الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-163 -
التفاصيل التي حبكت بها الصحف
الناصرية روايتها عن قتلي
أقدّم بين يدَي هذه الحلقة مقدّمتين.
الأولى: أنني لا أحبّ فيما أنشر وما أذيع أن أصل حلقة بحلقة، فلا يفهمها إلاّ من عرف سِباقها (أي ما كان قبلها) وعرف سِياقها، ولكنني قد أُضطرّ أحياناً كما اضطُررت الآن، فأرجو عفو القُرّاء عما دعاني إليه الاضطرار.
والمقدّمة الثانية: أنه سألني كثيرون: كيف وصل بك الكلام إلى عهد الوحدة والانفصال وقد تركناك في عشر الأربعين، أي في الأربعينيات؟ والجواب أنني صنعت مثلما صنع المسلمون في فتوح إفريقية، إذ وصل عقبة بن نافع إلى بحر الظلمات (البحر الأطلنطي أو الأطلسي) وقال كلمته الباقية العظيمة:"اللهمّ لولا هذا البحر لمضيت مجاهداً في سبيلك حتى أفتح الدنيا لنور الإسلام أو أهلك دونه". بلغ البحر، ثم عاد الجيش الإسلامي يسدّ ما ترك من فجوات ويُكمِل ما أجّل من فتوح حتى شمل الفتح الشمال الإفريقي كلّه.
وأنا قد مشيت في ذكرياتي هذه مع مناسبات الكلام، فتركت كثيراً ممّا كان ينبغي بيانه لأنني ابتعدت عن طريقه: بدأت الكلام على عملي في القضاء، وذكرت لما نُقِلت إلى محكمة دمشق ما أحدثت فيها من تعديلات أو أصلحت من إصلاحات (وإن كانت كلمة الإصلاح كبيرة عليّ)، فذكرت ما صنعت في الأعمال الإدارية ولم أكمل حديثي عن القضايا والمحاكمات. وبدأت الكلام عن رحلة المشرق ثم لم أكمله. وتركت حوادث كباراً منها ما يجاوز حدود السيرة الشخصية إلى التاريخ العامّ، فيمسّه مساً ويؤثّر فيه ولو من بعيد، كقصّة دخول الانتخابات سنة 1947 (1366هـ)، وعملي في وضع قانون الأحوال الشخصية ومشاركتي في غيره من القوانين. وأسأل الله أن يوفّقني إلى العودة إليها وإيضاح ما أغفلته منها، هذا إن كان في العودة نفع للناس ولم يضِق به صبر القُرّاء ولا صدر الجريدة التي تنشر هذا المقال الذي طال.
* * *
كنت أروي لكم في الحلقة الماضية خبر الكلمة التي ألقيتها في الرائي (التلفزيون) سنة 1961، وكانت هي أول عهدي بالتلفزيون الذي ارتبط -من بعد- حبلي بحبله وصرت من أهله. ونقلت إليكم فقرات منها ما كنت لأنقلها لولا أن لها صلة بتاريخ البلد، وأنها لم تُنشَر كاملة من قبل، إنما نُشرت فقرات منها في جريدة «الوحدة» أخذوها ممّا سمعوه مني في الرائي فسجّلوه صوتاً ثم كتبوه كتابة. وقلت لكم إن ذلك الحديث التلفزيوني إنما كان من أجل تكذيب ما زعمَته صحف عبد الناصر اللبنانية من أنني ذُبحت في داري، وذكرت كيف أن أهل بيتي أصبحوا يكلّمونني
فلا أردّ، فلما طال ذلك عليهم وحاروا في أمري قلت لهم إنني قد متّ لأن صحف عبد الناصر في بيروت قالت ذلك. وأُتِمّ الآن الكلام أمشي به من حيث وقفت في الحلقة الماضية.
* * *
ولمّا كانت صحف عبد الناصر في بيروت لا تكذب أبداً فأنا إذن قد متّ.
وأدفع هذه الجرائد إلى زوجتي وأقول لها: خذي اقرئي هذه الصحف. وتأخذ الجرائد فتقرأ التفاصيل بأن المعتدين صعدوا من العمارة المجاورة ونزلوا على سلّم الحريق يوم الإثنين الماضي وطعنوني بالسكاكين في بطني وفي خاصرتي وفي ظهري. فتقول: ولكن هذا كله لا أصل له لأنه ليس إلى جانبنا عمارة، ونحن نسكن (أي كنا في تلك الأيام نسكن) في الجبل، ما حولنا إلاّ منازل فقراء ما فيها إلاّ غرف قليلة من الطين، وكلها من طبقة واحدة مثل دارنا، بل ليس في البنايات المحيطة بنا من دارنا إلى أربعين بيتاً من كل جهة من الجهات الأربع سلّم للحريق! ثم إنك كنت في ذلك اليوم الذي زعموا الاعتداء عليك فيه، كنت في مَضايا ولم تكن في الشام (أي في دمشق).
قلت: هذا لتعلمي قيمة هذه الدعاية وهذه الشائعات. إن من الناس من حلف بالطلاق (سمعت ذلك بأذني في الترام والمتكلّم لا يراني، بل ربما لم يكن يعرفني) حلف أنه مشى في جنازتي! وآخر حدّث بالقصّة وزعم أنه هو الذي قبض على الثلاثة الذين اعتدوا عليّ وقتلوني وسلّمهم إلى الشرطة!
على أني لا أفهم: لماذا يكون الاعتداء عليّ؟ وما الذنب الذي أذنبتُه وما الجناية التي جنيتُها؟ ألهذه الكلمة التي كنت قلتها في الإذاعة؟ أنا أخطب وأكتب من أواخر العشرينيات من هذا القرن، فما وجدت لكلمة كتبتها أو لخطبة ألقيتها من الاستحسان عند الناس، ولم يَرِدْ عليّ من التهنئات على مقالة أو محاضرة مثل ما ورد عليّ بعد هذه الكلمة.
ولقد أشاعوا أنني أخذت عليها عشرة آلاف، وأنا والله لم آخذ عليها كلها قرشاً واحداً، حتى المكافأة المقرّرة لحديث الإذاعة ولخطبة الجمعة التي تُذاع منها لم آخذها. ثم إنني لم ألقَ إلى الآن أحداً من الضبّاط الذين قاموا بهذا الانقلاب. ثم إنني لم أُسِئ فيها الأدب مع سيادة الرئيس عبد الناصر.
لم أكن من الذين مدحوه لمّا كان في سلطانه، فلما زال السلطان عنه عادوا يذمّونه؛ يلبسون جلد الحرباء التي تتلوّن بلون المكان الذي تكون فيه. بل إنني هاجمته لمّا كان في سلطانه، فلما زال السلطان لم أشتمه مع من شتم ولم أهجم عليه فيمن هجم، ولم أذكر إلاّ بعض الوقائع الصحيحة بلهجة مؤدّبة. فلماذا يُعتدى عليّ؟
ثم إنني
…
ها أنَذا أمامكم ترونني بأعينكم. فمن هو الذي مات إذا كنت أنا الميت أمامكم؟ لا تكونوا كصاحب البارومتر الذي صدّقه وكذّب المطر! فإن قلتم (على طريقة مؤلّف كليلة ودمنة): وكيف كان ذلك؟ أقول لكم: زعموا أنه كان عند واحد من الناس بارومتر (مقياس للضغط) اشتراه من البسطة المبسوطة
على الأرض، وكان قديماً خَرِباً لا تتحرّك إبرته، ولكنه دأب على النظر فيه كل يوم. فنظر يوماً فإذا البارومتر يشير إلى أن الجوّ صحو، وكان اليوم يوم غيم. فقالت له امرأته: يا أبا فلان خذ المظلّة (1) فقال: يا امرأة، الميزان يقول إن اليوم صحو وأنا أصدّق الميزان. وخرج ونزل المطر وهو لا يصدّق، وابتلّ ثوبه ووصل الماء إلى جسده وهو لا يصدق المطر، لأنه صدق الميزان!
هذا مثال من يقبل هذه الدعايات ويُنكِر الواقع. ها أنَذا أمامكم. ولكن أرجوكم أن تجيبوا على سؤال خطر الآن على بالي، أرجو أن يكون في طرحه نفع لكم: هل ترونني حقيقة؟
أنا والله لا أرى أحداً منكم. أنا هنا محصور في مكان مُغلَق، حولي آلات تصوّر، في موقف صعب. ولو كنت في مجلس أجد مَن أحدثه ويحدثني لهان الأمر، ولو كنت على منبر أخطب أرى السامعين ويرونني لسهلت القضية، ولكنني في بهو كبير حولي آلات، أمامي أخوان يحدّقان فيّ كأنني في امتحان وهُما من الهيئة الفاحصة، فأنسى نصف ما في ذهني! وهذه الأضواء القوية، أعوذ بالله، مسلّطة على عينَيّ فلا أستطيع أن أفتح عينَيّ. كأنني في موقف الاستجواب الذي نراه في الأفلام الأميركية، فأنسى النصف الباقي ممّا أعددتُه!
كيف ترونني؟ إذا كنتم ترونني حقيقة فخافوا من الله، وإذا كنت أنا وراء هذه الأبواب المغلَقة ووراء هذه الجدران الغليظة
(1) إن كانت للشمس فهي مظلّة أو شمسيّة، وإن كانت لدفع المطر فإن ما يدفع المطر يسمّيه العرب «المِمْطَر» .
لم أستطع أن أختفي منكم وأتوارى عنكم، وأنتم بشر مثلي
…
وإذا كان العقل البشري المخلوق استطاع أن يكشف هذه الخفايا لكم أنتم حتى إنكم لترون كلّ شعرة في رأسي وتسمعون كل رجفة في صوتي، فكيف تتوارون من الله وتغلقون أبوابكم وتأتون المعاصي، وتحسبون أن الله لا يراكم؟
أُهدِيَ إليّ شريط مسجّل لما ذهبت لألقي محاضراتي في الكويت منذ خمس سنين (أي سنة 1956). وكنت قد تركته لأنه لم يكن عندي يومئذ آلة تسجيل، فاستعرتها أمس من صديق لي ووضعت الشريط فيها وأدرتُه، فسمعت الكلام الذي كنت قلته يومئذ. أفليس ذلك عجيباً؟ لو قيل لأكبر عالِم من علماء الطبيعة قبل مئة سنة إننا نستطيع أن نستبقي صوتَ المغنّي في أغنيته والخطيب في خطبته، ثم نعيد سماعه متى شئنا ولو مات صاحبه، لجُنّ العالِم أو لحسبَنا نحن المجانين. لمّا خطب غامبتا (فيما أذكر) في رثاء لاشو وصف مرافعاته العظيمة وقال: لو كان من الممكن أن نحفظها لتسمعها الأجيال الآتية ليعرفوا سرّ بلاغته وأسباب عظمته. ولكن هيهات
…
إن ذلك مستحيل!
لقد سمعت في هذا الشريط لحنة وقعت مني ظننت أني نسيتها وأن الناس نسوها، فإذا أنا أسمعها الآن بعد خمس سنين، وربما سُمعت بعد مئة سنة! سجّلها هذا الشريط وهو شريط مخلوق وسُمعت في هذه الدنيا، فكيف يا إخوان، كيف بشريط الملكَين الذي يسجّل عليكم كل همسة وكل كلمة، ولا يضيع من ذلك شيء؟ أحصاه الله ونسيتموه.
كنت أرى في السينما فِلْماً مدرسياً يصوّر التلاميذ الصغار وهم في الامتحان، فإذا تلميذ من التلاميذ راقب غفلة من المعلّم فنظر في ورقة جاره ليسرق منها كلمة، يظنّ أنه لم يرَه أحد، وإذا بالمسكين افتُضح في كل دار سينما يُعرَض فيها هذا الفلم من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. تصوّرت فضيحة هذا الولد فذهب خيالي إلى الفضيحة الكبرى على رؤوس الأشهاد عند الله، يوم تُنشر الصحف وتُعرض «الأفلام» التي سَجّلت كل ما عملناه في هذه الحياة الدنيا.
تلك الفضيحة، لا فضيحة التلميذ الذي غشّ بين أهله ورفاقه. يوم تشهد علينا أيدينا وأرجلنا وأبصارنا: ما أنكرناه بألسنتنا تُقِرّ به هذه الألسنة، وما اجترحناه بأيدينا تشهد علينا به هذه الأيدي، والرجل الذي يمشي إلى حرام تشهد عليه رجله إن أنكر لسانه.
لقد تعجّب الذين نزل عليهم القرآن: كيف تنطق الأيدي والأرجل؟ فجاءهم الجواب: بأنه أنطقها الله الذي أنطق كل شيء. قلت لكم من قبل (لأبيّن لكم أثر المدرّس الصالح في صلاح التلاميذ والمعلّم الفاسد في إفسادهم) إنه جاءنا ونحن صغار في المدرسة الابتدائية في أعقاب الحرب الأولى (سنة 1918) معلّم جعل يسخر من شهادة الأيدي والأرجل، يقول لنا: انظروا، هل لليد لسان حتى تنطق؟ هل للرِّجل فم حتى تتكلم؟
فأدخل واللهِ الشكوك علينا وكاد يؤثّر في إيماننا، ولكن الله سلّم. وعشنا حتى رأينا الشريط الجامد يتكلّم، وهذا الصندوق
الذي لا حياة فيه (أي الرائي) يتكلّم. فهل الذي جعل هذه الجمادات تتكلّم بأفصح لسان يعجز عن إنطاق اليد والرجل يوم القيامة؟
أنا لا أريد أن أجعل هذا الحديث وعظاً فيثقل على نفوسكم، والوعظ ثقيل. الله سَمّاه بذلك حين قال:{إنّا سَنُلقي عليكَ قَولاً ثَقيلاً} ، ثقيل لأنه يصرفك عن بعض لذّات نفسك ومطالب هواك. وكل أمر نافع في الدنيا ثقيل؛ كلام الطبيب الذي يدعوك إلى الدواء المُرّ والحمية عن الطعام المشتهى ثقيل، والانصراف إلى الدرس قُبَيل الامتحان وترك الفِلْم المعروض في الرائي والقصّة الدائرة في المجلس ثقيل، وكل أمر فيه جِدّ ثقيل لأن النفوس تميل إلى السهل دون الصعب، والانطلاق دون التقيد، وتحبّ الحرّية.
وإن كانت الحرّية المطلقة لا تكون إلاّ للمجانين: المجنون هو الذي يعمل كل ما يخطر على باله، يبسط فراشه في الشارع فينام بين السيارات، ويأخذ ما يريد من مال الغنيّ وما يشتهي من الثمرات من غير أن يدفع الثمن، ويريد النجاح في الامتحان من غير أن يجدّ ويدأب. الجنون هو الحرّية المطلقة، أمّا العاقل فإن عقله يقيّده. أوَليس ««العقال» في اللغة هو القيد؟ و «الحِكْمة» ، أليست من حَكَمة الدابة (1)؟ والحضارة، أليست قيداً تقف فيه الحقوق عندما تصطدم بالواجبات، وتنتهي فيه حرّيتك في أرضك حين تبدأ حرّية جارك في استعمال أرضه؟
(1) أي أن كلمة الحِكْمة مشتقَّة في اللغة من «الحَكَمَة» ، وهي الحديدة التي تكون في فم الفرس. وقد يُطلق اسم «اللِّجام» عليها دون السُّيور التي تُشَدّ بها، وقد يكون اللجام هو هذه الحديدة وما يتصل بها من سُيور (مجاهد).
فلا بدّ من الوعظ، فلماذا نهرب منه ونخشاه ونبتعد عنه؟ على أنني إنما أقول لكم كلمة حقّ، من شاء أن يقبلها قبلها ومن شاء أعرض عنها فلم يسمعها: اذكروا ربكم حين تسمعون الحديث من الإذاعة وتُبصِرون المسرحية في الرائي. لقد سجّل علينا في الدنيا العمل والقول، فإذا جاء الممثّل يُنكِر ما قاله أو ما فعله ألزمناه الحُجّة بهذا الشريط. أفلا يذكّركم ذلك بالشريط الذي سُجِّل فيه عليكم كل عمل عملتموه؟ {لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، ووَجَدوا ما عَمِلوا حاضِراً} ؛ حاضراً أمامهم يُعاد عليهم فيرون ما صنعوا ويسمعون ما قالوا، فمَن يستطيع يومئذ أن ينكر شيئاً ممّا قال أو فعل؟ على أن هذا الشريط يمكن أن يُمحى. شريط المسجّلة يمكن أن تكبس على زرّ في الآلة فيعود فارغاً لا شيء فيه ويُمحى ما سُجّل عليه، فهل يُمحى شريط أعمالنا قبل يوم القيامة؟ الشريط الذي سجّله علينا المَلَكان؟
نعم، إنه يُمحى ومَحْوُه أسهل. يُمحى -يا أيها الإخوان- بالتوبة الصادقة. فتوبوا إلى الله، توبوا أيها المسلمون. والتوبة أول شرط فيها أن تترك الذنب، فإن التائب من الذنب والمقيم عليه كالمستهزئ بربّه، أستغفر الله. ثم تنوي أن لا تعود إلى مثله. وإن كانت التوبة من حقوق العباد فلا بُدّ من أداء الحقّ إلى صاحبه أو أن يسامحك به صاحبه.
ولا يقُل أحد إن ذنوبي كثيرة، فإن التوبة الصادقة تمحو كلّ ذنب ولو كان الكفر. ليس في الذنوب شيء لا يُمكِن التوبة منه. الذين ارتدّوا وكفروا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام لما رجعوا إلى الله رجع عفو الله إليهم. أما قرأتم قوله تعالى: {قُلْ يا عِباديَ
الذينَ أسرفوا على أنفسِهِمْ} لم يقُل أذنبوا بل أسرفوا على أنفسهم في الذنوب وأكثروا منها، ومع ذلك فقد قال لهم:{لاتقنَطوا مِن رحمةِ اللهِ} مهما كثرت الذنوب فإنها تُمحى بالتوبة: {إنّ اللهَ يغفِرُ الذّنوبَ جميعاً} .
فيا ناس، لا تغترّوا بالدنيا. اعملوا للدنيا فإن الإسلام يأمر بالعمل، يأمرنا أن نكون أغنياء وأن نكون أقوياء وأن نجمع المجد والعلم من أطرافه كله، على ألاّ ننسى الآخرة:{وابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدّارَ الآخِرةَ ولا تَنْسَ نَصيبَكَ مِنَ الدّنيا} ؛ فلا ننسى الدنيا إذا انصرفنا إلى العبادة ولا ننسى الآخرة إن أقبلنا على الدنيا.
تقولون: لقد صار حديثك مواعظ. وما المانع من أن يكون حديثي مواعظ؟ وهل المواعظ مذمومة مرذولة؟ وهل نُمضي الحياة كلها في لهو ولعب؟ وهل نجعل الدنيا أكبر هَمّنا؟ هذه الدنيا لا تدوم، لا يدوم فيها شيء. هل دام على غنيّ غناه؟ هل دام على فقير فقرُه؟ أما يفتقر الأغنياء؟ أما يغتني الفقراء؟ أما يذلّ الأعزّة؟ أما يعزّ الأذلّة؟
بالأمس كان في هذه المدينة رجل جبّار من الجبابرة يتسلّط على كل شيء ويمدّ نظره ويده إلى كل بيت، وكان يظنّ ويظنّ سيّده هناك أنهما شاركا الله في مُلكه. أين هذا الرجل اليوم؟ إنه في السجن، وكان بالأمس على كرسي الحكم (1). هذه هي الدنيا، فبئس الرجل الذي يجعلها أكبر هَمّه.
(1) ذلك هو عبد الحميد السرّاج، الذي كان قبل الوحدة رئيساً للمخابرات وصار بعدها وزيراً للداخلية، فكان الرجل الأول في الإقليم الشمالي =
ثم يمضي كل ذلك ويطويه الموت، ثم يكون بعد الموت نشرٌ وقيام بين يدَي ربّ العالمين، فاذكروا (وأذكر أنا معكم) ذلك اليوم الذي نقوم فيه بين يدَي ربّ العالمين.
يا أيها الناس ارجعوا إلى ربّكم.
ولربما سألني سائل: ماذا كان شعورك لما سمعت تلك الشائعات؟ هل تظنّون أنني سُررت وفرحت بهذه الشهرة التي حصّلتها إذ يتحدّث الناس كلهم عني ويذكرون اسمي؟ إن الشهرة يطمح إليها الشبّان، بل ربما سُرّ بها كل إنسان. ولقد سعيت إليها من قديم كما سعى لِداتي وإخواني وكما يسعى الناشئون جميعاً، ولكني لما رأيتها زهدت فيها. إنني لا أجد مثلاً لها إلاّ السراب؛ أنتم لا تعرفون هنا السراب ولكنني عرفته لمّا رحلت رحلتي في الصحراء من دمشق إلى مكّة المكرّمة. يبدو من بعيد كأنه بِركة ماء، كأنه بِركة حقيقية، فإذا جاءه الإنسان لم يجد إلاّ التراب. لا يكون ماء إلاّ من بعيد. وكذلك الشهرة، تحسبها من بعيد شيئاً ممتعاً، فإذا وصلت إليها لم تلقَ فيها متعة.
= (سوريا) طَوال ذلك العهد. وقد اشتهر بأنه الرجل الذي حوّل سوريا إلى سجن كبير وصنع في الشام ما لم يجرؤ المحتلون الفرنسيون على صنع مثله من قمع وسجن وتعذيب ومطاردة للحريات. بقي الرجلَ القوي في سوريا لمدة ست سنوات حتى قُبض عليه يوم العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1961، بعد الانفصال بأقل من أسبوعين، وأودع في سجن المزة الذي طالما أذاق فيه الناسَ العذاب، ثم هرّبته مخابرات عبد الناصر إلى مصر. وقد مرّ بكم خبر لقاء علي الطنطاوي به في الحلقة 156 من هذه الذكريات (مجاهد).
أنا من سنين طويلة معتزل مغلق عليّ بابي، لا أكاد ألقى أحداً ولا أُزار ولا أزور. فما الذي ينفعني إذا كان يذكرني الملايين؟ وما الذي يضرّني إذا لم يذكروني أو لم يعرفوني ولم يعلموا بوجودي؟ وما الذي يفيدني إذا مدحوني؟ وما الذي يضرّني إن ذمّوني؟
إن شعوري لمّا سمعت هذه الشائعات أنني تمنّيت على الله لو أنها كانت صادقة. كنت أمضي شهيداً، وهل أطمع بشيء أعظم من الشهادة؟ ولكن الله لم يُرِدْها لي. فإذا كنتم تريدون أن تكافئوني على أحاديثي وأحببتم أن تنفعوني فأنا لا أريد أموالكم، فعندي من المال ما يكفيني، ولا أريد من جاهكم، ولكني أريد دعوة صالحة من واحد منكم بظهر الغيب إذا قام في السحَر أو قعد بعد الصلاة وتوجّه قلبه إلى الله، فليدعُ لي دعوة صالحة.
هذا الذي أبتغيه منكم، وأسأل الله أن يوفّقني ويوفقكم لِما فيه الخير لي ولكم، والسلام عليكم.
* * *
وكنت أنشر في جريدة «الأيام» عند صديقنا الأستاذ نصوح بابيل بعنوان: «كل يوم خميس مقالة» ، فكان ممّا قلته في مقالة نُشرت في الشهر الحادي عشر من سنة 1961 (وقد قطعت المقالة ولم أقطع معها رقم العدد ولا تاريخ اليوم)، كان ممّا قلت فيها رداً على جرائد عبد الناصر في بيروت (1):
(1) هذا الجزء من الحلقة من هنا إلى آخرها هو تتمة مقالة «جواب واحد على 47 رسالة» ، وقد مرّ بكم أكثر المقالة في الحلقة 159، لكنها قُطعت هناك في آخر الحلقة فجاءت تتمتها هنا (مجاهد).
على أني ما أدري ماذا يريد منّا هؤلاء الذين أقاموا من أنفسهم أوصياء علينا؟ ماذا يريد هؤلاء الذين يكتبون في جرائد عبد الناصر في بيروت؟ هل يريدون أن نبقى حتى يُعتقَل كل غنيّ فينا لأنه غنيّ، فيُجرّد من ماله ويُحرَم من حقوقه المدنية وتُنتزَع حُلِيّ نسائه من أيديهن؟ هذا ما وقع في سوريا وفي مصر أيام عبد الناصر، والحبل جرّار، ولسنا ندري ماذا ينزو غداً في رأس الحاكم بأمر الله الذي رجع يحكم مصر مرّة ثانية! أكان هذا ما يريدونه لنا؟ إذا كان هذا في رأيهم خيراً فلماذا لا يختارونه لأنفسهم؟ لينضمّوا إلى عبد الناصر، ونحن نضمن لهم أن يقبلهم وأن يُدخِلهم جنّته الديمقراطية الاشتراكية، التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعَت من التعذيب والإرهاب.
أنسيتم يوم كان في كل خمس أُسَر أسرة أُخذ واحد من أبنائها، اعتقلوه سنين وأهله لا يعرفون مكانه ولا يدرون أهو حيّ أو هو ميت؟ يوم كان حكامنا أعداءنا، بل كانوا يعملون بنا ما لا يعمله أعدى أعدائنا. إن أحبّوا ذلك فليختاروه لأنفسهم، أمّا نحن فقد اخترنا لأنفسنا ونحن أعرف بمصالحنا، ما حجر القاضي علينا لنتخذهم أوصياء لنا.
أمّا الطلاّب والطالبات الذين كتبوا إليّ فلهم من حفظ دروسهم وكتابة وظائفهم -لئلاّ يتعرّضوا لفَلَق المعلّم (أي فَلَقَته) - شاغل عن السياسة وأهلها. ومتى كان أولاد المدارس يوجّهون سياسة البلد؟
أما الذين ظنوا أني صرت سياسياً وانضممت إلى موكب أهل
الحكم فهم على خطأ؛ فأنا لم أكن من أهل السياسة ولن أكونه إن شاء الله. وما أنا من فئة ولا حزب، أنا من حزب الله وأنا أخو مَن أطاع الله. كل من سلك سبيل الله وعمل على طاعته ونُصرة شريعته من الحاكمين والمحكومين فأنا معه جندي مطيع، لا أبتغي أجراً إلا من الله، وكل من خالف عنها وعمل بالمعاصي وحارب الله ورسوله فأنا عليه فدائي متطوع، لا أخاف -إن شاء الله- إلا الله.
وما قابلت -والله- من الحاكمين اليوم ولا من الضباط الثائرين أحداً. ما لقيتهم لقاء فضلاً عن أن آخذ من دنياهم أو أن أنال المكافآت منهم كما زعم هؤلاء المرجفون. وما زرت أحداً منهم لا مهنّئاً ولا طالب حاجة، وما لي بحمد الله حاجة إلى أحد منهم. والذين كانوا وزراء من قبلهم كنت أعرف أكثرهم، وكان فيهم اثنان من أصدقائي وواحد من رفاقي في المدرسة واثنان من تلاميذي، فما زرت واحداً منهم ولا سألته حاجة لنفسي.
وذلك دأبي في الحياة كلها، حتى إن وزارة العدل (وهي إلى جنب محكمتي) لا أدخلها إلا نادراً، والبناء الجديد فيها ما دخلته إلى الآن. ولقد تولاها ثلاثة لم يكونوا من أصدقائي فقط بل كانوا عندي بقرب إخوتي من أبي وأمي، هم منير العجلاني ومصطفى الزرقا ونهاد القاسم رحمه الله، رتّبت أسماءهم على ترتيب تولّيهم الوزارة وسمّيتهم بأسمائهم فقط لأنها من الأسماء التي تقوم وحدها، لا تحتاج إلى أن تسندها بالألقاب كما تسند المريض بالعصيّ. فكنت أبتعد عنهم وهم في الوزارة، فإذا زالت عُدت إلى صلتي بهم. ذلك لأني تعوّدت أن أصادق الرجال لا الكراسي. والحاكمون يعلمون أني لا أسكت عن إنكار المنكَر إذا
جاء منهم ولا أقول للحرام إذا فعلوه هو حلال إكراماً لهم.
لقد كنت أوّل رجل في سوريا تكلّم جهراً في المجامع في إنكار ما كان أيام الوحدة، أيام الإرهاب، خوفاً من أن نتعرّض بسكوتنا جميعاً إلى عذاب جهنّم. أفأدعُ الآن الإنكار وقد زال الإرهاب؟ إن دين الله أعزّ عليّ من أن أضيعه في المجاملات، والله أكبر في قلبي من أن أُسخِطه لرضا مخلوق مهما بلغ من السلطان. وأسأل الله أن يثبّتني على الحقّ.
* * *