الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-175 -
خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم
لمّا كنا ندرُس الفلسفة سنة 1347هـ قرأت لهنري بوان كاره، العالِم الرياضي الفرنسي، وصفاً لمراحل تكوّن الفكرة في رأس العالِم أو القطعة الأدبية في ذهن الأديب، فقال إنه يتصوّر أولاً صورة مبهَمة يسمّيها هو «شيما» ثم يحاول أن يُظهرها في نظرية علمية أو قصّة أو قصيدة.
وأنا لمّا اقترحوا عليّ كتابة هذه الذكريات لم يكن لها في ذهني صورة، ولم يكن تحت يدي أوراق مكتوبة أعتمد عليها، وكنت أغبط من يكتب ذكرياته ويرجع إلى مذكرات كتبها في حينها، لذلك جاءت ذكرياتي غريبة عن كل أسلوب تبعه كتّاب الذكريات؛ فلا هي مرتَّبة على السنين تمشي مع التاريخ ككتاب «حياتي» لأحمد أمين، ولا هي سرد قصصي لوقائع الحياة ككتاب «الأيام» لطه حسين، ولا هي أفكار يربطها رباط قصصي كالذي كتب العقاد. فما هي إذن؟
هي ما ترون وتقرؤون. وأنا أشكر لكم أن صبرتم عليها فقرأتموها، وأشكر لكما يا أخوَيّ الكريمَين الأستاذَين هشام ومحمد علي حافظ أن نشرتماها.
أكتب والله الحلقة ولا أكاد أذكر ما قلت قبلها، ولا أدري شيئاً عمّا سأكتب بعدها. وكلما جاء يوم السبت تلفّتُّ حولي لعلّي أجد مهرباً منها أو عذراً أعتذر به عنها، كالتلميذ الخائف أو المعلّم الكسول الذي يحاول أن يفرّ من المدرسة بأوهى الأسباب. ولكن ما يبدو لي من حرص الناشرَين الكريمَين عليها (ولعلّ هذا الحرص مجاملة لي وحياء مني أن يقولا لي: لقد طوّلتَها وعرّضتها، فخلِّصنا منها وكُفّ أذى قلمك عنّا) وما أسمع من القُرّاء وعنهم من الاستراحة إليها والمسرّة بها، هذا كله يدفعني إلى المضيّ فيها.
وأنا أعترف أني بدأت ذكر أحداث لم أكملها بل انتقلت إلى غيرها، وأعترف أني أستطردُ وأتبع مناسبات المعاني، كما يتبع الراعي بغنمه مساقط القطر ومنابت الكلأ، فيضلّ السبيل ويضيع عن القصد.
وكثيراً ما بدّلَت طريقي رسالةٌ وردت إليّ أو اقتراحٌ طُرح عليّ، فحوّل مسيري من اليمين إلى اليسار ومن الشرق إلى الغرب. وهذه رسالة كريمة جاءتني من يومين، من مرسل يبدو أنه أستاذ كريم، يقول لي فيها: لقد اشتغلتَ بالتربية والتعليم -كما علمنا منك وسمعنا عنك- من زمن طويل، ولقد عرضتَ بعض ذكرياتك في التعليم، أفليس عندك ذكريات في علم التربية؟ ويا ليتك تعرّف من لا يعرف بهذا العلم وبتجارِبك بتطبيقاته، فتكتب حلقات إن لم يجئ فيها علم ينفع صغار المربّين فلا بدّ أن يكون فيها أدب وفنّ يُمتع جمهور القارئين.
هذا خلاصة ما جاء في الرسالة، كتبتُها بقلمي وعرضتها بأسلوبي.
أما الكلام في معنى العلم والتربية فليس ذكرى من ذكرياتي التي لا يعرفها غيري لأنها جزء من حياتي فيحقّ بذلك لي وحدي الكلام فيها، بل هي قدْر مشترَك بين كل المفكّرين، ومن قرّاء الجريدة من هو أقدر عليه وأعرَف به مني.
وأنا لم أدرس التربية كما يدرسها المختصّون فيها المنقطعون إليها، وليس في يدي شهادة من أساتذتها على أني من أهلها، ولكني شاركت في تربية إخوتي، وربّيت بناتي، وأشرفت على تربية أحفادي وحفيداتي. وقد بلغ عدد مَن ذكرت إلى الآن واحداً وأربعين، أفلا تكفيني هذه التجارِب وتكون شهادة لي على أن لي معرفة ببعض طرائق التربية؟ وقد بدأت التعليم من إحدى وستين سنة، من سنة 1345، وقرأت من كتب التربية كل ما وصلت إليه يدي، ولا أدّعي مع ذلك أني صرت من كبار المربّين ولا أني من صغارهم.
أما تعريف التربية، كما أرى، تعريفاً قريباً من الأفهام بعيداً عمّا أودعَته في الكتب الأقلام، التعريف المنبثق من فكري أنا لا المنقول من الكتب التي ألّفها مؤلّفوها فهو: إن سلوك الإنسان مجموعة عادات، وإن كل عمل جديد هو بداية عادة جديدة، إما أن يستمر فيها وإما أن يرجع عنها. فالتربية هي غرس العادات النافعة والصرف عن العادات الضارّة.
أما العلم فلا أعرّفه لأن توضيح الواضحات من أشكل
المشكلات. العلم كما يعرف الناس جميعاً هو نفي الجهل. وليس هذا من قبيل تفسير الماء بالماء، كالذي زعموا أن رجلاً ادّعى الشعر، فامتحنوه أن يصف مجلسهم عند الغدير فقال:
فكأنّنا والماءُ مِن حَولِنا
…
قومٌ جُلوسٌ حَولَهم ماءُ
فقالوا: فسّرَ الماء بالماء!
…
إن ما قلت هو المعنى الذي يُسرِع إلى الذهن إن ذُكرت كلمة العلم، فمَن عرف قضية كان يجهلها صار عالِماً بها. لكن للعلم معنى غير هذا؛ ذلك هو الذي يقابل الشكّ ثم الظنّ، أي أنه يأتي بمعنى اليقين، فالشكّ خمسون بالمئة نعم وخمسون لا، والظنّ ستون بالمئة نعم، وغلبة الظن سبعون بالمئة، والعلم مئة على مئة.
ومن أراد تفصيل هذا الإجمال وجده في أول كتابي «تعريف عامّ بدين الإسلام» ، الذي صدر الجزء الأول منه من سنوات طوال يعرض العقيدة بشكل جديد، ثم لم يوفّق الله إلى إتمامه، مع أن المعلومات كلها في ذهني والقلم في يدي، ولكن الهمّة ليست عندي.
فالعلم -إذن- قد يأتي بمعنى اليقين. فإن قلنا «عين اليقين» أردنا ما تيقّنه الإنسان عن طريق العين والحواسّ، و «حقّ اليقين» ما جاء بالدليل القطعي الذي يكاد يصل إلى حدّ البديهيات.
وعندنا العلم الذي يقابل الفنّ. وقد سبق مني القول فيه مراراً، وبيانه أن مطامح البشر تقف عند ثلاث هي: الحقّ والخير
والجمال. تلك هي المُثُل العليا للبشر، فما كانت غايته الحقّ وسبيله الفكر وأداته المحاكمة فهو «العلم» ، وما كانت غايته الجمال وسبيله الشعور وأداته الذوق فهو «الفنّ» .
أما العلم (بمعنى science) كعلم الطبّ والفيزياء فله عند علمائنا الأولين تعريفات كثيرة جداً، ولكن أجود تعريف سمعت به وأقربه إلى الوضوح ما قاله سارطون، ولا يضرّنا أن نأخذه منه فإن الحكمة ضالّة المؤمن (أي أنها مُلك له ضاع منه وندّ عنه) فهو يلتقطها حيث وجدها.
قال سارطون: «العلم مجموعة معارف محقَّقة ومرتَّبة» .
لمّا قال «معارف» أخرج المشاعر، ولمّا قال «محقّقة» أبعد النظريات، ولمّا قال «مرتّبة» نفى الحقائق المفرَدة المنثورة التي تبدأ بها العلوم عادة قبل استكمال تكوينها.
* * *
أما التعليم، فليس كل من عَلِم شيئاً استطاع أن يعلّمه وما كل عالِم يصير معلّماً؛ فالتعليم أن تختار الأسلوب الذي توصل به هذه المعارف إلى أذهان المتعلمين. وذلك يقتضي معرفة بمدى إدراك الطالب فلا تكلّفه بما هو فوق إدراكه، وبمدى قبوله ما تلقيه عليه وإلا أغلق ذهنه دونك فقرعت باباً لا يُفتَح أبداً، وأن تزيح من طريقه العوائق التي تُعيق فهمه عنك وينشغل بها عمّا تقول، ومن هذه العوائق ما يكون فيك أنت أيها المدرس: فلا ينبغي أن يكون في هيئتك ولا في لهجتك ولا في أسلوب معاملتك شيء غريب يقف فكره عنده فلا تستطيع أن توصل إليه ما عندك.
وأنا أحمد الله على أني كنت معلّماً ناجحاً. لا أقول ذلك عن نفسي وحدي، بل يشهد به تلاميذي على مدى إحدى وستين سنة، منذ بدأت التعليم. علّمت في المدارس الأولية في القرى والابتدائية في المدن، والمتوسطة والثانوية، وعلّمت في الجامعات، وفي أقسام الدراسات العليا فيها، وعلّمت شباناً وعلمت في مدارس البنات (وإن كنت أستغفر الله ممّا فعلت ولا أُجيز مثله)، وعلّمت في مدارس المشايخ كما علّمت في مدارس الشباب. وكان من أسباب توفيقي ثلاث، أوصي بها من أراد أن يكون معلّماً ناجحاً:
أولها: استيعاب المادّة التي يدرّسها والإحاطة بها، والرجوع إلى كلّ كتاب يصل إليه من كتبها، لا يقتصر على الكتاب المقرَّر. أما في الجامعة فلا يجوز أبداً أن يُقرَّر للطلاب كتاب بعينه لا يرجعون إلاّ إليه ولا يأخذون إلاّ منه، ومن يفعل ذلك من الأساتذة يكن معلّم مدرسة ابتدائية لا أستاذاً في جامعة.
الثاني: أن يسلك إلى إفهام الطلاّب كل سبيل، فإن ساق المسألة بعبارة لم يفهموها بدّل العبارات حتى يصل إلى العبارة التي يستطيعون أن يفهموها، وما دامت مسائل العلم في ذهنه وكلمات اللغة بين يديه سَهُلَ ذلك عليه.
لمّا جاءتنا هذه الرياضيات الحديثة نقل بعضُ الأساتذة منّا ما قاله فيها غيرنا، فما فهمنا عنهم وما أحسب أنهم هم فهموا ما نقلوا، فجاء أخي الدكتور عبد الغني فشرحها في كتابه الذي وضعه لطلابه في جامعة دمشق من أكثر من عشرين سنة، فإذا هي
مفهومة واضحة.
أحسب أني بَعُدتُ عن موضوع الذكريات، وهذا دائي؛ أذهب يميناً وشمالاً، ولكن آتيكم حيثما ذهبت بما ينفعكم أو يُمتِعكم.
* * *
أمّا الشرط الثالث فهو أن يكون طبيعياً، فإن لم يعرف المسألة قال للطلاب: إني لا أعرفها، وإن أخطأ قال لهم: إني أخطأت فيها.
لمّا جئت مكّة أدرّس في كلّية التربية سنة 1384هـ جاء ذكر مسألة فقهية ذكرتُ فيها الحكم في مذهب الإمام أحمد، فقام أحد الطلاّب يردّ علي بأدب بأن المذهب ليس على هذا وأن المسألة ليست كما ذكرتُ. فأطَلتُ لساني عليه وقلت له: لقد درستَ اثنتي عشرة سنة حتى وصلت الجامعة وأنت لا تعرف الحكم في المذهب الذي يمشي عليه أكثر الناس في هذه البلاد
…
وكلاماً من أمثال هذا، ما كان لي حقّ فيه وما كان بيدي مسوّغ له، وهو ساكت لا يُجيب.
فلما رجعت إلى الدار فتحت كتب الفقه الحنبلي، فإذا المسألة كما قال الطالب لا كما قلت أنا. أفتدرون ماذا صنعت؟ جئت في الغد فقلت للطالب: أنا أعتذر إليك، لقد كنت أنا المخطئ وأنت المصيب، وأعتذر إليك مرّة أخرى لأنك كنت مهذّباً ولأنني لم أكن في التهذيب على ما يُطلَب من العلماء، فسامحني.
هل تظنون أن هذا الموقف نقص احترام الطلاّب لي أو تقديرهم إياي؟ لا؛ بل أؤكد لكم أنهم زادوني تقديراً وأنهم استفادوا منه درساً لعلّه أكبر من الدروس التي تُستفاد من الكتب.
وممّا وقع لي أنني كنت في أواخر الأربعينيات من هذا القرن الميلادي أدرّس -مع اشتغالي بالقضاء- في ثانوية البنات الأولى في دمشق، فكلّفت الطالبات في درس الإنشاء الذي يَدْعونه الآن «التعبير» الكتابة في موضوع يخترنه بأنفسهن لا أفرضه عليهن. وكانت عندي بنت أحسبها شركسية الأصل، صارت الآن كاتبة معروفة في سوريا اسمها نادية خوست، فقالت: أتسمح أن أكتب عنك؟ قلت: نعم. فقالت بمكر ظاهر: ولو كتبت عنك ما لا يُرضيك؟ قلت: اكتبي ما شئت، لكن التزمي الصدق وحدود الأدب.
فكتبت قطعة لا تزال عندي بخطها، وقد مرّ عليها الآن أكثر من ثلث قرن، تصفني فيها وصفاً يُضحِك عليّ كل من قرأه، تسخر مني وتهزأ بزيّي وشكلي وحركاتي، ولكن القطعة مكتوبة كتابة جيدة. فماذا صنعت بها؟ أعطيتُها الدرجة العالية على أسلوبها لأنه كان في الحقّ أسلوباً أدبياً ممتازاً، وأحلتُها على لجنة التأديب في المدرسة. فاحتجّت، فقلت لها: إنك تحسنين الكتابة، لذلك أعطيتك العلامة الكاملة كما يُعطى الذي يصيب الهدف في مباراة الرماية، لكن مَن يحسن الرماية لا يجوز له أن يرمي الأبرياء وأن يعتدي على الناس.
ولمّا أوقعوا عليها العقوبة عفوت عنها. وما كان في نفسي شيء منها لأنني من تلك الأيام، بل من أطول منها، قد تعوّدت
النقد وألِفت الهجاء، فلو كتب الآن عني كاتب ورماني بكل موبقة ومزّق أديمي كل ممزَّق ونسب إليّ كل رزيّة ما حرّك ذلك من جسمي شعرة واحدة، وقرأت ما كتب كما أقرأ هجاء جرير أو بشار أو ابن الرومي، أقرؤه على أنه أدب مجرد.
* * *
والصدق أقرب طريق، لا سيما مع الأطفال، إلى بلوغ المرام وكسب الاحترام. وقد وقعت لي حوادث كثيرة لي فيها كتابات متناثرة في كتبي، لو جُمعت لجاءت منها رسالة كبيرة فيها تجارِب في التربية تنفع من يقرؤها؛ من ذلك أن صفوان ابن أخي ناجي، وكان صغيراً، وهو اليوم فوق الأربعين وله قلم بليغ، أرادوا أن يُسقوه دواء كريهاً فأبى أن يشربه، فأحاطوا به يقولون له: إنه طيّب وإنه لذيذ فذُقه، ذُق منه قليلاً، إنه طيّب
…
وهو يأبى ويبكي. فقلت لهم: دعوني معه.
فأخذته جانباً فكلّمته بحيث لا يسمعون، قلت: يا صفوان، هذا الدواء واللهِ كريه جداً وطعمه لا يُحتمَل ولا تستطيع أن تشربه، ولكنني إذا مرضت مثل مرضك شربتُه وأنا كاره له. فتعجب وقال: كيف تشربه إذا كان كريهاً؟ فضحكت وقلت: لأنني كبير، والكبير يقدّر المنفعة، فإذا كان الدواء على سوء طعمه نافعاً شرِبَه ولو كان كارهاً، أما أنت فلا تشربه لأنك صغير. قال: بل أنا كبير. قلت: ياابني أنت صغير لا تستطيع أن تشربه، وأنا لمّا كنت صغيراً مثلك كنت أرفض الدواء مثل رفضك، أو أصنع شيئاً لم تصنعه أنت لأنك أحسن مني. ففتح عينيه وقال: ماذا كنت تصنع؟ قلت: كنت
آخذ كأس الدواء وألقيه وراء المخدّة (وكنا نقعد على وسائد على الأرض ونستند إلى مخدات وراء ظهورنا). فضحك وقال: أنت تفعل هذا؟ قلت: نعم، وأمّا الآن فأنا أشربه لأنني كبير. قال: وأنا كبير. قلت: لا، أنت لست كبيراً.
وتركته وهممت بالانصراف، قال: يا عمو أنا كبير، أشربُه. فالتفتّ إليه وقلت له: إنك لا تستطيع أن تشربه، الله يرضى عليك، الصغار لا يشربون الدواء الكريه. قال: أنا لست صغيراً، أشربه، انظر شوف كيف أشربه. والتفتّ ببعض جسدي فرأيته قد شرب الدواء.
فالصدق مع الصغار خير من أن نكذب عليهم وأن نوهمهم ما يكذّبه الواقع. جاءني مرّة أحد أحفادي وهو يكره المدرسة لا رغبة له فيها. فقلت له: الحقّ معك إذا كرهت المدرسة ولم تحبّها، فأنا أيضاً لم أكن أحبها وكنت أحاول الابتعاد عنها، وإذا كانت عطلة أو غاب المدرس، ولو في غير يوم العطلة، كنت أفرح لغيابه. فتعجب وقال: لماذا لم تكن تحب المدرسة؟ قلت ما معناه: إنها قصّة قديمة جداً، وأقول لكم يا أيها القُرّاء: إنها عقدة نفسية عمرها أكثر من خمس وسبعين سنة، أُصِبت بها وأنا صغير ولكني كبرت ولم أستطع الخلاص منها.
كان ذلك سنة 1332هـ قبل إعلان الحرب العامّة الأولى، وكان جدي يأخذني معه إلى جامع التوبة في أكثر الصلوات، فذهبت معه يوماً إلى صلاة الفجر، فلما قُضيَت أدخلني باباً يقابل المسجد، فوجدت ضجّة ودوياً ورائحة ليست مستحَبّة، وكان
المكان مظلماً وأنا داخل إليه من الشارع المشرق، فلم أرَ شيئاً، فأمسكتُ من الخوف بيد جدي حتى ألفَت عيناي الظلمة، فرأيت غرفة واسعة جداً نصفها عليه دكة واطية من ألواح الخشب وتحتها فراغ وسخ، كما يكون في كثير من بيوت البلد في تلك الأيام، وهذا الفراغ تملؤه أمم من الحشرات والهوام، يقعد عليه صِبية قد اصطفّوا صفوفاً بأيديهم «الصبرة» (أي كتاب التهجية) وإن كانوا أكبر حملوا جزء عمّ، وهم يهتزّون مع كل كلمة ولهم صخب يُصِمّ الآذان، وأمام هذه الدكّة عشرات من الأحذية والقباقيب يركب بعضها بعضاً، وفي وسط الصفوف شيخ على كرسيّ عالٍ أمامه عِصيّ، عصا قصيرة وعصا طويلة وعصا أطول منها، فمن رآه قصر في الهزّ أو وقف عن القراءة أو عن الضجيج خفقه بالعصا القصيرة إن كان قريباً منه، أو بالمتوسطة إن كان وسط القاعة، وبالطويلة إن كان في آخرها.
فلما رأى الشيخ جدي، وكان مهيباً موقَّراً، نهض إليه فاستقبله وأشار إليه ليجلس، فبقي جدي واقفاً وكلّمه وهو يشير إليّ، ثم تركني وحدي مشدوهاً وذهب.
لقد كتبت في وصف هذا الموقف كثيراً وحدّثت به بالإذاعة كثيراً وجعلته مدار قصص كتبتها، ولم أوفِّه حقّه، ولم أستطع أن أعبّر فيما كتبت وما حدّثت عن مبلغ ما أحسست به يومئذ من الذعر والألم. مرّ عليه الآن ثلاثة أرباع القرن ولا أزال كلما ذكرته أذكر ذلك الرعب والخوف والذعر، وأشياء أخرى أفظع ممّا ذكرت لم أكن أعرف لها اسماً ولا أجد لها اليوم وصفاً.
كان هذا الكتّاب بداية عهدي بالمدرسة. فهل تنتظرون مني
أن أحبها وكانت هذه بدايتها؟
لقد قرأتم في هذه الذكريات ما مرّ بي بعدها في المدرسة الكبيرة التي كان أبي مديرها العامّ، وكنت ابنه الوحيد المدلَّل. وعرفتم أني لم أكن فيها أحسن حالاً ولا أروَح بالاً. أين هذا الذي كان في أيامنا ممّا يجده الأطفال اليوم في رياض الأطفال وفي أكثر المدارس الابتدائية؟
في سنة 1959 (1378هـ) كانت لي أحاديث مستمرّة في إذاعة دمشق كالذي تسمعونه لي اليوم من إذاعة الرياض، وقلت في حديث منها (1):
نويت أن أجعل هذا الحديث ليوم الطفل، فصحّت النية ولكن لم يتمّ المراد. أردت أن أتكلم فيه عن مشكلات الطفولة اليوم فكان الحديث عن ذكريات الطفولة لي أنا بالأمس، وأردته موعظة وعبرة فجاء قصّة وذكرى. والقلم قد يجمح بيد الكاتب أحياناً كما يجمح الفرس بالفارس، فيمشي حيث يريد هو لا حيث يريد صاحبه.
ذلك أنني قعدت لأُعدّ هذا الحديث (وكنت يومئذ أكتب أحاديثي) وأنا لم أهيّئ أفكاره لأن الوقت قد ضاق بي وأعجلني الموعد، فشرعت وما ركّزت أُسُس الفكرة ولا تبيّنتُ مسالك القول، وأخذت القلم أنتظر ما يفتح به علي، فما فُتح عليّ باب القول، ولكن فُتح باب الغرفة ودخل مؤمن الصغير، ابن بنتي
(1) انظر مقالة «في الكتّاب» ، وهي منشورة في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).
(وهو اليوم طبيب في مستشفى الملك فهد في جدة) دخل وهو محمرّ العين سائل الدمع على الخدّين ينشج نشيجاً مؤلماً، فظننت أنْ قد أصابه شيء ووثبت أسأله: ما لك؟ هل وقعت؟ فهزّ رأسه. قلت: هل ضربوك؟ فهزّ رأسه. قلت: ما لك؟ فقال بصوت مختنق بالبكاء تقطّعه الزفرات، قال: إدّو، إدّو (أي جدّو)! قلت: نعم؟ قال: لوح
…
قلت: لوح؟ لوح شُكَلاطة؟ قال: لوح دسِهْ أمان.
فلم أفهم. فجاءت خالته الصغيرة يمان (وهي اليوم أم لأربعة أولاد) تترجم عنه، قالت بلسانها الناقص: بدّو لوح دسة مع أمان. قلت للمدرسة مع أمان؟ فأشرق وجهه وسكت، وقال: لوح دسة أمان. قلت: وتبكي من أجل المدرسة؟ أقعد هنا أحسن بلا مدرسة. فلما سمع ذلك صرخ من كلمتي وعاد يبكي ويعول، فهدّأته ووعدته حتى سكت.
وجعلت أعجب منه إذ يبكي شوقاً إلى المدرسة، وأذكر كيف كنا نبكي نحن خوفاً منها، وكرهاً لها.
وكرّت بي الذكرى إلى أول خطب من خطوب الدهر نزل بي؛ لست أعني الحرب العامّة، فلم تكن الحرب قد أُعلنت وما كنت يومئذ لأفقه لها معنى أو أبالي بها، ولكن أعني ما هو أشدّ وأفظع، أشدّ عليّ أنا، ذلك هو أول دخولي المدرسة. لقد كان يوماً أسود لا تُمحى من نفسي ذكراه، ولا أزال إلى اليوم كلما ذكرته أتصور روعه وشدّته. لقد كرّه إليّ المدرسة وترك في نفسي من بغضها ذخيرة لا تنفد، ولقد صرت من بعدُ معلّماً في الابتدائية ومدرساً في الثانوية وأستاذاً في الجامعة، وما ذهب من نفسي
الضيق بالمدرسة والفرح بالخلاص منها، والأنس بيوم الخميس واستثقال يوم السبت، وما ذهبت إلى المدرسة أو إلى الجامعة مرّة إلاّ تمنيت أن أجدها مغلَقة أو أجد الطلاّب قد انصرفوا منها والدروس معطلة فيها!
(إلى أن قلت): لقد كان التلاميذ يبقون في هذا الكتّاب الذي أخذني جدي إليه من بُعَيد مطلع الشمس إلى قُبَيل الغروب، قاعدين لا يتكلمون ولا يستريحون ولا يلعبون، ولا يكفّون عن القراءة والاهتزاز، يحملون أكلهم معهم فيأكلون وهم قاعدون، وإذا عطشوا قاموا إلى البِركة فوضعوا أفواههم في مائها الملوّث وعبّوا مثلما تعبّ الجمال، وإذا كانت لهم حاجة ذهبوا إلى مراحيض المسجد.
والكتّاب مغلَق دائماً مظلم دائماً، لا يُفتَح له باب ولا نافذة ولا يُجدَّد له هواء، ولا يمضي على الولد فيه يوم لا تصيبه من الشيخ بليّة: خفقة بالعصا على رأسه من بعيد أو ضربات على رجلَيه بالفلق من قريب، أو «مونولوج» كامل من أقذع الهجاء يقرع أذنيه.
ولقد كان من المناظر المألوفة كل صباح منظر الولد العاصي (العَصْيان) وأهله يجرّونه، والمارّة وأولاد الطريق يعاونونهم عليه، وهو يتمسّك بكل شيء يجده ويلتبط بالأرض ويتمرّغ بالوحل، وبكاؤه يقرح عينيه وصياحه يجرح حنجرته، والضربات تنزل على رأسه، يُساق كأنه مُجرم عاتٍ، يرى نفسه مظلوماً ويرى الناس كلهم عليه حتى أبوَيه. فتصوروا أثر ذلك في نفسه في مقبل أيامه.
فلا عجب -يا أولادي- أن تبكوا رغبة في المدرسة وقد صارت لكم جنّات، وما عجب أن نبكي منها وقد كانت علينا جحيماً. هي لكم مائدة عليها الطعام اللذيذ الخفيف في أجمل الأواني، وحولها الزهر والورد ومن ورائها الموسيقى والنغم، وقد كانت لنا طعاماً دسماً ثقيلاً في أوسخ آنية وأقذع منظر.
ولكن مَن استطاع منّا أن يأكل أكثر وأن يهضم ما أكل وأن ينتفع به؟ أنتم على كل هذه المشهّيات، أم نحن على كل تلك المنفّرات؟ أنتم تلبسون للمدرسة أبهى الثياب، ونحن كنا نجيء واللهِ بثوب النوم (السّركس) الذي لا يصل لأكثر من نصف الساق وفوقه رداء (جاكيت) الأب الذي رثّ وبلي فحوّلَته الأم وصيّرته لنا، وفي الأرجل القبقاب أو الكندرة المصنوعة في المناخلية. ولقد صرت في الثانوية وما عرفت دكّان الخياط، إنما ألبس ما تخيط أمي رحمها الله، وما كان فينا من اتخذ عقدة (كرافتة) حتى بلغنا البكالوريا فأين هذه العناية التي تلقونها ممّا كنا فيه؟
* * *