الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-168 -
سويسرا ليست في أورُبّا
(1)
لقد علّمونا في المدرسة أن سويسرا في أوربا، سويسرا التي يرونها مثال الجمال، سويسرا ذات الأودية والخمائل والظلال والبحيرات والغابات، فلما رحلت رحلة الشرق من ثلاثين سنة (سنة 1954) وجدتها قد انتقلت إلى الجنوب الشرقي من آسيا، إلى أندونيسيا، إلى جاوة التي برأها الله يوم خلق السموات والأرض لتكون أجمل بلاد الله وأغناها: ربيع دائم، وخصب عميم، وخضرة لا بداية لها ولا نهاية، وجوّ مقبول، لا حرّ في الساحل ولا قرّ، ولا رطوبة ولا يبس، وعلى الجبال مصايف مالها في الدنيا نظير، وأرض من أغنى الأرض غِنى وأكرمها عطاء، فيها ألوان الذهب: فيها الذهب الأصفر، وفيها الألماس (وهو الذهب الأبيض)، وفيها النفط (وهو الذهب الأسود)، وفيها ما هو أثمن من الذهب وهو المطاط والكينا والسكّر والشاي، وفيها الأذهان المتوقدة والأيدي الصَّناع، وأهلُها أجرأ الناس على ركوب البحار وعلى اقتحام الأهوال، أثبتوا في معركة الاستقلال
(1) هذه الحلقة منقولة بتصرف يسير عن فصول: «بوغور» و «يوم في الجنة» و «في جوكجا» ، وهي كلها في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).
ومعركة ردّ الاستعمار الياباني أثناء الحرب الثانية أنهم أقوى الناس على مكافحة الطغاة، ولهم زهو بأوطانهم التي يحتاج إليها كل بلد في الدنيا ولا تحتاج -إن شاءت- إلى أحد.
ولقد قلت لكم إن الطيارة لما حوّمت في سمائها لتهبط فيها رأيت شاطئاً متعرجاً تداخل فيه البحر والبرّ، فكان رؤوساً وجزراً صغاراً وخلجاناً وبحيرات وبِرَكاً، ورأيت مدينة واسعة بيوتها مُغطّاة بقباب خضر من ذُرى الأشجار لا تكاد تبين، فإذا وضحت المشاهد واقتربت الطيارة من الأرض لم ترَ فيها بناء ضخماً ولا عمارة عالية (وأنا أصف ما رأيت لمّا زرتها)، ولكنها جميعاً كالبيوت التي تُباع في مخازن لعب الأطفال، جدران من اللبِن والخيزران والخشب الملوّن، وسقوف من القرميد مستطيلات متعارضات مائلات من كل جانب على الأسلوب الهولندي.
ذهبنا مرّة في رحلة حول جاكرتا، فأخذنا نعلو في سفوح متصلة وجبال شَجْراء، لا كما تعرفون من جبال لبنان مثلاً، حيث تتناثر أشجار الصنوبر كل عشرة أمتار شجرة، بل هي غابات كغابات إفريقيا التي ترونها في الأفلام، سقوف خضراء فوقها سقوف تحجب عين الشمس أن ترى المكنون من أسرارها؛ طبقات من الخضرة بعضها فوق بعض، كل واحدة بلون، ففي الأعالي أشجار النارجيل (جوز الهند) تكاد تمسّ برؤوسها ذيولَ السحاب، وهي كالنخيل تماماً لا يفرق بينها إلاّ بالثمر، ولكنها أطول. ولم نرَ القِرَدة التي تقول القصّة إنها لا تقطف إلاّ بأيديها، يضربها الناس كما زعموا بالحجارة فتضربهم بالنارجيل! ولم نرَ ما ادّعاه ابن بطوطة أنها شجر يثمر ثمراً كرؤوس بني آدم، ولعلّه
رآه من تحت في ليلة ظلماء فحسبه رؤوس الناس.
ومن تحت النارجيل أشجار المطّاط، كثيفة الورق كبيرة طويلة الجذوع كأنها -من بعيد- الصفصاف. وتحتها أشجار لها ألياف كالكتّان، وهي أجمل أشجار رأيتها، لها أغصان يابسة مكلَّلة بفروع دقيقة لها ورق ناعم، منتشرة كالمظلاّت (الشمسيّات) وتحتها أنواع وأنواع من الأشجار كالموز والببّايا، وهو شجر جذعه وشجره كالنخيل وأوراقه تشبه ورقة التين، ويحمل بطيخاً أصفر خلافاً لنظريّة جحا!
ودُرنا بسفوح منبسطة مملوءة بنجم أخضر (أي بشُجَيرة خضراء) علوّها علوّ قامة الإنسان، لها ورق كأنه ورق الليمون بشكله لا بريحه. فقلت: ما هذا؟ قالوا: أشجار الشاي. فدهشت واستوقفت السيارة لأنزل فأراها، لأنني لم أرَ في عمري مثلها. وقطعت منها أوراقاً دقيقة، قالوا إنه يُصنع منها الشاي الأخضر الفاخر، وتركتها تجفّ في الفندق فلم تَصِر شاياً، ولكنْ شيئاً له طعم الملوخيّة والسبانخ! فعجبت، ولكني لمّا زرت مصانع الشاي -بعدُ- رأيت أنه يُعالَج معالجات طويلة قبل أن يصير شاياً، وكل أنواع الشاي الأحمر والأخضر من شجرة واحدة. ورأيت مئات ومئات من البنات في عنق كل واحدة كيس، تقطع من أوراق هذا الشجر وتلقيه في الكيس، تختار الورقة الناضجة. ونظرت فلم أستطع أن أميّز ورقة عن ورقة ولم أعرف ما علامة نضجها.
ورأيت شيئاً تفرّدَت به مصايف جاوة، وهو انتشار المسابح الأنيقة البالغة العناية والجمال في رؤوس الجبال. حتى بلغنا قرية
بنشة، وهي في لغتهم بمعنى «الذّروة» . بنشة هذه مصيف من آنَق ما رأيت من المصايف، أجمل من لبنان بعشرين مرّة وأجمل من سويسرا بعشر مرات. وكنا في جاكرتا نكاد نشكو الحرّ، فارتجفنا فيها من البرد حتى اضطُررنا إلى الاحتماء بالسيارات.
* * *
وذهبنا مرة ثانية في رحلة أطول فرأينا في آخرها الجنّة، لست أعني جنّة الآخرة فإن دونها مصاعب وأهوالاً، وإن لم يتداركني ربي برحمته ومغفرته ما استحققت بعملي أن أريح ريحها، ولكن أعني جنّة الدنيا. وليست جنّة الدنيا الشام ولا لبنان، بل ولا سويسرا، ولكن جنّة الدنيا جاوة. جزيرة جاوة، من رآها فقد علم أني أقول حقاً، ومن لم يرَها لم يُغنِه عن مرآها البيان، وليس الخبر كالعيان.
أمضيت في هذه السفرة يومين ما رأيت في حياتي يومين كانا أمتع لنفسي متعة وأحلى في عيني منظراً وأبقى في قلبي أثراً منهما. يومان قطعتُ فيهما الجزيرة (أعني جاوة) من مغربها إلى مشرقها بالقطار، من جاكرتا إلى سورابايا، في طريق ما رأيت ولا سمعت ولا أظن أني سأرى أو أسمع أن في الدنيا طريقاً أجمل منه؛ ركبنا القطار الكهربائي من محطّة جاكرتا، فنزح بنا عنها والليل ينزح عن البلد، يمشي متسلّلاً كخيوط النور التي تتسلّل من وراء الأفق الشرقي، فترفع ستار الظلام عن هذه المشاهد كما ترفع الخيوطُ ستارَ المسرح عن مناظر الرواية. والصباح فاتن دائماً، ولكنه يبدو أشدّ فتوناً حينما تراه وأنت مقبل على بلد جديد تتوقّع الكثير من سحره وجماله.
ولمّا أضاء النهار وبدت عين الشمس تضحك للدنيا من نافذة الأفق فتضحك للقائها الدنيا كان القطار قد بَعُد بنا عن البلد، فرأينا عن يسارنا مزارع الأرزّ وعن أيماننا الجبال تلبس فروة خضراء، بادياً صفوها يتزاحم على سفوحها وذُراها عمالقة الأشجار، يمشي في موكبها وبين أرجلها آلاف من أنواع النبات، فمن دخل هذه الغابات لم ترَه عين الشمس ولم يرَ هو وجه السماء، لأنه يكون -كما قلت لكم- تحت سبعة سقوف من الأغصان والأوراق.
ورأيت الزهر من خلال الأرز كالشقائق الحُمر خلال خضرة القمح في بلادنا، فلما دنا بنا من ذلك القطار رأينا ما حسبناه زهراً ليس بالزهر وما ظننّاه من النبات ليس من النبات، إنما هو البنات الحاصدات بأُزُرهنّ الملوّنة (أي الفُوَط) التي تحكي الزهرَ بنقشها ولونها، وعلى رؤوسهن قبعات الخوص الكبار كأنها المظلاّت المنقوشة. والقوم هناك يحصدون الأرزّ بالأيدي، ثم يجمعون عيدانه الطوال ويجعلونها كالأهرام (جمع هرم) ويعقدونها من فوق ويضعون لها صُرّة، فيكون منها منظر عجيب كأنها الأكواخ المسحورة في حكايات الجنّ.
وليست مزارع الأرزّ سهولاً، فما في جزيرة جاوة سهول، ولكنها جميعاً غابات فيها النبات المثمر النافع كالمطّاط والنارجيل والخيزران والكتّان والموز وقصب السكّر. وما مزارع الأرز إلاّ قطع من الأرض جُرّدت من أشجارها وسُلبت من الغابة، فهي تحاول أن تتوارى مستحيِية كأنها الفتاة العذراء جرّدتَها من ثيابها وتركت المصون من جسدها نهب العيون، تحتمي بالغابة فيحميها دوحها، ويحفّ بها من كل جانب يسترها ويُخفيها، فترى على
جوانب الحقل صفاً من الدَّوح (الأشجار الكبار) يقوم كطلائع الجيش، ومن بعده أشجار الغابات تتّابعُ صفوفها، فإن أنت تغلغلت ببصرك فيها أحسست كأنك تنظر إلى الماضي المجهول من وراء الأطلال.
وكانت نافذة القطار كلوحة السينما، ففي كل لحظة منظر جديد لا يشبه الأول، منها مناظر تنقلك إلى الهند فكأنك فيها، ومناظر فيها النارجيل كأنه النخيل، فهي تحملك إلى البصرة، إلى طريق أبي الخصيب التي عدّها ياقوت إحدى متنزَّهات الدنيا الأربعة يوم كانت تُدعى الأُبُلّة، أو إلى بغداد عند الصليخ، ومناظر تجد نفسك إذ تراها في الشام، في العين الخضراء تارة وتارة في زحلة وتارة في صوفر أو بلودان.
ثم توسّط بنا القطار «جرادان» ، فلما جاوزناها ودخلنا في منطقة الجبال بدت لنا مشاهدُ إن قستَ بها ما كنا فيه من قبلُ فقد قستَ تلال الرمال بذُرى بلودان! ولتلال الرمال سحرها وجمالها، ولكن بلودان هي بلودان. وكنا نسير أحياناً في واد ضيّق كأنه وادي بردى في ضيقه، ثم يتّسع حتى يكون أرحب من وادي صوفر-حمّانا؛ ترى من تحتك جبالاً وأودية لا يُحصيها العدّ، كل جبل بلون وكل وادٍ على صورة، والأنهار تتلاحق نازلة من الذُّرى هادرة متكسّرة، يتدحرج ماؤها على أطراف الصخور هابطاً إلى قرارات الأودية. ولقد عددتُ في ساعة واحدة وأنا في القطار سبعة وعشرين نهراً، ثم مللت العدّ.
وكان القطار الكهربائي يقطع في الساعة أكثر من ستين كيلاً، وقد قطعنا ثلاثمئة كيل وما انقطع العمران أبداً؛ فالقرى متّصلات،
لا تعلم أين تنتهي القرية وأين تبدأ جارتها (1). والبيوت كلها كبيوت الخشب التي يلعب بها الأولاد: سقوف مائلة من القرميد الملوّن الزاهي على عمد من نوع من الخيزران يُدعى المانجو، وهو في جاوة في كل مكان، والجدران من الحصير الملوّن أو الخشب الرقيق المنقوش. بيوت أنيقة حلوة لا تكلّف إلاّ قليلاً. وما عجب أن يتصل في جاوة العمران، وهي وباكستان الشرقية (بنغلاديش) أزحم بلاد الله بالسكان، كان فيها يوم زرتُها ثلاثة وخمسون مليوناً.
وكنا في ضيافة الحكومة الأندونيسية وهي التي أعدّت لنا هذه الرحلة، وكان معنا مرافقان يتكلّمان العربية كأهلها، واحد من وزارة الشؤون الدينية، عالِم فاضل أمين صادق، هو الأستاذ صالح السعيدي، والآخر من وزارة الخارجية، ليس صالحاً ولا سعيداً، رأينا الكثير من شرّه وضرّه، وتعلّمت منه أن الكذب والاحتيال بضاعة موجودة دائماً وأن الرجل الواحد ربما أساء بفعله إلى بلد بكامله.
قضينا على الطريق ساعات، وكنا قد خرجنا بلا طعام فزقزقَت عصافير الجوع في بطوننا. والجَمال في الطبيعة وفي الإنسان مهما بلغ رواؤه وبهاؤه ومهما اشتدّ سحره وفتونه يملأ العين مسرّة والقلب بهجة، ولكنه لا يملأ المعدة الخالية الخاوية طعاماً. ولو أن المجنون وليلاه أو أن روميو وجولييت اجتمعا في أزهى الرياض في خلوة غاب عنها الرقيب ونأى العاذل ولم يأكلا، لكفرا بالحبّ ولعنا الغرام، ولآمنا بأن الرغيف الواحد أنفع لهما
(1) ثم رأيت مثل ذلك في بلجيكا، من بروكسل إلى لييج.
في تلك الساعة من كل ما قال شعراء الغزل في كل لغة ولسان.
وكان الرفيق الطيّب إلى جنبي والآخر إلى جنب الشيخ، فقلت لصاحبي: أما جعتَ؟ قال: بلى والله. قلت: أما من طعام؟ قال: لا أدري. قلت: قم بنا ننظر في القطار، فلا بد أن يكون فيه ما يؤكل. وقمنا نقفز من حافلة إلى أخرى، نتخطّى الركاب، ومنهم من يقف عند الأبواب ومنهم من يضع صُرّته وحقيبته على الأرض ويقعد عليها. وكان قطاراً طويلاً، فلم نبلغ آخره حتى بلغَت أرواحنا التراقي، ولكنا اكتشفنا أخيراً عربة الطعام كما كشف كريستوف كولمبوس أميركا، وصحنا كما صاح أرخميدس: أوريكا!
وقعدنا لنأكل. وكان الطعام في القطار هو الذي تلقاه في كل مكان في جزيرة جاوة لا يتبدّل ولا يتغيّر، وهو طيّب، ولكني لا أدري كيف لا يملّونه ولا تعافه نفوسهم وهم يأكلونه دائماً؟ ولو أنك أطعمت إنساناً أطيب أكلة يعرفها كل يوم ظهراً وعشيّاً شهراً كاملاً لملّها واجتواها واشتهى خبزاً وبصلاً، وهؤلاء يأكلون دائماً هذا الرز المسلوق المخلوط بالفلفل الأحمر، الذي يشتعل ناراً في الأنبوب الهضمي من الفم إلى المعدة إلى الأمعاء، إلى آخر الطريق، فيحرقها حرقاً، ومعه هذا السمك الذي يعملونه كجَرادق رمضان، والموز المشوي والمقلي والمطبوخ، والشاي البارد بلا سكّر!
والمضحك المبكي أننا بعد أن قطعنا هذا الطريق الطويل من عربتنا الفاخرة إلى مطعم القطار، ودسنا على أرجل عشرين إنساناً وشيّعتنا النظرات المتسائلة والمسبّات المستترة، وكدنا نسقط أربع
مرات تحت دواليب القطار فنروح ضحية أكلة رز مسلوق بالفلفل الأحمر
…
بعد هذا كله قال لنا نادل المطعم (الجرسون) متعجباً: لماذا لم تقرعوا الجرس ليجيء لكم الطعام؟ ولما رجعنا وجدنا صاحبنا الشاطر (واذكروا أن الشاطر في اللغة هو الخبيث) يأكل وهو في مكانه، لأنه وضع أصبعه الكريمة على زر الجرس الذي لم يبصره صاحبي الطيب، فجاءه النادل بما يريد!
وكانت السخرية الثانية بنا أن في القطار طعاماً إنكليزياً مقبولاً على كل حال، ليس فيه من هذه الفلافل التي ألهبت أجوافنا وأشعلتها ناراً، أكل منها صاحبنا الشاطر، وأنا وصاحبي الطيب لم ندرِ به فأكلنا -والعياذ بالله- هذه النار الحامية.
ولمّا شبعت البطون من الطعام أحسسنا جوع النفوس إلى الجمال، فعدنا ننظر فإذا القطار الذي يحملنا قد صار في الأعالي يمشي على ذُرى الجبال، نرى من شقّ الوادي ما خلّفنا وراءنا من حقول الرز وغابات المطّاط، وهي أشجار كبار. ومن أعجب ما رأينا في القطار أنه كان يمرّ حيناً على جسر ممدود بين خطمَي جبلين عاليَين (1)، فكنا ننظر من النافذة منظراً يدور منه الرأس: ذُرى تحتها ذُرى، وسفوح تليها سفوح، وأودية لا يبلغ البصر إلى أعماقها، والطريق كله ممتلئ بالزارعين وبالأطفال العاملين. ولم نزل نصعد ونصعد حتى بلغنا الذروة، وجزنا بمنطقة «دار
(1) كالجسور التي أقامتها المملكة هنا على طريق الهَدى وعلى الطريق المدهش الذي يقفز فوق قِمم الجبال ويمشي في بطونها حتى يصل إلى الباحة وما بعدها.
الإسلام» (وكانت يومئذ شبه حكومة مستقلّة أقامها ناس كانوا من الثوار، تُحكَم بشرع الله وتطبق أحكام الإسلام)، ثم أخذنا ننحدر. وما بعد الصعود إلاّ النزول:
ما طارَ طيرٌ وارتفَعْ
…
إلاّ كما طارَ وقَعْ
والطريق على حاله: غابات متصلة وخضرة متسلسلة، حتى بلغنا المساء مدينة الجهاد، مدينة العلم وعاصمة البلاد الروحية: جوكجا.
* * *
وأنا واثق أن أكثر القُرّاء لم يسمعوا بها. وأنا قد عشت نحواً من خمسين سنة قبل أن أرحل تلك الرحلة وأنا لم أدرِ بها ولم يطرق سمعي اسمُها، بلدة في وسط جزيرة جاوة ليست في جِدّة جاكرتا وسعتها، ولا في كِبَر سورابايا وغناها، ولكنها تفضلهما بأنها كانت أعرق في المجد بالأمس وأنها أعرق بالعلم اليوم.
كانت بالأمس عاصمة مملكة متارام التي حكمت البلاد قروناً طوالاً بدءاً من القرن العاشر الميلادي، وامتدّ سلطانها إلى شبه جزيرة الملايا (ماليزيا)، وساقت على هولندا يوماً جيشاً فيه مئة ألف. مملكة تسلسل المُلك في ملوكها وسلاطينها دهراً، من مؤسسها الأول إلى الملك الذي زرناه، وهو: همينكو بوانا (أي صاحب الدولة) السيد حامي ذمار الدين خليفة المسلمين سلطان ماترام السلطان عبد الرحمن العاشر. وهذه ألقابه الرسمية لم آتِ بها من عندي. كل هذه الألقاب له، ولكن ليس له حكم ولا تحت يده أرض يملكها!
كان في مدينة جوكجا الجامعة الحكومية، وكانت تشتمل يوم زرناها على ستّ كلّيات: للطبّ، والحقوق، والإدارة، والعلوم، والهندسة، والزراعة. لا يقلّ طلاب كل واحدة منها عن ألف وخمسمئة، وفيها ما يبلغ ثلاثة آلاف. وفي جوكجا الجامعة الأهلية الإسلامية وتشتمل على ثلاث كلّيات: الحقوق، والاقتصاد، والتربية. وهي تُعنى بالعلوم الشرعية والسلوك الديني، والتعليم فيها مقتبَس عن الأسلوب الهولندي، وهو أسلوب حُرّ رأيته أشبه بأسلوب الأزهر القديم قبل أن تكون فيه صفوف وامتحانات. ولم أحضر الدروس فيها لأني جئتها في عطلة. والمدارس في أندونيسيا تعطل ثلاثة أيام في كل شهر، أما العطلة السنوية فمن آخر شعبان إلى ما بعد عيد الفطر، ولا يدور رمضان في الفصول كما يدور عندنا لأنه ليس في أندونيسيا شتاء ولا صيف، ولا يتعاقب فيها البرد ولا الحر، والسنة كلها فصل واحد لأنها بلاد استوائية.
وجوكجا -فوق ذلك- دارة الجهاد ومثابة الأبطال. ولقد عملَت للاستقلال كل جزيرة من الجزر الأندونيسية (التي يبلغ المسكونُ منها ثلاثةَ آلاف جزيرة) وكل بلدة فيها وكل قرية، ولكن ليس فيها كلها ما عمل عمل جوكجا؛ لقد كان فيها قيادة الجهاد وكانت عاصمة البلاد، ولقد خرج مشايخها فيمن خرج، أطبقوا كتبهم وأغلقوا مدارسهم وحملوا السلاح، فخاضوا المعارك وأتوا بالعجائب.
لقد كنت في جاكرتا أشكو الوحدة والخمول، تمرّ عليّ الأيام لا أكلّم فيها أحداً لأني لا أجد من أفهمه ويفهمني؛ كنت
أخاطب الناس بالإشارة كأني أخرس، أو كأنما أنا إنسان الغابات الذي عاش قبل اختراع الألسُن واللغات (1)، ولطالما بقيتُ ليالي بلا عشاء لأني لا أحبّ ما يُقدَّم في الفندق ولا أستطيع أن أُفهِمهم ماذا أحبّ. ولطالما مرّت عليّ ساعات خشيتُ فيها -من الوحدة أو الضيق- على عقلي! فلما خرجنا في هذه الرحلة إلى داخل البلاد وضعوا لنا برنامجاً لم يتركوا لنا فيه لحظة انفراد أو دقيقة راحة، فانتقلنا من برد الصقيع إلى لهب النار! كنا نتمنى أن نلقى من نكلمه أو أن نجد ما نعمله، فصرنا نتمنى أن يكفّوا عنّا أو أن يدَعونا لأنفسنا ساعة من زمان. ولو أني وصفت لكم كل ما رأيت لزاغت من السرعة أبصاركم كما زاغ بصري ولم تَعُوا من حديثي شيئاً، فدعوني أقصر الحديث على ثلاثة مشاهد في جوكجا: المدينة القديمة، وزيارة الملك، ودار المعلّمين.
جوكجا مدينة رحبة الجوانب واسعة الشوارع حديثة العمران، فيها عجائب الصناعات اليدوية، لا سيما الأدوات الفضّية التي لا يُتقِن أحدٌ نقشها والافتنان (2) بها إتقان الجاويين إياها. ومن صناعاتهم نسج الأُزُر (الفُوَط) المنقوشة المزخرَفة، وهي اللباس الرسمي للرجال والنساء وطلبة المدارس وموظفي الدولة، وهي عادة قديمة وصفها ابن بطوطة ولا تزال باقية إلى اليوم.
أما البلدة القديمة فهي مربعة، عليها سور قائم طول كل ضلع من أضلاعه نحو ألف متر، يكاد قصر الملك يحتلّ ربعها.
(1) وإن كانت اللغات في الأصل من الأسماء التي علمها الله تعالى آدم.
(2)
مصدر افتنّ يَفتَنّ.
وما هو بالبناء المشمَخِرّ العالي ولكنه دور صغيرة أنيقة، وله باب كبير، وأمامه ساحة واسعة فيها صفوف من عمالقة الأشجار تكاد تظلّلها على سعتها، وعلى جانبَي الباب بيتان من الحجر قالوا إنهما كانا مسكنَي الفيلَين الملكيّين، الفيل الأبيض وهو مركب الحفلات والمواكب، والفيل الأسمر وهو المركب العادي. وكان الفيل يومئذ كالسيارة في أيامنا. والباب يُفضي إلى حدائق فيها من عجائب الشجر ما لا يوصف، ومنازلها في غاية الأناقة ودقة النقش. دخلناها حتى انتهينا إلى قاعة العرش، وهي مشيدة على أسلوب من العمارة فريد، لها جدران سامقة وسقف عالٍ مُغطّى بالنقوش والصور، وفي وسطها سدّة مكشوفة الجوانب الأربعة لها أدراج من كل جانب من الرخام الذي يزري بالمرايا، وأعمدة دقيقة من خشب الساج المنقوش بالنقوش الدقيقة الملوّنة، وفوقه مئات (مئات حقاً) من القباب الصغيرة القائمة على أعمدة دِقاق تؤلّف سقفاً مثل الهرم الرباعي، يبدو للناظر كأنه تاج ملكيّ.
هذه هي سدّة الملك التي طالما رأت في سالف الدهر من أبّهة السلطان وزهو النصر ومظاهر الجلال ما رأت، فانتهت
…
أتدرون إلامَ انتهت؟ إلى ما هو أجلّ وأعظم من هذا كله؛ لقد أفاض عليها الملك الحالي مجداً وجلالاً لم تُفِضْ عليها مثلَه هاتيك الفتوح كلها وهاتيك الانتصارات، ذلك أنه قدّمها هي والقصر هبة منه للعلم، فصار قصر الملك كلّية الطبّ، وصار عرش الحُكم منبر العلم، وصارت مجالس الوزراء مقاعد الطلاّب، فازدادت بذلك فخراً وشرفاً.
* * *