الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-162 -
عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت
أنا لست هنا في موضع المؤرّخ الذي يجمع أطراف الحوادث ويحقّقها ويحكم لها أو عليها، إنما أنا واحد من الناس أكتب ما رأيت وما سمعت، بل أدوّن ما بقي في ذهني من ذكريات ما رأيت أو سمعت. وأنا في العادة لا أكتب خطب الجمعة التي ألقيها، بل إني منذ خمس عشرة سنة أو تزيد لم أعُد أكتب أحاديثي التي أبثّها من الإذاعة أو أعرضها في الرائي. ولكن خطبة الجمعة التي أُلقِيَت عقب الانفصال وأذاعتها إذاعة دمشق يوم 2/ 5/1381هـ صارت من مصادر التاريخ، ثم إنها لم تُنشَر قبل اليوم لأدلّ من أراد الاطّلاع عليها على مكان وجودها. لذلك استجزت لنفسي أن أنشرها هنا، وأن أصل اليوم ما انقطع منها فأبدأ من حيث وقفت في الحلقة الماضية.
* * *
قلت: هنالك استطاع نفر منهم أن يُطلِقوا أيديهم من القيد، وأن يقطعوا السلسلة التي تربط زورقهم بالمركب، وأن يسارعوا إلى الابتعاد عن الخطر. فهل أجرموا في ذلك جرماً؟
على أنهم سيبقون إخواناً؛ سيسكت من يتكلّم علينا من «صوت العرب» ويسكت من يدافع عنّا من إذاعة دمشق، ويبقى نشيد «الله أكبر» يدوّي ويجلجل من مصر ومن الشام، ويبقى صوت القارئ في مصر وصوت القارئ في الشام يُذيعان في الدنيا الخير والحقّ والهُدى حين يُذيعان آيَ القرآن.
إنها لن تنفصم عُرى أُخُوّتنا ولن تتفرّق وحدتنا، ما دامت تجمعنا كلمة «الله أكبر» ويجمعنا كتاب الله. وستبقى الوحدة غايتنا، إن لم تنجح تجرِبتها الأولى فينا فسنعيدها كرّة أخرى، ومرّة ثالثة، ولا نزال نجرّب حتى يُكتَب لتجرِبتنا النجاح.
إنها وحدة قرّرها ربّ العالَمين، ونزل بقراره الوحيُ الأمين على قلب سيد المرسَلين فقال له:{إنّما المؤمنونَ إخوةٌ} ، وما قرّره الله لن يُبطِله إنسان، وما أبرمه الله لا تنقضه يد بشر.
وبعد، فلقد كدت أثني على القائمين بهذه الثورة وأذكر لهم أنهم اتبعوا فيها طريق العقل وسلكوا سبيل الإخلاص، وأنهم ضربوا للناس مثلاً ما سمعنا به من قبل حين نفضوا أيديهم من الحُكم وعادوا إلى ما كانوا عليه من قبلُ، خاضوا المعركة وعفّوا عن الغنائم.
لقد كدت أثني عليهم، ولكني ذكرت أن هذه المنابر ليست للدنيا ولا لأهلها، ولا هي للحكومات ولا لأربابها، وليست للمدح ولا للذّم. لقد طالما اتُّخذت وسيلة إلى الدنيا وسُخّرت لأهواء الحاكمين، وركبها أناس ليسوا خليقين بها وليسوا من أهلها يمدحون من فوقها ويذمّون، يمدحون كل حاكم، فإذا زال وجاء
غيره عادوا فمدحوا مَن ذمّوا وذمّوا من كانوا يمدحون! حتى لقد بلغ بهم الأمر في هذه السنين الثلاث الماضيات أن ذكروا الكَفَرة بأسمائهم وأثنوا عليهم على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكل منبر في كل مسجد منبر رسول الله، لا يُقال من فوقه إلاّ ما يرضاه رسول الله صلّى عليه الله.
إنه لا يجوز أن يُسمع من فوق هذه المنابر إلاّ: قال الله وقال رسول الله، وإذا تكلّمنا فيها عن أحداث البلد فإنما نتكلم لنبيّن حُكم الله عليها وقول الشرع فيها. ومن صعد هذا المنبر خرج من شخصه وتَجرّد من آرائه وميوله، وسكت لسانُه لينطق الشرع على لسانه. إنه يقوم مقاماً قامه رسول الله ‘ ليُبلّغ دين الله، وهو مقام تتقطّع دونه أعناق الرجال. ولولا أن الخطبة شعيرة من شعائر الدين وفريضة من فرائض الإسلام وأنه لا بد منها، لفضّلت أن تنكسر رجلي عن أن أزعم لنفسي أني أصلح لهذا المقام.
على أني لست أنا الذي يتكلم الآن من فوق هذه الأعواد. أنا حين أكون على الأرض أكون رجلاً من الناس، واحداً من غمار الخلق، ليس لي غِنى الأغنياء ولا علم العلماء ولا سطوة الأمراء ولا وجاهة الوجهاء، ولكني حين أصعد هذه الدرجات أكون شيئاً آخر.
ليس علي الطنطاوي هو الذي يكلّمكم الآن. علي الطنطاوي إنسان يرغب ويرهب، ويرضى ويغضب، ويقول فيخطئ ويصيب، وله نفس أمّارة بالسوء مُثقَلة بالأوزار. ولكن الذي يتكلّم الآن هو الشرع، وإذا تكلّم الشرع أصغى كل إنسان، وإذا قال الخطيب
"قال الله وقال رسول الله" فما على الناس إلاّ الطاعة والامتثال، لأنهم جميعاً عبيده.
من هو الذي قمنا عليه لمّا رأينا من حكمه؟ عبد الناصر. ومَن أعوانه ووزراؤه؟ عبد الحكيم وعبد اللطيف وإخوانهما. ومَن هو الذي أنقذَنا منه وخلّصنا من حكمه؟ عبد الغني وعبدالكريم وإخوانهما (1). ومن يحكم العراق اليوم؟ عبد الكريم. ومن أسّس دولة الأردن؟ عبد الله، ومن أقام المملكة السعودية؟ عبدالعزيز.
كلهم عبيد، عبيد لله أعِزّة بين خلق الله. والملوك الأوّلون الذين كان لهم السلطان وكان لهم الجند والأعوان، مَن كان منهم على الحقّ ومن كان منهم على الباطل، ومن قدّم لنفسه خيراً ومن قدّم شراً. ماذا كانوا كلهم؟ كانوا عبيداً لله. كلهم ومن كان قبلهم ومن سيأتي بعدهم؛ كلهم عباد، يملك رقابَنا ورقابَهم وبرغم آنافنا وآنافهم ملك واحد، مالك لا مفر من مُلكه وليس في العبودية له ذِلّة ولا مهانة بل فيها الشرف والفخر، هو الله مالك المُلك ربّ العالَمين.
(1) الذي قاد الانتفاضة التي انتهت بالانفصال هو المقدّم عبد الكريم النحلاوي، قائد اللواء المدرع في قَطَنا. أما العميد عبد الغني دَهْمان فقد كان قائد القطعة العسكرية التي احتلت مبنى رئاسة الأركان والإذاعة ومقر المشير عبد الحكيم عامر صبيحة الانتفاضة، وهي قطعة من لواء «الضُّمَير» الذي كان يقوده العقيد حيدر الكزبري والذي كان تحركه إلى دمشق هو البداية الفعلية لحركة الانفصال (مجاهد).
كم تداول هذا المنبر من خطباء، وكم ذُكر عليه من ملوك وخلفاء؟ مضوا جميعاً وبقي هذا المنبر. ثم يذهب هذا المنبر وتذهب الأرض ومن عليها، ويبقى الله ذو الجلال والإكرام.
فلتعُد هذه المنابر لله وحده، وليعلم الناس أنها ليست لحاكم ولا لأمير، وأنها ليست ملكاً للخطيب ليُعلِن منها آراءه بل ليُعلن منه حكم الشرع:{وأَنّ المسَاجدَ للهِ فلا تَدْعوا مَعَ اللهِ أحَداً} . فليضع الخطيب نصب عينيه رضا الله لا رضا الناس، وليعلم أنه إذا عصى أمر الحاكم في طاعة الله حماه الله من الحاكم، ولكن إن عصى أمر الله في طاعة الحاكم لم يحمِه أحد من الله. هل يضمن هذا الرئيس أو هذا السلطان أن يعيش إلى المساء؟ هل يستطيع أن يدفع عن نفسه الموت؟ هل يقدر أن يُغلِق بابه دون عزرائيل إن جاءه؟ أينما تكونوا يدرِكْكُم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة، ولو وضعتم على أبوابكم لحمايتكم المدافع والدبّابات.
وإذا جاءه ملَك الموت فأخذه فمن يذهب معه؟ هل يذهب معه وزراؤه وأعوانه؟ هل يذهب معه جيشه وأجناده؟ هل يذهب معه أصحابه وأحبابه؟ هل يذهب معه حلفاؤه وأصدقاؤه؟ {ولقد جِئْتُمونا فُرادَى كما خلَقْناكُم أوّلَ مَرّةٍ} . إني لأتصوّر الآن ملوك الأرض وقد خرجوا من قبورهم حُفاة عُراة منفردين فأتّعظ، فأقول من فوق هذا المنبر ما ينفعني في ذلك اليوم لا ما يُفيدني اليوم ومن تصوّر هذا لم يعُد يبالي بأحد.
وهذه هي العِزّة التي جعلها الله لله ولرسوله وللمؤمنين، ليست العزّة للعرب بأنهم عرب. لقد كان العرب ضُلاّلاً فهداهم
الله بهذا الرسول وأعزّهم بهذا الدين، ولا عِزّة لهم في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلاّ بهذا الدين. لا يُفيدكم عند الله أن تقولوا نحن عرب، فإن دخول الجنّة ليس بالبطاقات الشخصية ولا بالجنسيات، بل بالأعمال الصالحات:{أمْ حَسِبتُم أن تَدخُلوا الجَنّةَ ولمّا يعلَمِ اللهُ الذينَ جاهدوا منكم ويعلَمَ الصابرينَ؟} .
على أننا ندعو صادقين إلى وحدة العرب، لأنها طريق إلى الوحدة التي أمر بها الله ونطق بها الكتاب. إننا أُمّة أكرمها الله بهذا الدين، فإذا لم تتبعوا -يا أيها المسلمون- أحكامه ولم تُحِلّوا حلاله وتحرّموا حرامه، وإذا لم تجعلوه إمامكم في بيوتكم وأسواقكم ودواوينكم ومدارسكم، لا ينفعكم واللهِ عند الله أنكم عرب. ولو نفعت العروبة وحدها لنفعَت العربي القرشي الهاشمي عمّ النبيّ أبا لهب:{تبَّتْ يدا أبي لهبٍ} .
فإذا أردتموها وحدة كاملة فاجعلوا مركزها هذه القِبلة، وقائدها محمداً، ورايتها راية القرآن، ودستورها كتاب الله، وغايتها العزّة في الدنيا والنجاة في الآخرة. واعلموا أنكم مدعوّون لا لإنقاذ أنفسكم وحدها، بل لإنقاذ العالَم. إن قافلة البشرية تائهة، والليل مظلم، والمدى رحيب، والخوف شامل، والرعب قاتل، فمن يتولاّها ويكون مؤيّدها؟ من يُخرِجها من هذا الظلام الذي غمر أرجاءها؟ لقد جاء الجواب في القرآن:{اللهُ وَلِيُّ الذينَ آمنوا يُخرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النّورِ، والذينَ كفَروا أولياؤُهمُ الطّاغُوتُ يُخرِجونَهُمْ مِنَ النّورِ إلى الظّلُماتِ} .
من ينصرها إن دهمها الخطر، من يدافع عنها؟ الجواب
في القرآن: {إنّ اللهَ يُدافِعُ عنِ الذينَ آمنوا} ، {وكانَ حَقّاً علينا نَصْرُ المُؤمنينَ} . الطرق متشعّبة والمسالك متداخلة، فأيّ طريق هو الموصّل إلى الغاية؟ الجواب في القرآن، الصراط المستقيم:{وأنَّ هذا صِرَاطي مُسْتَقيماً فاتّبِعوهُ ولا تتّبعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكُم عَنْ سَبيلِهِ} . ما الذي يهدينا إليه ويدلّنا عليه؟ الجواب في القرآن: {إنّ هذا القُرآنَ يَهْدي للّتي هِيَ أقْوَمُ} .
إننا لا نعرف لنا دستوراً إلاّ القرآن والسنّة التي بيّنت القرآن، وما أُخِذ منهما وبُني عليهما. لا نقبل بما يخالفهما ولا نرضى بغيرهما بديلاً عنهما. ونحن على هذه المنابر متّبعون لا مبتدعون وناقلون لا قائلون، وما قضى الشرع فيه وبيّن حكمه فليس لأحد أن يُبدي فيه رأياً مع رأي الشرع:{ومَا كانَ لِمُؤمِنٍ ولا مُؤمِنةٍ إذا قَضَى اللهُ ورَسولُهُ أمراً أنْ يكونَ لهُمُ الخِيَرةُ مِنْ أمرِهم} .
والفرض المُجمَع عليه لا بدّ من أدائه، ومن قصّر فيه معتقداً أنه فرض فَسَق، ومن أنكر أنه فرض كفر. والحرام المُجمَع عليه لا بدّ من اجتنابه، ومن أتاه معتقداً أنه حرام فَسَق، ومن أنكر حرمته كفر. والحرام يبقى حراماً على كل حال، لا يختلف حكمه باختلاف الأحوال ولا بتبدّل الرجال. ولا نستطيع أن ننكر منكَراً أتاه زيد ونرضى به ونسكت عنه إن أتاه عمرو، لأن الحرام يبقى حراماً.
فيا أيها المسلمون، إننا لن نذلّ ولن نضلّ ولن نقلّ ما دمنا مستمسكين بالقرآن: إن الله ما أعزّ أول هذه الأمّة إلاّ بالإسلام ولن يُعِزّ آخرها إلاّ بالإسلام، فإن ابتغينا العزّة في غيره ذَلَلْنا. فعودوا
يا أيها المسلمون إلى دينكم، فإن فيه أسباب قوّتكم وعِزّتكم وسعادتكم. وأعيدوا هذه المنابر إلى الإسلام وحده؛ أبعدوها عن مطامع النفوس وعن منافع الدنيا وعن رغبات الراغبين، واعلموا أنها سلاح لا يقف له عدوّ ولا يثبت أمامه خصم، فأحسنوا استعمال هذا السلاح تدرؤوا به كل خطر وتردّوا كل عدوّ.
إن هذه المنابر فيها الدواء لكل ما نشكو من داء في مجتمعنا وفي نفوسنا، فاستفيدوا من هذا الدواء تُبرِئوا نفوسكم ومجتمعكم من كل داء. فاستمعوا لصوت الحقّ من هذه المنابر، واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لِما يحييكم، وتوبوا إلى الله جميعاً ياأيها المؤمنون، واتقوا الله وكونوا مع الصابرين. أقول قَولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
* * *
أكملت الخطبة ونزلت عن المنبر أمشي إلى المحراب، فسمعت صوتاً كأنه صوت رجل يخطب. ثم كانت ضجّة وشغب، فتلفّتّ فإذا شابّ حاول أن يصعد المنبر وقال شيئاً لم أتبيّنه، وضجّ الناس ومنعوه وأنزلوه. وكنت قد بلغت المحراب فكبّرت ودخلت في الصلاة فسكت الناس كلهم وكبّروا.
ولم أعرف إلى الآن من هو ذلك الشابّ ولا الذي كان يريد أن يقوله، ولو سألتم الأستاذ زهير الأيوبي لخبّركم، لأنه كان هو المذيع الذي تولّى إذاعة الخطبة، وكان ذلك في بداية عهده بالعمل الإذاعي وكانت تلك أول مرّة رأيته فيها.
هذا الموقف الذي لم يستمرّ أكثر من دقيقتين أو ثلاث أطلق
شائعات ملأَت الجوّ وكلاماً كثيراً وتعليقات في الصحف أكثر، فمن قائل إنه شابّ يريد أن يتكلّم مؤيّداً ما قلت، وقائل إنه ناصري شرع يتكلّم رداً عليّ ونقداً للانفصال، ويدعو إلى الوحدة والعودة إلى ظِلّ جمال. واستغلّت ذلك الجرائدُ الناصرية فألّفَت قصصاً مختلفات ووضعت لها أكبر العناوين.
بِيَدي الآن عدد من جريدة «الشرق» رقمه 4730، صادر في 7 جمادى الأولى سنة 1381 في رأسه عنوان كبير جداً في عرض الصفحة كلها فيه:«ذبح الشيخ الطنطاوي في داره» . وتحت ذلك قصّة ملفَّقة مكذوبة لا أصل لها. وقد ورد مثلها في الجرائد الأخرى، فبعث الضبّاط إليّ يطلبون مني أن أكذّب الخبر، فقلت: وهل في تكذيبه شيء أبلغ من حياتي وأني لا أزال أعيش ما مِتّ ولا قُتلت؟ وأني كما قال المتنبي:
كمْ قد قُتِلتُ وكم قد مِتُّ عندَكمُ
ثمّ انتفضتُ فزالَ الموتُ والكفنُ
أو لعلّي حرّفت البيت أو صحّفته، فعهدي به بعيد (1).
قالوا: بل تأتي إلى الرائي حتى يراك الناس ويعلموا أنك لا تزال حياً.
ولم نكن نعرف قبل الوحدة ما الرائي (التلفزيون). فلما أدخلوه مصر جاؤوا به إلينا، وعرضت الحكومة على من شاء من موظفي المرتبة الممتازة (وكنت واحداً منهم) أن يأخذ جهازاً
(1) آخر البيت في الديوان: «فزالَ القَبرُ والكفَنُ» (مجاهد).
للرائي بثمنه، فأخذته أرى ما فيه، فإذا السينما التي كُنّا نتورّع ونترفّع عن دخولها قد دخلَت عن طريقه إلى بيوتنا.
وأنا قد حملت الشهادة الثانوية ولم أدخل السينما إلاّ مرّة واحدة، أيام الحرب الأولى سنة 1917 وأنا ولد صغير، فأرونا فِلماً دعائياً عن حرب جناق قلعة، لم أفهم منه شيئاً. ووجدت في الرائي الذي جاؤونا به باباً واسعاً للفتنة قد فُتح لنا، وكانت البرامج -على ذلك- جيّدة مختارة، فيها التاريخي والاجتماعي والبوليسي والقضائي، والفلم الخفيف والمُضحِك، سلاسل كثيرة جداً ليست مترابطة الحلقات ولكلّ حلقة قصّة مستقلّة، يربطها جميعاً عنوان واحد وموضوع متقارب. أذكر أن منها المسلسل القضائي «بيري ميسون» ، وهو دروس في المحاماة، و «الكونت دو مونت كريستو» ، وقد زادوا على القصّة الأصلية أشياء تماثلها فجعلوا منها سلسلة كثيرة الحلقات. ومسلسل «لوسي» ومسلسل «روبن هود» للأطفال ومثله مسلسل «ويليم تِلْ» ومسلسل «طرزان» ، وأفلاماً عن الحيوانات وكيف تشارك الناس في المعارك وفي الانتقام لا تخلو من طرافة ومن فائدة، منها مسلسل عن الكلبة لاسي وعن حصان أسود يُنقِذ صاحبه من المهالك، وأمثال ذلك. كما أنّ فيه مسلسلات عربية مسلّية ومنها ما يصوّر الحياة الاجتماعية ويبيّن نقائصها وعيوبها، مثل مسلسل «عيلة سي جمعة» ومسلسل «عادات وتقاليد» ومسلسل «مع الناس» .
كما أنهم جعلوا للأطفال مسلسَلات عربية ليست مترجَمة ولكنها موضوعة على نمط المسلسَلات الأجنبية، منها «ديبو الفهمان» ، وهو من أفلام العرائس. وسأبين يوماً أن مسرح العرائس
قديم جداً عند العرب، وقد كان يُسمّى خيال الظل، وهو الذي كنا نعرفه ونحن صغار باسم «كراكوز». وترجمة الكلمة الحرفية:«صاحب العين السوداء» ، وقد أشار إليه الغزالي في «الإحياء» وكانت توضع له قصص وحوار، واشتهر به الطبيب الكحّال ابن دانيال. وليس هذا موضع الكلام فيه.
* * *
أعود بعد هذا الاستطراد إلى ما كنت فيه: لما عرضوا عليّ أن أتكلم في الرائي تردّدت وخشيت أن يكون ظهوري فيه دافعاً بعضَ الناس إلى اقتنائه، وربما رأوا فيه ما يضرّهم فأكون أنا السبب في ذلك. ثم لما ألحّوا عليّ ورأيت النفع في ذهابي اشترطت عليهم شرطاً.
ولم أكن -أقول لكم الحقّ- من العباد الزاهدين ولا من المتشددين المتزمتين، ولكن أحببت أن ألقّنهم درساً وأن أُظهِر عِزّة العلماء، فاشترطت عليهم ألاّ أرى في طريقي إذا دخلت بناء الرائي امرأة سافرة. فخبّؤوا البنات في الغرف وأغلقوا عليهن الأبواب ومنعوهن من الخروج، وصارت حادثة تُروى ويُتحدَّث بها. وما أدري هل أحسنت بذلك أم أسأت؟ هل طبّقت حكم الشرع فكان خيراً أم وضعت في نفوسهم صورة قبيحة عن تزمّت المشايخ وعن شدّتهم؟
وكانت هذه هي التجرِبة الأولى لي مع الرائي.
كنت أحدّث في الإذاعة من قديم، من أكثر من خمسين سنة، من يوم أُنشِئَت محطّة «الشرق الأدنى» في يافا بعد إنشاء
محطّة مصر بسنة واحدة. أمّا الرائي فكانت هذه هي المرّة الأولى التي أتكلّم فيها منه. فتحيّرت ماذا أصنع: هل أكتب الحديث فأقرؤه قراءة، وأقيم الصحيفة بيني وبين الناس أستر بها وجهي فلا يرونني، فأكون كمن يتكلم من وراء جدار؟ وأقبح شيء للمتكلم من الرائي أن يقرأ في ورقة يحجب بها وجهه عن الناس.
أم أصنع كما يصنع كثيرون، وهو أن أكتب الكلمة وأن أحفظها؟ وأنا أعلم أني لو حاولت ذلك لما استطعته ولَما قدرت عليه. ولا تعجبوا، فكثير من الخطباء كانوا يصنعون ذلك، ومنهم الخطيب المفوّهَ المشهود له بالبيان وبطلاقة اللسان مكرم عبيد، الزعيم الوفدي القبطي. سمعته مرّة في مصر يخطب خطبة مسجَّعة تنتهي كل جملة فيها براء ممدودة، وقد مضى فيها، فدخل بعض كبار رجال الوفد، فأعاد ما كان قد قاله بحروفه. ولا يكون ذلك إلاّ لمن أَعَدّ الخطبة وحفظها.
قلت لكم إني حرت كيف أتكلّم في الرائي، ولم يكن حولي مَن له تجرِبة سابقة فيه فأستأنسُ بتجرِبته، ولم يكن لي به عهد سابق فأسترشد بعهدي السابق. ثم رأيت أن أتصوّر إخواناً لي جالسين أمامي وأني أحدّثهم كما أحدّث إخواني في المجالس.
وكانت هذه الأضواء القوية التي تعشي العيون موجّهة إلى عينَيّ تؤذيني وتضايقني، لا سيما وأنا لم أكن قد ألفتها وتعوّدتُها، فحاولت أن أصرف بصري عنها ما استطعت وأن أتكلّم.
ألقيت كلمة لم أكن هيّأتها بألفاظها ولكن أعددت في ذهني معانيها. وأكثر ما يضايقني اليوم في أحاديثي في الرائي الوقت
المحدّد، فربما انتهى في وسط الجملة فوقفت بين المبتدأ والخبر أو بين الفعل والفاعل! ولكنهم في هذا الحديث الذي كان مُفتَتَح أحاديثي في الرائي لم يحدّدوا لي وقتاً بل تركوا لي الأمر أقول ما أشاء. قلت ما خطر على بالي ونجحَت التجرِبة الأولى بحمد الله.
وأعجب ما في الأمر أني رأيت في اليوم التالي كلمتي التي ألقيتها منشورة في جريدة «الوحدة» وقد قدّم لها المحرّر مقدّمة قال فيها (وأعتذر لكم ممّا فيها من الثناء عليّ أرويه أنا عن نفسي، حتى يُقال لي: مادح نفسه يُقرئك السلام!): "شهد المواطنون الأديب الأستاذ علي الطنطاوي في تلفزيون دمشق يحدّثهم حديثه الساحر المحبّب إلى النفوس، ورأى المواطنون أديب دمشق الكبير أمامهم يكلّمهم بنفسه عن الشائعات التي روّجَتها أبواق الدعاية الناصرية عنه. و «الوحدة» تنشر الحديث (وقد سجّلَته عندما أُذيع) ليطّلع عليه من فاته السماع له (1).
وقبل أن أنقل إليكم طرفاً ممّا قلت تَتِمّة لقصّة الوحدة والانفصال، أحبّ أن أقول إن هذه الضجّة التي كانت عقب الخطبة في جامع التوبة (والتي لم تستمرّ إلاّ دقيقتين أو ثلاثاً) أثارت شائعات لا حصر لها وذهب كلٌّ يعلّق عليها بما يشتهي وما يوافق هواه. وأنا قد تعوّدت المدح وتعوّدت القدح فلا يهزّني ذمّ ولا هجاء، ولكن آلمَتني كلمة نقلوها عن الشيخ شفيق يَموت
(1) نُشر الحديث في جريدة «الوحدة» يوم الأحد 22/ 10/1961، وأعادت نشرَه جريدة «الخليج العربي» الصادرة في الخُبَر في عددها 113 بتاريخ 20/ 2/1962 (مجاهد).
في بيروت، وهو رئيس المحكمة الشرعية العليا، قال:"لقد كان الأستاذ علي الطنطاوي أستاذاً لنا في الكلّية الشرعية سنة 1937، فطلبناه ساعة الدرس، وكان درس تفسير، فلم نجده. ووجدنا ورقة مكتوباً فيها أنه ذهب إلى السينما فهو يعتذر عن الدرس"! ولست أحتاج إلى بيان أن هذا غير صحيح، وأنه لو كان صحيحاً لما صرّحت بأنني آثرت فلم السينما على درس التفسير ولاعتذرت ببعض المعاذير.
وأسوأ ما في الأمر أن يصدر ذلك من تلميذ لي عليه حقّ الوفاء، وأن يصدر من منتسب إلى سلك العلم والعلماء.
* * *
وهذا نص الكلمة كما جاءت في جريدة «الوحدة» . وسيلحظ مَن يقرؤها بأنها كُتبت كما ألقيتها ارتجالاً، ولو أني كتبتها كتابة لهذّبت حواشيها وأحكمت نسجها، لأن أسلوب المكتوب غير أسلوب المرتجَل:
السلام عليكم ورحمة الله.
موضوع حديث هذه الليلة
…
أقول لكم الصحيح؟ ليس عندي والله موضوع. إنما قالوا لي: تعالَ فتكلم. فجئت لأتكلم.
وقد دُعيت مراراً من قبل إلى الرائي (التلفزيون) فكنت أعتذر وأتهرّب؛ أعتذر لِما كان يعرض على لوحة الرائي في العهد الماضي من مناظر يأباها الإسلام وتُنكِرها آداب العرب، ولأمر ثانٍ هو من أسرار المهنة، أقوله لكم: هو أن أكثر الناس
يتصوّرني شيخاً جليل القدر مهيب الطلعة، فكنت أكره أن أبرز لهم على لوحة الرائي فيرونني على حقيقتي ويقولون: هذا علي الطنطاوي؟!
ولكنني لم أستطع أن أهرب هذه المرّة لأنهم قالوا لي: لا بدّ أن تتكلم. قلت لهم: ما عندي موضوع. قالوا: قُل أي شيء، قُل: السلام عليكم. قلت لهم: لماذا؟ قالوا: لأن دعاية عبد الناصر قد أشاعت في سوريا وفي لبنان بأنك قد ذُبِحتَ فابرز لهم ليروا أنك لا تزال حياً. أما سمعت هذه الإشاعات؟
قلت: بلى والله سمعتها. وأنا منذ أيام أعاني من رنّة الهاتف في الليل والنهار ما لا يُحتمل، جاءتني الأخبار تسأل عني من كلّ المدن السورية ومن عمّان، يسألون: هل ذُبحت أم لا أزال حياً؟ ذلك لأن صحف بيروت التي تنطق بلسان عبد الناصر نشرَت بالعناوين الكبيرة في رأس صفحاتها أنني قد مِتّ.
قالوا: فماذا صنعت لمّا سمعت هذه الإشاعات؟ قلتُ: صدّقت وآمنتُ لأنها نُشرت في الجرائد، وشكرت سيادة الرئيس وأُجَراءَه لأنهم نفعوني منفعتين: منفعة في الدنيا ومنفعة في الآخرة. أما المنفعة التي هي في الآخرة فهي أن الناس لمّا سمعوا أني متّ نسوا أو تناسوا خطيئاتي الكثيرة ونقائصي، وقالوا «الله يرحمه» ، فكسبت هذه الرحمات. وأمّا المنفعة التي في الدنيا فهي أني نجوت ثلاثة أيام من مطالب العمل في المحكمة ومن مطالب الأسرة في البيت، تجيئني البنت تقول لي: بابا، بِدّي (أي أريد) الشيء الفلاني. فلا أردّ، فتظنّ بأني لم أنتبه فتعود وتقول: بابا،
بدّي شيء
…
فما أردّ. فتظنّ أن الكِبَر قد أثقل سمعي، فتتعلّق برقبتي وتصرخ صرخة تكاد تخرق صماخ أذني، ولكني أتحمل ولا أردّ، فتذهب وتدعو أمها، ويجتمع أهل البيت ويقولون: ما له؟ فلا يبقى مجال للسكوت فأقول: عجيب والله، كيف تنتظرين مني أن أردّ وأنا ميت؟ فتقول: أعوذ بالله! ما هذا الكلام؟
فأقول: ألم تقرئي صحف بيروت؟ ألم تسمعي الشائعات؟ إن صحف بيروت التي تنطق بلسان عبد الناصر قالت إنني متّ، فإمّا أن تكون صحف بيروت قد كذبَت وإما أن أكون قد متّ. ولما كانت الصحف التي تتكلم بلسان عبد الناصر لا تكذب أبداً فأنا إذن ميت.
* * *