الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-173 -
أندونيسيا بين عسف اليابانيين
ونكث البريطانيين
بعثتُ بالحلقة الماضية إلى الجريدة على خجل واستحياء لأنها ليست من الذكريات بل صفحة من التاريخ، فبدا لي بعد نشرها أنها لقيَت بحمد الله من قَبول القُرّاء أكثر ممّا كانت تلقى الذكريات؛ ذلك لأنها تنشر تاريخاً مطويّاً تذكّر به من نسيه من الناس، وأكثر المسلمين قد نسوا تاريخهم أو هم لم يعرفوه. أرسل إليّ كثير وهتف بي كثير، يطلبون أن أسرد عليهم كل الذي أعرف من تاريخ المسلمين في تلك البلاد، ليكون المسلمون على بينة من تاريخ إخوانهم، وليستعين بما أكتب مدرّسو التاريخ والمتكلّمون في حاضر العالَم الإسلامي.
* * *
وجدت كلاماً عن الإسلام في أندونيسيا سابقاً لِما جاء في رحلة ابن بطوطة، هو ما ذكره الرحّالة الإيطالي ماركو بولو الذي زار شمالي سومطرة سنة 1292م، إذ قال إن سكان هذه المملكة مسلمون.
وقد اكتُشف حجر في مقاطعة ترنشانو بشبه جزيرة الملايو (وهي تُكتب الملايا تارة والملايو تارة، لأنهم يلفظونها بين الألف والواو)، وعلى هذا الحجر كتابة باللغة الملاوية وبالرسم العربي فيها أن حاكم هذه المقاطعة قد أمر رعاياه باتباع الإسلام، وفيه ذكر لبعض أحكام الإسلام بالاختصار، وتاريخ هذا الحجر «يوم الجمعة
…
شهر رجب سنة السرطان بعد عصر الرسول ‘ بسبعمئة واثنين
…
» غير أنه لم يُعرف ما هو العدد المكتوب بعد رقم اثنين لأن الجزء الباقي من الحجر مفقود. أي أن تاريخ دخول الإسلام إلى أندونيسيا كان بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الميلادي.
وممّا وجدت عن بداية دخول الإسلام إلى أندونيسيا أن السلطان محمد سلطان ملابار، إحدى الولايات على الساحل الغربي الجنوبي من الهند، تنازل عن العرش لابنه الأكبر ولبس ثياب الزهادة والتصوّف وأبحر على ظهر سفينة إلى ميناء سيمودرا على الشاطئ الشرقي الشمالي من جزيرة سومطرة، فقابل أميرها وعرض عليه الإسلام، فأسلم ونودي به ملكاً عليها باسم «الملك الصالح» . هذا الملك، واسمه ميراسيلو، كان أول من نطق بالشهادتين من ملوك تلك البلاد، وبقي إلى أن توفّي سنة 1297م والإسلام لم يتجاوز بعدُ حدود مملكته.
وفي الكتب الجاوية أن سلطاناً مسلماً بجاوة هو السلطان عبد الفتاح، كان من خبره أن الملك براويجايا الخامس، آخر ملوك ماجاباهيت، كانت له جارية حملت منه، فخشي أن يُفتضَح أمره فبعث بها إلى ابنه حاكم فيلمبانغ وأهداها إليه، فلما وصلت
الجارية تزوّجها ابنه حاكم فيلمبانغ بعد أن ولدت مولوداً للملك. وترعرع الصبي في كنف هذا الأمير، حتى إذا بلغ أشده أفضى إليه بالسرّ وأن أباه هو ملك ماجاباهيت الجاوي البوذي، وأوصى له بالمُلك بعد وفاته وحفظ الوصية عند أمه، فلما كبر أطلعَته عليها.
وقدم البلادَ أحدُ الدعاة السابقين إلى الإسلام في طريقه إلى جاوة، وهو علي بن إبراهيم (الذي عُرف أخيراً باسم سونان أنبيل) فاستقبله أميرها وأكرمه وأسلم على يديه، وأسلم ذلك الشابّ ابن ملك ماجاباهيت، وسمّاه الداعية «عبد الفتاح» راجياً أن يكون الفتح على يديه.
وكان الداعية علي بن إبراهيم يمتّ بقرابة إلى ملك ماجاباهيت لأن الملك تزوّج إحدى أميرات كمبوديا (كمبوتشيه) بالهند الصينية، وهي خالته، فأخذ عبدَ الفتاح معه إلى ملك ماجاباهيت فاستقبله استقبالاً حسناً وأكرمه إكراماً عظيماً. وبدأ ينشر الدين فأسلمَت خالته، أي زوجة الملك. وجمع الملك كبار رجال الدين فشاورهم في أمر هذا القادم ودينه الجديد، فقرّروا أن يباحثوه فيما جاء به، وكانت مناظرة هادئة استجاب له بعدها من استجاب وأصرّ على دينه القديم من أصرّ.
واهتمّ الملك بالداعية علي بن إبراهيم فولاّه على بلدة أنبيل بسورابايا، فسُمّي بعد ذلك «سونان أنبيل» ، وولى الملك ابنه عبد الفتاح على بلدة بنتارة التي أطلق عليها اسم ديمك، بعد أن صارت عاصمة الدولة الإسلامية الأولى في جزيرة جاوة. فكان
عبد الفتاح هذا أولَ ملك مسلم في جاوة، وكان ذلك في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
وأُسّست في مَلَقة (مَلاقاة) دولة إسلامية كان أول سلطان من سلاطينها هو راجاكنشيل، الذي أسلم وعُرف بعد إسلامه بالسلطان محمد شاه، وهو الذي أسّس الدولة المَلَقية الإسلامية سنة 1409م، وفي عهده كثر مجيء تجار المسلمين من الهنود والعرب والفرس إلى مَلَقة، وبقي إلى أن مات سنة 1411 فتولّى ابنه الأمير قاسم الحكم ولُقّب بالسلطان المظفّر شاه الأول، وكان دائب العمل على مصالح شعبه. وبعد وفاته خَلَفه ابنه المشهور السلطان منصور شاه، الذي اتّسعَت حدود الدولة الإسلامية في عهده حتى وصلت إلى بروناي شمال بورنْيو (التي دُعيَت الآن باسمها القديم كَلامَنْتان). وازداد انتشار الإسلام في البلاد لأن السلطان رغم انشغاله بالفتوحات الحربية لم يهمل نشر الإسلام والدعاية له، وكان مشغوفاً بتعلّم أصول الدين والتشريع الإسلامي، وتوُفّي عام 1477 وتولّى الحكمَ بعده السلطان حسين الذي لُقّب بالسلطان علي الدين رعيت شاه الأول (1).
* * *
(1) من أول هذه الحلقة إلى هنا منقول ببعض التصرف عن الصفحات الأولى من فصل «لمحات من تاريخ الدين والوطنية في أندونيسيا» المنشور في كتاب «في أندونيسيا» ، وهو إجمالٌ أعقبه تفصيل مهم وتطويل مفيد، فمن شاء راجعه في الكتاب. أما القسم الآتي من هذه الحلقة فهو منقول من فصل «الحركة الإسلامية في أندونيسيا» المنشور في الكتاب ذاته (مجاهد).
أما الحركة الإسلامية الجديدة فقد جمعتُ أخبارها من أفواه الرجال ومن أحاديث المجالس، وممّن لقيت من أركان الدعوة الإسلامية في أندونيسيا لمّا زرتها من ثلاثين سنة.
قلت لكم إن الفضل كله فيها لرجل واحد، هو الذي شقّ للناس هذا الطريق وهو الذي قادهم إلى العمل، وهو الأستاذ الأكبر عمر سعيد شكرو أمينوتو، الذي أسس أول حزب إسلامي في أندونيسيا سنة 1910 وهو «شركة إسلام» . وكانت بدايتها بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب اليابانية الروسية في مطلع هذا القرن الميلادي، إذ أسس الشبان المثقّفون أول اتحاد سياسي هو بودي أوتوهمو، وبعد ذلك تأسست جمعية الشركة الإسلامية التجارية، ثم أصبحَت حزباً بعنوان «شركة إسلام» ، وقد عرفتم أن كلمة «شركة» في اللغة الأندونيسية بمعنى «جمعية» .
كان هذا الحزب هو الساق الذي تفرّعت عنه الأحزاب والجمعيات كلها، وكان موجوداً لا يزال لمّا زُرت أندونيسيا. وكان مؤسسه شكرو أمينوتو شعلة حماسة وكنز إخلاص ومنارة هداية، بذل الهولنديون المستعمرون كل شيء ليصرفوه عن غايته: المناصب والأموال والمتع، فوجدوه جبلاً لا يتزحزح.
وكان في جزيرة جاوة رجل صالح مُصلِح هو الشيخ أحمد دحلان، فأسّس «الجمعية المحمدية» سنة 1912، وكانت لمّا زرت أندونيسيا أكبر جمعية تعليمية في الشرق، وربما كانت أكبر جمعية في العالَم للتعليم، أعضاؤها نحو من مئتي ألف ولها ألف وخمسمئة مدرسة ثانوية وسبعمئة مستشفى وثلاثمئة دار
أيتام، ولها دار لتخريج معلّمي مدارسها. وقد زرت هذه الدار وعرضتُ عليكم طرفاً من أخبارها لما كنت في مدينة جوكجا (جوكجاكرتا).
وفي هذه السنة، سنة 1912، أسّس أحمد السكرتي الأنصاري (وهو سوداني الأصل) جمعية الإرشاد، وكان لها لمّا زرت أندونيسيا نحو خمسة آلاف مدرسة والتدريس فيها كلها باللغة العربية، ومدرستها الكبرى في سورابايا، فوجدتُ شيئاً عظيماً. وفي سنة 1914 أسّس الشيخ هاشم الأشعري جمعية نهضة العلماء، وهي جمعية سياسية تعليمية، وزرت من مدارسها معهد القرآن في كرافياك قرب جوكجا، وهو مدرسة عربية سلفية.
وفي سنة 1930 أسّس كياي عبد الرحمن شهاب جمعيته، وكان لها في كل بلدة وكل قرية من سومطرة مدرسة. وكلمة «كياي» و «الكيا» بمعنى شيخ، وبه سُمّي الكِيَا الهرّاسي، من فقهاء الشافعية المعروفين. وفي سنة 1930 أُسّسَت جمعية وحدة العلماء في أبتشيه في أقصى الشمال من سومطرة، في أعرق منطقة في الإسلام في أندونيسيا وهي التي مرّ بها ابن بطوطة.
وفي سنة 1935 انفصل الدكتور سوكيمان بجماعته عن «شركة إسلام» وأسّس الحزب الإسلامي الأندونيسي. وفي سنة 1936 انفصل الحاجّ أوغست سالم وأسّس حزب التنوير الإسلامي وجمعية الشبان المسلمين.
وهذه عِلّة من عللنا المزمنة لا نزال نذوق عقابيلها إلى اليوم، هي أنها كلما قامت جماعة ونجحت وسارت في طريقها
انفصلت عنها طائفة منها فألّفت جماعة أخرى مستقلّة عنها. هذا الداء الذي لم نعرف طريق الخلاص منه، مع أن الإسلام إنما دعانا إلى الوفاق لا إلى الفراق، وإلى الاجتماع لا إلى التشتّت المؤدّي إلى الضياع.
والحاجّ سالم رحمه الله عالِم سياسي، كان وزيراً للخارجية، زُرتُه في داره في جاكرتا العاصمة فوجدته قوي الشخصية خفيف الروح، فقيهاً مطّلعاً على التاريخ، يتكلّم الفرنسية والإنكليزية. وسألتُه عن اسم أوغست: من أين جاءه؟ فضحك وقال: هو غريب دخل عليّ، ولذلك حبستُه بين اسمَين إسلاميّين (يعني الحاجّ وسالم).
* * *
ثم جاء الاحتلال الياباني لأندونيسيا والملايا خلال الحرب العالمية الثانية، فكان بلاء هان معه بلاء الاستعمار الهولندي، وخسرت به اليابان من طيب الذكر وما كان معلقاً عليها من كبير الأمل. ولقد سمعتُ في مدن جاوة وفي الملايا العجائب من أعمال اليابانيين.
ولكن الاحتلال الياباني كان له فضل واحد، فضل غير مقصود، هو أنهم درّبوا الناس تدريباً عسكرياً وألّفوا منهم فِرَقاً للدفاع الوطني، أرادوا أن تكون عوناً لهم على الحلفاء لتثبيت احتلالهم، فكان منهم العون على الاستقلال. وكان قائد هذه الفرق الجنرال سوديرمان، وهو في الأصل من العلماء، وأكثر ضبّاطه من الجمعية المحمدية. ولم يرضَ أكثر المسلمين مع ذلك عن هذه
الفرق لاتصالها باليابان، وألّفوا «حزب الله» بقيادة زين العابدين، من جمعية نهضة العلماء. ودرّب اليابانيون هذه الفِرَق أيضاً.
وكان من نتيجة عسف اليابان أن الشعب الأندونيسي، وهو من أعزّ الشعوب، أبى احتمال المذلّة، فكانت ثورة سنغابارة (ومعناها بلسانهم «الأسد الباسل») في جاوة الغربية بقيادة أحد المشايخ من مدرّسي الفقه، وثورة ريتا في جاوة الوسطى، ثم ثارت فِرَق الدفاع الوطنيّ نفسها وأوقعوا باليابان الوقعة المشهورة في نونيتانا في كلامنتان (بورنيو).
وأيام حكم اليابان اجتمعت الجمعيات وكوّنت منها اتحاداً أوثق وأقوى هو مجلس الشورى الإسلامي (ماشومي)، الذي حلّ محلّ المجلس الإسلامي الأعلى (1).
* * *
كانت اليابان ظالمة فوجدت أظلم منها (2)، وهم الأمريكيون الذين لبسوا يوماً جلود الشياطين ونسوا الإنسانية والخُلق والدين، وارتكبوا أكبر جريمة منذ جريمة قابيل إلى الآن. أكبر جريمة بلا استثناء، حين ألقوا على هيروشيما وناغازاكي القنبلتين الذرّيتين اللتين دمّرتا مدينتين كاملتين، فسلّمت بذلك اليابان وألقت سلاحها.
(1) انقطع الكلام هنا عن الحركة الإسلامية في أندونيسيا رغم أنه لم يتم، وتجدون بقيته في آخر الحلقة الآتية (مجاهد).
(2)
هذا القسم من الحلقة منقول بتصرف عن فصل «استقلال أندونيسيا» المنشور في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).
إن المحاكم إنما أقيمت لتعاقب المجرم السافل الذي يزهق حياة نفس واحدة بريئة، فكم طفلاً وامرأة وشيخاً، وناسكاً متعبداً وعالِماً مفكّراً وأدبياً عبقرياً، أزهقَت أميركا لمّا ألقت قنبلتَيها على هيروشيما وناغازاكي؟ وما أدافع عن اليابان، فاليابان كانت ظالمة فوجدت أظلم منها، ذلك أن الاحتلال الياباني كان أشدّ وأقسى من احتلال الهولنديين، وكانوا هم (أي اليابانيون) أظلم وأطغى.
وكان يوم 17 آب (أغسطس) سنة 1945 واليابانيون لا يزالون يحتلّون أندونيسيا، فطلب الشعب الإذن له للاجتماع في ساحة كامبير في بتافيا (التي سُمّيت اليوم جاكرتا ودُعيت ساحتُها هذه بميدان مرديكا، أي «الاستقلال»)، فأبى المستعمرون اليابانيون. وأصرّ الناس فأقام اليابانيون المتاريس ونصبوا الرشاشات، ولم يكن للشعب من سلاح إلاّ الحِراب التي كانوا يتخذونها من نوع القصب، يشبه الأقلام التي كنا نكتب بها ونحن صغار ولكنه ضخم قويّ تُبنى منه البيوت وقشرته أحدُّ من شفرة السيف.
فبرى الشعب حِرابه وواجه بها رشاشات المستعمرين، واقتحم الميدانَ يطأ على أجساد قتلاه ويخوض في دمائهم، حتى اجتمع في الميدان ما يزيد على نصف مليون إنسان. ثم أقبلَت سيارة تحمل علَماً غريباً هو الذي يستظلّ بظله اليوم مئة وخمسون مليوناً من الأندونيسيين، فيه اللون الأبيض رمز السلام واللون الأحمر لون الدم، كأنه يقول:"إنا نريد السلام، ولكننا لا نخشى الحرب". وحول الراية الشبّان المسلّحون، وفيها أحمد سوكارنو ورفيقه محمد حتا. وأقيم منبر على عجل وصعد سوكارنو. وسوكارنو -على ما نُنكِر منه من انحراف عن الإسلام- كان
من أخطب خطباء الدنيا، ولكنه لم يخطب يومئذ خطبة بل سأل سؤالاً؛ قال للناس: هل تريدون الاستقلال؟ فأجابه هزيم الرعد من نصف مليون حنجرة أن نعم، قال: فبماذا تحمونه؟ قالوا: بأرواحنا، قال: إن قُوى العدوّ كبيرة. فقالوا: الله أكبر.
«الله أكبر» ، خرجت من خمسمئة ألف فم، فارتجّت لها الأرض، ثم خشعت وأصغت الأفلاك ثم صغَت (أي مالت) وأحسّ كل واحد من هؤلاء الناس أنه صار بها وحده جيشاً كاملاً. وكذلك يصنع الإيمان وتصنع «الله أكبر» .
عند ذلك كتب مسوَّدة الوثيقة الهائلة التي أخرجَت للدنيا دولة مسلمة، كان فيها يومئذ ثمانون مليوناً فصار فيها اليوم نحو من مئة وخمسين مليوناً. ولا تزال المسوَّدة ذاتها محفوظة. ثم تلاها على الناس وأعلن استقلال أندونيسيا بهذه الجملة الواحدة: باسم الله وباسم الشعب الأندونيسي أعلن أنا سوكارنو ورفيقي حتا استقلال أندونيسيا.
إلى هنا وكل ما كان مألوف معروف.
كلام حلو يُلقى في نوبة حماسة على جمهور ثائر، ثم لا يزيد أثره عن كونه كلاماً. ولكن ما ألقاه سوكارنو في ذلك اليوم لم يكن كلاماً عارضاً يذهب هزّات في الهواء، بل كان بداية عمل في الحياة يستقرّ في الأرض. لقد انتشر هذا الإعلان وقفز من جزيرة إلى جزيرة من جزر أندونيسيا التي يزيد المسكون منها على ثلاثة آلاف، ومشى مشي اللهب في القشّ حتى عمّ البلاد التي يزيد ما بين طرفيها عمّا بين لندن وإسطنبول، فاشتعلَت الثورة فيها كلها.
ولست أستطيع أن أسرد عليكم أخبار القتال، فاكتفوا مني بهذه الحادثة الواحدة، حادثة واحدة فقط سيطر فيها المجاهدون على مطار كامل فيه الجند والمدافع والرشاشات وما معهم إلاّ هذه الحراب المقطوعة من قصب الغاب. عمدوا إلى مكبرات الصوت فأنذروا فيها جند المطار من كل جانب، واستمرّوا في ذلك ليلة كاملة حتى أرهقوا أعصاب الجند، ثم هجموا في الظلمة صفوفاً من الناس وراء صفوف، وكلما سقط صف حلّ محلّه أخوه لا يبالون النار ولا البارود، حتى احتلّوا المطار وأسروا كل من كان فيه وملكوا عتاده.
كانت هذه الحراب سلاحهم، أما البنادق فكانت قليلة فكانت تكلّفهم ثمناً غالياً. ماذا؟ أظننتم أنهم يشترون الواحدة منها بمئة دينار مثلاً؟ لا؛ بل كل بندقية تكلف حياة مجاهد، ينتزعها من ياباني فيموت في سبيلها حتى يوصلها إلى يد أندونيسية مسلمة تدافع بها عن حقّها وإسلامها.
وأقيمت الجمهورية وأُلّفت الحكومة الوطنية، وذاقت البلاد لأول مرّة بعد ثلاثمئة سنة لذّة السعادة والحرّية. ولكن النعمة لم تستمرّ؛ لقد جاء البلاء، أقبل أبالسة البشر. ألا تعرفونهم؟ ألا تعرفون الذين كانوا سبب كل مصيبة نزلت بنا؟ ألا تعرفون قوم بلفور ووعد بلفور؟
جاؤوا -كما قالوا أولاً- لتجريد اليابان من سلاحهم، وأعطوا عهودهم المكتوبة على أنهم لا يكونون حرباً على الجمهورية ولا عوناً للهولنديين، فما إن وطئوا أرض جاكرتا حتى حنثوا.
وقد يكون للفرد منهم قولة شرف يصدُق بها، أمّا سياسيّوهم فقد أيقن التاريخ من زمان بعيد أن كلمتهم هي الكذبة الحمراء وأن وعودهم وعود عرقوب. اللهم إلاّ وعداً واحداً وفوا به لأنه وعد شيطاني، هو وعد بلفور.
وجاؤوا بقواهم الكبرى، القوّة التي حاربت اليابان، أسطول بحري وأسطول جوي وجيش كامل، ووقفوا أمام مدينة سورابايا شرقي جاوة. وكانت سورابايا أجمل مدن الشرق الأقصى وأكبرها، وبعثوا بالإنذار المشهور بأن يسلّم الشعب سلاحه كله ويفتح بلاده للهولنديين ليعودوا إليها، أو يرى التدمير الشامل.
شعب كان فيه ثمانون مليوناً يملك أغنى بلاد الدنيا بالثروة الطبيعية، يسلّم نفسه وأرضه لشعب فيه ثمانية ملايين فقط، جاء من بعيد، ليس له في هذه الأرض أصل من الأصول ولا حقّ من الحقوق؟ ونسوا كل ما كانوا يتشدّقون به أيام الحرب من حقوق الإنسان وحرّيات الشعوب.
وتردّد الشعب لحظة ودُهش، ثم عاد إلى نفسه فقال: لا.
وابتدأت الحرب، الحرب بين الذئب قوي الأنياب وبين الحمَل الوديع. ودُمّرت سورابايا كلها في ساعات معدودة، ولكن الحمَل الوديع انقلب بالإيمان أسداً. لقد صنع الأندونيسيون العجائب؛ لقد عملوا ما لم يُسمَع بمثله إلاّ من المجاهدين الأوّلين من المسلمين: قاتل الرجال جميعاً حتى الشيوخ والمرضى. قاتل الأطفال وأُلّف منهم فِرَق سميت «جيش النمل» ، وقاتل النساء.
تقولون: وماذا يصنع الأطفال؟ لقد جمع الأطفال الحصى
والحجارة وقِطَع الحديد، ثم هجموا على الدبّابات وهي تسير وتطلق النار فوضعوا ذلك خلال سلاسلها وآلاتها ليمنعوا سيرها ويعطّلوها، وكان الواحد منهم يدوس على بقايا أخيه وهي تسبح في الدم ويقدم لا يبالي. وخرّبوا الطرق وأفسدوها، ومات منهم آلاف وآلاف وآلاف، فما فزّع الموت من أحد ولا أخافت وسائله أطفال أندونيسيا (كما أنها لم تُخِف من قبلُ أطفال دمشق، وقد مرّ بكم الخبر).
أما النساء في أندونيسيا فلو كان يجوز لي أن أحني رأسي الذي ما انحنى قط لغير الله لأحنيته إكباراً لنساء أندونيسيا. إنني لا أستطيع أن أذكر لكم ما صنعن دون أن يثب قلبي إلى حلقي حتى يسيل دموعاً من عيني. إن الذي صنعنه شيء يجلّ عن الوصف ويكبر عن التصديق، وإذا أنتم شككتم فيه ولم تصدّقوه فلكم العذر. كانت القنابل التي وصل إليها المجاهدون قليلة وكانت صغيرة لا تدمّر الدبابة إن أُلقيَت عليها، فكانت الفتاة الأندونيسية التي تشبه الوردة اليانعة تأخذ عدداً من القنابل فتربطه حول جسدها، ثم تودّع أمها وأباها وأهلها، ثم تلقي بنفسها على الأرض أمام الدبابة فتتفجر القنابل، فتطير هي والدبابة معاً.
هذا ما كان فعلاً. فهل سمعتم أو قرأتم في أخبار الأمم كلها قديمها وحديثها مثل هذا الخبر؟ إنه مشهد يخرس لسان أبلغ شاعر بشري عن وصفه. إنني مرّة ثانية أحاول أن أحني رأسي لنساء أندونيسيا. كان هذا هو الدرس الأول الذي تلقّته نساء لبنان الآن، فيما يصنعن أمام قوى الشرّ التي جاءت من إسرائيل.
لقد مشى الغاصبون تحميهم نيرانهم ويحميهم حديدهم، ولكنهم كانوا يخوضون الدم ويمشون على الجثث، كل خطوة يخطوها جنديّ منهم بنفس زكيّة يجود بها مجاهد منّا. وكانت الحرب المقدَّسة وكان الجهاد في سبيل الله، وترك العلماء كتبهم ومساجدهم ومشوا على رؤوس المجاهدين، وكان منهم أبطال كبار، وحسبُكم أن تعرفوا أن سوديرمان القائد العامّ لقوّات المجاهدين كلها كان من المشايخ المدرّسين في مدارس الجمعية المحمدية. لقد مرض وأُجريَت له عملية جراحية بُترت فيها إحدى رئتيه وحُمل بعدها على المحفّة، ولكن لا إلى بيته ولا إلى مصيف هادئ يستريح فيه حتى ينقه، لا بل إلى ساحة الجهاد ليعاود القتال!
وكانت كل هجمة تبدأ بـ «الله أكبر» وكان كل بيان يُذاع يُشرع فيه بـ «الله أكبر» . واستمرّ الجهاد سنين، وبلغ عدد المصابين من قتلى وجرحى ومفقودين أكثر من مئتَي ألف، واعتُقل سوكارنو وحتا ورجال الحكومة بعدما احتُلّت أكثر المدن، فأُقيمت الحكومة مؤقتاً وسط الغابات وثابرت على القتال.
وكانت تظهر كل يوم بطولات تحيّر العقول: حوصرَت فرقة من المجاهدين وانقطعت عنها النجدات، ولم يكن بينها وبين مركز الجهاد من سبيل إلاّ بخوض نهر فيه تماسيح مفترسة، فتطوّع قوم ليُلقوا بأنفسهم فيه لتفترسهم التماسيح فتشتغل بهم فيمرّ غيرهم ويأتي بالنجدة! وكذلك كان.
لم يعُد للحياة قيمة، وصارت الشهادة هي الأمنيّة الكبرى
التي يستبق إليها الرجال والنساء والأطفال على السواء. ولم يعُد النساء يقبلن المال مهراً، فصارت مهور العرائس رؤوس الإنكليز والهولنديين، فمن كانت أبهى جمالاً وأعزّ نفراً كان مهرها عدداً أكبر من الرؤوس. ورأوا أن الإنكليز يستفيدون من العمارات الكبار فأحرقوا بأيديهم كل عمارة كبيرة، ولقد رأيت بعيني آثار هذا الخراب في سورابايا ومالان. حتى باندونغ، باريس الشرق، أحرقوها وهجروها وهم يغنّون هذه الأغنية التي يمتزج فيها دمع العاطفة بدم البطولة، والتي اشتهرت في أندونيسيا شهرة المارسيلييز في فرنسا: «هلو هلو
…
باندونغ»، يخاطبونها فيها كما يخاطب العاشق حبيبته، يَعِدونها أنهم سيعودون حتماً إلى أحضانها.
وقد عادوا، عادوا ظافرين. لقد بذلوا الشهداء في أرض الوطن وسقوها الدم الأحمر القاني، فأنبتَت، أنبتت الحرّية والظفر والاستقلال:«مارديكا» .
* * *
كان هذا الجهاد كله لله، فلن تكون الثمرة لأعداء الله. كان للإسلام الخالد الباقي الذي حفظه الله بحفظه، فلن تكون الغنائم لـ «بنغاسيلا» ولا لشريعة أخرى أوحى بها إلى أوليائه إبليس، ولا للملحدين ولا للمكفّرين المنصّرين وإن سمّوا أنفسهم بالمبشّرين.
إن الإسلام ما دخل بلداً فخالط قلوب أهله، فعاشوا به وعاشوا له، ثم خرج من هذا البلد. وسيبقى الإسلام في أندونيسيا وتبقى أندونيسيا للإسلام إلى يوم القيامة.
فيا أيها الإخوان الأندونيسيون، يا إخواننا في الله، في الكعبة، في القرآن، في «الله أكبر»: هذه يدي عن بَني العُرْب تصافحكم، وإنها لشمال صافحت يمينها. ويا أيها المستعمرون، اعلموا أن الشيخ العاجز الذي يمشي على العكاكيز ليس كالشابّ الأيّد القوي. لقد صارت دُولكم دولاً هرمة عاجزة فقدت أطرافها وخرّفَت وضيّعت عقلها، فلا تغترّوا ببقايا القوّة، فأنتم في ضياء ولكنه كضياء الأصيل ما بعده إلاّ الليل، ونحن في سَدفة ولكنها كغَبشة السّحَر، والنهار أمامنا.
* * *