة، ولاعِن لها غاضب من والدَيها. فلم تتمالك أن أمسكت بها فضمّتها إلى صدرها، فأحسّت كأنها قد ضمّت يديها على كنوز الدنيا. وكان زوجها معها، فلمعت فكرة في ذهن الزوجين معاً، هي أن يأخذا الطفلة فيربّياها، ففعلا وأحسنا القيام عليها وتجدّدت بها حياتهما، وعادت النضارة إلى وجه المرأة ورجعت المسرّة إلى قلبها، ودخلت عليهما السعادة مذ دخلت هذه البنت، وأقاما عليها يُغدقان عليها الخيرات ويلفّانها بالحنان، وكبرت فكانت فتنة الأنظار فزوّجاها.
وما فارقتهما حتى أحسّت المرأة كأن شُعبة انشعبَت من قلبها، وكادت ترجع إليها عوارض المرض في نفسها، فوجدت لها بنتاً غيرها. ومرّت الأيام، وانتهى بهما الأمر إلى أن عرف الناس جميعاً خبرهما، فكلّما وجد أحدٌ لقيطاً حمله إليهما، ففتحا
هذه الدار ووقفا عليها رَيعَ أموالهما، وفاضت عليهما العطايا والتبرّعات. ولمّا زرت الدار سنة 1954 (1373هـ) اطّلعتُ على دفاترها فوجدتُهما قد ربّيا إلى تلك السنة مئتين وخمسة وثلاثين ولداً، وكان عندهما لما زرتها ستة وأربعون ولداً، من كل أمّة وجنس ومن كل لون ولسان، يربّيانهم جميعاً على دين الإسلام وعلى حبّ الوطن وعلى الخلق والفضيلة، فنشأ عندهم محامون وأطباء وعلماء وصنّاع وتجّار، وكلهم بقي يتردّد على الدار ويرى في هذا المرأة أماً له وفي هذا الرجل أباً.
لقد حُرما ولداً أو ولدين فاتخذا مئات من الأولاد، واتخذا مع ذلك الثواب في الآخرة والمجد في الدنيا، وعلوّ المنزلة وبقاء الذكر. لقد صبرا على ما لا يصبر عليه أحد. وأنا لم أستطع أن أكمل الدورة في غرف هذه الدار إلاّ بصعوبة؛ لقد أحسستُ أن أعصابي قد شُدّت وتوتّرت من بكاء الأطفال وضجيج الأولاد، وسددتُ أنفي وغضضت بصري مرّات لئلاّ أشمّ أو أرى ما يؤذي، وهما يصبران على ذلك كله ويعيشان في هذا البيت مع هؤلاء الأولاد. إن الواحد منّا يكون في بيته خمسة أطفال أو ستة من دمه ولحمه، فلا يطيق القعود معهم ويهرب منهم. فقدّروا مبلغ ما يكابد هذان الإنسانان الكريمان.
ولقد سألتهما عن مبلغ وفاء هؤلاء لهما، ففهمت أن منهم قليلاً أنكر الفضل وجحد المعروف، ولكن ذلك لا يزيد على ثلاثة في المئة (ولا عجب، فإن من الناس من يبلغ به اللؤم أن ينكر فضل أمه التي حملته وسط أحشائها وأرضعته من لبن ثديَيها)، والباقون كانوا لهما أبرَّ من أولاد الأصلاب. وسألتهما
إلى متى يقومان على هذه الدار ولِم لا يسلّمانها إلى جمعية أو مؤسسة؟ قالت: لمّا ضممت تلك البنت الأولى إلى صدري كان عمري إحدى وعشرين سنة، وقد نيفت الآن على الخمسين، ولكني لن أدَع هذا العمل حتى يُقعِدني الكبر أو يقطعني الموت، إلاّ أن يملّ فلان (وأشارت إلى زوجها). فنظر إليها نظرة يقطر منها الحب وقال لها: أنا معك حتى الموت.
* * *
جاءني العيد (1) وأنا ضيف الحكومة الأندونيسية؛ أنزلتني في فندق الهند، أكبر فنادق الشرق، في جناح فخم أبهى وأوسع من منازل السادة الكبراء. وكان عندي كل ما يشتهي امرؤ أن يكون له: المال في جيبي والسيارة على بابي والمُرافق قيد أمري، ولكن شيئاً واحداً لم يكن عندي هو بهجة النفس.
كنت وحدي، أرى الأسر الهولندية من حولي وشملها جميع وأهلها حاضرون، وأنا بعيد عن أهلي وبناتي، بيني وبينهن -كما قلت لكم- ربع محيط كرة الأرض.
كان الناس في عيد وأنا في كرْب، لا أجد من أكلّمه كلمة أو أفهم عنه أو يفهم عني، إلاّ الإخوة الكرام سفير مصر والقائم بالأعمال السعودي وبعض الأصدقاء، فإذا انصرفوا عني بقيت وحيداً مع همومي وضيق صدري واكتئابي. وما العيد إن لم يكن
(1) من هنا إلى آخر الحلقة من مقالة «صورة في الطريق» ، وهي في كتاب «في أندونيسيا» . وقد مرّ بكم طرف من هذه المقالة في الحلقة السابعة والسبعين من هذه الذكريات (مجاهد).
معه الأنس ببلدك وأهلك وأصدقائك؟ وما العيد إن لم يكن فيه للنفس متعة وللقلب راحة؟
وذهبت أهيم على وجهي أمشي على غير هدى حتى بلغت ساحة كامبير (أي الاستقلال). وكانت قد نبتت فيها عشرون ألف زهرة ملوّنة في ليلة واحدة، لا أعني زهرات الحقل ولكن زهرات البيوت. كان البنات، بنات جاوة (الحلوات لا الجميلات!) وأطفالهن يختلن في الثياب العجيبة الملوّنة بمثل زهر البستان، وكان لهن أفانين من التسليات والألاعيب. ولكني كنت عن ذلك كله في غفلة، كنت أمشي بلا قلب لأن قلبي بعيد بعيد، بعيد في المكان والزمان؛ إنه يهيم في أودية الماضي ويسرح على تلك السفوح الحبيبة من قاسيون، التي حُرمت الآن منها وأُبعدت عنها، وأخشى أن يحين أجلي قبل أن أعود إليها فأراها.
مشيت حتى بلغت حديقة لحظت أنها مرتع أطفال الأغنياء لِما يبدو عليهم من آثار الترف والسرف. وكان على باب الحديقة عجوز ظهر عليها الكبر (رغم أن نساء جاوة لا يكدن يَشِخْنَ أبداً!)، عجوز أثقل ظهرَها حمل السنين، وفي يدها بنت كأنها الفلة المتفتحة جمالاً وطهراً، في ثياب قديمة لكنها نظيفة. وكانت تنظر إلى هذا العالَم كأنه غريب عنها، وكأن الله خلقها هي وجدّتها من الطين وخلق أولاد الأغنياء هؤلاء من الزبد والحليب. وكانوا يمرّون بها لا يلتفتون إليها ولا يرونها، ولو كانت هرّة صغيرة أو كانت كلباً في البلاد التي تأنس بالكلاب لوجدَت من يمسح شعرها ويبسم لها.
وكان الأولاد يشترون أكفّ الشُّكَلاطة من بيّاع هناك، وكانت الطفلة تنظر إليهم وهم يمزّقون أوراقها ويأكلونها، تنظر بعيون يلمع فيها بريق الرغبة المحرقة يعقبها خمود اليأس المرير. ثم غلبها الطمع فلكزَت جدتها بمرفقها على استحياء، حتى إذا التفتت إليها أشارت بغمزة من عينيها وحركة سريعة من يديها إلى الشُّكلاطة، فتبسّمَت الجدّة بعينيها ولكن مقلتيها كانتا تبكيان بلا دموع، وقلبت كفّيها إشارة العجز والفقر.
هنالك عرضَت لي فكرة حمدتُ الله عليها وأسرعت إلى تحقيقها، هي أنني اشتريت أكبر كفّ من الشُّكَلاطة، وذهبتُ به فوضعته في حِجرها هو وما كان في جيبي من مال. فنظرَت إليه نظرة المشدوه، ثم حوّلت بصرها إلى جدّتها كأنها تستنجد بها، تستشيرها: ماذا تعمل؟ فأشرق وجه العجوز إشراقة سريعة كأنها بريق الشمس يسطع لحظة من خلال الغمام، وأقبلَت عليّ تقول كلاماً طويلاً باللغة الأندونيسية لم أفهم منه إلاّ «تريما كاسي، بنجاوم عمر» ، أي: أشكرك، الله يطوّل عمرك. وقامت البنت تجرّ جدتها، تهرب كما تهرب الهرّة أعطيتَها قطعة لحم، تسرع خوفاً أن تندم عليها فتعود فتنزعها منها، حتى عجزَت خطوات الجدّة عن اللحاق بها، وهي تتلفّت إليّ: هل ندمتُ فلحقت بها أستردّ ما أعطيت؟ حتى غابت عن عيني.
لقد خسرت مبلغاً لا يجاوز ما أُنفِقه أجرة نزهة في سيارة أو ساعة أقعدها في مقهى، لكني ربحت من اللذّة ما لا أجده في مئة نزهة ولا مئة مقهى. أحسست كأن ما كان في قلبي من الضيق قد انفرج وما كنت فيه من الكرب قد زال، وأن نار الشوق إلى أهلي
قد خمدت، والمنظار الأسود رُفع عن عيني فرأيت بهاء الكون وبياض النهار، ووجدت العيد.
لقد تعلّمتُ أن السعادة ليست بالأموال ولا بالقصور ولا بالخدم والحشم، ولكنها بسعادة القلب، وأنّ أقرب طريق إلى سعادة القلب أن تُدخِل السعادة على قلوب الناس، وأن أكبر لذّات الدنيا هي لذّة الإحسان؛ لا أقصد الريال الذي تُلقونه للسائل، ترمونه إليه وأيديكم عالية ووجوهكم مقطّبة ولسان حالكم يقول: انظر هوانَك وعِزَّنا وفقرَك وغنانا، بل إن الإحسان أن تُعطوا من قلوبكم لا من أيديكم وحدها، فيكون المال في اليد، والبسمة على الشفاه، والكلمة الطيبة المواسية على اللسان. إنكم تُرجعون بذلك إلى الفقير كرامته التي أضاعها وإنسانيته التي افتقدها، وتردّون عليه روحه. والروح أثمن من الجسد، والكرامةُ والإنسانية أفضل من أموال الدنيا كلها (1).
* * *
(1) اقرأ مقالة «أحسِنْ كما أحسَنَ الله إليك» في كتاب «مع الناس» (مجاهد).