الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-171 -
معركة أدبية
كانت نتيجتها دعوى قضائية
بعد سنتين أكون قد أكملت ستين سنة وأنا في الميدان أجاري الفرسان وأقارع الأقران وما ألقيت سلاحي، وما سلاحي إلاّ قلمي ولساني، ولا نزعت لأمتي. بدأتُ من أول يوم أصدرت فيه «رسائل الإصلاح» سنة 1348هـ بخوض المعارك الأدبية، ثم استمررت عليها. ما خضت غمارها ولا صَلِيت نارها غراماً بها واطمئناناً إليها، ولكن أُكرِهت عليها. كنت كما كان فارس النعامة حين قال في حرب البسوس:"لم أكن من جُناتها علم الله".
وكان قليل من هذه المعارك لحظّ نفسي ودوافع حب وبغض مني، وأكثرها كان دفاعاً عن الحقّ وذبّاً عن الدين، أرجو أن يُكتب لي ثوابه. وقد جمعت ما قدرت عليه منها (وقد تفرّق وضاع أكثرها) فكان من ذلك كتابٌ أصوله تحت يدي، ربما بلغ أربعمئة صفحة، ولكني لا أنوي نشره.
كان عصرنا عصر معارك أدبية. وقد كنت في ميعة الشباب لمّا كانت معركة طه حسين مع جمهرة كتّاب العرب الكبار من
أجل كتابه «الشعر الجاهلي» ، وحضرتُ بعدها معارك كثيرة كنت أشاهدها ولا أدخل فيها، لأن فرسانها كانوا أكبر مني ولم يكن لي فيها مجال، ثم جاءت معارك كنت أنا طرفاً فيها وكنت أحمل لواء بعضها.
كان أسلوب الكتّاب في هذه المعارك على ضربَين: قليل منهم كان يعرض الفكرة، يبيّن عيوبها ونقائصها ويُقيم الدليل على ما يقوله فيها، وكان أكثره همزاً ولمزاً وهجاء للكاتب وهُزءاً وسخرية به. وكان على هذا الأسلوب كبار الكتّاب كشيخنا الرافعي والأستاذ العقاد، وقد بلغ ذروته (أقصد أنه نزل إلى حضيضه) في كتاب «على السَّفّود» ، وفي هذا الكتاب نقد أدبي كثير وفيه حقائق جمّة وفيه فنّ، ولكن هذا كله قد ضاع في غمرة هذا الأسلوب الذي لا أستطيع -على حبي للرافعي- أن أقول إنه أسلوب نظيف أو مقبول. ولكني، مع الأسف، نشأت عليه وبرعت فيه، وإن كنت الآن لا أحبّه ولا أرتضيه.
والمعارك التي خضتُها اضطُررت إليها ولم أختَرْها، ولم يدفعني إليها دافع شخصي لأن أكثر مَن قارعتُه فيها ونازلتُه لم يكن بيني وبينه من صِلات الدنيا ما يستدعي حباً ولا بغضاً. من ذلك أني كنت سنة 1947 أُشرف على تحرير مجلّة «الرسالة» بتفويض من أخي الأكبر وأستاذي الزيات رحمة الله عليه، لمرض كان فيه (أو تمارُض كان منه). وكان في «الرسالة» أبواب ثابتة منها باب «الأدب والفنّ في أسبوع» ، فنشر محرّره في عدد يوم الاثنين 30 شوال سنة 1366هـ خبراً عنوانه «جدل في الجامعة» قال فيه:
كان الأستاذ محمد أحمد خلف الله، المعيد بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (وكذلك كانت تُسمّى جامعة القاهرة في تلك الأيام) قدّم رسالة للحصول على الدكتوراة موضوعها «القصص في القرآن» ، وقد أعدّها بإشراف الأستاذ أمين الخولي ومعاونته، وألِّفت لجنة من الأستاذين الشايب وأحمد أمين للنظر في صلاحية الرسالة للمناقشة. وكتب كل من الأستاذين تقريره عنها، أمّا الأستاذ أحمد أمين فقال بأنها لا تصلح لضعف منهجها العلمي، وأما الأستاذ الشايب فرأى أن فيها ما يمسّ الناحية الدينية لأن صاحبها يقول إن القصص القرآني لم يُراعِ الحقيقة التاريخية وإن المقصود منه غرض فني، فلسنا مُلزَمين بتصديق حقائق هذا القصص وإنما نقدّر فيه الغاية الفنية، ويقول إن هذا القصص مستمَدّ من مصادر أخرى غير عربية كالتوراة والأدب اليوناني والأدب الفارسي، وإن فيه أساطير لا أساس لها
…
لذلك رأى الأستاذ الشايب أنه لا يجوز أن تُعرَض رسالة تتضمّن هذه الآراء للمناقشة في لجنة الدكتوراة. وعلم الأستاذ الخولي بفحوى تقرير الأستاذ الشايب فردّ عليه بتقرير قال فيه إنه متضامن مع مقدّم الرسالة في كل حرف منها وإنه لا ينبغي الوقوف أمام حرّية الفكر. وهذه التقارير كلها لدى العميد تنتظر اجتماع مجلس الكلية، وتتحدّث الهيئات الجامعية في هذه المسألة، وأقوَم ما يقال فيها أن الدكتوراة إجازة من إجازات الدولة التي دينها الإسلام، فكيف تُمنح لمن يرى هذه الآراء في القرآن؟
* * *
لم أكن أعلم قبل أن أقرأ هذا الكلام بشيء عن الرسالة ومقدّمها، ولا يجمعني جامعٌ من صداقة أو عداوة أو صلة من
الصلات الاجتماعية بمقدّم الرسالة وأستاذه المشرف عليها، ولكنني رأيت شيئاً هالني وأثار غضبي لله. وتتبّعتُ الخبر فعلمت أن المسألة أخطر من أن تكون جدلاً في الجامعة، وأنه يومٌ كيوم طه حسين في الشعر الجاهلي. ولكن صاحب هذه الرسالة لم يكن له ذكاء طه حسين ولا اطّلاع طه حسين، وإنما أراد -كما يبدو- أن يبتغي الشهرة من أقرب طرقها.
وكنت أقرأ قبل هذا للأستاذ أمين الخولي فأجد عنده اطّلاعاً، ولكنني أنكر منه أشياء يأباها الإسلام. وهذه خلّة في كثير من المشايخ الذين يسلكون طريق التجديد، لذلك نرى أن جلّ مَن خرجوا عن الجادة وجاؤوا بما يُنكِره الإسلام كانوا في الأصل من المشايخ، ولا أستقصيهم ولكن أمثّل لهم بطه حسين وعلي عبد الرزاق، وبعض مَن انحرف ثم عاد إلى الجادة وصار من أهل الخير والصلاح، وهو يكتب الآن في جريدة «الشرق الأوسط» .
فكتبتُ مقالة في العدد الذي يليه (عدد 7 ذي القعدة 1366) عنوانها: «تعليق مختصَر على خبر» ، قلت فيها: هذا الخبر الذي جاء فيه أن معيداً في كلية الآداب أعدّ أطروحة (ونحن في الشام نسمي رسالة الدكتوراة «الأطروحة») ينال بها لقب «دكتور» ، فلم يجد لها موضوعاً إلاّ القصص في القرآن، ولم يجد فيه إلاّ أنه أساطيرُ الأوّلين وأنه كذب مفترى وأنه مستمَدّ من التوراة ومن أدب فارس ويونان، وأن الأستاذين الأحمدين الفاضلَين حكما بردّ الأطروحة وإسقاطها واختلفا في تعليل الحكم، فكانت العلّة عند الأستاذ الأمين الجهل وعند الأستاذ الشايب الكفر، وعندنا أنهما معاً، لأن هذا لا يجيء إلاّ من ذاك.
وفي الخبر أن الذي أشرف على إعداد الأطروحة وأعان عليها شيخٌ بعمامة بيضاء من أساتذة الكلية، وأن هذا الشيخ عزّ عليه إسقاط الأطروحة فغضب (والغضب لله وللحقّ من الفضائل!) وقال إنه متضامن مع مقدّم الرسالة في كل حرف منها وإنه لا ينبغي الوقوف أمام حرّية الفكر.
ولو انتهت القصّة عند ردّ الأحمدَين ولم يكن صاحب الأطروحة مدرّساً، ولم يُدخِل نفسه فيها هذا الشيخ لينصر الكفرَ ويدفع عن الإلحاد ويؤيّد الجهل، لقلنا: شابّ تعجّل الشهرة قبل أوانها ورأى طريق العلم والتحقيق طويلاً فسلك طريق جهنّم وأراد اجتياز الصراط فسقط، وسكتنا ومرّت الحادثة كما مرّت أحداثٌ أمثالها وشرّ منها ظنّ مُحدِثوها أنهم هدموا الإسلام ونسفوه نسفاً وصرفوا عنه الناس صرفاً، والإسلامُ لم يشعر بها ولم يحسّ بوقعها ولم يزدَد عليها إلاّ قوّة وانتشاراً. ولكن دخول هذا الشيخ في المجادلة على صدق القرآن وكذبه، وكون طالب الأطروحة موظفاً رسمياً ومعيداً في الكلية، أمر لا يُسكَت عنه.
وهذا الذي نقوله اليوم أول الغيث.
مقالنا اليوم تذكير لهذا الشيخ بأنه ليس من أصحاب العقول الكبيرة والبحث العلمي ليزعم أنه يكفر إذا كفر عن بيّنة، وما له إلاّ أنه رأى أديباً زلّ من عشرين سنة (المقصود طه حسين)، وأي أديب لا يزلّ؟ فقال كلاماً مثل هذا الكلام فملأ اسمه الدنيا وشغل الناس، فأحبّ أن يكون مثله، وشتّان ما بين الرجلين.
وإلاّ فهل ثبت له بعد البحث والتحقيق أن قصص القرآن
مأخوذ من التوراة ومن الأدب الفارسي واليوناني وأن فيه أساطير لا أساس لها؟ وهل وقعَت له النسخة المخطوطة بخطّ مؤلف القرآن الذي هو الله -إذا كان فضيلة الشيخ لا يزال يعتقد أن القرآن من عند الله- فعضّ عليها بالنواجذ ليفضح المؤلّف ويكشف عن سرقاته ويشفي غيظه منه؟ أستغفر الله كثيراً، وتعالى عمّا يقوله الكافرون علواً كبيراً.
ولتدع الكلام في الدين ما دمتَ -يا مولانا الشيخ- تحسب أن الخروج عليه مدنية وتقدُّم وأن الأخذ به رجعية وتأخُّر، وأنك أعلنت الكفر وجهرت به واخترته والعياذ بالله لنفسك، ولنأخذ هذا العلم والمنطق والتاريخ. فهل في العلم والتاريخ شيء يؤيّد ما جاء في الخبر أن الأطروحة اشتملت عليه وما أعلنتَ أنك مع المؤلف في كل حرف منه؟ وبأي دليل من أدلّة العلم، وفي أي كتاب من كتب التاريخ ثبت لك ولصاحب الأطروحة أن الله قد قبس قرآنه من أدب فارس ويونان ومن هذه الأساطير؟ أستغفر الله، وتعالى عمّا يقول الكافرون علوّاً كبيراً.
وإذا لم يكن القرآن كتابَ الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا من جهة فارس ولا من جهة يونان، وكان من تصنيف محمد، وكان قد اقتبسه من آداب الأمم ومن أساطيرها، فكيف خفي ذلك على أسلافك من أنصار حرّية الفكر، أعني حرّية الكفر، من اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة وكل عدوّ للإسلام خصيم للقرآن، فلم يؤلّف فيه أحد ولم يُثبِته، حتى جاء تلميذك هذا فكتبه لتكافئه الدولة على كفره بدينها الرسمي وطعنه بقرآنها بإعطائه شهادة الدكتوراة، وتسليمه أبناءَ المسلمين
ليلقّنهم هذه الآراء على أنها علم وفضل، وأن الذي لا يحفظها ويُعيدها يوم الامتحان يرسب في صفّه إن طفا الطلاّب (طفا ضد رسب)؟
وحرّية الفكر
…
ما حرّية الفكر يا هذا؟ كيف تفهمها؟ أكلما طاف برأسك طائف من هوى أثبتّه على الورق وخرجت به مزهوّاً على الناس، وقلتَ هذه حرية الفكر؟ أما إنه ليجيء في فكري أنا الآن كلام عنك، لولا أني لم أعرض هذه المقالة على الأستاذ الزيات وأني أخاف أن يغضب إن حططتُ بثقلي عليك لقلته، فما تركتك تستطيع أن تمشي في الجامعة أو تتراءى للطلاب. فارتقبه، فكل شيء له أوان، وما أنت بمعجز الله في الجامعة وقد أهلك فرعون وهامان وأبا جهل.
وما لك تكره أن أسبك بعلم وتسبّ أنت الله عَدْواً بغير علم؟ ولا تحبّ أن أقول في كتابك الذي ألّفتَه كلمة الحق وتقول أنت في كتاب الله كلمة الباطل؟ وما لك لا تجرؤ أن تقول لواحد من هؤلاء الكتّاب أخرجَ كتاباً تلقّاه الناس بالقبول: إنك تكذب، وتنسب الكذب إلى الله المنتقم الجبّار؟ أغرّك -ويلك- حلمه عنك وأنه مدّ لك حتى صرت تُعطي الدكتوراة وأنت لم تأخذها، وتمنح العلم وأنت لا تملكه، وتؤلّف في البلاغة وما أنت منها في شيء، ولا أُثر عنك بيان غطّى على بيان الجاحظ وأبي حيان ولا الرافعي والزيات، ولا أنت صاحب شعر ولا نثر، وقصارى أمرك أنك أُدخِلتَ على طلاب لا يفهمون من البلاغة شيئاً فمَخْرَقتَ عليهم وزعمت لهم أنك إمامها وأنك مؤذّنها وخطيبها وأنك بوّاب جامعها، ورأيتَ أنهم صدّقوا قولك فادّعيت أنك باني
مسجدها ورافع منارتها؟ ولو أنت ادّعيت النبوّة فيهم ما وجدت منهم من يكذّبك أو يكفر بك ما داموا يأخذون منك الدرجات في الامتحان، ثم يخرجون كما دخلوا، لا أنت علّمتهم ولا هم تعلّموا منك.
وكيف يتعلّمون وقد جعلتَ دروس البلاغة عيّاً والفصاحة عامّية، وكانت دروسك ذلك الخزي الذي نشره في «الرسالة» الأستاذُ علي العماري فكان تسلية لقرّاء «الرسالة» وفكاهة، ضحكوا عليك به شهراً؟ لقد كان كفراً مبتكَراً منك حين زعمتَ في تلك الدروس أن الله قال لمحمد:«يا أخي» ، فكيف قعدَت بك القريحة اليوم فلم تأتِ إلاّ بكفر عتيق قيل في مصر من عشرين سنة، وقيل في مكّة قبل الهجرة، فكان سخرية الأولين والآخرين؟ ولقد بعثتَ يومئذ مَن يدافع عنك في «الرسالة» ، فلم يبلغ به دينه وأدبه مع الله ولا علمه ولا بلاغته ولا معرفته بتصريف الكلام إلاّ أن يحتجّ على جواز زعمك أن الله قال لمحمد «يا أخي» بقول الحمّار لحماره «يا أخي» ، ولم أردّ عليه لأني لم أكن أعرف قبل أن أسمع ردّه هذا شيئاً من لغة الحمير والحمّارين ولا قواعد المناظرة في لغاتهم.
وبعد، فما أريد اليوم الردّ على هذين الرجلين ولا تأديبهما؛ إنما أردتُ تنبيه رجال المعارف في المملكة (كانت جمهورية مصر مملكة) التي دينها الرسميّ الإسلام وعميد الكلية فيها العربي المسلم الذي اسمه الدكتور عبد الوهاب عزّام، إلى هذين المدرّسَين يُعلِنان الكفر بالله، والطعن في القرآن، والإهانة لكل مسلم يرى في مصر دار الأزهر ومثابة العلم، وهما يأخذان
أموال الأمّة ليلقّنا أبناء مصر وأبناء الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب وكل بلد يبعث بأبنائه إلى هذه الجامعة مثلَ هذه الكُفريّات التي يعتقدانها، ويكتبانها ويُصرّان عليها ولا يخافان فيها الله ولا الحكومة، ولا العلماء ولا العامّة.
وأنا أرقب ما تصنع وزارة الأوقاف وما يصنع الأزهر وعلماؤه، لأستخير الله فيما أصنع أنا بعدُ، وما يصنعه هذا القلم الضعيفُ في نفسه القويُّ بالله وبدينه وبقرآنه. وما بسيفي أضرب، ولكن بسيف محمد.
* * *
أنا أخجل أن أقول (وإن كان الذي أقوله حقيقة يعرفها كل من عاش في مصر في تلك الأيام وكان يهتمّ بالأدب والأدباء) أخجل أن أقول إن هذه المقالة كان لها دويّ عظيم وأثر بالغ، حتى إن الناس كانوا يفتّشون على عدد «الرسالة» ويدفع طالبه فيه عشرة أضعاف ثمنه فلا يلقاه. وقد تبيّن للناس أن أهل مصر تنطوي قلوبهم على الإسلام وأنهم يغضبون لله ولرسوله، ولا سيما في جامع الأزهر، في مدرّسيه وتلاميذه.
وصدر عدد «الرسالة» يوم 14 ذي القعدة 1366 وفيه مقالة للأستاذ علي العمّاري يعلّق فيها على مقالة لي عنوانها «مستقبل الأدب» تناولتُ فيها بشيء من الحسرة والألم ضَعف الطلاّب في العربية، والمقالة تتصل بهذا الموضوع. ثم كتب الأستاذ خلف الله نفسه مقالة أرادها دفاعاً عن نفسه فجاءت توريطاً لها وجاءت ذنباً جديداً يؤاخَذ عليه، وردّ عليه مشرف فصل «الأدب والفنّ في
أسبوع» في عدد 21 ذي القعدة. وسعيت حتى وصلت إلى نص التقرير الذي قرّره الأستاذ أحمد أمين في رسالة القصص الفني في القرآن فنشرتُه في «الرسالة» ، وهو:
حضرة صاحب العزّة عميد كلية الآداب، تحيّة واحتراماً.
قرأتُ الرسالة المقدَّمة من محمد أفندي خلف الله لنيل الدكتوراة وموضوعها «الفنّ القصصي في القرآن» ، والتي تفضّلتم فأحلتموها عليّ لقراءتها وإبداء الرأي فيها. وقد وجدتُها رسالة ليست عاديّة بل هي رسالة خطيرة، أساسها أن القصص في القرآن عمل فني خاضع لما يخضع له الفنّ من خلق وابتكار من غير التزام لصدق التاريخ والواقع، وأن محمداً فنان بهذا المعنى. وعلى هذا الأساس كُتِبت كل الرسالة من أولها إلى آخرها. وأرى أن من الواجب أن أسوق بعض الأمثلة التي توضّح مرامي كاتب الرسالة وكيفية بنائها.
يرى أن القصّة في القرآن لا تلتزم الصدق التاريخي وإنما تتجه كما يتجه الأدب في تصوير الحادثة تصويراً فنياً، بدليل التناقض في رواية الخبر الواحد مثل أن البشرى بالغلام كانت لإبراهيم أو لامرأته. بل قد تكون القصّة مخلوقة مثل {إذْ قالَ اللهُ يا عيسى بنَ مريمَ أأنتَ قُلتَ للنّاس}
…
(الصفحة 14 وما بعدها)، الإجابة على هذه الأسئلة التي كان يوجّهها المشركون للنبي ‘ ليست تاريخية ولا واقعية، وإنما هي تصوير لواقع نفسي عن أحداث مضَت أو أغرقَت في القدم، سواء كان ذلك الواقع النفسي متفقاً مع الحقّ والواقع أم مخالفاً له (ص 28)، والقرآن
يقرّر أن الجن تعلم بعض الشيء، ثم لمّا تقدّم الزمن قرر القرآن أنهم لا يعلمون شيئاً (ص 29) والمفسّرون مخطئون حين يأخذون الأمر مأخذ الجدّ (ص 30)، إلخ.
وقد سرد الأستاذ أحمد أمين نماذج من هذه الرسالة كلها تفصّل هذا الإجمال الذي أجمله، وتنفي الصدق والأمانة عن القصص القرآني.
وعاد صاحب الأطروحة فكتب في «الرسالة» (عدد 28 ذي القعدة 1366) مقالاً يؤكّد فيه ما ذهب إليه وما قاله في أطروحته، فعلّقتُ عليها في باب البريد الأدبي من هذا العدد بكلمة عنوانها:«إلى خلف الله العامري» وقلت في الحاشية: واسمه الربيع الذي قال فيه الشاعر:
شهِدتُ بأنَّ اللهَ حقٌّ تُقاؤُهُ
…
وأنّ الربيعَ العامريَّ رقيعُ
ووضعتُ مكان كلمة «رقيع» كلمة «فهيم» ، قلت فيها:
يا «أستاذ
…
!»، لقد أغمدتُ سيفي ولويت وجهي عن الميدان، لأنك أصبحتَ أعزّ عليّ من أن أجرّد في وجهك سيفاً أو أثير عليك حرباً، وكيف وأنت رجل خيّر فاضل «لستَ منَ الشرِّ في شيءٍ وإنْ هانا» ، وأنت تُنصِف من نفسك وتنال منها ما لا يناله منك الخصم العنيد، وتكتب عنها بقلمك ما لا يكتبه العدوّ اللدود. وقد تعلمتُ منك أشياء كنت أجهلها.
تعلّمت منك كيف يكون العذر أقبح من الذنب حين قرأتُ لك ما كتبتَ تعتذر له من ذنبك، وتعلّمت كيف يفهم بعض
«العلماء!» من الكلام ما لا تدلّ عليه ألفاظه ولا يفيده نَظْمه ولا يمكن أن يخطر على بال كاتبه، وكيف تبلغ الفطنة (
…
) ببعض «الأذكياء» أن يريد أحدهم الشيء فينطق بضدّه ويعمد إلى تبرئة نفسه فيوبقها.
قلتَ، فضّ الله فمك:"والآن نستطيع أن ننتقل إلى الجوّ القرآني لنبحث ما في قصصه من أشياء تاريخية. وقبل البدء ننظر في اعتراض قد يُستثار، ذلك أن ما قرّرناه من صلة بين التاريخ والقصّة يعتمد على ظاهرات في القصص لُوحظَت حديثاً وقُرّرت على أنها بعض التقاليد الأدبية. الملاحظات للظواهر وهذه المقررات للتقاليد. على أنها لو كانت قديمة لا تلزم القرآن في شيء، إذ لكل قاصّ مذهبه وطريقته ولكل خالق حريته في الخلق والابتكار، ولن يقرّر ما في القرآن من قيم إلاّ واقعٌ أدبي التزمه القرآن نفسه، أو على أقلّ تقدير حرص عليه. وهو قول له وجاهته فيما نعتقد، ثم هو يُلزِمنا أن نبحث طريقة القرآن من واقعه العملي".
انتهى بنصّه وفصّه وألفاظه وحروفه. وأحلف لقد قرأته خمس مرات متتاليات فلم أفهم المراد منه، لأنه أرفع من أن يصل إليه فهمي أو يطوله علمي! ولقد كنا في الكفر بالدين وحده فصرنا الآن في الكفر بالدين والكفر بالعربية! أفبمثل هذا الأسلوب تريد أن تكتب عن القرآن؟ أم هذه هي البلاغة الجديدة التي هبط بها الروح «الأمين» على قلب أستاذك نبي البيان في آخر الزمان؟
هذا كلامك لا يفهمه الناس، فهل تفهم أنت كلامهم؟ لنرَه:
نقلت من تفسير «المنار» قولَه إن الله أنزل القرآن هدى وموعظة وجعل قصص الرسل فيه عبرة وتذكرة، لا تاريخ شعوب ومدائن ولا تحقيق وقائع ومواقع. فلم تفهم من ذلك إلاّ أن القرآن ليس بكتاب تاريخ، وإذا كان يروي أخبار الماضين ولم يكن تاريخاً فما هو إلاّ قصّة كقصص إسكندر دوماس وتوفيق الحكيم، ودوماس لا يؤخذ من قصصه التاريخ لأنه لم يكتبها له ولم يحرص فيها على حقائق، فقصص القرآن كذلك.
أرأيت؟ فلماذا تُتعِب نفسك فيما لم تُخلَق له؟ وهل تظنّ أنك تفهم كلام الله وأنت لم تفهم كلام عبدِه (أي الشيخ محمد عبده)؟
ثم قلت: "على أن هذه المسألة (أي مسألة كون قصص القرآن صحيحاً أو أسطورة) قديمة، ومن أجلها عدّ الأصوليون القصص القرآني من المتشابه. وقد نتج عن ذلك طريقتان في التفسير: طريقة السلف وطريقة الخلف. أمّا الأولون فيذهبون إلى أن كل ما ورد في القصص القرآني من أحداث قد وقعت، وأما الآخرون فلا يلتزمون هذا (أي لا يقولون أن كل ما ورد في القصص القرآني قد وقع) وعلى طريقتهم جرى الأستاذ الإمام".
مسكين أنت يا أيها الأستاذ الإمام! لقد صرتَ عند هذا العامري إماماً في تكذيب القرآن وفي الكفر بالرحمن. ومساكين أنتم أيها الأصوليون.
وكل شيء إلاّ الأصول من فضلك! ما لك وللأصول؟ ولماذا تهرف بما لا تعرف حتى تُطلِق الألسنة بغيبتك؟ ومن قال
لك إن الأصوليين يَعُدّون القصص من المتشابه؟ وهبهم قالوه، أفتدري أنت ما المتشابه؟ وفي أي كتاب رأيت هذا؟ ومن أي عالِم سمعته؟ أما كان خيراً لك لو اشتغلت فيما تُحسِن وتركتَ لغيرك التدليل على أن قصص القرآن أساطير كأساطير هوميروس وروايات كروايات دوماس، ما دام غرضك -كما تقول- غرضاً دينياً، وهو تخليص القرآن من مطاعن الملاحدة والمستشرقين؟
لا والله ما غرضك إلاّ الشهرة، ولن أكون عوناً لك عليها بعد اليوم.
* * *
وامتدّت القضية حتى انتقلت إلى جبهة علماء الأزهر، التي رفعَت مذكرة إلى الملك ورجال دولته وقّع عليها رئيس الجبهة الشيخ محمد الشربيني والأمين العامّ لها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني. وقد جاء فيها أنه مضى على نشر نبأ هذه الرسالة وقت يسمح بتكذيبه لو كان كاذباً، لكن أحداً لم يكذّبه، لا المؤلف ولا المشرف عليه ولا عمادة كلية الآداب التي جاء في الخبر أنها تنتظر حتى ينعقد مجلس الكلية. وذلك يدلّنا على أن الأمر خطير يجب الإسراع بعلاجه، لأنه وباء جديد أشدّ فتكاً وأفزع فتكاً من وباء الكوليرا في هذه الأيام
…
(إلى أن قال): وقد أرسل مقدّم الرسالة إلى صحيفة «الإخوان المسلمون» يقول إنه مستعدّ لأن يُشعِل النار بيديه في رسالته على مشهد من الأساتذة والطلاّب إن ثبت أن فيها ما يخالف الدين الذي استمدّت أصوله من القرآن، إلخ.
وأرسل السكرتير العامّ للجامع الأزهر والمعاهد الدينية كتاباً
رسمياً إلى سعادة عميد كلية الآداب يسأل فيه عما تم في مسألة رسالة القصص الفني في القرآن، ويقول فيه: وإنه ليهمّني أن أقف على حقيقة هذا الموضوع، لأن من أخطر الأمور أن تتعرض قداسة القرآن وكرامة العقائد لمثل هذه التخرصات.
وكتب الأستاذ عبد الرحمن بدوي مقالات قيّمة في هذا الموضوع منشورة في «الرسالة» ، وكتب غيره كثير. ثم كتبتُ بعنوان «الكلمة الأخيرة» في «الرسالة» (عدد 30 ذي الحجة 1366)، وهذه هي الكلمة:
كتب سكرتير الأزهر إلى عميد كلية الآداب الدكتور عزام يسأله عن حقيقة ما قيل عن رسالة القصص الفني في القرآن، فأجاب العميد بكتاب نُشر في الصحف وأذيع في الناس قال فيه: وحقيقة الأمر أن طالباً قدّم رسالة عن القصص الفني في القرآن لينال درجة دكتور، ردّتها لجنة الفحص، فهي رسالة بين طالب وأساتذته عرض عليهم رأيه فعرّفوه خطأه
…
(إلى أن قال): وكاتب الرسالة -فيما أعرف عنه وكما يبدو من كتابته- شابّ مسلم قصد أن يدفع عن القرآن بعض شُبَه الملاحدة أو رجال الأديان الأخرى، فجاز رأيه عن القصد وحاد به اجتهاده عن سواء السبيل
…
(إلى أن قال): وأرى الأمر لا يعدو أن يكون غلطة تلميذ اجتهد وأحسن النية، فرُدّ عليه رأيه ولم يؤذَن له أن ينشر هذا الرأي أو يتقدّم بهذا الكتاب إلى الامتحان.
قلت: جزى الله صديقنا الجليل الدكتور عزام خيراً، فقد هوّن الخطب علينا حين عرفنا أن صاحب الرسالة ليس إلاّ تلميذاً
مخطئاً، وكنا سمعنا من قبل أنه مدرّس في الكلية، فكبر علينا أن يكون في الجامعة التي نرسل إليها أبناءنا، يقطعون البرّ والبحر ليَرِدوا مَعين علمها، مدرّس غاية جهده مثل هذه الرسالة.
ولكني أريد أن أسأل الدكتور عن قوله: "وكاتب الرسالة فيما أعرف عنه وكما يبدو من كتابته شابّ مسلم". هل قرأ كتابته في رسالته فرآه يبدو منها شاباً مسلماً؟ أمّا أنا فقد قرأت الرسالة، وصلَت إليّ كما وصل إليّ تقرير الأستاذ أحمد أمين الذي نشرتُه في «الرسالة» ونقلتُ منها صفحات بحروفها. وأنا أؤكد القول أن ما نقلته منها لو قاله معتقِداً به أبو بكر وعمر لكفر به أبو بكر وعمر وصارا به أبا لهب وأبا جهل. وأنا قاضٍ شرعي أدري إذا تكلّمتُ عن الكفر والإيمان ماذا أقول وأُثبِته بالدلائل وأؤيّده بالنصوص، وأناظر فيه من شاء من أهل العلم أن يناظرني، لست كالأستاذ توفيق الحكيم الذي لبس الجبّة فجأة ولاث العمامة وتصدّر للفتوى في «أخبار اليوم» وما هو منها في شيء.
ثم قلت ما خلاصته إني سألت الشيخين الجليلَين عبدالمجيد سليم ومحمود شلتوت عن صحّة ما نُسب إليهما في «أخبار اليوم» عن تبرئة الرسالة وصاحبها من الكفر فبيّنا لي أن ما نُشر عنهما غير صحيح، وقال الشيخ الأكبر الشيخ عبد المجيد إن الأقوال التي عزاها الأستاذ أحمد أمين في تقريره عن الرسالة كفر وإنّ معتقدها كافر، وأذن لي أن أنشر ذلك.
* * *
والقصة طويلة جداً، وقد اشتركَت فيها أقلام كثيرة وملأت
أعداداً متتالية من «الرسالة» تكاد تعدل ربع أعداد سنة سبع وأربعين. ثم انتهى الأمر أمام المحكمة، إذ رفعه إليها الشيخ أمين الخولي مشتكياً مني مدّعياً عليّ.
وجئتُ فوجدت على باب المحكمة محامياً ينتظرني، بعث به إليّ الصديق الجليل مرشد الجيل، الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه. فشكرت المحامي وقلت له: أنا قاضٍ وعملي في المحكمة، وأستطيع أن أدافع عن نفسي، فلك الشكر وللأستاذ البنا جزاكما الله خيراً.
وكانت ثلاث جلسات ازدحم عليها الناس كما يزدحمون على مسرحية من المسرحيات، ذلك أنها تحوّلَت إلى مثل «المِرْبَد» في البصرة الذي كان يجتمع فيه الشعراء يتهاجون. والشيخ أمين الخولي واسع الاطلاع كثير المحفوظ يعرف من أين يهجم على خصمه، وأنا -ولا فخر- لا أقِلّ عنه حفظاً وطول لسان واستحضاراً للشواهد والأمثال
…
فلم تكن محاكمة ولكن كانت سوقاً أدبية، فيها أشعار تُلقى ونوادر وأمثال. وكان الناس يضحكون فيكفّهم القاضي وهو يستر وجهه بيديه، لأنه لا يملك أن يمسك ضحكه! وانتهت كما ينتهي أمثالها بأن ألزمني الحاكم بأن أنشر بياناً أُصلِح به ما أفسدت وأبرّئ به الشيخ ممّا اتهمتُه به، فكتبت في «الرسالة» (عدد 6 ذي الحجة 1366) هذه الكلمة وعنوانها «بيان» ، قلت فيها:
"قد يكره الكاتب رجلاً فيستغلّ المناسبات لهجوه والتسميع به، وقد يُنكِر الكاتب رأياً فيكتب في ردّه وينال بالضرورة من
صاحبه؛ أي أن من النقد ما يُراد به هجاء شخص بعينه، ومنه ما يراد به رفع فرية في العلم وردّ أذىً عن الناس.
وأنا ما كتبت الذي كتبته لأنال من الشيخ أمين الخولي، الأستاذ في كلية الآداب، وما بيني وبينه صلة ولا معرفة ولم أرَ وجهه إلاّ مرّة واحدة منذ أسبوع، فلا يُعقل أن يكون قصدي تحقيره هو بذاته أو ذمّه والقدح به، فإذا فهم أحدٌ من الذي كتبتُه أنني أرمي إلى هذا فأرجو أن يصحّح فهمه، وأن يعلم أني لا أبخس عالِماً قدرَه ولا أجحد فاضلاً فضله.
ولكن قصدي ممّا كتبت الدفاع عن الدين والعلم، قد وقفتُ على هذا قلمي ولساني. وإن كان في الدنيا مَن يخطر على باله أنه يستطيع أن يكفّني عنه أو يمنعني منه، بشكوى أو بدعوى أو بترغيب أو بترهيب أو باستبراء أو بعِداء، فإنه يمنّي نفسَه المُحال".
وهكذا انتهت إحدى المعارك الأدبية التي خضتها في حياتي من أربعين سنة كاملة، وما كان أكثرها.
* * *