المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قصة الوحدة والانفصال - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌قصة الوحدة والانفصال

-160 -

‌قصّة الوحدة والانفصال

وبعد، فما قصّة الانفصال؟ ولماذا كرهنا الوحدة بعدما أحببناها، وأعرضنا عنها وقد رحّبنا بها، وفرحنا لذهابها وقد كنا فرحنا لقدومها؟ هل تغيرَت نفوسنا وتبدّلَت أفكارنا، أم أن الذي رأيناه غير الذي تصوّرناه، والذين ولّيناهم أمرَنا أيام الوحدة هم الذين جعلونا بسوء سياستهم أعداء هذه الوحدة؟

إنّ أصدق كلمة قالها قائل بعد الانفصال هي كلمة صديقنا الأستاذ نصوح بابيل: "إن عبد الناصر لم يفهم طبيعة الشعب السوري". إنه لم يفهم طبيعته، ولو فهمها لعلم أننا لا نؤخَذ بالشدّة ولا نُساق بالعصا، وأننا فتحنا صدورنا كما فتحنا بلدنا للمصريين على أنهم أشقّاء لنا، لا على أنهم مسيطرون علينا يسيرون فينا سيرة المستعمرين لنا.

تقول العرب في أمثالها: «شِدّة القُرب حِجاب» . أَدْنِ كفّك من عينيك تحجبْ عنك ما بين المشرق والمغرب؛ أي أن الكفّ -على صغرها- أخفَت عنك الدنيا على سعتها! والذين حفّوا بعبدالناصر منّا وتحلّقوا من حوله حتى حالوا بينه وبيننا هم الذين

ص: 57

جعلوه يُخطئ فهمنا ولا يعرف طبيعتنا؛ أوهموه أنه يستطيع أن يستميلنا ويُرضينا بشرعة الاشتراكية التي آمن بها (والإيمان بها يكاد يكون كفراً بإسلامنا) وأنه يقدر أن يستعين علينا بأولادنا وبناتنا إذ يزيّن لهم كشف العورات ويبيح اختلاط البنين والبنات. وقد عرفتم طرفاً من ذلك ممّا سبق من هذه الذكريات.

وآذانا في أموالنا، ذلك أن الشعب السوري شعب تجّار، من أيام الفنيقيين إلى هذه الأيام، يصنع الأفراد منه ما تعجز عن صنع مثله الشعوب والدول. والذي عمل بين يوم الجلاء ويوم الوحدة كان عجباً من العجب، ولو استمرّ ولم تأتِ عليه أيام الوحدة بالتأميم لصارت سوريا في الشرق الأدنى كاليابان في الشرق الأقصى: أُقيمت مصانع للغَزْل والنسيج يكفي ما ينتج عنها البلاد والبلدان التي حولها، بل يصمد للمنتجات الأخرى في بلادها. خذوا ابن الدبس مثلاً: جاء بالمال من خارج البلاد، فلم يستثمره خارجها بل عاد به إليها، وافتتح به مصنعاً كبيراً قَلّ أن يوجد مثله في أمثال بلادنا. وحضر افتتاحَه عبدُ الناصر نفسه وخطب فيه، ثم انتزعه من صاحبه باسم «التأميم» ! وكان للشركة الخماسية في الشام وشركة الغَزْل والنسيج في حلب مصانع كبار تُنتِج الجيّد الكثير، فلما أصابتها محنة التأميم قلّ إنتاجها وتتالت خسائرها.

وكانت الأرض عند بحيرة «العتيبة» و «الهَيجانة» ما فيها نبتة خضراء، وتقول كتب الجغرافيا أن بردى يصبّ في هذه البحيرة ولكنه لا يبلغها في الواقع مرّة كل مئة سنة. فجاء الأَبْش فأحياها وجعلها بساتين متصلات وجنّات عامرات. استنبط من بطنها الماء وحرثها وبذَرَها وحصدها بالآلات الكبار، فأنتجت الكثير الطيّب

ص: 58

من الثمر حتى صار يُباع البطيخ ينادى عليه في دمشق مرغَّباً فيه: "يا مال الأبش يا بطيخ". فلما جاء «التأميم» قسّمها قطعاً صغاراً بين الفلاّحين، فلم يقدر أحد منهم أن يجيء بآلة حرث ولا بَذْر ولا حصاد، وما كانوا ليتّحدوا ليحلّوا باتحادهم محلّ الأبش بانفراده، فعادوا يحرثون بالمحراث الذي كان يُستعمل أيام الفراعنة تجرّه البقر، وعاد الثمر يُكدّس في مكانه أو يُنقَل على الدوابّ والحمير، فما مرّ ربع قرن حتى رأيناها عادت صحراء كما كانت قبل الأبش صحراء.

وأنا والله لا أعرف الأبش ولا الدبس ولا أدافع عنهما ولا عن أمثالهما، ولي كتابات كثيرة جداً في جرائد الشام أيام الحرب الثانية وفي «الرسالة» ، لا سيما في السنة التي أقمت فيها في مصر مُوفَداً إلى وزارة العدل فيها من وزارة العدل في الشام (سنة 1947)، وطالما حذّرتهم وقلت لهم: كلما اتسعت المسافة بين فقر الفقراء وغِنى الأغنياء فُتح الباب للشيوعية لتدخل من هذا الفراغ، وإنْ كانت الشيوعية لا تُذهِب فقرَ الفقير ولكن تَذهب بغِنى الغنيّ، فتحقّق المساواة ولكن في الحاجة والفقر!

كان شعارنا تلك الأيام: «وحدة، حرّية، اشتراكية» ، وهو شعار الاتحاديين لمّا قاموا في تركيا قبيل الحرب العالمية الأولى: «حرّيَتْ، أخُوَّتْ، مُساوات"، وهو نفسه شعار الثورة الفرنسية. وهو مِن وَضْع اليهود، وضعوه خداعاً للناس وصرفاً لهم ببريق هذه الألفاظ عن حقيقة معناها.

لقد فقدنا حرّيتنا وشعارُنا الحرّية، وصرنا محبوسين مقيّدين

ص: 59

ونحن منفردون في بيوتنا، صار الصديق جاسوساً على صديقه والأخ جاسوساً على أخيه. كان ينتظرني على باب الدار كل صباح أيامَ الوحدة واحد منهم، صرت أعرفه وإنْ بدّل شخصه، فإذا نزلت من داري في الجبل تبعني، فإن ركبت الترام أو الحافلة ركب معي، فإذا وصلت إلى المحكمة انتظرني على بابها حتى أخرج منها. ويوم الجمعة يلحقني إلى المسجد.

فخرجت مرّة ضحى في يوم ضَاحٍ مُشمِس من أيام الشتاء فوجدت على الباب واحداً منهم، سميناً عليه دثار من الصوف سميك فوق دثار أسمك منه من الشحم، فمشيت مسرعاً ومشى ورائي. وأنا أسكن في حي اسمه حي المهاجرين على سفح جبل قاسيون، شوارعه متقطاعات، منها المعترض الذي يوازي الشارع الأكبر على السفح وشوارع مستطيلات تصعد في الجبل. وكنت أنزل من الشارع المستطيل الذي يصل بي إلى الجادّة الكبرى فأركب الترام أو السيارة، فمشيت في ذلك اليوم عَرْضاً وهو يمشي ورائي يراقبني ليرى مَن أكلّم وإلى أين أذهب، فلم أقف حتى صرت في آخر حي المهاجرين وأنا متوجّه شرقاً، ودخلت حيّ الصالحية (الذي كان أول من أنشأه آل قدامة، والد صاحب «المغني» وأبناؤه)، فمشيت فيه مشرّقاً حتى وصلت إلى آخره، فلم أنزل إلى الشارع العامّ وإنما مضيت قُدُماً فدخلت حيّ الأكراد (حيّ ركن الدين) إلى أن بلغت آخره حيث ينقطع العمران. وكان فيه موقف للحافلات فدخلت واحدة منها، وبقي واقفاً تحت وأنا أراه يكلّم زميلاً له لا أسمع صوته، ولكن أُدرِك مغزى حديثه من إشارة يده. رأيته وقف مع رفيق له يسائله: ما الذي جاء به إلى هذا

ص: 60

المكان؟ ورأيته كأنه يخبره كيف مشيت وهو يتبعني هذه المسافة كلها ويشكو إليه ما قاسى من التعب، وتترجم قسمات وجهه عمّا في نفسه من الغضب مني والنقمة عليّ، وأتخيل ما يخرج من فمه من ألفاظ السباب والشتائم. فلما هَمّت الحافلة بالمسير أسرع فدخل إليها وقعد فيها وهو يراقبني، حتى انتهى الطريق ونزلت في رأس سوق الحميدية وهو يتبعني، حتى بلغت دار الحديث الأشرفية وفيها مسجد صغير، وقد أذّن الظهر وصعد الخطيب المنبر، فدخلتُ. فلما رآني لم أذهب إلى مسجد كبير ولم أخطب فيه واطمأنّ إلى أنه لن يصدر مني ما يخشاه الحاكمون، انتهت مهمّته فعاد من باب المسجد ولم يصلِّ!

* * *

وكان صديقنا الشيخ محمد محمود الصوّاف قد نزل الشام لمّا لم يَعُد له في العراق على عهد عبد الكريم قاسم مكان، وأقام في فندق اسمه فندق اليرموك. فكنت كلما زرته وجدت عنده نادلاً (جرسون أو بوي كما يقولون) لا يتبدّل ولا يتغير، إن طلب شيئاً جاءه به وإن سأل عن شيء أجابه عنه، فلما كان الانفصال خبّرَنا مدير الفندق أن هذا الخادم ضابط مصري، جاؤوه به وفرضوه عليه ليشتغل عنده نادلاً، فيلازم الصوّاف ويراقبه ويُحصي عليه حركاته وسكناته.

وكنت أعقد في بيتي مجالس أسبوعية مع كثير من أساتذة الديانة في ثانويات دمشق، وكلّهم معروف، من أمثال الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والأستاذ محمد القاسمي والدكتور

ص: 61

أديب صالح، نقرأ بعض الكتب في الأصول. فاستدعوهم واحداً واحداً، وكانوا يتعمّدون إزعاج مَن استُدعي منهم بتركه ساعتين أو ثلاثاً لا يفتحون له الباب ليخرج ولا يطلبونه ليدخل ليحطّموا بذلك أعصابه، ثم إذا دخل على المحقّق سأله عن هذا الاجتماع وعمّا نصنع فيه. أما أنا فلم يتعرّض لي أحد ولم يسألني أحد عن شيء.

وهذا قليل من كثير، قطرة من بحر ممّا رأينا أيام الوحدة وشاهدنا. فماذا نصنع والدواهي الثلاث نازلة علينا؟ واحدة في ديننا، وواحدة في أموالنا، وواحدة في حرّياتنا؛ كأن ذلك هو التفسير العملي للشعار المعلَن «وحدة، حرّية، اشتراكية» : الوحدة تمزيق، والحرّية سجن، والاشتراكية خراب كامل وفقر شامل.

لما كانت الجلسة الأولى التي نتجَت عنها «رابطة العالم الإسلامي» في حج سنة 1381هـ كنت مع الحُجّاج، فأخذني المفتي الشيخ محمد حسنين مخلوف والمفتي الشيخ القلقيلي والصديق الداعية الإسلامي الشيخ الصوّاف، أخذوني بشِبْه الإكراه إلى هذه الجلسة، وأظنّها كانت بحضور الملك سعود رحمه الله. وكان كلام في بدعة الاشتراكية وأنها ليست من الإسلام، فقلت لهم: كيف؟ وقد ذُكرت في القرآن؟

فتعجّبوا وقالوا: أين ذُكرت؟ قلت: في قوله تعالى لإبليس: {وشَارِكْهُم في الأموالِ والأولادِ} !

* * *

صبرنا حتى ضجّ من صبرنا الصبر، وحملنا حتى ضاق بما

ص: 62

حملنا الصدر. وكنت في مَضايا، المَصِيف المشهور في الجبل، وجاء من يُخبِرنا بخبر الانفصال.

أُقسِم أني لم أرَ في عمري فرحة عامة كالتي رأيت ذلك اليوم؛ كان الناس كأنهم خرجوا من سجن، أو كما تقول العرب: قد أُطلِقوا من عقال. كان يهنّئ بعضُهم بعضاً، لم تكن ترى إلاّ باسماً مسروراً. ومن رأى ذلك اليوم فقد علم صدق ما أقول، ومن لم يرَه ربما حسب أني أتخيله أو أتزيّد أو أبالغ. ووالله الذي لا يحلف به كذباً إلاّ فاجر ما بالغت ولا تزيّدتُ، ولكن وصفت ما رأيت.

كان الناس يحفّون بالروادّ (الراديوات) الكبار ويعانقون منها الصغار، يستمعون منها البلاغات ويتتبّعون الأخبار. فلما جاء البلاغ رقم 9 وفيه خبر ينبئ عن بعض التراجُع من الضبّاط الذين قاموا بالانفصال علت الوجوهَ قَترة وملأت النفوسَ كآبة وحسرة، فلما توالت البلاغات بعده بأن الانفصال ماضٍ في طريقه عاد البِشْر إلى الوجوه.

لمّا انقضت الوحدة وخلا الجوّ للقائلين ذهب مَن شاء يدّعي كما شاء بأنه نقد أساليب الحكام أيام الوحدة وتكلّم عنها. وجلّ ذلك غير صحيح، والناس يعلمون مَن الذي جهر بذلك ولم يُخافِت به، وصرّح القول لم يُجَمجِم فيه ولم يتلعثم، وألقاه من فوق المنابر في دمشق وفي حلب (وسأحدّث القُرّاء عن رحلتي أيام الوحدة إلى حلب وما قلته في جامع السلطان في حماة). كان الناس وكان الضبّاط القائمون بهذه الحركة يعرفونه، لذلك بعثوا

ص: 63

إليّ مَن يطلب مني أن ألقي خطبة الجمعة في جامع بني أميّة لتُبلغها إذاعة دمشق الناس.

ولم أكن قد عرفت حقيقة هذا الانفصال ولا القائمين به، فتنصّلت وتملّصت واعتذرت، فلما يئسوا مني كلّفوا بها صديقنا خطيب جامع بني أميّة، الرجل الصالح الشيخ أبا الفرج الخطيب. ثم عادوا إليّ يطلبون مني أن ألقي كلمة في الإذاعة، وكنت قد عرفت أسماء القائمين بهذا الانفصال وتيقّنت أنهم ليسوا عفالقة بعثيّين ولا بكادشة (نسبة إلى بكداش) شيوعيين، وليسوا من الفاسقين المنحرفين، فقبلت أن أقول كلمة من الإذاعة أعلّق بها على الانفصال، وأن أُلقي خطبة الجمعة المقبلة على أن تُذاع من جامع التوبة، وكان ذلك.

وهذا هو نصّ كلمتي في الإذاعة (1):

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لقد عدت إليكم، عدت بعدما ظننتُ وظنّ الذين منعوني أني لن أعود. لقد قرّروا ألاّ ألقاكم أبداً لأنهم كانوا يظنّون أن السلطان يبقى لهم علينا أبداً. وظنّوا أنهم سَمّروا الفَلَك بمسمار فلا يدور، ونسوا أن الفَلَك دوّار وأن الأيام دُوَل، وأنه لم يَدُم المُلك لمن كان قبلهم حتى يدوم لهم.

وما منعوني لأني أجرمت جرماً، ولا لأني أسأت للبلاد

(1) أُذيعت يوم الثلاثاء 3/ 10/1961، بعد الانتفاضة (حركة الانفصال) بخمسة أيام، ونُشرت في جريدة «الأيام» في اليوم التالي (مجاهد).

ص: 64

ولاللعباد، بل لأن الذي كنت أقوله لهم لم يكن يُعجِبهم؛ لم يُعجِبهم أن أقول لهم إن في الدنيا موتاً، وإن بعد الموت حساباً، وإن بعد الدنيا آخرة، لأنهم لم يكونوا يفكّرون في الآخرة ولا يُدخِلونها في حسابهم. لم يعجبهم أن أقول لهم: عودوا إلى شرع الله فهو أقوم وأقوى من شرع تيتو. لم يعجبهم أن أقول لهم إن طريق الجنّة خير من طريق النار. لم يعجبهم أن أقول لهم: استروا العورات وامنعوا المحرّمات.

لذلك أبعدوني وقالوا: لن تعود إلى الإذاعة أبداً. فأبعدهم الله وأعادني!

وبعد، فلقد أردت أن أُعِدّ لهذا المقام كلاماً غير هذا الكلام، أُعِدّ خطبة من النمط العالي من البيان، ولكن زميلاً لنا كريماً من إخواننا المصريين الكرام لَقِيَني فقال لي: إيه رأيك فيما حدث؟ فقلت: الحمد لله، اللهم أنعمت فزِدْ. فقال: إيه؟ أتفرح بزوال الوحدة؟

وفكّرتُ: هل أفرح حقاً بزوال الوحدة؟

هذا أقوى ما يحتجّون به علينا، وهي حُجّة دامغة، ولكن هل فرحنا بزوال الوحدة كرهاً بالوحدة؟ هل نحن أعداء الوحدة؟ أنا أعذُر الذي يسمع خطاب سيادة الرئيس من بعيد، وأعذر من يسمع ما تقوله إذاعة القاهرة وهو لا يعرف ماذا قاسينا من الوحدة. لقد أصغيت إلى سيادة الرئيس وهو يخطب من يومين في حشد حاشد، يظهر أنه لا يصغي إلى سيادته ولا يفهم ما يقول، لأن المحتشدين يضجّون ويصخبون في موضع الإنصات والسكون،

ص: 65

ويسكتون في موضع الهتاف والتصفيق، ويقطعون الجملة عليه من وسطها ليهتفوا أو يصيحوا، أو يقوم قائم فيهم فيُلقِي خطبة أخرى قصيرة لا صلة لها بخطبة الرئيس

ولكنه مع ذلك كان يقول كلاماً يؤثّر فيمن لا يعرف حقيقة ما كان. إنه يمدح الوحدة ويدعو إلى الحفاظ عليها. ونحن نمدح الوحدة وندعو إلى الحفاظ عليها، بل نحن كنا أول من دعا إلى هذا، ونحن معشر العلماء خاصة كنا أصحاب دعوتها لأنها شعبة من شعب ديننا، وحكمها في آية من كتاب ربنا الذي نقرأ به في صلاتنا ونراه دستور دنيانا وديننا، قال تعالى:{إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} . فإذا كان ديني يوجب عليّ أن أَعُدّ آخر مسلم في أقصى الأرض أخي، فهل تراني أجحد أُخُوّة المصري وهو أخي في الدين وفي اللسان وفي الجوار وفي الذكريات في الآلام؟

ولو جحد الناس جميعاً أُخُوّة الشاميين والمصريين، لما استطعت أنا أن أجحدها، لأن مصر أصلي وطنطا بلدي والذي نزح منها جدّي أبو أبي، ولأن لي فيها نسباً وصهراً، ولأن لي فيها إخواناً وصحباً، ولأنني أقمت في مصر سنين طوالاً، ولأني لا أفرّق بين القاهرة ودمشق، وكلاهما بلدي وبغداد بلدي وعمّان بلدي، ومكّة بلدي وبلد كل مسلم.

إن الوحدة هي أمل كل واحد منّا، وهي أقصى ما يتمنّاه الكبير فينا والصغير، والرجل في السوق والمرأة في البيت والولد في المدرسة. ولو جاء مَن يقول لنا اكفروا بالوحدة لكفرنا به هو ولم نبالِ به، ولو كان معه دبّابات الدنيا وطياراتها وقنابلها

ص: 66

الذرّية. ولو أن هؤلاء الضبّاط الثائرين أنكروا الوحدة وحاربوها لأنكرناهم وحاربناهم، ولكنهم لم يُنكِروها بل صرّحوا (ولا يزالون يصرّحون) بأنهم يؤمنون بها. لم يحاربوها، بل لقد أيّدوها ولا يزالون يؤيّدونها. فلا تقولوا إننا خصوم الوحدة، فإن الدعوة إلى الوحدة من عندنا خرجت؛ نحن لقّناكم إياها ونحن علّمناكم النطق باسمها.

أنا أعرف مصر من سنة 1928، وكنت أول طالب من الشام ذهب بعد البكالوريا ليدرس في مصر. فمتى كانت مصر تنادي بالعربية؟ متى؟ أيوم كان النقاش بيننا وبين الدكتور هيكل وجماعة «السياسة الأسبوعية» الذين كانوا يدعون إلى الفرعونية؟ يوم كانت المناظرة بين كُتّاب الشام ولبنان وبين طه حسين لمّا قال في الباخرة «مارييت باشا» (وهو في طريقه للاصطياف في أوربّا سنة 1937 على ما أذكر) إن مصر لا تعرف إلاّ المصرية وإنها لا تؤمن ولا تستطيع أن تؤمن بالعربية؟ يوم كان سلامة موسى يُعلِن جهراً في جرائد مصر أن الدعوة العربية ضلالة، وأن الرابطة الشرقية سخافة، وأن مصر قطعة من أوربا؟ نحن علّمناكم معنى الوحدة.

أعلّمُهُ الرمايةَ كلَّ يومٍ

فلما استدَّ ساعدُهُ رمانِي

وكم علّمتُهُ نظم القوافي

فلمّا قالَ قافيةً هجاني

لا يا سيدي الرئيس؛ نحن لم نكن قطّ ولن نكون أبداً أعداء الوحدة ولا دُعاة الانفصال، ونحن الذين طلبوا الوحدة وأعلنوها في مجلسهم في الشام قبل إعلانها في مصر.

أنا يا سيدي لست من أهل السياسة ولا من رجال الحكم.

ص: 67

أنا رجل من رجال العلم والأدب، ولكن إن لم أكن على مسرح السياسة فإني في القاعة أسمع وأرى، لست بحمد الله أصمّ ولا أعشى. إننا لما سمعنا نبأ إعلان الوحدة من نحو أربع سنين ما صدّقنا من فرحنا ما نسمع وفركنا آذاننا وأصغينا كَرّةً أُخرى، حتى وثقنا أن الحلم صار حقيقة، فرقصَت من السرور قلوبُنا في صدورنا. ولمّا جئت الشام أول مرّة -يا سيادة الرئيس- خرجَت الشام كلها لاستقبالك، ولمّا قلت استمعَت لقولك وصفّقَت لك. فما الذي جرى حتى تَبَدّل الأمر؟ كيف أجمعت الأمّة في الشام على الفرح بالوحدة ثم أجمعت على الفرح بالخلاص من الوحدة؟

اسمح لي أن أقول بكل احترام، فما يجدر أن أسيء الأدب معك حين لم يبقَ لك عليّ سلطان، أقول إنك أنت الذي خيّب أملها في الوحدة. إنك لم تفهم طباع هذا الشعب ولا أخلاقه. إن الشعب في الشام أخو الشعب في مصر، ولكن قد تختلف طباع الأخوَين في الدار الواحدة، وما يصلح في مصر لا يصلح في الشام، والثوب الذي يُفصَّل لمصر لا يستطيع أن يلبسه أهل الشام. وأنت أردت أن تُلبِسنا ثوباً لم يُفصَّل علينا.

كنا نتألم ولا نستطيع أن نتكلّم. وأنا ألتمس لك المعاذير؛ سأقول إن من الممكن أنك لم تكن تعلم بآلامنا. ولكن لماذا لم تعلم بها؟ وهل المسؤول نحن أم المسؤول أنت يا سيدي؟

لقد تعوّدنا أن يذهب أصغر واحد فينا إلى رئيس الجمهورية أو رئيس الوزارة فيقرع عليه الباب متى شاء ويكلّمه كما يكلّم

ص: 68

جاره وصديقه، فجئت أنت فعملت لنفسك حجاباً كحجاب كسرى أنو شروان في سابق العصر والأوان، فلا يستطيع أن يصل إليك إنسان.

ولقد حاولنا -معشر العلماء- أن نقابلك وطلبنا المواعيد مِراراً وسعينا لذلك سعياً وسلكنا له كل سبيل، فما استطعنا أن نظفر بلقائك. مع أننا كنا نراك في الرائي (التلفزيون) تُمضي ليلة كاملة من ليالي رمضان، ليالي الطاعة والعبادة، ترى الراقصات العاريات وتسمع المغنّيات الفاسقات في حفلات «أضواء المدينة» ، فهل اتّسع وقتك لهذا وضاق وقتك عن لقاء العلماء؟ لا أقول هذا الكلام الآن، بل لقد علمتَ أنني قلته في جامع تنكز في الليلة التي كنت تحضر فيها هذه الحفلات، قلته علناً لم أكتمه ولم أدارِ به، ولم أخَفْ أحداً في مقالتي لأنها مقالة تُرضي الله.

ثم قلّدَك في ذلك أعوانك وحاشيتك، حتى إنّ وفداً من الشام يضمّ رئيس رابطة العلماء ونائبه واثنين من أعضاء هذا المجلس الذي دعوتموه مجلس الأمّة وأستاذاً من أساتذة الجامعة وأنا، ذهبنا إلى مصر وأقمنا عشرة أيام، نقرع الأبواب ونسأل الحُجّاب الوصول إلى وزير المعارف، فما استطعنا أن نحظى بشرف المثول في حضرة وزير المعارف.

وكنا نرسل البرقية فلا تصل البرقية، ونبعث الكتاب فلا ينبعث الكتاب. فتعذّر الوصول إليك وانسدّ الطريق، طريق المقابلة وطريق المراسلة! كنا نريد أن نشكو إليك ما نرى من الآثام والمعاصي منك ومن حكومتك، فلم تُرِد أن نشكو إليك، فذهبنا

ص: 69

نشكو منك ونُعلِن الشكوى في المساجد وفي المجامع وحيثما استطعنا. وكنا نعلم أن بيدك السجن والتعذيب، وكنا نخاف منك، ولكنا كنا نذكر عذاب الله إن سكتنا، فنخاف من الله فيذهب خوفنا منك فنتكلّم عليك.

فلماذا قلنا ذلك الكلام ولماذا حملنا تلك الحملات؟ كراهية للوحدة؟ نعوذ بالله. إن الوحدة عقيدة من عقائدنا وأمل من آمالنا. بل كراهيةً لهذه الوحدة التي جئتَنا بها، كراهيةً لأسلوب الحكم الذي اتّبعتَه فيها. لم أكرهها أنا وحدي، بل لقد كرهها كلّ شامي. إنك قد تعجب إذ تسمع هذا لأن الذين من حولك خدعوك، خدعوك بالناس الذين كانوا يسوقونهم بالعصا يحشدونهم لك حول قصر الضيافة كلما جئت لتقوم فتقول فيصفّقوا لك ويهتفوا، حسبت هؤلاء هم الشعب مع أن الشعب كلّه كان ناقماً، وهؤلاء أيضاً كانوا ناقمين ولكنها «المباحث» والمكتب الخاصّ والإرهاب والحكم الفرديّ.

لقد تركتهم يؤلّهونك من دون الله، وما من إله إلاّ الله! لقد سمعتَهم يقولون: ناصر ناصر ناصر

كما يقول الذاكرون المؤمنون: الله الله الله. فلم تنهَهم ولم تُنكِر عليهم.

تَمُنّ علينا بهذه التقدّمية الفاسقة وبهذه القرارات الاشتراكية؟ إنه ما أغضبنا إلاّ هذه التقدّمية الفاسقة وهذه القرارات الاشتراكية.

إننا في بلد مؤمن متمسّك محافظ على عفاف بناته، أفنرضى أن يكون الرقص درساً في المدارس، وأن نأتي بمدرّسيه من

ص: 70

الحانات والخمّارات ليعلّموا بناتنا الرقص بدلاً من تعليمهن الأخلاق والآداب؟ وأن تذهب بناتنا ليقضين شهراً في قرية التلّ في المعسكر مع الرجال الأجانب؟ وأن تقيم الحكومة دائرة رسمية للرقص؟ وأن يوضع تمثال للراقصات أمام جامع الروضة ويبقى سنة كاملة؟ أقامته وزارة الثقافة والإرشاد، وإنها لوزارة السخافة والإفساد.

لقد أريته للوزير كمال الدين حسين من الشبّاك لما قابلناه مع العلماء وأسمعناه ما لم يسمع مثله في عمره. قلت له: هل ترى يا مولانا؟ أمام الجامع بالذّات؟ لا دين ولا ذوق! (1)

* * *

(1) قُطع الحديث في هذا الموضع حينما نشرته جريدة «الشرق الأوسط» لأن ضيق المساحة -كما علّقت الجريدة- حال دون نشر الكلمة كاملة، ثم مضت في أول الحلقة التالية تكمل الحديث من حيث انقطع (مجاهد).

ص: 71