الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-178 -
ملاحظات عن المحاماة والمحامين
والقضاء والقضاة (1)
يقول المعري:
أمسِ الذي مرَّ، على قُربِهِ
…
يَعجِزُ أهلُ الأرضِ عن ردِّهِ
فكيف أردّ أيامي في محكمة دمشق لأكمل -كما وعدتكم- حديثي عنها؟ كيف وقد مرّ عليها أكثر من أربعين سنة، وما كان فيها من أحداث مضى ولن يعود، ومن كان فيها من ناس ذهب أكثرهم ولا يرجعون، بل إن صورها مُحيَت من الذاكرة إلاّ أقلّها؟
لبثتُ في محكمة دمشق عشر سنين، من يوم جئتها منتدَباً إليها وأنا قاضٍ في دوما في سنة 1943 إلى أن فارقتها صاعداً منها إلى محكمة النقض سنة 1953. وما كانت هذه الأيام خالصة لها وحدها، بل كنت أعمل معها أعمالاً سيعجب مني الآن من سيقرأ الذي سأكتبه (صادقاً) عنها ويقول: كيف كان يتسع وقتي لها وتقوى طاقتي عليها؟
كان عندي كل يوم ثلاثون قضية (أي دعوى)، أسمع مرافعاتها وأحكم فيها، وأُشرِف على مجالس التحكيم، وأعمل رئيساً لثلاثة مجالس: مجلس الأوقاف، ومجلس الأيتام، والمجلس الأعلى للكليّات الشرعية في سوريا التي تتبع وزارة الأوقاف. وأُلقي دروساً في الكلّية الشرعية في دمشق، وفي الثانوية الأولى للبنين والثانوية الأولى للبنات، وأخطب الجمعة في جامع المرابط أو في مسجد الجامعة، وأحاضر في النوادي والجمعيات، وأحدّث من إذاعة دمشق (وأنا أقدَم محدّث يسمعه الناس، مرّ عليّ الآن أكثر من خمسين سنة وأنا أحدّث ما انقطعتُ عن الحديث)، وأكتب كل يوم كلمة صغيرة في جريدة «النصر» أولاً ثم في جريدة «الأيام» عند الصديق نصوح بابيل. كلمة صغيرة ولكنها كصغر القنبلة اليدوية، لها مثل دويّها ومثل أثرها في تدمير الباطل.
كنت أصنع هذا كله، ثم أجد وقتاً أجلس فيه في المكتبة العربية عند الأستاذ الصديق الشاعر أحمد عبيد، أو في المدرسة الأمينية عند الشيخ شريف الخطيب، أو في البيوت التي أعتادها وأواظب على زيارتها، كدار شيخنا الشيخ بهجة البيطار ودور أساتذتنا وإخواننا: محمد كرد علي وفارس الخوري وعزّ الدين التّنوخي والدكتور حمدي الخيّاط والشيخ عبد القادر العاني والشيخ ياسين عَرَفة والشيخ عبد القادر المبارك والشيخ عبدالقادر المغربي، وبيوت أمثالهم.
وهذه كلها من مواطن ذكرياتي التي طالما شهدَت مجالسنا ووعَت أحاديثنا ورأت أطوار حياتنا، فهي محطّات دائمة في
طريق العمر، وقفتُ عليها شاباً في مطلع الشباب وكهلاً في وسط الكهولة وشيخاً في أوائل الشيخوخة، ثم حِيل بيني وبينها فلم أعُد أراها، وذهب أصحابها إلاّ أفراداً منهم، منهم مَن سمّيتُ، ومنه آخرون ما ذهبَت ذكراهم في قلبي ولكن غابت أسماؤهم الآن عن خاطري. ولي في بغداد وفي بيروت وفي القاهرة مواطن مثلها لذكرياتي، لو جمعتُ ذهني لكتبت عن كل واحد منها فصولاً لا فصلاً واحداً، ومنها ما أستطيع أن أكتب عنه كتاباً. ولكن ما الجدوى وقد بقي المكان وذهب السكان؟ ولئن ذهبت إلى الشام أو إلى العراق أو إلى مصر فمَن سألقى من هؤلاء؟ لو ذهبت إلى الشام التي نِيطَت عليّ فيها تمائمي وفيها نشأت وعلى ثراها درجت، والتي أهلها أهلي، هل أجد الشام التي فارقتها؟ هيهات! فلا الدنيا هي الدنيا ولا الناس هم الناس، وسأبدو غريباً في وطني. وما أقسى أن يكون المرء غريباً في وطنه!
ولطالما لقيتُ في هذه المجالس أفاضل الناس، قلت لهم وسمعت منهم وأخذت منهم وأعطيتهم، وكان فيها منفعة أو كان فيها متعة لي ولهم، ثم قطع الدهر (أو قطعت أنا لا الدهر) ما بيني وبين الناس، فلا أزور اليوم ولا أُزار، وانتهت بي الحال إلى عزلة كاملة، ربما ضقت بها حيناً ولم أعُد أحتملها ولكن لا أُطيق الخلاص منها، كحمار السانية (التي يسمّونها في مصر «الساقية») يُربط بذراعها فيدور مضطراً معها، فإذا أطلقتَه عاد يدور طليقاً كما كان يدور مربوطاً.
وعفوكم إذا ضربت المثل بالحمار، فإنما شبّهت به نفسي وأنا حرّ في نفسي!
وكنت -مع ذلك- أقرأ كل يوم مئتين أو ثلاثمئة صفحة، وأنا مستمرّ على ذلك من يوم تعلّمت القراءة وأنا صغير، أي من نحو سبعين سنة إلاّ قليلاً؛ أصرف فضل وقتي كله في القراءة، لأنني ما كنت ألعب مع الأولاد في الشارع ولا أذهب مع الشباب إلى ملهى، ولست امرءاً اجتماعياً يُضيع وقته في استقبال القادمين ووداع المسافرين وتهنئة الفرِحين وتعزية المصابين، ولا أجيب دعوة، لا سيما إن كانت إلى طعام. وأستغفر الله من ذلك إن كان فيه مخالفة لِما هو أكمل في نظر الإسلام، ولا أدعو أحداً إلى أن يفعل مثلي. ولا أستقبل زائراً إلاّ عن موعد سابق ولا أزور أحداً إلاّ في الحالات النادرة، فحفظت بذلك وقتي وأرحت نفسي.
تقولون: كيف قدرت على هذا كله وكيف اتسع له وقتك؟ والجواب أنني لم أكن أقسم نفسي ولكن أقسم وقتي، وهذا ما يُسمّى عند الفقهاء «المُهايَأة» . هل سمعتم بالمُهايأة؟ إذا كان للدار مالكان لا تتّسع لهما ولا يمكن أن تُقسَّم بينهما فإنهما يقسمان الوقت، فيستعملها كل واحد منهما شهراً أو سنة، ويستعملها الآخر مثل ذلك.
وأنا حين أكون في المحكمة أوليها انتباهي كله ولا أفكر في الجريدة ولا في المدرسة، وإن كتبت أكتب للجريدة أُبعِد ذهني عن المحكمة، وحين أكون في المدرسة لا أفكّر في غير دروس المدرسة. ثم إن ذلك كان على عهد الشباب. «روائحُ الجنّةِ في الشبابِ» كما قال أبو العتاهية، ولو أن الشبّان من قراء هذا الفصل أنفقوا قواهم وصرفوا وقتهم في الجِدّ وفي المنتج النافع لصنعوا أكثر ممّا صنعت.
بل إن الشيوخ يقدرون على مثل ذلك؛ أنا الآن في الثمانين أكتب هذه الذكريات من ذهني لا أرجع فيها إلى شيء مكتوب، ولي برنامج يوميّ في الإذاعة وبرنامج أسبوعي في الرائي (التلفزيون) يرد فيهما في الشهر ما بين خمسمئة إلى تسعمئة رسالة، وأُسأل كل يوم في الهاتف أربعين أو خمسين سؤالاً أو أكثر من ذلك فأجيب على ما أقدر على جوابه منها، وأجد وقتاً وأجد -بحمد الله- طاقة على أكثر من ذلك.
* * *
كنت أحاول في المحكمة أن أتحرى الحقّ وأسلك طريق العدل، على مقدار ضعفي وعجزي، وكنت أرجو رضا الله. ولكني شعرت في هذا اليوم الذي أُعدّ فيه هذه الحلقة بالخوف من عواقب دخول القضاء وتمنيت لو أني لم أكن دخلته؛ ذلك أن بنتي المحاضرة في الجامعة في جدة خبّرتني اليوم أن إحدى الطالبات راجعتها تقول إنها تستحقّ درجة أعلى ممّا قدّرَت لها، فعادت إلى أوراقها فرأت أنها قد أخطأت في الحساب، وخشيَت أن تكون قد أخطأت مع غيرها من الطالبات، فسهرَت ليلها كلّه لم تنَم تعيد الجمع والتقسيم. وتسألني: ماذا تعمل؟ فأجبتها، ثم رجعتُ إلى نفسي فساءلتُها فقلت: ويحك يا نفس، ماذا تصنعين إذا كنتِ قد أخطأت الصواب في بعض ما أصدرت من أحكام؟
وطار النوم من عيني أنا أيضاً وخفت الله حقاً، وفهمت لماذا كان أكابر العلماء يفرّون من القضاء. لقد فر أبو حنيفة ومالك وسفيان الثوري، وكثير من أمثالهم ومَن هو قريب منهم،
إذا رجعتم إلى كتاب «تاريخ قضاة الأندلس» لوجدتم طائفة من أخبارهم. فكيف أقدمت أنا عليه؟ هؤلاء بحور العلم وأنا بِركة صغيرة قليلة الماء، فكيف وسعَت بركة صغيرة ما ضاقت عنه البحور والمحيطات؟ لقد حكمتُ في أكثر من خمسين ألف قضية، فإن أخطأتُ في واحد من الألف منها لَتعلّق خمسون مسلماً بعنقي يوم القيامة يريدون أن يأخذوا من حسناتي، وما أقلّ ما أدخرت لذلك اليوم من حسنات!
لذلك تمنيت لو أني ما دخلت القضاء ولا ذبحت نفسي بغير سكّين. فاللهمّ تدارَكْني بعفوك ورحمتك، وإن أكن أخطأت فظلمت أحداً فأرضِه يا ربي عني بفضلك، فإنك تعلم أني ما تعمّدت ظلم أحد.
* * *
لو أردت أن أجمع ذكرياتي في المحكمة (ولا أستطيع) لضاقت عنها حلقات كثيرة، لا سيما عن أخباري مع المحامين. ولقد كنت مرّة في مقابلة إذاعية مع أحد رجال الإعلام (وكلمة «الإعلام» وضعها صديقنا الدكتور مصطفى البارودي لمّا كان وزيراً في الشام) فسألني: ما رأيك في المحاماة والمحامين؟ قلت: بل سل ما رأي المحامي في القُضاة، كما تسأل عن رأي القاضي في المحامين.
أنا اشتغلت في المحاماة مدّة قصيرة لم تتجاوز ستة أشهر، وفي القضاء مدّة طويلة تزيد على ربع قرن، وأستطيع أن أجيب على السؤالين ولكن بجوابين مختلفَين؛ ذلك أن حُكمك على
الشيء يختلف باختلاف زاوية نظرك إليه. خذ قطعة من الورق وانظر إليها من الأمام، ترَ مستطيلاً واسعاً، فإن أبصرتها من طرفها رأيت خطاً دقيقاً. وذلك شيء مُشاهَد. هل ينظر الطلاّب إلى المدرّس والمستمعون إلى المحاضر كما ينظر هو إليهم؟
لمّا كنت محامياً كان يُغيظني القاضي الذي أُلقي بين يديه مرافعة تعبتُ في إعدادها وحشدت الأدلة الشرعية والقانونية عليها، أو أقدّمها إليه مكتوبة، فيسمعها إن سمعها بطرف أذنه، ويقرؤها إن قرأها بزاوية عينه، ثم إذا صدر الحكم تبيّنتُ أنه لم يدقّقها أو لم يُحِط بها. وأشدُّ منه القاضي الذي يميل عن الحقّ ويلتزم جانب الخصم، فيردّ عليّ كأنه هو خصمي أو كأنه المحامي عن خصمي.
أمّا حكمي على المحامين وأنا قاضٍ من فوق قوس المحكمة فإني وجدت أن الدعوى التي لا محامي فيها ينطق فيها الخصمان غالباً بما هو الحقّ، فإن حادوا عنه رددتهم إليه بأيسر جهد، لأن سواد الناس تغلب عليهم الفطرة ويسود قلوبَهم الصفاء، فإن مكروا فمكرهم غير عميق، وتُفصل الدعوى بعد جلستين أو ثلاث. فإن دخل المحاميان طوّلا الطريق ووعّرا السهل، هذا يُقيم صخرة يسدّ بها السبيل على خصمه وذاك يزيحها فيضعها حيث يسلك الخصم، فيطول أمد المحاكمة، وربما أضاع أحدهما الحقّ فخلطه بالباطل أو جعل الباطل حقاً والحقّ باطلاً.
وليس هذا حكماً على المحامين جميعاً، فإن التعميم يلازمه الخطأ، وإن من المحامين من أعرفه لا يقبل الوكالة في دعوى حتى يتحقّق من صحّتها ومن صدق من يريد توكيله فيها. كان
على ذلك جماعة في الشام منهم الأستاذ بدر الصفدي رحمة الله عليه. ومنهم من يعاون القاضي على تحقيق العدل بدراسة الأوراق وتمحيص الأدلّة، كما يفعل (أو يُفترَض أن يفعل) القاضي، لكن الفارق بينهما أن المحامي ينظر بعين واحدة هي عين موكّله فقط، والقاضي ينظر بعينين إلى الخصمين، نظرة لا تميز أحدهما عن صاحبه.
والمحاماة ليست حِمىً مستباحاً ولا عمارة مفتَّحة الأبواب ما لها بوّاب فمن رغب فيها دخل إليها، بل هي الأخت الصغرى للقضاء، ولا بدّ فيها من علم تؤيّده شهادة جامعية وتدريب تعترف به نقابة المحاماة.
وما كل من حمل الشهادة ورشّحَته للمهنة النقابةُ صار محامياً ناجحاً؛ فالدعاوى شتى وموضوعاتها وأشكالها كثيرة، ورُبّ دعوى تسمُّم مثلاً لا بدّ للمحامي فيها من معرفة شيء من الكيمياء، ودعوى تحتاج إلى العلم بشيء من الطب، ودعوى تحتاج إلى اطلاع على علم النفس. ولا أعني أن يكون المحامي عالماً بهذا كله، بل أن يُلمّ به بعض الإلمام ويعرف كيف يرجع إلى كتبه أو يستعين بعلمائه، وأن يكون -مع ذلك كله- حاضر البديهة بليغ اللسان، عارفاً بأحوال القضاة (أو المحلّفين في البلاد التي تأخذ بأسلوب المحلّفين، وبأحوال المجتمع الذين هم صورة مصغّرة له وعلى علم بأعرافه ومواضعاته، وإن كان الإسلام يأبى الأخذ بأسلوب المحلّفين).
والمحاماة علم وفنّ: علم بالفقه وبالقانون، وفنّ في حسن العرض وبراعة الأسلوب. فإن خلا من العلم كان إناء ثميناً جميلاً
لكنه فارغ، وهل يُشبِع الجائعَ إناء فارغ؟ وإن كان الطعام لذيذاً طيباً ولكنه قُدِّم في طبق صدئ وسخ عافته النفس وانصرف عنه الجائعون.
وأكثر ما تظهر براعة المحامي وبلاغته في الدعاوى الجنائية التي تشغل الناس، يتابعون مراحلها وينتظرون الحكم فيها، لا سيما ما كان منها متصلاً بسياسة البلد والرأي العام، كقضية مقتل الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في الشام، التي ألّف لها الفرنسيون مجلساً عدلياً واستعاروا قاعة المجلس النيابي، ورافع فيها محامون كبار من الشام ومن لبنان (وإن كانت المحكمة وكان المترافعون ينطقون الفرنسية لا العربية)، وقضية مقتل أنور السادات، والقضية التي تشغل الآن الناس وتملأ أخبارها الجرائد، قضية الجندي الذي ثأر لدير ياسين وتلّ الزعتر، ولكل من عدا عليه خنازير الشرّ وحثالة الناس، اليهود، فقتل سبعة منهم، فسمّاه القانون مجرماً ودعته الصحف ودعاه الناس بطلاً.
وأعاظم المحامين الذين قرأت لهم أو عنهم وعرفت أخبارهم كانوا من الفرنسيين، وفي البلاد العربية من المصريين. لقد ظهر في مصر محامون عظام، كما أن فيها وفي غيرها من البلاد العربية قضاة عظاماً. ولقد كنت قلت كلمة من قديم عُلّقت عليها تعليقات كثيرة بأقلام أدباء كبار، منهم من أيّدها ومنهم من ضعّفها ورد عليها، هي أن أبلغ الألسن واللغات لغة العرب، فهي في الدرجة الأولى، والثانية والثالثة شاغر مكانها، وفي الرابعة اللغة الفرنسية والفارسية والأرديّة، أما الإنكليزية فلا يحقّ لي أن أقول فيها شيئاً لأنني لا أعرف منها إلاّ ثلاث كلمات: إذا أردتَ أن ترجو أحداً
قلت «بليس» ، لعنة الله على إبليس، وإذا أردت أن ترحّب به قلت له «ويلكم» بدلاً من قولك أهلاً وسهلاً، وإذا سألت بيّاعاً عن ثمن شيء قلت له:«هَمج» ؟
وفهمت أنها لغة سماعية، لا تكاد تضبطها قاعدة ولا يمسكها قياس، ففيها حروف تُكتَب ولا تُقرأ وحروف تُقرَأ وهي غير مكتوبة، وحروف تُقرأ تارة على صورة وتُقرأ هي نفسها تارة أخرى على صورة غيرها؛ أي أن الناس كلهم يتعلمون الكتابة ليقرؤوا قراءة صحيحة، والإنكليز يتعلمون القراءة الصحيحة ليعرفوا كيف يكتبون! وهذا هو «الدور والتسلسل» الذي عدّه العقلاء من باب المُحال:
لولا مَشيبي ما جَفَا
…
لولا جَفاهُ لم أَشِبْ
ومع ذلك فقد فرض الإنكليز هذه اللغة العرجاء على سدس أهل الأرض ينطقون بها، وأضعنا نحن لغتنا وأهملناها حتى كدنا، نحن أبناءها، نصير من الجاهلين بها، وأضعنا في تعلم الإنكليزية خمس ساعات من دروس أبنائنا ثم لا يكادون يخرجون منها بطائل.
* * *
وربما سحر المحامي ببيانه القضاة والحاضرين فأوهمهم ما لا يمكن أن يقع، فإذا انتهت الجلسة وبطُل السحر ومضى الساحر صحوا حين لا يفيدهم صحو، لأن الحكم قد صدر والمحامي قد وصل إلى ما يريد.
كان أحد المحامين (وكنت أعرف اسمه وقد نسيته الآن)
يدافع عن رجل قتل زوجته، فوصف حبهما حتى جعلهما قيساً وليلى أو روميو وجولييت، وصفاً شعرياً مؤثّراً، وبيّن اتفاق مشاعرهما حتى كأنهما روح واحدة نُفخت في جسدين، وأنه لم يكن يعدل بها أحداً ولا ترضى عنه بديلاً، وقال إنهما من حبهما وخشية أن تفرّق الأيام بينهما وليبقيا دائماً معاً اتفقا على الموت، بأن يقتل نفسه ثم يقتلها، وكانت ساعة وداع صبّا فيها رحيقَ حبهما، فلما جاءا ينفّذان الاتفاق بدأ فقتلها وقلبه معها وفكره فيها، ولكن من سمع طلقة المسدس هجم عليه وأمسك به فلم يستطع أن يقتل نفسه.
وبلغ من براعة وصفه وبلاغة دفاعه أن استمطر الدمع من عيون القضاة قبل الحاضرين، وصدر الحكم ببراءته. فلما خرجوا عادت إليهم عقولهم: كيف يقتل نفسه ثم يقتلها؟
ولا تعجبوا أن يدفع العاشقَ حبُّه المعشوقَ إلى قتله، فلقد صنع هذا ديك الجنّ، الشاعر المعروف الذي مات سنة 235هـ. ولعلّ ذلك نوع من «الساديّة» (نسبة إلى الماركيز دوساد) التي لا يبلغ أصحابها لذّتهم إلاّ بتعذيب مَن معهم تعذيباً يصل إلى حدّ الجريمة، وضدّها «المازوخيّة» (أو المازوكية، نسبة إلى المؤلف الألماني ساشر مازوخ الذي أكثر من وصف المُصابين بها) ولعلّ منهم جان جاك روسو كما أقرّ على نفسه في اعترافاته المشهورة. فالمازوخي لا يحسّ المتعة إلاّ بأن يُعذَّب ويُهان. تقولون: هل هؤلاء مجانين؟ وأقول: وهل في الدنيا عاشق غير مجنون؟
* * *