الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-169 -
جمال يعجز عن تصويره البيان
قلت لكم إني سأقصر الحديث على ثلاثة مشاهد في جوكجا (جوكجاكرتا) وهي: المدينة القديمة، وزيارة الملك، ودار المعلمين.
أما المدينة القديمة فقد جلوت لكم صورة مصغّرة لها. وأما زيارة الملك فقد كانت في يوم عطلة، ولكن السلطان تفضّل فنزل إلى مكتبه في ساعة الموعد لنتشرّف بلقائه، وكان المكان كله خالياً فانتظرْنا دقائق في غرفة الناموس (السكرتير)، ثم أخذونا إليه في دار واسعة كأنها إحدى الدور الشامية القديمة، فتلقّانا عندّ الباب شاب صغير السن أسمر اللون ببذلة بيضاء، وقادنا إلى كراسي مصفوفة في رحبة الدار، فقعدنا نتحدّث والمترجم يسفر بيننا. وقدم لنا الشاي فشربناه، وطال المجلس ومللنا الانتظار، فقلت للترجمان: ما هذا التعقيد في مراسم الاستقبال؟ ومتى ندخل على السلطان؟ فابتسم ولم يتكلّم، فاستفهمَه الشابّ، فقال له بعد تردّد كلاماً ضحك منه ضحكة مجلجلة وضحك الحاضرون. ولبثت أنا وصاحبي واجمَين لا ندري ما الحكاية، فأدرك ذلك الشابّ، فقال شيئاً لمّا فهمناه من المترجم عرفنا سرّ الضحك، قال: إنه يأسف
لأنه لم يعرّفنا بنفسه
…
وإذا هو السلطان بلحمه ودمه!
وقد وقع لنا مثل هذا بالضبط لمّا زرنا سلطان بهاولبور في باكستان. وما ذنبنا نحن إذا كنا نرى صورة السلطان على الجدار وهو مُثقَل بالتاج المرصّع وعقود اللؤلؤ التي تملأ العنق والأوسمة التي تستر الصدر، ثم نرى أمامنا شاباً أسمر صغيراً لا يختلف في مظهره عن واحد منّا نحن عباد الله الصعاليك؟ وثقوا أني لم أدرِ من الخجل كيف أودّع هذا الملك العظيم حقاً، العظيم بإصلاحه ودينه وحبه للعلم. أما قلت لكم إنه أهدى قصره كله وفيه سدة ملكه هدية للعلم، لتكون فيه كلّية الطب؟ العظيم بأصله وتواضعه، هذا التواضع الذي دفعه أن يمشي معنا مودّعاً إلى الباب.
أما المشهد الثالث فهو دار المعلّمين التابعة للجمعية المحمدية. هل قلت إنها مدرسة؟ إذن أعتذر، فما هي مدرسة بل هي حي كامل، وليست تابعة لوزارة المعارف بل هي مؤسسة خاصة، أنشأتها «الجمعية المحمدية» لتُخرج معلّمين لمدارسها.
الجمعية المحمدية أسسها الحاج أحمد دحلان سنة 1912، وكانت يوم زرنا أندونيسيا أكبر جمعية تعليمية في الشرق كله، بل ربما كانت أكبر جمعية في العالَم للتعليم؛ كان أعضاؤها نحو مئتي ألف، وكان لها ألف وخمسمئة مدرسة وسبعمئة مستشفى وثلاثمئة دار للأيتام، ولها دار لتخريج المعلمين لمدارسها دهشت من سعتها وكثرة طلابها وضخامة بنائها.
لقد عملت هذه الجمعية لنشر العلم ما لم تعمله جمعية في الدنيا، وهي تعلّم اللغة العربية، وخرّيجوها يُتقِنون العربية
الفصحى قراءة وكتابة وفهماً، ويُحسِنونها كلاماً باللهجة الحضرمية. وللحضارمة فضل كبير في نشر العربية والإسلام في هذه البقاع. ولهذه المدرسة قصّة فيها قدوة للعاملين وعبرة للمقصّرين، بدأَت سنة 1920 حين عزّ على الجمعية أن تجد ما تريد من المعلمين لمدارسها، ففكّرت في أن تأخذ نفراً من نابهي الطلاّب ونابغيهم فتُعِدّهم ليكونوا معلمين، وفرّغت لهم غرفة في مدرسة من مدارسها، فما زالت الغرفة تلد غرفة والغرف العشر تلد عشراً، حتى صار من ذلك دار معلمين قلّ نظيرها، بقينا فيها ثلاث ساعات نرى قاعاتها ومهاجعها ومكتبتها وملاعبها، ولولا العطلة لرأينا دروسها وطلابها.
ولقد هُدمت هذه الدار بعد أن اكتملت، وذلك سنة 1945 عند النكسة، حين خرّب المجاهدون الوطنيون كل بناء كبير لمّا انسحبوا لئلاّ يحتلّه الإنكليز والهولنديون ويتخذوه معقلاً وحصناً. فلما كان الاستقلال وكان الاستقرار أعادتها همم هؤلاء الرجال أعظم ممّا كانت.
وزرنا مكتبة في جوكجا تضمّ أربعين ألف كتاب عربي، ومسجدها العظيم مسجد الشهداء الذي بنته أيدي أبناء مدينة جوكجا، مدينة الدين والعلم والأمجاد والبطولات، المدينة التي ملأ قلبي الإعجابُ بها وبملكها وبماضيها وبحاضرها. فعلى ذلك البلد الطيب، وعلى ملكه الشابّ المصلح المتواضع، وعلى أهله المجاهدين الأخيار، سلام الله وبركاته.
* * *
وكانت المدينة الثالثة الكبيرة التي زرناها في جاوة هي سورابايا.
ركبنا القطار من جوكجا، فمرّ بنا على مشاهد ليست لها روعة المشاهد التي رأيناها بين جاكرتا وجوكجا، وجاز بنا نهر صولو، وهو أوسع نهر رأيته في جاوة، ومدينة صولو وكانت فيها دورة ثقافية من دورات «شركة إسلام» التي سيأتي الحديث عنها. و «شركة إسلام» (أي الجمعية الإسلامية) هي أم الجمعيات والأحزاب الإسلامية كلها في أندونيسيا؛ أنشأها سنة 1910 الأستاذ الأكبر الذي شقّ للناس هذا الطريق والذي قادهم إلى العمل، عمر سعيد شكرو أمينوتو.
وصلنا سورابايا العشية، وبدأت سلسلة التعذيب، أعني البرنامج الرسمي الذي وضعوه لرحلتنا، جعلوا وقتنا كله أوزاعاً بين الحفلات والاجتماعات والزيارات والمحاضرات والمؤتمرات الصحفية. تجتمع بالناس وأنت تشتهي العزلة والانفراد، وتُدعى إلى الكلام وأنت تؤثر الصمت، وتبسم لأناس لم تعرفهم عمرك كله ولم ترَهم، وتأكل وأنت شبعان، وتسهر وأنت نعسان
…
وأشياء من هذه البابَة (أي من هذا القبيل). فتصوّروا ماذا كانت حالي وأنا الذي عاش عمره بعيداً عن هذه الاجتماعيات كلها، قد حلّ عن نفسه قيودها وأسقط عنه تكاليفها، فلا يستقبل إلاّ من يسرّه استقباله ولا يزور إلاّ من يحبّ زيارته، ولا يجيب دعوة رسمية أبداً ولا يكاد يدعو إلى مثلها أحداً، ولا يأكل إلاّ إذا جاع ولا ينتظر بالطعام أحداً وهو جوعان.
هذا ما عشت عليه، فحفظت به وقتي وأرحت نفسي. وأنا رجل أعرف ربع أهل بلدي ويعرفني نصفهم، فلو أني ألزمت نفسي تهنئة كل مسرور وتعزية كل مصاب، واستقبال كل قادم ووداع كل مسافر والتهنئة بكل عيد، لما بقي لي وقت أكتب فيه ولما كان لي شيء من هذه الكتب وهذه الخطب وهذه المحاضرات. وصار لي ذلك طبعاً لا تطبّعاً، فلما كانت هذه الرحلة واضطُررت إلى القيد بعد الانطلاق وصرت أُقاد بعد أن كنت أنا الذي يقود، أحسست أني في سجن!
وصلنا سورابايا العشيّة. وكانت قد مرّت بي ليلتان لم أنَم فيهما كلتيهما خمس ساعات، وكان جسدي محطّماً من هزّ القطار وأثقال الغبار، وأعصابي مرهَقة من طول السفار، فلم أكن أشتهي إلاّ أن أستحمّ ثم أُترك لأنام، ولكن أين مني المنام؟ لقد كان علينا أن نحضر حفلة عشاء بعد ساعة واحدة، فمشينا إليها، وتكلّمت فيها، ثم قمت لأجيب على أسئلة السائلين عن قضية فلسطين التي جئنا من أجلها، ثم شيّعَنا قوم منهم إلى الفندق تكرمة لنا وعناية بنا، فما انصرفوا عنّا حتى كان قد مضى أكثر الليل.
وأعيدت القصّة نفسها بفصولها الليلة التي بعدها، وخرجت من غرفتي فوقفت في حديقة الفندق الكبير أنتظر الشيخ، وكانت السيارة ومن فيها بانتظارنا، فوجدت في طرف الحديقة في بقعة مظلمة منها لا تُرى كرسياً مستطيلاً من الخيزران فاستلقيت عليه، وإذا هو قد جُعل على استواء ظهر الإنسان، كأنما قد فُصّل له قالب بالجبس على مقداره ثم صُبّ فيه هذا الكرسي، فله عند العنق مثل الوسادة وله بروز عند الصُّلب وانحناء عند العجيزة،
يستريح عليه كل عضو من الأعضاء، فتمنيت أن أنام ساعتين أدفع ثمنهما ألفين، وكدت أُغفي من اللحظة التي لامس فيها رأسي وقلت: يفتّشون عني فلا يرونني فيمضون ويدعوني. ثم قلت لنفسي: لا يا ولد، اصبر وقم فإنك ما جئت من الشام إلى آخر جاوة، إلى سورابايا، لتنام بل لتعمل.
وقمت كالمحكوم يُساق إلى التنفيذ، وطالت الأسئلة تلك الليلة، ومضى هزيع من الليل ولم يعُد في طاقتي القيام على قدمي فاعتذرت وذهبت، وإذا هم يعتبون ويتألمون.
والقوم في أندونيسيا أرقّ الناس نفساً وأرهفهم حساً، لا يحتملون شدة ولا عنفاً. ولقد لُمتُ السائق مرّة على ذنب أذنبه ورفعت صوتي عليه فبقي أياماً حزيناً. وما سمعت في أندونيسيا ضجّة أبداً، فالشوارع تكاد تكون هادئة والكلام يكاد يكون همساً، وما رأيت فيها «خناقة» .
والخناقات في الشوارع مقياس أعصاب الأمم؛ ففي بغداد تبدأ الخناقة فيكون للسبّ والشتم عشرون ثانية فقط ثم يكون سلّ الخناجر، وفي دمشق يستغرق السب دقيقتين ثم يكون اللطم واللكم وضرب الكراسي، وفي القاهرة يستمرّ السبّ والتهديد نصف ساعة ثم لا يكون شيء، وفي أندونيسيا لا يكون سبّ أبداً، لأن لغتهم -كما بدا لي- خالية من ألفاظ السبّ!
وجلنا في سورابايا ورأينا كل شيء فيها فإذا آثار التخريب في كل مكان، لا سيما في العمارات الكبيرة التي خّربها الوطنيّون بأيديهم لئلاّ يتخذها المستعمرون معاقل لهم في هجومهم. وقد كانت
سورابايا إلى ما قبل الاستقلال أكبر مدن جاوة، فلما صارت جاكرتا (باتايا) العاصمة وثبت فجأة حتى صارت من مدن العالَم الكبار.
والعرب في سورابايا كثيرون ولهم مدارس كثيرة، وفي سورابايا مساجد واسعة عامرة بالمصلّين، ولقد بلغَت المساجد في أندونيسيا قبل زيارتي إياها بسنتين، بالإحصاء الرسمي، مئة وخمسة وسبعين ألفاً ومئة وستة عشر مسجداً، وبلغت المعاهد الدينية أربعة عشر ألفاً وستمئة وستة وتسعين معهداً.
* * *
كانت أيامنا في سورابايا حركة دائمة كأننا في قطار سريع لا يقف ولا يتمهل.
أخذونا يوماً نرى أطراف البلد وداروا بنا حتى دار بي رأسي، فتركتُهم مرّة يصعدون درباً صخرياً في جبل يزورون فيه مسجداً قديماً وتسللت إلى رحبة مكشوفة على جنب الطريق، وكانت أوائل الليل قد غطّت على تلك المشاهد الفواتن، فلم أكن أرى إلاّ ذُرى الأشجار من تحتي تبدو من خلالها سطوح القرية النائمة في حضن الجبل، ووجدت حجارة مصفوفة فقعدت على واحد منها. وكنا في أعقاب العيد، وكانت الرحلة قد امتدّت بي شهوراً طِوالاً، فذكرت بلدي وبناتي، وكان بيني وبين بناتي ربع محيط الأرض، فاستشعرتُ الوحدة والضيق. وتنبّهت فإذا هذه الحجارة التي قعدتُ على أحدها قبور وإذا أنا في مقبرة القرية، فازددت وحشة وضيقاً، وثَقُلَت عليّ هذه الغربة وهذه الوحدة وأحسست كأن قلبي يذوب من الشوق حتى لَيقطر دموعاً من عيني. وإني
لفي هذه الغمرة وإذا بي أسمع الأذان، أذاناً عربياً فصيح اللهجة عذب الصوت، كأنه أذان دمشق، فشعرتُ به -أقسم بالله- يسري في نفسي سرَيان البُرْء في الأجساد المريضة والطرب في القلوب الوَلْهى، فيزيل الوحشة ويُذهِب الضيق.
فجعلت أفكّر في هذا النداء كيف خرج من قلب وادٍ بعيد بعيد في زمن بعيد بعيد، فما زال يطوي الأرض ويخوض البحار ويخرق الجبال، حتى وصل من بطن مكّة إلى شرقي جاوة، وما زال يطوي الزمان ويجزع القرون حتى جاء من القرن الأول للهجرة إلى القرن الرابع عشر، ولا يزال غضاً طرياً كأنما نادى به بلال يوم أمس، لا يقف (1) مسيرَه حدٌّ على الأرض ولا بُعدٌ في الزمان، ولا تنال منه الشُّقّة ولا يحفّ به النسيان، فهو أبداً في كل مكان وفي كل زمان. فلا يكون المسلم غريباً في بلد يسمع فيه هذا النداء:«الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن محمداً رسول الله» .
فرجعت إلى نفسي، وعاد إلى قلبي الاطمئنان واستشعرتُ الأمان، وقلت: هذا بلدي. وكل بلد يُسمَع فيه الأذان بلد كل مسلم. (2).
* * *
(1) وقفه يقفه: فعل يتعدّى بنفسه، ولم يرد في اللغة لفظ «أوقفه» .
(2)
بداية هذه الحلقة من الذكريات هي تتمة فصل «في جوكجا» الذي بدأ في الحلقة السابقة، وبعده إلى هنا منقول بتصرف من فصلَي «سورابايا» و «هذا النداء» ، وما يأتي من الحلقة إلى آخرها من فصلَي «كاراشيك» و «نزهة في أطراف سورابايا» ، وكلها في كتاب «صور من الشرق: في أندونيسيا» (مجاهد).
هي قرية أخذونا إليها يسمّونها «كاراشيك» ، انبثق منها نور الإسلام على البلاد، وقالوا إن الاسم محرَّف عن العربية وإن أصله «قرأ الشيخ» ، قلت: لِمَ لا يكون أصله «مقر الشيخ» ؟ قالوا: هذا أَولى.
والقرية قديمة قائمة على تلّ عالٍ قرب سورابايا في أقصى الشرق من جاوة، والتلّ مغطّى كله بدَوْح الغاب. وما في جاوة أرض تخلو من النبات إلاّ أن تكون قد قُطعت أشجارها لتُتّخَذ مزارعَ للأرزّ.
لقد أحسستُ حين دخلت القرية كأنني عُدت إلى بلدي وأنِسْتُ بأهلي. وكان أول ما زرناه منها المسجد، وهو نظيف جداً وهادئ جداً، فيه طبلان كبيران عليهما تاريخ صنعهما في سنة 1647، أي قبل أكثر من ثلاثمئة سنة. ومن أغرب البدع في شرقي جاوة أن في كل مسجد طبلاً يقرعونه بعد الأذان، يَدْعون الناس به إلى الصلاة على نحو ما ينادون على أبواب المساجد في الشام أحياناً:"الصلاة يا مصلّون"، وهذا هو التثويب، ولم يكن في صدر الإسلام. وهذان الطبلان كالبرميلين العظيمَين منتفخَي الوسط، قُطر كل منهما من وجهه متر ونصف المتر وطوله متران ونصف المتر.
ومنبر المسجد على هيئة كرسي مزخرَف قديم مصنوع من خشب الساج، والمسجد مبني سنة 1619، بناه بوسبونوغورو (وناغارا أو نوغورو كلمة معناها دولة، فصار معنى الجملة «زهر الدولة»).
واحتشد أهل القرية في المسجد لرؤيتنا، واصطفّ الجند وتلاميذ المدارس وساروا أمامنا ووراءنا، فتركنا السيارات ومشينا معهم في موكب رسمي، ولحقتنا جموع الأهلين، فسلكنا طرقاً كطرق القرى الشامية الجبلية، حتى وصلنا إلى رحبة مسوَّرة فيها أشجار عالية وفي وسطها درابزين من حديد، فيها ثلاثة قبور من الحجر ليس عليها زُخرُف ولا نقش، أحدها قبر الشيخ إبراهيم المتوفّى سنة 1419 ميلادية، وهو الذي تَشرّف بحمل الإسلام إلى هذه البقاع. وسألت عن تاريخه وعن ترجمته فلم أجد علم ذلك عند أحد، وغاية ما قالوه أنه مغربي الأصل. وقد أخبرت بذلك السيد مكي الكتاني رحمه الله لما رجعت إلى دمشق، فقال إن هذا الشيخ من آل الكتاني، وقرأت مثل ذلك للأستاذ المنتصر في مقال قديم في «الرسالة» وقال إنه سمعه من الناس، والله أعلم بالحقيقة.
ثم ذهبنا إلى مدفن السلطان سنان كيري (أي عين اليقين)، وهو من خشب مزخرَف عليه نقش دقيق بارع. وهذا السلطان كان لقيطاً، وجدته امرأة اسمها ونصو، غنية تشتغل بالتجارة ولها سفن، فسلّمته إلى الشيخ إبراهيم فعلّمه وربّاه وجعله خليفته، فنبغ وكتب الله نصر الإسلام في شرقي جاوة على يديه، وكُرّمت المرأة التي وجدته ولُقّبت بالسيدة الواجدة، وقد نسيتُ لقبها بلسانهم.
وأذّن الظهر فصلّينا بمسجد بجوار المدفن وصلّى معنا قائد الجنود والتلاميذ والناس، ثم دعونا إلى غرفة في المسجد فشربنا فيها الشاي وتحدّثنا، وفهمنا أن لكل فرقة من الجند ومن الشرطة إماماً وواعظاً، وهم يقيمون الصلاة ويحضرون جميعاً مجالس الوعظ.
قلت: هذا ما كان عند زيارتنا أندونيسيا من ثلاثين سنة، فما هي حالها الآن؟
* * *
إذا عددتُ الأيام التي مرت عليّ صفواً بلا كدَر كان من أول ما أعدّ منها يوم نزهة سورابايا، وهي نزهة أعدّتها لنا وأكرمتنا بها الحكومة الأندونيسية، وهاكم بعض خبرها:
خرجنا من سورابايا، فما جاوزنا البيوت حتى رأينا على جوانب الطريق حقولاً مغرَقة بالمياه ممتدّة على سيف البحر (1)، مقطَّعة قطعاً محدّدة بسدود من التراب على هيئة الجدران، فعجبت منها وسألت عنها، فقالوا إنها أحواض لتفريخ الأسماك. وسلكنا بعدها طريق الجبال وأوغلنا فيها، تدرج بنا السيارات في طريق تحفّ به من جانبَيه الغابات وظلال أشجارها طبقات فوق طبقات، وعلى الطريق سقف من أغصانها المشتبكات يمنع الشمس أن تصل إلينا، إلاّ نظرات تختلسها اختلاساً من فُرَج الأغصان، وتسمح للنسيم أن يمسح وجوهنا بيد لينة معطّرة كأنها مسّ يدَي الحبيب عند غيبة الرقيب.
وأخذنا نصعد والطريق يستدير ويلتوي والقرى المنثورة على السفوح تظهر ثم تختفي، كصبيّة تلاعب فتاها، يلحقها فتزوغ منه ويهمّ بأن يدعها فتتراءى له، فهي تُطمِعه ولا تُطعِمه وتُسخِطه ولا تُقنِطه. ثم غاب عنّا الجبل الأعظم، فسرنا على حافّة الوادي الضيق
(1) سِيف البحر (بكسر السين): شاطئه.
ندور بأكَمة مخضرّة محمرّة كأنها لوحة في بهو. وأين لوحات الأبْهاء ممّا صوّره بارئ الأرض والسماء؟ وأين الصورة الميتة من الحقيقة الحية؟
ولمّا وصلنا إلى قمة الأكَمة وجدنا قرية صغيرة، ذكّرتني بأعشاش الغرام التي نقرأ وصفها في القصص وما عرفناها في الحياة، بيوت ملوّنة أنيقة حولها إطار من غرائب الأوراد والأزهار، تتخلّلها مسارب كأنها مدارج الأحلام، في أعلاها عين ثرّة سُمّيت القرية بها فكان اسمُها بلسانهم «تري نيس» أي «العين الدفّاقة» ، تنحدر المياه من كل جانب من جوانبها شلالات صغيرة فتّانة، ثم تتجمّع في ساقية أو جدول صغير يُفضي إلى المسبح.
وإذا كانت سويسرا تنفرد ببحيراتها المتربعة في الأعالي المُشرِفة على الدنيا من شرف الجبال، فإن في أندونيسيا ما ليس مثله في سويسرا ولا لبنان ولا فيما عرفت من البلدان، هو المسابح الأنيقة القائمة في رؤوس الجبال، تنصبّ فيها المياه من الينابيع نظيفة ما وسّختها أيدي الناس، جارية دائماً لا تؤثّر فيها أجساد السابحين، تُطِلّ على مناظر لها من الجمال ما لا يصل إليه الخيال، والماء ينزل فيها في صناعة بارعة يتشكّل أشكالاً ويتفجّر نوافير.
وفارقناها وتأبى قلوبنا لها فراقاً، وسرنا فمررنا على بساتين مسوَّرة فيها أشجار عالية شديدة الخضرة، فسألنا: ما هذه؟ قالوا: مقابر، وهذه هي أشجار الكَمبوديا ولا تُزرَع إلاّ في المقابر!
وكانت المشاهد تمرّ بنا متعاقبة إذ نمرّ بها مسرعين، فننتقل
من نشوة إلى نشوة ومن متعة إلى متعة، فلا أدري أيها أجمل في العين وأحلى في القلب؟ ولكل مشهد قصّة تدور بها الألسنة ويتناقلها الرواة، لو عالجها قلم الأديب لَجعل من كل قصّة منها قطعة من روائع الآداب.
هذا جبل عالٍ ذاهب في الجوّ كأنه البرج المشيد، قالوا إن اسمه جبل الغرام (أنجاسمارا)، وقصته أن زوجة الملك اعتكفت فيه لمّا ذهب إلى القتال واعتزلت الناس، وامتنعت -من شوقها إليه- من الطعام والشراب، وظلّت تناجيه على البعد وتعانق خياله حتى زعموا أنها ماتت. وإن لم أرَ في حياتي من يموت من الغرام! ومررنا بتل عظيم قائم وحده كأنه الهرم يسمّونه لاوا (ومعناها الباب) وله قصّة. ومررنا بعده ببلدة قديمة كانت عاصمة جاوة الإسلامية يوماً، اسمها «سنغو ساري» (أي الأسد الشجاع)، ولها قصّة. وكنا نسير بين هضاب متجاورات كلها مكسوّ بالأشجار المثمرة، والبيوتُ قد تناثرت عليها بسقوفها المائلة الملوّنة كأنها بيوت الأطفال عند بيّاع اللعب، وكل منها له قصّة. والأنهار تجري خلالها صغيرة وكبيرة، مستقيمة وملتوية، رائقة وعكرة، هادئة وهادرة، قد اختلفت طبائعها وغاياتها فكأنها أصناف البشر إذ يمشون على طريق الحياة.
ولكل وادٍ في العين منظر ولكل بقعة في النفس أثر. وكنت كالطفل المحروم دخل مخزن اللعب، كلّما رأى لعبة ظنّها تحفة التحف فقال: هذه التي أريد، فإن رأى غيرها وجدها أحلى منها فعدل إليها عنها. كنت كلما أبصرت مشهداً قلت: قف بي هنا، إن هذا هو أجمل المشاهد. ثم أجوز إلى غيره فأنسى لروعته الأول،
وهم يقولون لنا: هذا كله ليس بشيء، فأقول: وما هو الشيء؟ فيقولون: أمامكم.
ورأينا النساء في كل مكان من جاوة، إلاّ المدن الكبار، يحجبن الرأس بخمار أبيض أو ملوّن، فلا يُظهِرن إلاّ ما أذن الله بإظهاره وهو الوجه والكفان (وإن وجب سترهما إن كانت فتنة بهما).
ثم انحدرنا كما صعدنا. وهذه سنّة الحياة؛ ما علا عالٍ إلاّ نزل ولا طار طائر إلاّ هبط. وسلكنا على سهل بين سلسلتين من الجبال: السلسلة التي كنا فيها والأخرى التي كنا نراها من أمامنا، في سهل كأنه سهل البقاع في بلاد الشام لولا أنه أوسع سَعة وأجمل جمالاً. وجزنا ببلدة كبيرة اسمها مدينة باتو (أي الحجر) جالسة على ذيل الجبل الذي نزلنا منه، ممتدّة شوارعها في السفح كأنها فتاة اقتعدت حافّة نهر ودلّت فيه ساقَيها. وفي وسط السهل مدينة مالان، وهي تعدل في سعتها وعدد سكّانها مدينة دمشق، وحولها البساتين فيها الأشجار المثمرة وفيها الرمّان الكثير بزهره الناريّ الأحمر (الجلّنار)، وحولها سور من الجبال الخضراء يطيف بها من بعيد، وهي في وسطه كأنها طفلة في حجر أمها. ورأينا بعدها صونغوريتي (أي النبع الحار)، وهي عيون من المياه المعدنية الحارّة تشبه في وضعها وفي البناء القائم عليها عين حلوان في ضاحية القاهرة.
وكنا نمشي في يوم صحو وشمس، فما هي إلاّ لحظات حتى اربدّت السماء بالغيوم وتفتّحَت أبوابها بالمطر، بمطر لا نستطيع
أن نتصور مبلغه، مطر البلاد الاستوائية الذي ينصبّ كأفواه القِرَب (حقيقة لا مجازاً). فرأينا لمّا نزل المطر عجباً، أسرع كل واحد من المارّة إلى أقرب شجرة موز (وأشجارُ الموز تملأ أطراف الغابات الماثلة على الجانبيَن) فتخيّر له ورقة بسعة المظلّة فنشرها على رأسه ومشى.
أما الشيء الذي كانت فيه النزهة وكانت إليه الرحلة فهو قهوة أنيقة أمامها مسبح فخم، تنظر إليه من تحت فلا ترى شيئاً، لا ترى أمامك إلاّ جبلاً أخضر مستديراً، فإذا ركبت الطريق الذي يصعد إليه وجدت المسبح في حضنه، قد عطف عليه الجبل وأحاطه بيديه، فإذا احتواك ونظرت وراءك أبصرت مدرّجاً فيه من الشجر المزهر وفيه من غرائب الأوراد والأزهار وعجائب الألوان ما لا يحيط بوصفه قلم ولا لسان، وإذا نظرت أمامك رأيت من فُرجة الجبل السهلَ كله، والجبال حوله والمدن فيه، كأنك ترى الدنيا من كوّة الأحلام، والماء يتجمّع من عشرات العيون، ينبع من وراء صخرات الجبل ثم يسير في سواق صغيرة هدّارة تلفّ وتدور وتتكسر أمواهها في شعاع الشمس، ثم تجتمع في جدول كبير فتمر من شاذروان ينصبّ من علوّ عشرين متراً في البركة التي أُعدّت مسبحاً، وأنت أمامها مستقبلها والشمس تسطع عليها. فتصوّر هذا المنظر! ثم يمرّ هذا الماء إلى حيث يسبحون، وقد دُرّجت البركة وأجيد بناؤها وزُخرفت جدرانها ووُضعت لها السلالم والمعارج، والمقاعد مصفوفة على جانبَيها من فوقها.
لا؛ لا أستطيع أن أصف للقراء ما رأيت فيها وما أحسستُ لأن ذلك شيء يجلّ عن الوصف، فاختاروا لكم يوماً من
أيام عطلتكم فاذهبوا إلى ذلك المكان الذي لا يبعد عنكم إلاّ عشرة آلاف كيل (كيلومتر) لتروا بعيونكم ما عجزتُ عن وصفه بلساني.
* * *