الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-182 -
يوم أغرّ من أيام دمشق
كلما قلت: كلما انفتح الطريق ونويت أن أمشي في ذكرياتي كما يمشي الناس، يسوقونها متسلسلة متصلة، عرض لي في مسيرتي ما يصرفني عن وجهتي. وكان العارض هذه المرة رسالة.
كنت على عادتي أكتب رؤوس المسائل التي أريد أن أضمّنها حلقة اليوم، فورد عليّ البريد، وجعلت أفتح ظروفه فوجدت رسالة لم يكتب مرسلُها اسمَه في ذيلها، ولكن كل كلمة منها تدلّ على أنه يعرفني وأنه شاركني في بعض ذكرياتي وصحبني في مرحلة من طريق حياتي، فهو يذكّرني بأشياء لا يعرفها إلاّ من كان معي. فسرّني برسالته، ولكن أتعبني بمحاولة معرفته وأضاع عليّ في هذه المحاولة ساعات، كنت أشتغل فيها عنها ثم أعود إليها لأن ذهني قد تعلّق بها. فما الذي كان عليه لو أنه أتمّ لي فرحتي بذكر اسمه؟
إنه يسألني فيها عن بعض الأيام الغُرّ في تاريخ الشام الحديث، لماذا لم أتحدث عن دوري فيها؟ عن يوم التسلّح الذي
الذي عشته بكل جوارحي وحفظت ذكراه بين جوانحي، عمّا صنعَت فيه دمشق وأهلها. ويقول لي: اسأل صديقك الأستاذ نصوح بابيل إن كنتَ نسيت أنباء بلدك، يذكّرك بها، بمقالتك «إلى بلدي الحبيب» التي قرأتُها وأنا في المدرسة الابتدائية من أكثر من أربعين سنة في كتاب المطالعة، ونقشتها على ظهر قلبي مع الكثير من كتاباتك التي لم يكن يخلو منها كتاب من كتب المطالعة المدرسية وكتب المختارات.
أنا نسيت؟
كيف أنسى بلدي وصورتُه أبداً أمام عيني وحبُّه في فؤادي؟ ألم أبذل له قوّتي وأقِفْ عليه لساني وقلمي؟ هل قصّرتُ في بِرّه حتى يأتي من يتّهمني بعقوقه وقد كنت به أبرّ الأولاد؟ ألم أكتب في وصف جماله وفي عصف نضاله مقالات حملَتها الصحف والمجلات وأعلنَتها المنابر والإذاعات فسارت مسير الشمس إلى كل مكان، يوم لم يكن قد وُلد إلاّ واحد من كل ألف من أهل الشام الآن؟ ألم أعرّف الناسَ ببلاد الشام وأغرس حبَّها في كل نفس وصلَت إليها مقالاتي عنها، ممن لم يكن يعرفها، عرّفته بمجتمعها وجامعها، وربوتها ومزتها، وغوطتها وواديها، بقاسيونها وشاذروانها
…
وتلك أسماء أماكن مَن عرفها عرف مستقرّ الجمال في هذه الدنيا، ومن لم يعرفها فقد فاته اجتلاء أحلى مشاهد هذا الوجود.
لقد جعلت كل قارئ لها يهيم قلبه على البعد بحبها، ويعشقها على السماع لوصفها، ويتوق لرؤيتها توق المحب
إلى وصال المحبوب. ولكن سلوا بلدي ما الذي صنعه بي. ماذا صنعتَ بي يا بلدي الحبيب؟
أنا لا أشكوك بعد الله إلاّ إليك، وإن كان الأمل بإنصافك أبعد من النجوم. لقد جفوتني وما جفوتُك، وأنأيتني عنك ومُناي كلها القرب منك، ورميتني بالرصاص يخترق صدري حين اخترق ظلماً وغدراً صدر أحب الناس إليّ: بنتي؛ ما رحمت طُهرها ولا رعيت غربتها ولا تورّعت عن مبارزتها في وحدتها، رميتني بالرصاص وأنا لم أسمح لنفسي أن ترميك بزرّ ورد لئلاّ يجرح الورد خدّيك.
أقول هذا ولو كان مشتعلاً بنار الألم لأنفّس به عن نفسي كما يتنفس البركان بإلقاء الحمم. ولكن لماذا أقوله الآن؟ وما نفع الشكوى لقويّ لا يرحم أو لضعيف لا يُعين؟ الشكوى لله، فلماذا أبثّ غيره شكواي؟ وهل فقدتُ إيماني فحسبت الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون؟ إنه {إنّمَا يُؤخِّرُهُم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الأَبْصارُ} .
* * *
لا يا مرسل الرسالة، لم أنسَ موطني ولن أنساه.
بلادي وإنْ جارَتْ عليَّ عزيزةٌ
…
وأهلي وإنْ ضَنّوا عَلَيّ كِرامُ
لم أنسَ أسبوع التسلّح ولكن كنت أُرجئ الحديث عنه حتى أصل إليه، فلقد كان تاريخه سنة خمس وخمسين وأنا لا أزال في ذكرياتي في عشر الأربعين. ولكن رسالتك عجّلت بموعد الكلام، فعفوكم يا أيها القراء الكرام. ولست أكتب الآن صفحة من تاريخ
البلد، بل أدوّن قطعة من ذكرياتي أنا، أذكر القليل الذي قمت به وأدع للمؤرّخين بيان الكثير الذي قام به غيري.
كان الجيش على عهد الفرنسيين في الشام علينا لا لنا، وكانت قيادته بيد عدوّنا غاصب أرضنا، فلم يكن يدخل فيه أحد من أولادنا. فلما كان الاستقلال وتمّ جلاء المستعمرين عن بلادنا اشتجرت الآراء: هل نأخذ هذا الجيش فنستفيد من تدريبه وننظّفه من أدرانه ونُصلِح من شأنه ونجعله جيشاً وطنياً، أم نسرّح جنده وننشئ جيشاً جديداً؟
وكنت في سنة 1943 اقترحت على الصديق الكبير جميل بك الدهان مدير الأوقاف العامّ (ولم تكن الأوقاف قد صارت وزارة) أن يدع هذا الاحتفال الذي يُقام في الجامع الأموي يوم المولد، فيُتلى فيه كلام مكذوب على رسول الله عليه الصلاة والسلام وتُنشَد فيه أناشيد أيسر ما فيها الغزَل بالرسول ووصف جماله وذكر وصاله، وأشياء من هذه البَابَة كلها سوء أدب مع الرسول وقلّة حياء، لا يُقال مثلها لشيخ الضيعة فما بالك بسيد البشر وأفضل ولد آدم؟ وفيها ما هو أشدّ من هذا، وهو الشرك الظاهر من دعاء الرسول وإطرائه حتى نَصِفه بما لا يُوصَف به إلاّ الله! وكل ذلك بحضور كبار الفرنسيين، الذين يصعدون السلّم الدوّار ويقعدون في السدة العليا من الجامع ويسمعون هذا كله، ثم يرون هجوم الناس على قراطيس الفستق (الملبّس)، يتخاطفونها ويتزاحمون عليها، في منظر لا يستطيع أعدى عدوّ لنا أن يهجونا هجاءً عمَلياً بأكثر من وصفه، وهم يصوّرون ما يرون.
فأخذت صديقي أنور العطار رحمه الله (وكان يمشي معي حيثما مشيت) وذهبنا إلى جميل بك رحمة الله عليه، فقلت له: أتحبّ أن تعمل عملاً يرضى به عنك الله ويحمدك به الناس؟ قال: نعم. وكنت أعرفه من قديم عن طريق خالي مُحِبّ الدين الخطيب لمّا كان متصرفاً (أي محافظاً) لمنطقة حمص، أعرفه مسلماً متمسكاً بإسلامه. فلما قال نعم قلت: تُبطِل هذا كله، وتأتي بشيخ القرّاء يفتتح الاحتفال بآيات من كتاب الله، ثم أُلقي أنا كلمة وأنور قصيدة، فيكون من ذلك احتفالٌ خالٍ من تلك المنكَرات.
قال: إن الناس لا يرضون بغير قراءة المولد. وأنا أريد الإصلاح ولكن لا أستطيع أن أثير الناس وأن أُغضِب الرئيس. قلت: فليقرأ الشيخ الكزبري التعطيرة الأخيرة من المولد المعتاد، ثم يُنشِد السيد توفيق المنجّد قصيدة نختارها نحن له في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام لا يكون فيها شيء يخالف الإسلام.
ولست أريد الآن أن أتكلم عن هذه الحفلة وما كان فيها، ولعلّي أعود إليها فأتكلم عنها. وقلت في آخر خطبتي في هذه الحفلة (وقد نُشرَت في الرسالة):
لقد بدا لنا النور ودنَت الأماني، ولاحت أعلام الوحدة ودُقّت طبولها. وقد طالما هجعنا ومرّت بنا ليالٍ حوالك طِوال فترت فيها الهمم وخَبَت العقول، ولكن وقت النوم انقضى وأذّن مؤذّن النهضة: حي على الفلاح، فنفضنا عن أنفسنا غبار الأحلام ونهضنا.
لقد كُتب على المسلمين أن يذلّوا، ولكنها مرة واحدة، وقد مرّت ولن تعود إن شاء الله. لقد انبلج الفجر وانتهى الليل، وبدا نور النهضة، نور الاستقلال والوحدة؛ فأقسموا في هذا البيت الأطهر في هذا اليوم الأنور أنكم لن تناموا ولن تضعفوا، فما ينال المجدَ نائمٌ ولا وانٍ ولا ضعيف.
إن محمداً، صلّى الله على محمد، علّمنا معنى العزة والكرامة، وعرّفنا قيمة العقل والعلم، وشرع لنا شرعة الإيمان والعدل والإحسان؛ فلنعُد إلى ما شرع الله لنا على لسان محمد نبيّنا، لنفتح في التاريخ صفحة مجد وسموّ ونبل كالتي كتبها أجدادنا. فيا أيها الرئيس (وهنا رأيت الرئيس -وكان في السدة الصغيرة- يرفع رأسه وينظر إليّ) يا أيها الرئيس، ارفع راية القرآن، ثم ادعُنا إلى العمل شيوخاً لهم عزيمة الشباب وشباباً لهم حكمة الشيوخ، تُجِبْك من جنود الحقّ جحافل تصل يوم القادسية ويوم اليرموك بأيام الغوطة ونابلس التي فيها جبل النار. اعمل للوحدة الكبرى فإنها حياتنا لا حياة لنا إلاّ بها، أقِمْها على صخرة الإسلام، فلا تعبث بها الزعازع ولا تزلزلها الأعاصير.
إنك القائد الحكيم، ولكنها ضجّت في العروق الدماءُ وتلوَّتْ في الأغماد السيوفُ، فانشر اللواء وسُق الجيش، ليعلم الإنس والجنّ أنه لا يزال في عروقنا ذلك الدم الذي نضح الأرض من بواتيه في فرنسا إلى أبواب الصين، وفي قلوبنا ذلك النور الذي أضاء الدنيا من المشرق إلى المغرب، وفي سواعدنا ذلك العزم الذي هدّ بروج الطغيان وتهاوت له التيجان، وفي أفواهنا ذلك النشيد الذي علا في كل مكان، فكانت تخشع له
الرواسي وتطأطئ الشامخات: لا إله إلاّ الله والله أكبر.
* * *
وكنت قبل ذلك نشرت سلسلة من المقالات كان عنوانها «إلى السلاح يا عرب» ، قلت في أول مقالة منها (1):
يا أيها القرّاء، إني ما جئت أصبّ في أعصابكم قوة ليست فيها ولكن جئت أوقظ القوة التي نامت في أعصابكم، وما جئت لأجعلكم خيراً مما أنتم عليه ولكن جئت لأُفهمكم أنكم خيرٌ مما أنتم عليه؛ جئت أضرم جمرة الحماسة التي غطّاها في نفوسكم رماد الكسل، فأعينوني عليها باستعادة الثقة بالله، ثم الثقة بها وبسلائق العروبة التي ورثتها وبعزة الإسلام التي كانت لها. واعلموا أنكم إن فقدتم عزّتكم وأضعتم سلائقكم وابتعدتم عن دينكم لم تكونوا جديرين بمحمد، ولم يكن لكم الحقّ في الاجتماع هنا في يوم مولد محمد، صلّى الله على محمد وعلى آل محمد.
يا سادة، إن الأمم كالأفراد؛ ألا يكون الرجل منكم رائحاً من عمله خائر الجسم واني العزم، كل أمانيه أن يصل إلى الدار فيُلقي بنفسه على أول مقعد يلقاه قبل أن يستنفد الجهد قواه، فيجد في الدار إشارة بأنه رُفع درجة أو نال جائزة أو هبط عليه إرث ضخم من قريب منسيّ، فيحسّ أنه انتفض كما ينتفض العصفور بلّله
(1) انظر في كتاب «هُتاف المجد» مقالة «إلى السلاح يا عرب» بجزأيها الأول والثاني (مجاهد).
القطر، وانتعش كما ينتعش النبات أرواه الماء، ونشط كما ينشط الجمل أُطلِق من عقال؟
ألا يكون أحدكم مرخيّ الأعصاب خامل الجسد، قد خدّره النعاس حتى ما يقدر أن يفتح عينيه، فيعدو عليه عادٍ أو يطرقه لصّ، أو يحقره إنسان فيشعل الغضب في دمه ناراً ويشدّ من أعصابه أوتاراً، فيثب يريد أن يعلو الجدار أو أن يخوض النار؟ ألا يكون أحدكم تعبان كسلان، يجرّ قدميه من الوَنَى جرّاً يظنّ أنه سيسقط على الأرض، فيلحقه عدوّ فاجر أو يطارده وحش كاسر، فإذا هو ينطلق انطلاق القذيفة من فم المدفع ويعدو عدوَ الغزال المروَّع؟
هذه -يا أيها الناس- القوّةُ المدّخَرة في أعصاب الإنسان، يُظهِرها الأمل ويُبديها الغضب ويبعثها الخوف. وفي الأمم قوة كهذه القوة، وما الأمة إلاّ الأفراد. أفلا تحسّ إن غضبتَ أو فرحت أو جزعت أن نبضك يسرع، وقلبك يخفق، ووجهك يحمرّ أو يصفرّ، وجسدك كله يتبدّل ويتغيّر؟ فكذلك الأمم: تكون الأمّة نائمة آمنة قد غلب عليها الخمول وشملها الاسترخاء، فما هي إلا أن يبعث الله لها القائد العبقري، يصرخ فيها ينذرها خطراً أو يحذّرها عدواً أو يَعِدها نصراً مؤزّراً، حتى تثب كما يثب الجندي المستريح إلى سلاحه، فتعمل العجائب وتصنع المعجزات، وتدع التاريخ حائراً من فعلها مشدوهاً. وهذه هي الأمثلة تملأ العصور وتُترِع صفحات التاريخ، الأمثلة من الشرق والغرب، من القديم والحديث، حيثما تلفّتّم وجدتم مثالاً.
وهذا هو المثل الأغرّ الذي لا تدانيه الأمثلة ولا تضارعه في سموه النهضات؛ هذه القرية التي كانت متمددة وراء الرمال، نائمة في ظلمات من الجهل والجدب فوق ظلمات، لا تدري بها المدن الكبار ولم يسمع بها التاريخ، فلما هزّها بيمينه سيد العبقريين وأعظم العظماء، ومن كان في الأرض سفير السماء وكان إمام الرسل وأفضل الأنبياء، محمد ‘، صارت «المدينة المنورة» التي غدت يوماً عاصمة الأرض.
هزّها فإذا هذه الرمال المحرقة التي لا تعيش فيها الحياة تُنبت السهولَ الخِصاب والرياض والجنّات في الشام والعراق، وإذا هذه القرية الضائعة تلد المدن العظام: الكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والقيروان، وإذا هذه القبائل المتفرقة تُخرِج الجيشَ الذي فتح الشرق والغرب وملك ثلث العالَم المتمدّن في ثلث قرن، وإذا هذه الأمّة الجاهلة تُنجِب الأساتذة الذين علّموا الدنيا وأرشدوا أهلها وأقاموا أعظم حضارة عرفها البشر: حضارة الخير والحقّ والجمال، لا حضارة القتل والتدمير والمصائب واليهود والبارود (والإيدز) والقنبلة الذرية!
إنه لا ينقصنا لنعزّ ونسود ونسير على سنن الجدود إلاّ حرب تنبّه أو زعيم عبقري يقود. إننا لا نريد إلاّ أن يتحمّس العرب أو أن يغضب العرب أو أن يخاف العرب، فتوقظهم الحماسة أو يثيرهم الغضب أو يحرّكهم الخوف، فيرجعوا إلى ما كان سببَ عزّهم وسيادتهم وسعادتهم وصدارتهم بين الأمم، وهو القرآن.
* * *
والمقالة طويلة. وكتبت بعدها بهذا العنوان فقلت: «إلى السلاح يا عرب» . هل تذكرون يوم ناديتكم من هذا المذياع (أعني إذاعة دمشق) وهتفت بكم: إلى السلاح يا عرب؟
لقد نقد كلامي يومئذ أقوام لأنه جاء في غير أوانه فكان صرخة في وادٍ مقفر. وكان الحقّ مع هؤلاء الناقدين؛ كان الحقّ معهم لأنني يوم ناديت هذا النداء (وكان ذلك من ثلاث سنوات) لم يكن قد طلع هذا الفجر، ولم يكن قد أشرق الأفق بالنور، وكنا لا نزال في بقية من سواد الليل، نتخبّط على غير هُدى ونمشي على غير الطريق.
كنا نظنّ أن الطريق إلى المجد والظفر وإلى غسل الهزيمة ومحو العار هو طريق مجلس الأمن وهيئة الأمم، ذلك الطريق الطويل الملتوي الذي يكمن في جنباته قُطّاع الطرق واللصوص من اليهود. وقد عصينا الشيخ دُرَيداً (أعني دريدبن الصِّمّة) لمّا نصحنا فقال:
أمرتُهمو أمري بمُنْعَرجِ اللَّوى
…
فلم يَستبينوا النّصحَ إلاّ ضُحى الغَدِ
وكان دريد العصر هو فارس الخوري، الذي رأى الجادة حين ضلّ عنها السارون فقال لنا: إن قضية فلسطين لا تُحَلّ في أروقة هيئة الأمم، ولكن تُحَلّ على سفوح الكرمل وشواطئ يافا وهضاب القدس، ولا تُحَلّ بالخطب والأشعار ولكن بالحديد والنار. وأشهد للحقّ وللتاريخ أنه قد قالها قبله رجل أعظم منه، قالها قبله عبقري العصر الذي بنى لأمته من الأمجاد ما لم يَبنِ
مثلَه لأمته عظيمٌ في هذه العصور، هو عبد العزيزبن عبد الرحمن الفيصل آل سعود. إن من الحقّ أن أسجّل أنه كان أول من عرف الطريق، الطريق الذي رأيناه الآن جميعاً. الطريق الذي يوصل وحده إلى استعادة الحقّ المسلوب والنصر الضائع؛ طريق المعركة الحمراء التي لا يظفر فيها إلاّ من حمل سلاحين: سلاح الإيمان في قلبه وسلاح البارود في يده.
لذلك أعود اليوم لأنادي مرة ثانية: «إلى السلاح يا عرب» . أنادي أمة لم تعُد تحتاج إلى ندائي لأنه لم يبقَ فيها نائم فأوقظه، ولا ذاهل فأنبهه، ولا ناسٍ فأذكّره، ولا شحيح يضنّ بالقليل من ماله على أمّته وشرفه ودينه حتى أسخّيه وأرغّبه في البذل والعطاء. أنادي شعباً دعاه ربّه وهتف به قلبه، فلبّى قبل أن يسمع ندائي، فعلامَ إذن أعود فأصيح: إلى السلاح يا عرب؟
(إلى أن قلت): إن اليهود لديهم سلاح، ولكن اليهودي يقاتل حينما يكون في قلعة حصينة أو دبابة متينة، يستر جُبنَه بالحجارة والحديد. ولقد نبّهنا إلى هذه الظاهرة التي رآها كل من شهد معارك فلسطين قائدٌ كبير، وأفاض فيها وافتخر بأنه أول من انتبه لها، وهو طه باشا الهاشمي، وكان الحديث في فندق شط العرب في البصرة، فقلنا له (أنا والأستاذ الصواف): إنك يا باشا لم تكشف شيئاً مستوراً؛ إنها ظاهرة في اليهود، ظاهرة معروفة من قديم من نحو ألف وأربعمئة سنة، حين أنزل الله في كتابه قوله:{لا يُقاتِلونكُم جَميعاً إلاّ في قُرىً مُحَصَّنةٍ أو مِنْ وَراءِ جُدُرٍ، بأسُهُم بينَهم شديدٌ} . فدُهش وقال: آمنت بالله، لقد نسيت هذه الآية من كتاب الله.
ولو كان يتسع الوقت أو كان يجوز لي الكلام لعرضتُ عليكم من وقائع الحوادث ما تمتلئون منه عجباً مما يجري في هذه الأيام، لا في أيام الحرب، ولكنني مع الأسف لا أستطيع. ومع ذلك سأغامر وأروي لكم حادثة واحدة رأيناها في القرى الأمامية: رأينا (أنا والشيخ الصواف وفريق من أعضاء مؤتمر القدس سنة 1953) رأينا عربياً محبوساً في مخفر عند ضابط إنكليزي، فسألناه ما شأنه؟ قال: إنه شوهد يجرّ بقرة عند الحدود، فسألوه من أين جاء بها، فتردّد وتلعثم، ثم تبيّن أنه جاء بها من الجزء الذي تحتلّه إسرائيل من فلسطين (ولا تنسوا أنني أتكلم في هذه المقالة عن فلسطين قبل ثلاثين سنة) فعجبوا منه وقال له الضابط الإنكليزي: هل تستطيع أن تأتي بغيرها؟ قال: نعم، وإن أعطيتني هذا المسدس جئت بالحارس اليهودي. فأعطاه المسدس، وغاب الرجل ساعات وحسبوه قد فرّ به، فإذا هو يطلع عليهم وأمامه بقرتان وأمامه الحارس اليهودي مكتوفاً.
(وأقول الآن: إذا شككتم في هذه الحادثة التي أرويها لكم -ولديّ من أمثالها كثير- فاسألوا الأستاذ الصواف عنها وعمّن كان حاضراً هذا الحديث من أعضاء المؤتمر الإسلامي، فإنني قد شخت وصرت أنسى الأسماء، والصواف لا ينسى اسماً أبداً. أعود إلى ما قلته في هذه المقالة، قلت فيها):
يجب أن تعرفوا وأن تؤمنوا أنه لم يغلبنا اليهود على فلسطين. ومتى كان اليهود يغلبون المسلمين؟ ولكن غلبتنا الدول القوية التي تحمي اليهود، الدول التي أكرهتنا على الهدنة ولم نكن نريدها. لم ننهزم نحن، وهل حاربنا حتى ننهزم؟ إنما انهزمَت فينا الأخلاق
التي استوردناها من بلاد غيرنا وتركنا لأجلها سلائق عروبتنا وأخلاق ديننا. ولولا الهدنة لقذفنا بإسرائيل إلى البحر.
ونحن قادرون على ذلك بعون الله، قادرون إن جدّدنا إيماننا وصدقنا إرادتنا وعدنا إلى وحدتنا واستظللنا براية قرآننا وتسلّحنا؛ فإلى السلاح يا عرب. إلى السلاح، فإن كل استقلال لا يحميه السلاح قلعة مبنية على تلّ من الملح في مجرى السيل. إلى السلاح، فإن كل حقّ لا يؤيّده فم المدفع حقّ معرَّض للاغتصاب. إلى السلاح لتحموا به إيمانكم وأوطانكم، وتدافعوا به عن أرضكم وعن عرضكم، ولتذودوا به عن أجداث أجدادكم وآثار أمجادكم.
لقد كنا من عشرين سنة (ولا تنسوا أن المقالة مكتوبة من ثلاثين سنة) إذا دعونا إلى السلاح ألقت بنا الحكومة في السجن، وكان في الشام وفي لبنان وفي الساحل حكومات يتنزّل عليها الوحي من قصر الصنوبر في بيروت، وكان في كل وزارة مستشار فرنسي، والمستشار هو الوزير والوزير كاتب عند المستشار، وعلى كل رابية قلعة فيها جنود أعدّوا بنادقهم ليُفرِغوا رصاصها في صدور كل من يهتف بالاستقلال، وفي كل قلعة مدافع موجهة إلى بلدنا تترقّب همسة بالحرّية لترمي بلدنا بصواعق من بارود فتهدمه على رؤوسنا.
فاحمدوا الله على أن فيها اليوم حكومات منا وإلينا إذا نادت وجدَت أبداً ملبّياً منا، وأن هذه القلاع صارت لنا بعدما كانت علينا، وأن الرجل الذي كان قائد الشعب في معركة الاستقلال في الشوارع وفي الساحات وفي المضايق والأودية أيام الثورة وكنت
يوماً على رأس جماعة الطلاب نأتمر بأمره ونمشي وراءه هو رئيس جمهوريتنا اليوم (أعني شكري بك القوّتلي رحمه الله.
فكيف كان هذا كله؟ كيف ذهبت فرنسا من هذه الديار وما كنا نظنّ أنها ستذهب؟ كيف جاءنا هذا الاستقلال؟
كلاّ، لم يكن هدية جادت بها علينا إنكلترا؛ ولكن نحن زرعناه في روابي ميسلون، وفي جنات الغوطة، وفي شعاب الجبل، وفي سهول حماة، وعلى ضفاف الفرات، وفي سفوح حلب، زرعناه بأيدينا وسقيناه بالماء الأحمر من دمائنا، وغذّيناه بمهج إخواننا وأبنائنا وأحبائنا وأجساد الآلاف من شهدائنا.
وإلاّ فهل تظنونه جاء سهلاً سائغاً بلا كدّ ولا تعب؟ فأين إذن ثوراتنا، وأين صَبْرُنا عن الكسب والعمل وإضرابنا ستين يوماً متتاليات (وكان ذلك سنة 1936 وقد سبق الكلام عنه) وأين تلك البطولات في مدن الشام كله؟ أنسيتم مقالتي «أطفال دمشق» التي تناقلَتها سنة 1936 أربع وعشرون جريدة، وتُرجمَت إلى الفرنسية والإنكليزية فعجب مما فيها الإنكليز والفرنسيون (1)، المقالة التي لم أُبدِع فيها ولم أسمُ إلى سماء الخيال لآتي بالصور الأدبية، ولكنْ وصفتُ مشهداً كان على الأرض من بطولة أطفال دمشق، مشهد الطفل الذي هجم بالمسطرة على الدبابة وتسلّقها وهي تُطلِق النار، المشهد الذي بلغ من روعته أن الوحش الفرنسي الذي كان في الدبابة -يسوقها ليقتل بها أهل البلد ويهدم بها دورهم على رؤوسهم- تأثّر به حتى اضطُرّ أن يذكر إنسانيته التي نسيها ويفتح
(1) وهي في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» (مجاهد).
برجه ويقبّل الصبي ويقدّم له قطعة شكلاطة (1)؟
فهل تظنّون أن أمةً هؤلاء أطفالُها تعجز عن أن تنال استقلالها بأيديها، أو تظنّون أنها بعدما نالت استقلالها من فرنسا تعجز عن قتال هذه الحفنة من كلاب الأرض: اليهود؟ أتعجز عنهم وقد حاربنا فرنسا لمّا كانت أقوى دولة برّية في العالَم، ولم تستطع فرنسا أن تجتاز النهر الذي كان عرضه أربعة أمتار، نهر تورا، إلا بعد ثمانية عشر شهراً؟ لقد غلبنا فرنسا في معارك استمرّت سنتين، فهل نجزع من حرب اليهود؟
يا أيها الناس، إننا لم ننهزم أمام اليهود في فلسطين، ولكن انهزمَت أخلاقنا المستعارة لا أخلاقنا الأصيلة؛ انهزمنا أمام ضغط الأقوياء الذين يحمون ظهور اليهود ويمدّون بالمال وبالقوة اليهود، فإلى السلاح يا عرب؛ إلى السلاح، ابذلوا في سبيله الغالي والرخيص، إلى السلاح، بيعوا الصحن والكرسي واشتروا السلاح، وامنعوا عن أفواهكم وابذلوا للسلاح، فإنه إن كان معكم السلاح استرجعتم كل ما بذلتم، وإن لم يكن معكم سلاح لن ينفعكم كل ما ادّخرتموه. إلى السلاح، اشتروه من الشرق والغرب، اطلبوه من الإنس والجنّ.
إلى السلاح يا عرب، سلاح الحديد في أيديكم، وسلاح الإيمان في قلوبكم، وسلاح الأخلاق والعلم والمال، والله معكم: إن تنصروا الله بأموالكم وأنفسكم ينصركم ويثبّت أقدامكم.
* * *
(1) الشّكلاطة بتسكين الكاف وبالطاء تعريب كلمة «شوكولاته» .