الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-161 -
نظرة في أسباب الانفصال
بين سوريا ومصر
إننا في بلد حُرّ، كنا نقول ما نريد، كنا نكتب ما نشاء. كنت أكتب والله سنة 1931 في جريدة «الأيام» إلى المسيو بونسو، المفوَّض السامي الفرنسي الذي كان يملك من السلطان ما لم تملكه حكومتا سوريا ولبنان، كنت أكتب إليه ما لم أعُد أستطيع أيام وحدتكم أن أكتب مثله لمدير ناحية، وهو أصغر موظف إداري في البلاد.
لقد صار الواحد منّا يخشى أن يتكلّم في السوق لئلاّ يكون جاره من رجال المباحث أو رجال المكتب الخاصّ، أو رجال ما لست أدري ماذا
…
ويخشى أن يتكلم في المدرسة لئلاّ يكون تلميذه من رجال المباحث أو من رجال المكتب الخاصّ، ويخشى أن يتكلم في البيت لئلاّ يكون أخوه من رجال المباحث أو من رجال المكتب الخاصّ.
لقد كنت أقرأ في مذكّرات أستاذنا كرد علي رحمه الله، أخبار التجسّس والرقابة أيام السلطان عبد الحميد وما كان يُنفِق عليها
وإلى أين بلغَت قوّتها، فوجدت ما كان أيام السلطان عبدالحميد لا يبلغ واحداً من مئة
…
أستغفر الله، بل لا يبلغ واحداً في الألف ممّا رأينا في هذه السنين الثلاث الماضيات.
لم تكن السلطة التنفيذية أيام الانتداب الفرنسي تستطيع أن توقف أحداً أو أن تسلبه حرّيته إلاّ بحكم من القضاء، فصرنا أيام الوحدة ننام جميعاً، فإذا أصبحنا افتقدنا واحداً منّا
…
لقد جاءه في وسط الليل من انتزعه من فراشه وأخذه إلى حيث لا يدري أحد، بلا محاكمة ولا حكم!
وأنا أستحلفك يا سيادة الرئيس بالله: هل هذا من شِيَم العرب؟ هل هذا من أحكام الإسلام؟ هل تريد أن يحتمل العرب ذلك؟ هل تريد أن تقابل إسرائيلَ وأن تحارب الاستعمار بشعب ذليل خانع، يبلغ من ذِلّته ومن خنوعه أنه يرضى بهذا ويسكت عليه؟
ولا يُقِيمُ على ضَيمٍ يُرادُ بِهِ
…
إلاّ الأذلاّنِ: عِيرُ الحيِّ والوَتَدُ
فهل ترضى أن تكون رئيساً لشعب من الجمادات كالأوتاد أو من الحيوانات كالحمير؟
وأنا -مع ذلك- ألتمس لك المعاذير، فأعود فأقول: لعلك لم تعلم بهذا. ولكن لماذا لم تعلم به؟ ولماذا أبَيت أن تعلم به لما جئنا نعرضه عليك ونرفع لك خبره؟ وماذا نصنع نحن إذا لم تعلم به؟ أنبقى مخنوقين حتى تعلم؟ فلماذا لا تلتمس العذر لنا مثلما نلتمس العذر لك، مع أن عذرنا يا سيدي ظاهر واضح وعذرك مقدَّر مستتر؟
"إن هذا البلد -يا سيدي- بلد تاجر أهله بارعون. انظر ما حققناه في عشر سنين من المعامل والمشروعات، فجئت بقراراتك التي سميتها «الاشتراكية»، فلم يعد يأمن أحدٌ على ماله، لم يعد أحدٌ يقيم مشروعاً إلا إذا كان مجنوناً. هذا الدبس جاء بالملايين من الخارج وعرض عليك فكرة إقامة المعمل فشجّعته، وسألك الضمان فضمنت له، وجئت بنفسك فخطبت في يوم افتتاح معمله الذي أقامه بماله. فبأيّ دين يا سيدي، بأيّ دين، بأيّ قانون، بأيّ منطق تأخذ منه معمله؟! أنا والله لا أعرف هذا الرجل ولا صلة لي به ولا بغيره، ولست ممّن يرتشي ولا من الذين تفضّلت فوصفتَهم بأنهم أكَلة لحوم الفراخ"(1).
العلماء الناصحون أكَلة فراخ؟ أليس عيباً يا سيدي الرئيس أن تهجو علماء بلدك أمام الأجانب بهذا الكلام؟ وهل الذي يُنكِر عليك ويجرؤ على الوقوف في وجهك، وأنت في سلطانك، يكون ممّن يبيع ذمّته بأكْلة فراخ؟ لا والله، ولكن أكَلة الفراخ هم الذين ينافقون لك ويتزلّفون إليك من العلماء ومن غير العلماء، الذين يقومون على منابر الجوامع فيقولون: إن مجدّدي الإسلام ثلاثة: عمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، وجمال عبدالناصر! الذين كانوا يقومون على منابر المساجد يوم ذكرى مولد رسول الله عليه الصلاة والسلام فيقول أحدهم (في مسجد الروضة في شارع أبي رمانة أفخم شوارع دمشق):"نحتفل اليوم بمناسبتين عظيمتين، مولد الرسول وأسبوع الجامعات"
…
أسبوع
(1) هذه الفقرة بين الأقواس من أصل الخطبة، لكنها لم تظهر في الطبعات السابقة من «الذكريات» (مجاهد).
الجامعات الذي ارتُكبت فيه المحرّمات وكانت الموبقات من الاختلاط بين البنين والبنات.
هؤلاء هم المنافقون، هؤلاء هم الذين باعوا دينهم وذِمَمهم بأكلة فراخ، لا الذين قالوا: إن هذا التأميم حرام مخالف للإسلام.
واسمح لي يا سيدي الرئيس أن أقول لك شيئاً آخر: إنك تؤمن بالوحدة لا شكّ في ذلك، وبأن أهل الشام وأهل مصر إخوان، فكيف أصدرت الأمر بعد الانفصال بإرسال الجنود وسَوق الأساطيل لحرب إخوانك في الشام؟ هل تمّ القضاء على إسرائيل وعلى كلّ عدو لنا ولك، واستراح جيشنا وجيشك من عناء القتال، ولم يبقَ أمامه ميدان يحارب فيه ولا عدوّ يهجم عليه إلاّ ميدان الشام وأهل الشام؟
وكيف بعثت يا سيدي بهذه الأموال لشراء الضمائر وقتل الأخلاق؟ إنّ الضمائر والأخلاق أغلى من الأجساد والأرواح، فهل يقتل الأخ ضمير أخيه؟ وما لهذا الرجل الذي يتكلّم من «صوت العرب» (المدعوّ أحمد سعيد) يشتم العرب بالألفاظ والجُمَل نفسها التي كان يشتم بها أعداء العرب؟
إننا إذا كرهنا حُكمَك ولم نعُد نحتمله فتخلّصنا منه، فما كرهْنا واللهِ مصر، ولا كرهنا واللهِ الوحدة، ولا كرهنا شخصك ولا أنكرنا عليك أعمالك الحسنة. وقد التمسنا لك المعاذير، فلماذا لا تلتمس لأخيك عذراً؟
لقد قرأت وأنا صغير في كتاب المدرسة أن صياداً كان يذبح العصافير في يوم بارد ويبكي، فقال عصفور لرفيقه: أما ترى رِقّة
قلبه وانسياب دمعه؟ قال: لا تنظر إلى عينه التي تدمع ولكن إلى يده وما تصنع!
لقد ذُبحنا أيام الوحدة. لقد رأينا ما لم نرَ مثله أيام الانتداب. إي والله العظيم؛ لقد رأينا من الفسوق والعصيان ومخالفة الشرع والاختلاط والتكشّف، والحكم بغير ما أنزل الله، وخنق الحرّيات وكَمّ الأفواه وعَقْل الأقلام، وسجن الناس بلا ذنب أذنبوه ولا حكم حُكم به عليهم، ما لم نرَ مثله أيام الفرنسيين، "لا والله ولا أيام الثورة. ولقد صبرنا حتى ضجّ من صبرنا الصبرُ، ولم نعد نحتمل الألمَ فقلنا: آه! فهل كان معنى ذلك أننا أعداء الوحدة؟ "(1)
إن الوحدة يا سيدي لا توصف بذاتها بأنها خير أو أنها شرّ، والله جمع في آية واحدة بين قوله:{وتَعَاونوا} وقوله: {ولا تَعَاونوا} فقال: {وتَعَاوَنوا على البِرِّ والتَّقْوى، ولا تَعَاونوا على الإثْمِ والعُدْوانِ} . وإن اتّحد جماعة من المحسنين وتعاونوا على إنشاء جمعية خيرية كان ذلك خيراً، وإن اتحد اللصوص وتعاونوا على تأليف عصابة إجرام كان شراً. ولو جعلتموها وحدة بِرّ وتقوى واتّبعتم فيها شرع الله ولم تتعدّوا حدوده لظللنا كما كنا، مرحّبين بها مُقبِلين عليها. ولكنكم جعلتموها للإثم والعدوان: عدوان على أحكام الشرع، عدوان على أموال الناس وحرّياتهم. أفتبكي عليها بعدما وأدتَها؟
أتبكي على لُبنى وأنتَ ترَكْتَها؟
…
لقد ذهَبَتْ لُبْنى فما أنتَ صانعُ؟
(1) الجمل بين الأقواس من أصل الخطبة، لكنها لم تظهر في الطبعات السابقة من «الذكريات» (مجاهد).
ليبكِ عليها من لحس عسلها، لا من لسعَته النحل من حول العسل. ليبكِ عليها من قطف وردها، لا من دَمِيَت أصابعه بشوكها. ليبكِ عليها من أكل لحمها، لا من غُصّ واختنق بعظمها.
على أن هذه الدنيا زائلة يا سيادة الرئيس، زائل كلّ ما فيها؛ فلا المُلك يبقى ولا المال ولا السلطان، ولو دامت لمَن كان قبلك لما وصلت إليك. فاتّقِ الله، اتّق الله الذي تقف غداً بين يديه وحدك، ليس معك من يحفّ بك ولا من يهتف لك ولا من يحميك. وسيسألك الله عن كلّ قانون مخالف للشرع أصدرتَه، وعن كل قرش من أموال الأمّة: من أين جمعتَه وأين أنفقتَه، وعن كل عورة كشفتَها أو رضيت بكشفها، وعن كل منكَر أقررتَه أو قدرت على منعه فلم تمنعه
…
هنالك الامتحان، فاستعِدّ ليوم الامتحان.
وليعدّ الجوابَ كلُّ ملك وكل حاكم وكل رئيس ليوم لا رئيسَ فيه ولا حاكمَ ولا ملك، يومَ ينادي المنادي: لمن المُلك اليوم؟ فيجيب المجيب: لله الواحد القهّار.
وأنتم يا أيها الضبّاط الذين أنقذونا من هذا البلاء الذي لم نستطع له بالحسنى دفعاً: لكم الشكر، وأسأل الله أن يوفّقكم إلى ما فيه رضاه، وأن يجنّبكم خطيئات من كان قبلكم، وأن يُلهِمكم إصلاح ما فسد من الأمور وإبطال ما حدث من المنكَرات. وأسأل الله أن يُعيدَ لنا الوحدة التي يرضاها الله، وحدة التعاون على البِرّ والتقوى، وحدة العدالة والحرّية والمساواة. إنه سميع الدعاء.
* * *
هذا نَصّ الكلمة التي أُذيعَت، ولكنها ليست التي كتبتها أول مرّة. لقد كتبت كلمة عنيفة فيها هجوم وفيها سخرية، وفيها نار تلتهب وبارود يتفجّر. ولكن صهري زوج بنتي، عصام العطار، وإخوة لنا، رأوا أن أهدّئ من نارها وأن أنقص من بارودها، فكتبت هذه وطلبت إلى الإذاعة ألاّ يُذيعوا الأولى. وكان الموكل بالإذاعة ضابطاً متحمّساً فعزّ عليه ألاّ تُذاع، فكاد يُصِرّ، وأصررت حتى كان ما أردتُ.
ذهبت إلى الإذاعة فألقيت هذه الكلمة وسمعها الناس، وعدت إلى داري. وكذلك أنا في حياتي كلّها: أخطب الخطبة أو أذيع الكلمة أو أكتب المقالة تزلزل البلد وربما أثّرَت في مجرى الأحداث، وأنا منفرد بنفسي في داري أو مع نفر من خاصة أصدقائي؛ لا أستثمر ما أقول ولا أجعله وسيلتي إلى لقاء الحكام. ولقد شهد كثير ممّن تُقبَل شهادته ممّن كتب مذكرات عن هذه الحقبة، وقالوا وبيّنوا ما كان لكلمتي من أثر كبير، وبأن مناطق في سوريا ما أيّد أهلها الانفصال إلاّ بعدما سمعوا كلمتي.
ارتضاها وأثنى عليها جمهور من الناس، وسخطها وذمّها وذمّ قائلَها جمهورٌ من الناس. وأذاعتها أو أذاعت فقرات منها إذاعات عربية كثيرة، وعلّق عليها الموافق والمخالف والصديق والعدوّ، حتى إذاعة إسرائيل أعادتها مرّات وعلّقَت عليها بما شاءت وشاء لها هواها وبغضها العربَ والمسلمين، وكتبَت عنها الصحف.
وهذا هو مقياس النجاح الإعلامي. ولكني أحاسب نفسي الآن فأفكّر وأسأل: هل كنت مصيباً فيها أو مخطئاً؟ لا بالمقياس
الإعلامي بل الإسلامي. هل أُثاب عليها أم أؤاخَذ بها؟ ألا يمكن أن أكون قد أعنت بها على زيادة الفرقة والانقسام؟ إن لي نفساً لوّامة، أعمل العمل ثم أعود فألوم نفسي عليه وأحاسبها به في الدنيا قبل يوم الحساب. فهل أنا المخطئ فيها المَلوم عليها؟ هل يُلام مَن يشتكي وقع السياط عليه ويصرخ أو يشتم، أم يُلام من يضربه بغير حقّ؟
أمّا رأي الناس فلا أزعم أني لا أبالي به أبداً، ولكن أقول صادقاً إنني لا أبالي به كثيراً؛ إن الذي يهمّني ألاّ أُسخِطَ الله عليّ وألاّ أعمل عملاً أعرّض به نفسي لعقابه. فهل يعاقبني الله على هذه الكلمة وعلى موقفي يوم الانفصال؟
الله يوم القيامة لا يسألنا فقط: ماذا عملتم؟ بل يسألنا: لماذا عملتم؟ أي أن الله يحاسب على النيّات مع حسابه على الأفعال. بل إن المعوَّل عليه ما في القلب: {يومَ تُبلَى السرائرُ} ، أي تُختبَر النيّات وما تنطوي عليه الضمائر. والله يعلم أنني ما أردت بها جلب منفعة لي (ولا جلبتُها)، ولا أردت دفع مضرّة عني (ولا دفعتُها)، بل أردت بها المشاركة في إقامة الحقّ وفي إنكار المنكَر، وفي ذمّ المسيء وفي مدح المحسن.
* * *
وجاءت خطبة الجمعة. وكنت قد وعدت أن أتولاّها أنا وأن تكون في جامع التوبة في حيّ العقيبة في طرف دمشق، أو كان يومئذ في طرفها. في هذا الحيّ وُلدت وفيه درجتُ، وفيه فتحت عيني على الدنيا، ولي في جامع التوبة ذكريات جَمّة وتاريخ طويل،
ولهذا الجامع مزايا ربما تحدّثت عنها يوماً في بعض الذكريات.
ذهبت إلى المسجد فوجدت حشداً هائلاً وازدحاماً كبيراً كالذي كان فيما سَمّيناه «الأسبوع الثقافي» يوم خطب الصديق العلاّمة الشيخ أبو زهرة رحمة الله عليه، ووجدت الإذاعة قد نقلت آلاتها واستعدّت لإذاعة هذه الخطبة في كل مكان يصل إليه صوتها. وألقيت كلمة مكتوبة، لم تُنشَر كاملة قبل اليوم وإنما نشرت في «الأيام» جزءاً منها.
وهذا هو نَصّ الخطبة التي أُلقيَت وأذيعت من جامع التوبة في دمشق يوم الجمعة السادس من الشهر العاشر من سنة 1961:
الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.
أتذكرون ليلة اجتمعنا بكم في هذا المسجد من نحو خمسة أشهر، بعدما افتتحنا الموسم الثقافي الإسلامي في جامع تنكز وأعلنّا فيه كلمة الحقّ؟ لقد جنّدوا يومئذ المئات من رجالهم، ودسّوا بين الناس جواسيسهم ليُوقِعوا الفتنة بينكم، فلم يستجِب لنداء الفتنة أحدٌ منكم. وأطفؤوا الأنوار تسعين دقيقة ليفرّقوكم ويُحِلّوا الاضطراب فيكم، فتكلّم الخطباء في الظلام وسمع الناس في الظلام. ونحن نحبّ النور، ولكنا لسنا أطفالاً يخافون الظلام. وأشعلتم المصابيح فضوّأتم المسجد.
أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم وأبى الله إلاّ أن يُتِمّ نوره. وها هو ذا النور قد تمّ، وها نحن أولاء نجيء في وضح النهار لنعلن كلمة الحقّ كرة أخرى.
الحمد لله، الحمد لله. إننا نخطب في نور الشمس، فمَن يستطيع أن يطفئ علينا نور الشمس؟ مَن يقدر أن يسوّد علينا وجه الظهيرة؟ اللهمّ لك الحمد. {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ المُلكِ، تؤتي المُلكَ مَن تشاءُ، وتنزِعُ المُلكَ ممَّنْ تشَاءُ، وتُعِزُّ مَن تشَاءُ، وتُذِلُّ مَن تشاءُ، بيدِكَ الخيرُ إنّكَ على كلّ شيءٍ قديرٌ} .
لقد كان اجتماع تنكز أوّل سطر في مقدّمة كتاب هذه الثورة، كان أولَ زلزال أصاب ذلك الصرح. لقد هزّ تلك الحكومة هِزّة زعزعَت أركانها، ولكن الله كفّ يدها عنّا فلم تستطع أن تؤذينا. وما بقوّتنا وقفنا في وجهها ولا بحَوْلنا، بل بحول الله وقوّته. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
لقد كنت أنظر في وجوه الناس وأنا أتكلّم في تنكز، وأرى العيون تبرق ابتهاجاً وحماسة ودهشة وخوفاً. لقد كان يبدو عليهم كأنهم لا يصدقون أنهم يسمعون ما يسمعون؛ لقد أنسَتهم هذه السنواتُ الثلاث أن في بلدهم مَن يقول مثل هذا الكلام. نسوا من طول الأسر أيام الحرّية، نسوا بطولات أنفسهم، فجئت أذكّرهم بأنفسهم وببطولاتهم.
واستمرّت هذه الاجتماعات، ولكن شياطين المباحث والمكتب الخاصّ راحوا يعملون على هدمها. لم يهجموا علينا من أمام في وهج النهار فيضربوا ضربة السبع، بل تسلّلوا إليها من أطرافها يقرضون منها قرض الفأر. دبّوا إليها في الظلام، ولا يحبّ أن يعيش في الظلام إلاّ اللصوص والعقارب والفُسّاق والجواسيس.
فاشتدّ الضغط عليها وتفرّق العلماء من حولها، ولكنها
وجدت -على ذلك- من ثبت عليها رغم الضغوط والدسّ والإيذاء. ثم ضعُفَت كما تضعف الموجة العالية التي تضرب الشاطئ ضربة يتطاير رشاشها ويرعب منظرها ثم ترتدّ عنه شيئاً فشيئاً حتى تهمد. همدَت موجة تنكز، ولكن أثرها في البناء الذي تلقّى ضربتها كان واضحاً.
واستمرّ حكام ذلك العهد سائرين على طريقهم. ومسّ الألمُ كلّ قلب ومشَت الشكوى على كلّ لسان: صاحب الدين يشكو ما يرى من انتشار المحرّمات، وإعلان المنكَرات، وترك الفرائض والطاعات. وصاحب الأخلاق يشكو من فشو الفسوق وكشف العورات واختلاط البنين والبنات. وأصحاب المال والأعمال يشكون بوار الأسواق وكثرة الضرائب وخُطّة الإفقار، والنهبَ المُعلَن والغصبَ الظاهر باسم التأميم. والمعلّمون والآباء يشكون هزال المناهج وقلّة العلم، وصرف التلاميذ عن دروسهم باللعب في النهار والرائي (التلفزيون) في الليل. والموظف والعامل يشكوان الغلاء الذي لم يعُد يُطاق. والناسُ جميعاً يشكون القحط الذي كتبه الله علينا هذه السنوات، جزاءً لنا على هتك الحرمات وإعلان المحرّمات، وعلى تلك الكلمة الخبيثة التي قالها وزير من وزراء ذلك العهد حين خطب فقال: إننا لا نحتاج بعد اليوم إلى رحمة السماء!
فشحّت السماء وغار الماء، وكان الغلاء والبلاء، وعجز ذلك الأحمق المغرور عن أن يُنزِل علينا هو المطر بدلاً من الله.
نسوا الله فنسيَهم، وجاهروا بالمعاصي فعاقبهم، ولمّا رجعوا
فاستغفروا غفر الله لمن رجع إليه منهم وأنزل المطر عليهم.
وتلفّتنا نفتّش عن المُنقِذ فلم نجده. وأين نجده؟ والشعب الذي ثار في وجه فرنسا يوم كانت فرنسا أقوى دولة برّية في العالَم في أعقاب الحرب الأولى ونكّل بفرنسا -على قوّتها يومئذ وعنفوانها- لم يعُد ينطق ولا يتحرّك؟ لقد هاج الشعب يوماً بالحكومة وضعضع بنيانها لأنها رفعَت ثمن كيل الخبز نصف قرش، فما باله الآن يرى هذا كله فلا يتحرّك ولا يهيج؟ أين الرجال؟ ألم يبقَ في الشام رجال؟
ويئس الناس وقنطوا، ولكني لم أيأس؛ كنت أعيد عليهم ما كتبته عن بردى من أكثر من ثلاثين سنة (صارت الآن، أي يوم كتابة هذه الحلقة، خمساً وخمسين سنة) حين شبّهت أهل الشام ببردى: تلقاه يمشي هادئاً مستكيناً يجرؤ عليه القط فلا يبل ماؤه بطنَ القط ويرميه الصّبية بالحصى فيستقرّ في أرضه الحصى، فما هي إلاّ أن يثور فجأة فيعلو على الضفّتين ويسيح في الأرض، ويهدم ويُغرِق ويفعل الأفاعيل. فلا يغرّكم من بردى لينه واستكانته.
وانتظرنا ثورة بردى فطال الانتظار، فداخل القنوطُ نفسي، فخطبت من شهر في مسجد الجامعة، فأبلغت وصرّحتُ ونفضت كل ما كان في صدري. والذين صلّوا يومئذ في الجامعة سمعوا هذا وعلموا أني ما واريت ولا داريت، ثم أعلنت أني ذاهب فمُغلِق عليّ بابي ومنفرد بنفسي وبكتبي. وكدت أمشي في موكب اليائسين.
هنالك حينما استحكمَت الأزمة وعمّت الغُمّة، قام هؤلاء
النفر من الضبّاط، قام هؤلاء النفر الذين لا أعرفهم من الضبّاط يقولون للحاكم: مكانك! لا تتقدّم. ارفع يدك عن الشام فإن فيها رجالاً يمنعون عنها الضيم.
كان مع أولئك السلطان، وكان معهم الجيش، ومعهم المال. أمّا هؤلاء فلم يكن معهم شيء من هذا، ولكن كان معهم سلاح لا يعرفه مَن يحكم مصر اليوم ولا تعرفه أميركا ولا روسيا. هو سهام الأسحار. هل تعرفون ما سهام الأسحار؟
لما جاء المعتصم بجنود الترك فعاثوا في بغداد وأفسدوا فيها شكا إليه أهل بغداد، فما أشكاهم (أي لم يستجِب لشكواهم ولم يُنصِفهم). فهدّدوه، فقال: بِمَ تهدّدونني والسلطان معي والجند معي والمال معي؟ قالوا نهدّدك بسهام الأسحار. قال: وما سهام الأسحار؟ قالوا: نقوم في الساعة التي تُفتَح فيها أبواب السماء وينادي فيها منادي الله: ألا هل من مستغفِر فأغفر له؟ ألا هل من سائل فأعطيه؟ فنمدّ أيدينا ونقول: يا ربّ عليك بعبدك المعتصم. فجزع المعتصم وقال: ما لي بذلك من طاقة. وبنى مدينة سُرّ مَن رأى ونقل الترك إليها.
هذا الذي أعان هؤلاء الضبّاط.
هذا لتعلموا أن النصر ليس بالعَدَد وحده ولا بالعُدَد، ولكن الله ينصر من يشاء. ولو كان الأمر بالقُوَى المادّية لكان نصيب الثورة الموت بعد ساعات من ولادتها؛ لقد أعدّ أولئك العُدّةَ لضرب دمشق بأقوى سلاح تفتّقَت عنه عبقرية إبليس، سلاح الصواريخ. وهُيّئت الصواريخ وسِيقَت إلينا، وكانت تقدر أن
تقضي على بلدتنا وثورتنا، فما الذي أوقفها؟ قائد اللواء الذي حضر مصادفة؟ (1)
لا؛ ليس في الدنيا مصادفات، ولكن الله أخرجه من فراشه وسيّره في الطريق في الوقت المناسب ليقف الرتلَ ويردّ المَرَدة إلى قماقمها قبل أن تنطلق فتُهلِك الحرث والنسل. إنها دعوات المظلومين من أبناء هذا البلد، المظلومين المعتدى عليهم في دينهم وفي أخلاقهم وفي كرامتهم وفي حرّيتهم وحرّية أولادهم وفي أموالهم. فاتقوا دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب.
يا أيها الإخوان، لقد كنت أصغي إلى الرادّ (الراديو). وما أنا من عُشّاق الرادّ ولا أنا من العاكفين عليه، ولكن أيام الثورة تُغري بالإصغاء. وكنت أفتح هذا المحطّة التي لست أدري لماذا كذبوا فسمّوها «صوت العرب» ، فكنت أسمع منها الكلام على حكام الشام والوقيعة في أهل الشام بلسان هذا الأحمق السفيه الذي اسمه أحمد سعيد، فأحرّك الإبرة شعرة واحدة فأسمع دفاع محطّة الشام والكلام على حكام مصر، فآسى وأتألّم لِما صرنا إليه.
(1) هذه إشارة إلى ما حدث ليلة الانتفاضة في 28 أيلول (سبتمبر) سنة 1961، عندما تحرّكَت قُوّات مجهَّزة بالصواريخ لضرب الحركة بأمر من الضبّاط المصريين، ولكن هذه القوات التقت في الطريق بقائدها السوري الذي كان يحمل رتبة لواء، فأوقف رتل الدبّابات والمدفعية وأمرها بالعودة لأن تحرُّكها لم يكن نظامياً، فلا بدّ من عودتها لتخرج مرّة أخرى بأمر منه. وهكذا استطاع أن يدرأ وقوع حرب بين قطعات الجيش السوري المختلفة.
أنَسُبّ أنفسنا بدلاً من أن نَسُبّ عدوّنا؟ ونهدم مجدنا بأيدينا ونقتل أنفسنا بسلاحنا؟ وأذكر الذي سَنّ هذه السنّة وعلّمنا الحملة على إخواننا، فأعدّ ذلك ذنباً له جديداً. وأمدّ يدي لأغلق الرادّ إذ لم أُطِق الإصغاء، وإذا بي أسمع الكلام ينتهي من دمشق فيموج الجوّ فجأة بهذا النشيد نفسه يخرج قوياً عاصفاً مجلجلاً. وأسمع من مصر القارئ يتلو كتاب الله فأرجع إلى الشام فأسمع القارئ يتلو كتاب الله. وأسمع من هنا تمجيد الوحدة وذِكْر العرب وذَمّ الاستعمار، وأسمع من هناك ذَمّ الاستعمار وذِكْر العرب وتمجيد الوحدة، حتى إن من المصادفات العجيبة أن الخطبة التي أُذيعت من دمشق الجمعة الماضية لا تكاد تختلف عن التي أُذيعت من القاهرة، والآيات التي استُشهد بها هنا هي الآيات التي استُشهد بها هناك.
فما الذي فرّق بيننا وبين إخوتنا في مصر ما دام يجمعنا حبّ الوحدة ونشيد «الله أكبر» وهذا القرآن؟ إذا كان القرآن يجمعنا فما الذي يفرّقنا؟
لقد فرّقَنا الذين حكمونا أيام هذه الوحدة حين لم يُقِيموا فينا حكم القرآن. وصف الله المسلمين فقال: {والذينَ استجابوا لربِّهم وأقامُوا الصّلاةَ وأمْرُهُم شورى بينَهم} ، فهل كان الأمر شورى بيننا وبين الذين كانوا يحكمون فينا؟ لقد قال الله لرسوله ‘:{وشَاوِرْهُم في الأمرِ} ، فامتثل وهو أفضل الخلق وأكمل البشر. فهل امتثل مَن كان يحكمنا هذا الأمر؟ وهل الشورى أن نحشد العوامّ ونُلقي عليهم كلاماً ضخماً بالمكبّرات الضخمة لا يفهمونه ولا يستمعون إليه، ولو استمعوا إليه وفهموه لما استطاع المخالف منهم الردّ عليه؟
تصوّروا طبيباً في مستشفى أراد أن يلجأ إلى الاستشارة الطبّية في عملية جراحية، فلم يأتِ بناس من كبار الأطبّاء فيغلق عليه وعليهم باب الغرفة ويكلّمهم على مهل، بل جمع كلّ من في المستشفى من مرضى ومريضات وممرّضين وممرّضات وخادمين وخادمات، ثم ذهب يكلّمهم من فوق السطوح يسألهم: هل نخدّر المريض بالإبر أو بالمورفين؟ ونشقّ بطنه من الشّمال أم من اليمين؟ وهم يصيحون وينادون: يعيش الطبيب! فيكون صياحهم وهتافهم موافقة له على ما يريد.
والقائد الذي يُعِدّ خُطّة القتال، أيدرسها مع أركان حربه أمام مصوّره (أي الخريطة) أو يقرؤها على الجند كلهم وسط ضجّتهم وهياجهم؟
إن الشورى أن تأتي بأهل الحلّ والعقد وأصحاب الرأي والعلم فتعرض عليهم الأمر. وإن في الشام رجالاً أولي خبرة ورأي، وإن في مصر رجالاً أكثر منهم أولي رأي وخبرة. فما لرجال الشام لم يُسمَع لهم رأي ولا يُحَسّ لهم وجود، وما لرجال مصر، ومصر أم الرجال، لا يزالون متوارين بالأستار؟
إن مَثَلنا ومَثَل هذه الوحدة كمثل خمسة كانوا في زورق في نهر وأمامهم شلال منحدر خَطِر، وكانوا بحّارة بارعين، فرأوا جماعة من إخوانهم في مركب أكبر من زورقهم فقالوا: ما لنا نمشي متباعدين متفرّقين، والطريق واحد والخطر واحد والمقصود واحد؟ فتعالوا نتّحد جميعاً. وربطوا الزورق بالمركب وقالوا لرُبّانه: أنت رُبّاننا جميعاً، فاسلك بنا طريق السلامة وأوصلنا إلى البرّ الآمن. فقال: لكم ذلك عليّ.
ولكنه ما كاد يمشي بهم قليلاً حتى انحرف عن الطريق وابتعد عن الغاية ودنا من الخطر، فحاولوا أن يُرشِدوه فتوارى منهم، فصاحوا به فأعرض عنهم، فتكلّموا فسلّط جنده عليهم، فهمسوا فوشى جواسيسه بهم، وزاد فمدّ يده إلى أموالهم، ثم قيّدهم من أيديهم وأرجلهم، فسكتوا مُكرَهين، حتى أشرفوا على الشلال ورأوا الموت عياناً.
هنالك استطاع نفر منهم أن يُطلِقوا أيديهم من القيد، وأن يقطعوا السلسلة التي تربط زورقهم بالمركب، وأن يسارعوا إلى الابتعاد عن الخطر. فهل أجرموا في ذلك جرماً؟
* * *