المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

-165 -

‌إن الشجى يبعث الشجى

لماذا أتحدث عن بنان

وأنا أرثي شكري فيصل

؟

قرأت في جريدة عكاظ نعي الدكتور شكري فيصل. وشكري ليس من لِداتي ولا هو من أقراني في السنّ، ولكنه رفيق أخي عبد الغني في المدرسة الابتدائية. كانوا ثلاثة يدرسون معاً، كلّهم ذكيّ نبيه وكلّهم من سنّ واحدة، وُلدوا سنة 1337هـ أو قريباً منها. وكلّهم كان أبوه أو مَن ربّاه عالِماً يُشار إليه في دمشق ويقصده الطلبة والدارسون، وكلّهم صار أستاذاً كبيراً: أخي عبدالغني، وشكري فيصل، وصلاح الدين المنجّد. اختلف طريقهما وطريق عبد الغني، فاشتغل هو بالرياضيات حتى غدا أقدر وأقدم أستاذ فيها واشتغلا في الأدب حتى صارا من أعلامه. ولكن طبعه لا يشاكل طبعهما؛ عرفا الناس وعرفهما الناس، خرّاجان ولاّجان يدخلان المجتمعات ويخرجان منها، وعبد الغني مثلي مُنْزَوٍ معتزل، بل هو أشدّ مني عزلة وانزواء، فكأنه مصباح قويّ في غرفة مغلَقة، نوره شديد ولكن لا يجاوز جدرانها.

ص: 135

لم أرَ شكري رحمه الله من أربع سنين، من يوم زارني في داري في مكّة، ولكنني أعرفه من أكثر من خمسين سنة. كان أستاذاً في كلية الآداب في جامعة دمشق، فلما بلغ سنّ التقاعد (أو أُحيلَ إلى المعاش كما يقولون في مصر) جاء المملكة فكان أستاذاً في الجامعة في المدينة المنوّرة.

كان عصامياً، خاض لُجّة الحياة قبل أن يستكمل عُدّة خوضها، وجرّب الطيران صغيراً قبل أن ينبت ريش جناحَيه، فما زال يضرب بهما، يقوم ويقعد ويرتفع ويقع، حتى قوي الجناحان وامتدّت قوادمهما وقويَت خوافيهما، فَعَلا وحلّق.

أصله من حارتنا من حيّ العقيبة، وكان أبوه وعمّه من «زكرتية» الحارة، الذين يُدعى أمثالهم في مصر بالفتوّات وفي لبنان «القبضايات» وفي العراق «أبو جاسم لر» . و «لر» علامة الجمع في لغة الترك، وكانوا يعلّموننا على العهد العثماني في الشام اللغة التركية مكتوبة بالحرف العربي كما تكتب الأردية والفارسية، وكما كانت تُكتب لغة أندونيسيا قبل أن يبدّلوها. وأذكر أنه كان عندنا في كتاب القراءة «جوجقلِرْ مكتبه كِدِيور» أي «الأولاد يذهبون إلى المدرسة» . وأنا أحفظ ممّا تعلّمناه من التركية في تلك الأيام شيئاً ليس بالكثير ولكنه باقٍ في ذهني إلى اليوم.

وكانت أسرة الفتوّات في العقيبة هي أسرة كريّم، فذهب الدهر بالفتوّة منها وكاد يُنسى اسمها، ولم يبقَ فيما أعلم من رجالها إلاّ صديقنا الشيخ عبد الحميد كريم إمام جامع التوبة، وهو أبعد الناس عن النزال وعن القتال، من الذين قيل فيهم: «ليسوا

ص: 136

مِنَ الشرّ في شيءٍ وإنْ هانا».

وكان آل كريم لشهرتهم يُنسَب إليهم أسباطهم، أي أبناء بناتهم، حتى إن الشيخ كامل القصاب الذي يعرفه الناس هنا، والذي كان إماماً في التعليم وعَلَماً في الوطنية والنضال للاستقلال، كان يُدعى أول أمره الشيخ كامل الكريم. وكان آل فيصل، أسرة شكري، من أسباط بيت كريم، ولكنهم كانوا فتوّات حقيقة. وكان في صفحة وجه عمّ شكري أو في وجه أبيه (نسيت أنا) أثر ضربة سيف قد التأمت مع الأيام، وسألته يوماً عنها فقال: هوه، هوه! هذا أثر من معركة عظيمة خضناها يوماً. قلت: هل كانت من معارك الحرب العظمى التي ساقوكم جنوداً إليها؟ قال: لا، بل هي معركة بيننا وبين أهل العمارة (وحيّ العمارة معروف في دمشق) حتى تمّ لنا فيها احتلال مصلبة للعمارة (والمصلبة في الشام تقاطع شارعين).

والناس الذين يحنّون إلى الأيام الماضية ينسون أننا رأينا بعدها شراً كثيراً كما رأينا خيراً كثيراً. ولو علمتم أن بين العُقيبة والعمارة أقلّ من مئتَي متر، البيوت فيها متصلة لا تفصل بينها ساحة حرب ولا ميدان قتال، ولو عرفتم أن أحياء الشام كانت ونحن صغار (وقبل ذلك) في نزاع وخصام وقتال، لرأيتم أننا صرنا الآن إلى خير ممّا كنا عليه.

وكانت أم شكري أخت المربّي المصلح والمعلّم القديم الشيخ محمود ياسين الحمامي. وقد قضى الله أن يفترق الزوجان وشكري صغير، فكانت عليه من المصائب المبكّرات، ولكنها جرّت عليه خيراً كبيراً. وكذلك يقدّر الله بكرمه ما يسوء فيجعل معه

ص: 137

ما يسرّ: {وعَسَى أنْ تكرَهُوا شيئاً ويَجْعَلَ اللهُ فيهِ خَيراً كثيراً} .

أما هذا الخير فهو أنه نشأ في كنف خاله الشيخ محمود وفي مكتبته الكبيرة. وأنا حين أذكر دمشق وأحنّ إليها، وتتراءى لي صور الأماكن المحبّبة إلى نفسي فيها، أذكر هذه المكتبة التي طالما كنت أحبّ زيارتها والقعود فيها مع الشيخ ومع تلاميذه: إخواننا الشيخ ياسين عرفة والشيخ محمود الحفّار والشيخ كامل القصّار، وصديقه وصديقنا الشيخ عبد القادر العاني، رحمه الله ورحم من مات منهم. وقد قدر الله أن تمرّ الأيام وأن أشتري هذه المكتبة وأن أُودِعها الكلّية الشرعية في دمشق، وهي باقية فيها إلى الآن. ومن اطّلع على عقد البيع رأى عجباً؛ إذ أن الجهة التي باعت يمثّلها أنا لأنني كنت رئيس مجلس الأيتام، والجهة التي اشترت يمثلها أنا لأنني كنت رئيس مجلس الأوقاف!

وكان شكري رحمه الله يحضر مجالس خاله الشيخ محمود ودروسه في البيت ودروسه في جامع التوبة، ويصاحب هذه النخبة من الأفاضل، فألَمّ بشيء كثير من العلوم الإسلامية، كما أخذ الكثير من الثقافة الحديثة من الدراسة. ولكن هذا كله لم يُجدِ عليه مالاً، وكان خاله فقيراً كما كان أكثر مشايخ الشام، فاضطرّته الحياة إلى أن يعمل ويتكسّب مبكّراً كما عملت أنا، وكما عمل كثير من إخواني الذين بلغوا -من بعد- أعلى المراتب في الحياة وأسمى الدرجات في العلم، كالدكتور أحمد السمّان أستاذ الاقتصاد في كلية الحقوق رحمه الله.

عمل في المكتبة العربية عند آل عبيد، الأستاذ أحمد وإخوانه، وثابر مع العمل على الدراسة حتى حصل على الدكتوراة

ص: 138

في الأدب العربي من مصر سنة 1951 (على ما أظنّ)، ولم يحصل عليها قبله من الشام إلاّ أسعد طلس وزكي المحاسني. وفي تلك السنة حصل أخي عبد الغني على الدكتوراة في الرياضيات، وكان أوّل من حمل هذه الشهادة في بلاد الشام. وكان يرتقب أن يحصل عليها قبل ذلك بعشر سنين من «السوربون» ، ولكن قامت الحرب سنة 1939 فتعذّر رجوعه إلى فرنسا.

لم أكن على صلة به في السنين الأخيرة. انقطع الاتصال، لكن لم ينقطع الودّ، حتى قرأت أنه تُوفّي في سويسرا وأنهم نقلوه بعد موته بثلاثة أيام إلى المدينة المنوّرة وصلّوا عليه في المسجد النبوي. وكنت أتمنّى أن يُدفَن حيث توفّاه الله، اخترت له الذي اخترته لبنتي بنان رحمها الله. وهذه أول مرّة أذكر فيها اسمها، أذكره والدمع يملأ عيني والخَفَقان يعصف بقلبي، أذكره أوّل مرّة بلساني، وما غاب عن ذهني لحظة ولا غابت صورتها عن جناني.

لما قضى الله فيها ما قضى سألوني في نقلها، قلت: لا، بل توسّد حيث أراد الله لها أن تُستشهَد لأن نقل الميت لا يجوز، وما أحفظ أنه رُوي عن أحد من السلف. قالوا: فكيف إن مات المسلم في بلد ما فيه مقبرة إسلامية؟ قلت: كم هم الذين ماتوا في معارك الفتوح من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم من خيار المسلمين؟ هل أخّروا دفنهم حتى يجدوا لهم مقبرة إسلامية أم واروهم الثرى حيث أدركهم الموت؟ هذا أبو أيوب الأنصاري الذي نزل الرسول عليه الصلاة والسلام داره في المدينة حين هاجر إليها لأن ناقته التي كانت مأمورة وقفت على باب هذه

ص: 139

الدار، لقد دُفن تحت أسوار القسطنطينية في أبعد مكان عن المدينة المنوّرة، فما زال قبره ينادي المسلمين حتى كتب الله فتحها على يد محمد الفاتح، فصارت «إسلام بول» ، أي مدينة الإسلام، سَمّاها بذلك السلطان الفاتح كما سَمّوا الآن إسلام أباد في باكستان، و «بول» و «أباد» كلاهما بمعنى المدينة.

* * *

وقالَ: أتبكي كلَّ قَبرٍ رأيتَهُ

لقبرٍ ثوى بينَ اللّوى والدَّكَادِكِ؟

فقُلتُ لهُ: إنّ الشَّجَى يبعَثُ الشّجى

فدعني، فهذا كلُّهُ قبرُ مالكِ

أفكان متمّم بن نويرة أشدّ حُباً لأخيه مالك من حُبّي لبنتي؟ وإذا كان يجد في كل قبر يمرّ به قبر مالك، أفتُنكِرون عليّ أن أجد في كل مأتم مأتمها وفي كل خبر وفاة وفاتها؟ وإذا كان كلّ شجى يُثير شجاه لأخيه، أفلا يُثير شجاي لبنتي؟ إن كل أب يحبّ أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحبّ بناته مثل حُبّي بناتي!

ما صدّقت إلى الآن وقد مرّ على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة، وأنا لا أصدّق بعقلي الباطن أنها ماتت؛ إنني أغفل أحياناً فأظنّ إن رنّ جرس الهاتف أنها ستُعْلِمني -على عادتها- بأنها بخير لأطمئنّ عليها. تكلّمني مستعجلة ترصف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائماً كأنها تحسّ أن الردى لن يبطئ عنها وأن هذا المجرم، هذا النذل، هذا

يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يُطلَق على مثله، ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون

ص: 140

الشرف حتى عند الإجرام. إن في العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة وأمثالها، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة بالمسدس حتى طرقَت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها، فضربها ضرب الجبان. والجبان إذا ضرب أوجع! أطلق عليها خمس رصاصات تلقّتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها، كأن فيها بقيّة من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون:

ولسنا على الأعقابِ تَدْمى كُلومُنا

ولكنْ على أقدامِنا تقطُرُ الدِّما

ثم داس الـ

لا أدري والله بِمَ أصفه؟ إن قلت «المجرم» فمِن المجرمين مَن فيه بقيّة من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدمَيه النجستين على التي قتلها ظلماً ليتوثّق من موتها، ربما كان في المجرم ذرّة من إنسانية تحجزه عن أن يخوض في هذه الدماء الطاهرة التي أراقها. ولكنه فعل ذلك كما أوصاه مَن بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكّد من نجاح مهمّته، قطع الله يديه ورجلَيه. لا، بل أدعه وأدع مَن بعث به لله، لعذابه، لانتقامه. ولَعذابُ الآخرة أشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.

لقد كلّمتها قبل الحادث بساعة واحدة، قلت: أين عصام؟ قالت: خبّروه بأن المجرمين يريدون اغتياله وأبعدوه عن البيت. قلت: فكيف تبقين وحدك؟ قالت: بابا لا تشغل بالك بي، أنا بخير. ثق والله يا بابا أنني بخير. إن الباب لا يُفتَح إلاّ إن فتحته أنا، ولا أفتح إلاّ إن عرفت من الطارق وسمعت صوته. إن هنا

ص: 141

تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة، والمسلّم هو الله.

ما خطر على بالها أن هذا الوحش، هذا الشيطان، سيهدّد جارتها بمسدسه حتى تكلّمها هي، فتطمئنّ فتفتح لها الباب.

ومرّت الساعة فقُرع جرس الهاتف، وسمعت من يقول لي: كلّم وزارة الخارجية. قلت: نعم؟ فكلّمني رجل أحسست أنه يتلعثم ويتردّد، كأنه كُلّف بما تعجز عن الإدلاء به بُلَغاء الرجال، بأن يخبرني

كيف يخبرني؟ وتردّد، ورأيته بعين خيالي كأنه يتلفّت يطلب منجى من هذا الموقف الذي وَقَفوه فيه، ثم قال: ما عندك أحد أكلّمه؟ وكان عندي أخي، فقلت لأخي: خذ اسمع ما يقول. وسمع ما يقول، ورأيته قد ارتاع ممّا سمع وحار ماذا يقول لي، وكأني أحسست أن المخابرة من ألمانيا وأنه سيُلقي عليّ خبراً لا يسرّني، وكنت أتوقّع أن ينال عصاماً مكروه، فسألتُه: هل أصاب عصاماً شيء؟ قال: لا، ولكن

قلت: ولكن ماذا؟ عجّل يا عبدُه فإنك بهذا التردّد كمن يبتر اليد التي تَقَرّر بترُها بالتدريج، قطعة بعد قطعة، فيكون الألم مضاعَفاً أضعافاً. فقُل وخلّصني مهما كان سوء الخبر.

قال: بنان. قلت: ما لها؟ قال، وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبقَ في يده شيء. وفهمت وأحسست كأن سِكّيناً قد غُرس في قلبي، ولكني تجلّدتُ وقلت هادئاً هدوءاً ظاهرياً والنار تتضرّم في صدري: حدّثني بالتفصيل بكل ما سمعت. فحدّثَني. وثقوا أنني لاأستطيع -مهما أوتيت من طلاقة اللسان ومن نفاذ البيان- أن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعتُ.

ص: 142

وانتشر في الناس الخبر، ولمست فيهم العطف والحبّ والمواساة، من الملك حفظه الله ووفّقه إلى الخير، ومن الأمراء، ومن الأدباء والعلماء، ومن سائر الناس. وقد جمعت بعض ما وصل إليّ منها، وتحت يدي الآن أكثر من مئتَي برقية تفضّل أصحابها فواسوني بها، وأمامي الآن جرائد ومجلاّت كتبَت عن الحادث كتابة صدق وكتابة عطف، وفيها تسلية لو كان مثلي يتسلّى بالمقالات عمّا فقد. حتى الجرائد الأجنبية، وهذه ترجمة مقالة نُشرت في جريدة لا أعرفها لأنني لا أقرأ الإنكليزية، جريدة الأوبزيرفر الأسبوعية بتاريخ 22/ 3/1981 بقلم الكاتب باتريك سيل.

حتى الأجانب الذين لا يجمعني بهم دين ولا لسان عطفوا عليّ واهتمّوا بمُصابي وأنكروا هذا الحادث وقالوا فيه كلمة الحقّ، وممّن تربطني بهم روابط الدم واللسان مَن لم يأبهوا لِما كان، بل لقد صنعوه هم بأيديهم، إلى الله أشكوهم.

وصلَت هذه البرقيات وجاءتني هذه الصحف، وإنها لَمِنّة ممّن بعث بها وممّن كتب يعجز لسان الشكر عن وفاء حقّها، ولكنني كنت في وادٍ آخر. ما قلّ إدراكي لهذا الفضل ولا تقديري لهذا النبل، ولكني سكتّ فلم أشكرها ولم أذكرها لأن المصيبة عقلت لساني وهدّت أركاني وأضاعت عليّ سبيل الفكر. فعذراً وشكراً للملك والأمراء جزاهم الله خيراً، ولكل من كتب إليّ، وأسأل الله ألاّ يبتلي أحداً منهم بمثل هذا الذي ابتلاني به.

كنت أحسبني جَلداً صبوراً أَثبُت للأحداث وأواجه

ص: 143

المصائب، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات. صحيح أنه:

ولا بُدَّ مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ

يُواسيكَ، أو يُسلِيكَ، أو يَتوجّعُ

ولكنْ لا مواساة في الموت، والسلوّ مخدّر أثره سريع الزوال، والتوجّع يُشكَر ولكن لا ينفع شيئاً.

وأغلقت عليّ بابي، وكلّما سألوا عني ابتغى أهلي المعاذير يصرفونهم عن المجيء. ومجيئهم فضل منهم، ولكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع؛ لم أُرِد أن تكون مصيبتي مضغة الأفواه ولا مجالاً لإظهار البيان. إنها مصيبتي وحدي فدعوني أتجرّعها وحدي على مهل.

ثم فتحت بابي وجعلت أكلّم من جاءني. جاءني كثير ممّن أعرفه ويعرفني وممّن يعرفني ولا أعرفه، وجعلت أتكلم في كل موضوع إلاّ الموضوع الذي جاؤوا من أجله. استبقيت أحزاني لي وحدّثتهم كلّ حديث، حتى لقد أوردت نكتاً ونوادر. أتحسبون ذلك من شذوذ الأدباء أم من المخالفات التي يريد أصحابها أن يُعرَفوا بها؟ لا والله، ولكن الأمر ما قلت لكم. كنت أضحك وأُضحِك القوم، وقلبي وكل خليّة في جسدي تبكي. فما كلّ ضاحك مسرور:

لا تحسَبُوا أنّ رقصي بينكمْ طرب

فالطيرُ يرقصُ مذبوحاً منَ الألمِ

كنت أريد أن أصف لكم ما بقلبي، ولكن هل ترك لي الشعراء مجالاً للحديث عن قلبي؟ هل غادرَ الشعراءُ من متردَّمِ؟

ص: 144

لقد جمعوا في الباطل، في الخيال، كل صورة للقلب تصنعها الأحزان المتخيَّلة، حتى لم يبقَ شيء لمفجوع صادق مثلي. قالوا: إن الحبيبة سرقَت قلبي، صدعَت قلبي، أخذَت قلبي، سكنَت قلبي، أبكَت قلبي

حتى لقد جعل ذلك النحويّون مجالاً لإثبات قواعدهم فقالوا في شعرهم السخيف:

يا ساكناً قلبِيَ المُعَنّى

وما لهُ فيهِ قطُّ ثانِ

لأيِّ معنىً كسرتَ قلبي

وما التقى فيهِ ساكنانِ

والشعراء الذين رثوا أولادهم، لقد وردوا النبع قبلي فاستقوا وملؤوا حياضهم ولم يدَعوا لي إلاّ الثمالة والعكر: ابن الرومي في رثائه ولده، والتهامي، والشاعرة التي لم يَقُل أحدٌ في وصف مصابه في ولد مثل الذي قالت في بنتها، عائشة التيمورية، أخت العالِم الباحث أحمد تيمور باشا. اقرؤوا قصيدتها فإنها -على ضعف أسلوبها- قد خرجت من القلب لتقع في القلب، وما أحسب أن امرأة استطاعت أن تصوغ عواطفها ألفاظاً وأحزانها كلماتٍ كما فعلَت عائشة (1). وابن الزيّات الوزير وما قال في ولده،

(1) في كتاب «رجال من التاريخ» فصل عن عائشة التيمورية، فيه خبرها وفيه واحدة من قصائدها التي نَظمتها في رثاء بنتها التي ماتت بعد زواجها بشهور قلائل، وهي في الثامنة عشرة. قال فيه: "وروّعت عائشةَ الصدمةُ وشدَهتها، ولم تستطع التصبّر، ونسيت كل شيء إلا ابنتها وتركت كل شيء إلا الانقطاع لرثائها، ولبثت على ذلك سبع سنين كوامل قالت فيها قصائد تبكي الصخر وتحرك الجماد، وأثر طولُ البكاء في عينيها فلم تعد تبصر

"، والمقالة مؤثّرة والأبيات أشد تأثيراً، فمن شاء قرأها هناك (مجاهد).

ص: 145

والزيات الذي لم يكن وزيراً ولكنه كان أكبر من وزير لما رثى ولده رجاء. والدكتور حسين هيكل لما شغل نفسه عن حزنه بإنتاج كتاب «ولدي» ، فاقرؤوا كتاب «ولدي» فإنه وإن لم يصف لكم مدى أحزانه فقد كان أثراً من آثار أحزانه.

وما لي أضرب الأمثال وأنسى مصاب سيد الخلق وأحبّ العباد إلى الله، محمد عليه الصلاة والسلام حين أُصيبَ بولده؟ إن في السيرة -يا أيها الإخوان- قصصاً كاملة فيها كل ما يشترط أهل القصص من العناصر الفنية، وفيها فوق ذلك الصدق وفيها العبرة، فاقرؤوا خبر ولد بنته عليه الصلاة والسلام الذي مات أمامه، تُوفّي بين يديه فغسّله بدمعه! إن دمعة رسول الله عليه الصلاة والسلام أغلى عندنا من كل ما اشتملت عليه هذه الأرض.

* * *

إني لأتصور الآن حياتها كلّها مرحلة مرحلة ويوماً يوماً، تمرّ أمامي متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني. لقد ذكرت مولدها وكانت ثانية بناتي. ولقد كنت أتمنى أن يكون بكري ذكراً، وقد أعددت له أحلى الأسماء، ما خطر على بالي أن تكون أنثى.

يقولون في أوربّا: «حُكّ جلد الروسي يظهرْ لك من تحته التتري» . ونحن مهما صنعنا فإن فينا بقيّة من جاهليتنا الأولى، أخفاها الإسلام ولكن تُظهِر طرفاً منها مصائب الحياة. وكانوا في الجاهلية {إذا بُشِّرَ أحدُهمْ بالأُنثَى ظَلَّ وجهُهُ مُسْوَدّاً وهُوَ كَظيمٌ، يتوارى مِنَ القَومِ مِنْ سوءِ ما بُشِّرَ بهِ: أيُمْسِكُهُ على هونٍ أم يَدُسُّهُ في التُّرابِ؟} . وأنا لم أبلغ أن أدسّ بنتي في التراب،

ص: 146

ولكن أخفيت وجهي من الناس وكأنني أحدثت حدثاً أو اجترحت ذنباً! وسَمّيتها عنان، واحتفل بها الأصدقاء والإخوان، ولمّا بلغ عمرها أربعين يوماً أقنعني صديقي وأستاذي القديم حسني كنعان بأن أحتفل بها.

وكان الموسيقيون جميعاً أصدقاءه وإخوانه، فاجتمع في دارنا الأصحاب والأقرباء ورجال «التخت العربي» ، وعلى رأسهم علي الكردي، أبو عِزّة، الذي كان يحفظ كل أغنية لقدماء المغنّين في مصر وفي حلب وكل موشحة عرفها الناس، وجاوزَت سنّه الثمانين وصوتُه عذب طريّ رحمه الله. وتوفيق الصباغ الذي كان رفيق سامي الشوّا وأشدّ منه عبقرية في الفنّ، وإن كان سامي أكثر التزاماً لحدوده واتّباعاً لطريقه. والصبّاغ هو الذي جاء بالبدعة التي لا نزال نسمعها من بعض الإذاعات العربية، وهي أداء نغمة الأذان على القيثارة (الكمنجة). وموسيقيّ تركي عجوز اسمه تحسين بك ينفخ في الناي، يستمرّ الصوت خارجاً منها عشر دقائق لا ينقطع ولا يتوقف، لأنه يتنفس من غير أن يقطع نغمته، وهذه براعة لم أرَها في غيره. وفؤاد محفوظ، أستاذ العود. وأنا أرى الآن هذه الحفلة حماقة من حماقات الصّبا، ندمت علها ولا أنوي أن أعود يوماً إلى مثلها.

وولدت بعدها بسنتين بنان، اللهم ارحمها. وهذه أول مرّة أو الثانية التي أقول فيها «اللهمّ ارحمها» ، وإني لأرجو الرحمة لها ولكني لا أستطيع أن أتصور موتها! ولم أتألّم لأنها جاءت بنتاً كما تألّمت للبنت الأولى، لأنني رجعت لعقلي وذكرت بشارة رسول الله عليه الصلاة والسلام لمن ربّى ثلاث بنات أو أخوات أو بنتين

ص: 147

أو أختين فأحسن تربيتهما. وأنا قد ربّيت أختين وخمس بنات، وأسأل الله بكرمه أن يكون لي نصيب من هذه البشارة. وصرت -من بعد- أتوقع البنات لأني أيقنت أن الله جعلني من الصنف الأول.

أتدرون ما الصنف الأول؟ إن للموظفين تصنيفاً ومراتب ودرجات، فلا يملك موظف أن يعلو على مرتبته أو أن يصعد درجة فوق درجته. وكذلك جعل الله الناس أصنافاً؛ فالصنف الأول مَن رُزق البنات، والثاني من رُزق البنين، والثالث من رُزق بنين وبنات، والرابع من كان عقيماً (1). فليرضَ كلٌّ بما قُسم له، فالله إن أعطى غيرك في هذا الباب أكثر ممّا أعطاك فإنه يدّخر لك العِوَض من باب آخر، ومَن لم يجد العوض في الدنيا وجده في الآخرة، والآخرة هي الأبقى.

ولمّا صار عمرها أربعَ سنوات ونصف السنة أصرّت على أن تذهب إلى المدرسة مع أختها، فسعيت أن تُقبَل من غير أن تُسجَّل رسمياً. فلما كان يوم الامتحان ووُزّعت الصحف والأوراق جاءت بورقة الامتحان وقد كُتبَت لها ظاهرياً لتُسَرّ بها ولم تسجّل عليها. قلت: هيه؟ ماذا حدث؟ فقفزَت مبتهجة مسرورة، وقالت بلهجتها السريعة الكلمات المتلاحقة الألفاظ: بابا كلها أصفار، أصفار، أصفار

تحسب الأصفار هي خير ما يُنال!

ص: 148

وماذا يهمّ الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفاراً أم كانت عشرات (والدرجة الكاملة عندنا عشرة)؟ وماذا ينفع المسافر الذي ودّع بيته إلى غير عودة وخلف متاعه وأثاثه، ماذا ينفعه طراز فرش البيت ولونه وشكله؟

* * *

ص: 149