المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صور ومشاهد من ساحات القضاء - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

-181 -

‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

إن أشدّ ما يلقى المتقاضون من المحاكم هو التسويف والتأجيل وطول أمد المحاكمة، حتى إن دعوى كانت بين أسرتنا وبين آل الصلاحي، أعني الشيخ عبد الوهاب وأباه وجدّهم رحمهم الله لا آل الصلاحي الذين منهم الأستاذ عادل. لبثَت هذه الدعوى في المحاكم على عهد العثمانيين ثلاثاً وثمانين سنة، ذهب من أقام الدعوى وأولاده من بعده وبقيَت هي حتى نشأنا نحن، وكنت وأنا صغير أتجرّأ بالمزاح على عمّي (أعني خال أبي، وكنت أدعوه عمّي) العالِم الفلكي المعروف الشيخ عبدالقادر الطنطاوي، فأقول له: انتظر يا عمي حتى أكبر أنا وأدرس الحقوق وأصير محامياً وأرافع فيها. فكان يضحك ويسبّني ويقول الكلمة العامية: «فال الله ولا فالك» ، أتريد أن تبقى في المحاكم حتى تصير محامياً؟

ولقد بقيَت فعلاً، وكبرتُ وصرت محامياً ثم صرت قاضياً والدعوى لم يُفصَل فيها، وكدنا نربحها مرة وكانت في الاستئناف فتبدّل المستشارون وجاء غيرهم، وكانت الدعوى قد زادت صفحات ضبطها على ثلاثة آلاف، ففصلوا فيها لمصلحة

ص: 369

خصومنا. وما أدري هل درسوها أم حكموا فيها من غير أن يستوفوا دراستها، لكن الذي أدريه أني لم أحزن لخسارتها كثيراً، ولا أظنّ أن خصومنا فرحوا كثيراً لربحها، لأنهم كانوا كالذي تدعوه إلى الإفطار في رمضان فتؤخّر الطعام حتى يأكل من جوعه خبزاً وزيتوناً، فإذا ملأ بذلك بطنه دعوته إلى المائدة عليها من كل ما لذّ وطاب، من الحارّ والبارد والحلو والحامض

مائدة حافلة، ولكن ما الفائدة منها وقد امتلأت معدته وذهبت شهوته؟

لقد كانت هذه القضية دائماً في ذهني وكانت قِيدَ بصري (1) فلم أكن أجعل للتطويل والتأجيل مجالاً في الدعاوى التي تُعرَض عليّ. إن كانت الدعوى بين المتقاضين أنفسهم لم أؤجّلها إلاّ إلى الغد، فإن طال التأجيل فإلى ما بعد الغد. وإن كانت بين المحامين جعلتُ أقصى حدّ للتأجيل خمسة أيام، والحدّ الذي لا حدّ بعده أسبوع. فإن احتجّ المحامي أن لديه دعاوى في محاكم أخرى قلت له: اطلب من تلك المحاكم أن تؤجّل النظر في دعاواك لأن من طبيعة قضايا الأحوال الشخصية أنها لا تحتمل طول التأجيل.

وكثيراً ما كان أحد الطرفين يدّعي المرض ويبعث من يُبرِز تقريراً طبياً بما يدّعيه، فشكوت ذلك إلى الدكتور جَودة الكيال الذي كان أستاذنا في مكتب عنبر، فتعهّد أن يذهب كلما دعوتُه إلى دار المريض أو المتمارض، فيفحص عن أمره ويرى ما به، ولا يأخذ على ذلك أجراً لا مني ولا من أصحاب القضية، بل يطلب الأجر من الله. وقد مضى الآن للقاء الله، وسيجد ما عمل

(1)«قيد» بكسر القاف.

ص: 370

من خير مُحضَراً قد سبقه على الدار الآخرة، لأن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً. وإن تبيّن لي أن ادّعاء المرض كان باطلاً وأن التقرير أُعطيَ زوراً أحلتُ الطبيب الذي وقّعه على النيابة العامّة، فلقي عندها جزاءه في الدنيا عاجلاً، ولَعقاب الآخرة أشدّ وأبقى.

* * *

ومن طرائف أخباري في القضاء أنه كان من رفاقنا في المدرسة الابتدائية سنة 1918 تلميذ اسمه عبد الحكيم مراد، أبوه الشيخ سعيد مراد الذي كان أستاذاً في كلية الحقوق في دمشق. وكنا أصغر تلميذين في الفصل، نتكلم العربية الفصحى، فيضحك رفاقنا منا وربما أساؤوا إلينا، ورأى ذلك أبي فكان السبب في نقلي إلى مدرسة أهلية هي المدرسة الجقمقية التي سبق الكلام عليها.

ومرّت الأيام وصار الأستاذ عبد الحكيم محامياً وصار شاعراً أديباً، ولكنه يكتب بأسلوب عجيب. ألّف كتاباً كبيراً سمّاه «جبر القيمة» كنا نمضي سهرات في قراءته، أنا ورفاقي سعيد الأفغاني وأنور العطار وحسني كنعان ومَن كان معنا يومئذ من الإخوان، نقرؤه فلا نفهم منه شيئاً، ونتخذه وسيلة إلى التسلية وملء الوقت الفارغ، ونعمل من فقراته نوادر نتفكّه بروايتها. جاءني مرة محامياً في دعوى فأبرز دفاعاً مكتوباً، أقول لكم الحقّ: لقد قرأته فما فهمت منه شيئاً، فقرأته جاهراً به بعض الجهر ليسمعه من كان حولي، ثم سألته أن يوضح ما فيه بدفاع شفهي فقال كلاماً طويلاً أعقد مما جاء في الدفاع المكتوب.

ص: 371

ونظرت في وجوه الحاضرين من المحامين والمتداعين، فإذا هم يغالبون الضحك يحبسونه ولا يُطيقون حبسه، فكتبتُ في ضبط المحاكمة هذه الجملة: أبرز الأستاذ محامي المدّعية دفاعاً مكتوباً ضُمّ إلى أوراق الدعوى وأعقبه ببيان شفهي لم تفهم المحكمة منهما شيئاً.

وقد رشح نفسه مرة للمجلس النيابي ونشر -على عادة المرشَّحين- بياناً مطبوعاً كان أعجوبة البيانات، وصار الناس يتخطّفونه ومنهم من اشتراه بالمال؛ بياناً ما كُتِب قبله مثلُه من يوم بدأ البشر يرشّحون أنفسهم في الانتخابات، فكأنه هذا الشعر الحديث أو الجديد أو ما لست أدري ما اسمه الذي لا يفهمه ولا يتذوقه إلاّ صاحبه وجلساؤه في مقهاه أو زملاؤه في ناديه

والأستاذ أكرم زعيتر يحاول كل يوم أن يضع له اسماً جديداً فيجد أصحابَ هذا الشعر قد ارتكبوا به إثماً جديداً!

* * *

ومن أخبار المحكمة أننا ذهبنا مرة للكشف على مسكن، فوجدته مناسباً في موقعه وفي فرشه لا ينقصه شيء، ولكني رأيت الرجل فتحه بالمفتاح لمّا دخل وأغلقه على المرأة لمّا خرج. قلت: ما هذا؟ قال: زوجتي، عِرضي، أخاف عليها. قلت: ما تظنها تفعل والباب مغلَق عليها إن انفجر موقد الغاز، أو شبّ في الدار حريق، أو خرجت عليها حية، أو أُغمي عليها واستنجدت بالجيران

من أين يدخل عليها مِن النساء مَن يريد إسعافها؟ لا، لا أقبل هذا المسكن ولا أوافق عليه؛ المسكن حصن للمرأة وهذا

ص: 372

سجن لها، ولم تكن دار رسول الله ‘ مغلَقة على نسائه بالمفتاح ولا دور الصحابة ولا التابعين، ولقد أمرنا عليه الصلاة والسلام أن نستوصي بالنساء خيراً، ما قال لنا احكموا عليهنّ بالسجن الدائم، وما هن بالمجرمات ولا نحن بالقضاة.

وكنت مرة أنظر في دعوى، الزوج فيها من كبار الموسرين والزوجة أبوها من أغنياء الحرب الذين أثْرَوا منها ثراء فاحشاً. فأعدّ الزوج داراً جديدة واسعة في حي محترَم، فيها كل ما يُحتاج إليه من الفرش ومن الأثاث ومن أدوات المطبخ والحمّام. فاعترض محامي الزوجة بأنه ليس مسكن أمثالها من أخواتها وبنات عمّها ولا يليق بالزوج الذي يملك الملايين، فاتخذت هذا القرار: قلت: لمّا كانت مطالب الإنسان منها ما هو ضروري لا يُعاش إلا به، ومنها ما هو كماليّ لتمام الراحة ومسرّة النفس ورفاه العيش ولم يكن فيه محرَّم، ومنها ما لا يُحتاج إليه أبداً وما هو إلا للمكاثرة والمفاخرة. ولمّا كان ذلك يدخل في باب التبذير وكان التبذير مما يأباه شرع الله الذي جعل المبذّرين إخوان الشياطين، وكان التسابق فيه لا يقف عند حدّ، لذلك تقرّر اعتبار هذا المسكن وأمثالَه صالحاً ولو كان أبو الزوجة أو كان الزوج من أصحاب الملايين.

وكانت لديّ مرة دعوى على رجل غني جداً ولكنه بخيل جداً، فأعدّ لزوجته المدّعية مسكناً لا يسكنه إلا الفقراء: بساط على الأرض وطبق من القشّ يوضع عليه الطعام وفراش يُبسَط في الليل ويُطوى في النهار. فقلت: ما هذا؟ قال: أهي خير من عائشة أم المؤمنين؟ ألم يكن مسكن عائشة مثل هذا أو أقلّ منه؟ قلت: لا والله ما هي خير منها ولا هي مثلها، ولكن خبّرني: أكان

ص: 373

رسول الله عليه الصلاة والسلام يكنز المال في الصناديق أو يضعه في المصارف أو يشتري به الأسهم، ثم يبخل به على السيدة عائشة فلا يُعِدّ لها إلاّ هذا المسكن؟ حينما تقتدي أنت برسول الله وتقف موقفه من المال طالبها أن تكون مثل عائشة.

ورفضتُ المسكن.

* * *

لقد قلت في مقدّمة هذه الذكريات إنها قد تأتي مناسبةُ ذِكر حادثة فأنسى أن أضعها موضعها، فإذا ذكرتُها أثبتّها حيث ذكرتها. لقد هممت الآن أن أسرد حوادث وقعت لي في محكمة دمشق تتجلّى فيها عواقب انحراف الشباب وسلوكهم في تلبية نداء الغريزة غير الطريق القويم، ثم ذكرت حادثة رأيتها في محكمة النبك نسيت أن أضعها في موضعها تصلح مثالاً لما هممت بسرده.

ذلك أن عندنا سكان منطقتين عُرف نساؤهما بالجمال: منطقة القَلَمون (أي النَّبْك ويَبْرود) ومنطقة الجولان فكّ الله إسارها، لا سيما القرى المنثورة على سفوح جبل الشيخ. ونساء المنطقتين كنساء البدو عندنا، وأكثر الفلاّحات لا يسترن وجوههن، مع أن كشف الوجه إن جرّ إلى فتنة بالمرأة أو عليها فقد وجب عليها ستره.

فجاءتني مرة بنتٌ لم تبلغ العشرين تدّعي على زوجها. لمّا دخلَت المحكمة ثبتَت عليها أنظار الحاضرين من محامين ومتقاضين، وتركوا كلهم ما كان بأيديهم من الأوراق وعلقت عيونهم بها فلم يستطيعوا أن يرفعوها عنها، جمال ينضج صحّة

ص: 374

وطهراً وينشر حوله كهرباء وسحراً، لو أن صاحبته هبطَت إلى الدرك الأدنى الذي فيه مسابقات الجمال (أعاذها الله وأعاذ نساء المسلمين منها)، لو فعلت لانتُخبت ملكة جمال العالَم بالإجماع. وكان معها زوجها، وهو شابّ بادي القوة مستكمل الشباب، إن جمعت هي الجمال الأنثوي فقد أوتي كل جمال الرجال. فلما سألتها عن دعواها تردّدَت واستحيَت، فقرّرتُ جعل المحاكمة سرّية ولم أُبقِ في القاعة إلا الطرفين والشهود والمحامين. وأعدت سؤالها، فأجابت بصوت خافت على استحياء بهذه العبارة النظيفة الألفاظ المهذّبة الحواشي، قالت إنها متزوجة من أربعة أشهر وزوجها لم يرفع لها ذيل ثوب! فذكّرني أدبها بالتي جاءت رسول الله عليه الصلاة والسلام تشتكي مثل شكواها بكناية مثل كنايتها، قالت: يا رسول الله إن الذي معه كهدبة الثوب.

ونحن في مثل هذه الدعاوى نُحيل الأمر على الطبيب الشرعي. وكان رئيس مؤسسة الطب الشرعي يومئذ صديقنا الدكتور عارف الطّرَقْجي الذي كان أستاذاً في كلية الطب، وهو الوحيد الذي جمع بين شهادتَي الدكتوراة في الطب والدكتوراة في الحقوق، وله كتاب في الطب الشرعي في خمسة مجلدات. فكانت نتيجة خبرته أن الرجل لا يصلح للنساء، لا لضعف فيه بل لأنه في مطلع بلوغه كان في الحقل، وكان «يقارب» ما يجد أمامه من الحيوانات، فألِفَت ذلك نفسُه، وصارت أنثى الدوابّ تثيره وهذه البنت التي كادت تفتن كل من في المحكمة لا تحرّك منه ساكناً! وانتهت الدعوى بالتفريق بينهما.

* * *

ص: 375

وجاءت مرة امرأة تدّعي على رجل أنه زوجها وأبو ولدها وتطلب منه نفقتها ونفقة ابنه منها، فسألتُه فأنكر الدعوى وادّعى بأنه لا يعرفها وأنه لم يرَها إلاّ الآن. فسألتها عن بيّنتها على دعواها، فظهر أن الزواج قد عُقد خارج المحكمة، زوّجها منه أبوها وشهد شاهدان على زواجها، وكان زواجاً شرعياً كاملاً ولكن لم تُكتب به وثيقة، ومات أحد الشاهدين فلا تستطيع إثبات دعواها بالشهادة.

وشممتُ رائحة الصدق في كل كلمة قالتها، وللصدق رائحة لا تُشَمّ بالأنوف ولكن تُحَسّ بالقلوب. فحاولتُ أن أنبّه ضميره فما انتبه، وأن أرقّق قلبه فما رقّ، وأن أخوّفه اللهَ وعقابَه فما خاف. ولم يبقَ إلاّ أن أحلّفه إن طلبت اليمين، وبدا لي من حاله أنه سيُقدِم على حلف اليمين الكاذبة من غير أن تهتزّ عضلة واحدة في جسده. فماذا أعمل؟ أرى الحقّ يضيع أمامي ولا أملك لصاحبته شيئاً؟ وكنت في مثل هذه الحالة ألجأ بقلبي إلى الله أستمدّ منه العون، ففعلتُ، وسرعان ما جاء عون الله، وكان مشهد من أعجب المشاهد التي رأتها ساحات القضاء.

ذلك أننا سمعنا من خارج المحكمة صوت امرأة كبيرة تزجر صبياً، والصبي يرفع صوته لا يبالي بها كأنه يطلب منها شيئاً وهي لا تُعطيه ما يطلب، فلما ضايقها صاحت به بصوت سمعه كل من في المحكمة: اذهب عني، هل أنا مكلَّفة بك؟ هذا أبوك وهذه أمك فاذهب إليهما قبّحك الله وقبّحهما. ولطمَته على وجهه، فعلا صوته ونادى من خلال نشيجه ودموعه: بابا تيتا ضربتني

واقتحم الباب يدفع الناس بيديه الصغيرتين ينادي: بابا، ماما، وينك يا بابا؟

ص: 376

وإذا بالمرأة تُسرع إليه، والرجل ينسى ما كان يقوله ويتلقّاه بذراعيه، ويلتقي من حوله الذراعان ذراع أمه وأبيه، ويتقاربان ويتلامسان، وأسمعها تقول له معاتبة: هيك يا فلان؟ تُنكِر أني زوجتك؟ وتغلبهما العاطفة فيدعان الولد بين أرجلهما وكانا جالسَين من حوله، ويقفان متعانقَين قد نسيا القاضي ومَن معه والمحكمة ومن فيها.

ويتأثر الناس وتنسكب مدامعهم، وأتصنّع الغضب فأقول: ما هذا يا قليل الأدب؟ تعانق امرأة أجنبية عنك علناً وفي المحكمة؟ فيقول: أجنبية؟ إنها زوجتي! فأقول: فلماذا كنت تنكرها؟ قال: ساعة غضب، الله يلعن الشيطان. كله من أمها، ومن طول لسانها هي؛ فكُفّ يا سيدي أذى أمها عنا وانصحها بأن تكون مطيعة مهذّبة الألفاظ وعرّفها بحقوق زوجها عليها.

هذه قصة واقعة أستطيع أن أجعل منها قصة أدبية أضمّها إلى كتابي «قصص من الحياة» ، ويستطيع غيري أن يجعل منها فلماً يُعرَض في الرائي، وأنا أضمن أنه يكون فِلماً (1) ناجحاً.

* * *

كانت المحاكم ودوائر القضاء في دمشق منثورة نثراً في

(1)«الفِلم» من غير ياء (أي: فاء لام ميم)، وهي كلمة أجنبية عرّبها المجمع العلمي في دمشق من قديم، لمّا نشر الشيخ عبد القادر المغربي استفتاءه المشهور في الكلمات غير القاموسية (أي التي وردت في شعر يُحتَجّ به ولم تثبت في المعاجم) والكلمات الجديدة.

ص: 377

أرجاء البلد؛ بعضها في العَدْليّة، وهي بناء من الخشب واللبِن من طبقتين مما بناه العثمانيون كانت في المرجة التي سُمّيَت بعدُ ساحة الشهداء، يعنون بالشهداء الذين شنقهم جمال باشا أيام الحرب الأولى، وقليل منهم كانوا بُرآء (1) ما جنوا ذنباً، صالحين مظلومين، وأكثرهم ثبت من الأوراق التي ضُبطت في القنصلية الإنكليزية والقنصلية الفرنسية أنهم كانوا جواسيس على حكومتهم العثمانية.

وبعض هذه الدوائر في بناية العابد التي بناها أحمد عِزّة باشا العابد، الذي كان أعلى عربي مرتبة وأمضاهم نفوذاً وأوسعهم سلطة أيام السلطان عبد الحميد، ولا تزال إلى الآن أضخم بناء حجري في دمشق، وقد أُنشئت عمارات عالية من الإسمنت والحديد وبقيَت لها مكانتها.

وكانت المحكمة الشرعية في سوق الخيّاطين ثم انتقلت إلى القَنَوات. وكانت محاكم أخرى، فكان المحامون والمراجعون يجدون مشقّة ويلقون عَنَتاً في التنقل بينها، ففكّروا بإقامة بناء يجمعها كلها، وتَردّد الرأي بين أن يُقام في صدر شارع بغداد عند «البحرات السبع» أو في موضع المُشيريّة في رأس سوق الحميدية في لبّ البلد. ولا بد من توضيح ما ذكرت لمن لم يَزُر دمشق توضيحاً موجزاً يكون فيه زيادة وصف لمن شاء الوصف وتاريخاً لمن أراد معرفة التاريخ.

كان الحكم في الشام أيام العثمانيين مردّه إلى اثنين: الوالي

(1) بُرآء جمع.

ص: 378

والمشير؛ أما المشير فللأمور العسكرية، وأما الوالي فلغيرها من الأمور المدنية. وكان مقر المشير عمارة من الخشب كبيرة جميلة، لمّا فتح جمال باشا أولَ شارع في دمشق سنة 1916 (على ما أذكر، وقد كنت يومئذ صغيراً في المدرسة الابتدائية) وقعَت في أوله. وكان لأهل الشام فيه يوم من أيامهم المعدودة، ذلك هو يوم العيد، إذ يجتمع في «المشيرية» الجند، ثم يقومون بعرض ضخم بشاراتهم وراياتهم وطبلهم وزمرهم، وكان أحدَ مشهدين يحتشد لهما الناس، هذا ويومُ خروج المَحْمِل إلى الحجّ.

ولمّا جاء الفرنسيون يحكمون الشام واغلين غاصبين، لا يستندون إلى عدل ولا قانون ولا دين، وإنما هو عدوان القوي على الضعيف وقاطع الطريق على المسافر، كانت حالنا يومئذ كحال فلسطين وكشمير وأرتيريا في هذه الأيام، وأمثالهن في الأرض كثير. أقول إنه لمّا جاء الفرنسيون جعلوها مقرّ مندوب المفوض السامي، أي وكيله أو نائبه في دمشق، فسُمّيت «المندوبية» .

وأمّا الوالي فكان مقرّه في «سراي» المرجة. وهي بناء جميل يشبه القصور الصغيرة في أوربا في أواخر القرون الوسطى، لا يزال إلى الآن معدوداً من مظاهر العمران.

أمّا شارع بغداد الذي اقترح كثيرون (وأنا منهم) إنشاء القصر العدلي فيه فقد كان ثاني شارع في دمشق، فتحه الفرنسيون أيام الثورة الكبرى سنة 1926 بعد شارع النصر بعشر سنين. ما فتحوه رغبة بعمارة البلد ولا حباً بأهلها. كيف وهم أعداؤها الذين أحرقوها وخربوها وتركوا ربوعها أطلالاً؟ إنما فتحوه ليسهل عليهم

ص: 379

نقل جنودهم ودباباتهم إلى الغوطة، لمحاربة أهل البلد وأصحاب الأرض الذين ثاروا كما يثور ربّ الدار على الحرامي، يدافع عن عياله ويحامي عن ماله، وكما يصنع الفلسطينيون اليوم في فلسطين والسود في جنوب إفريقيا والمجاهدون في الأفغان.

وكانت مناقشات ومجادلات في اختيار المكان للقصر العدلي. وكنت أكتب وأخطب، فكتبت مقالات في إقامة القصر في شارع بغداد لأن المكان فسيح، إذا ضاق البناء بمن فيه وجدوا أرضاً لتوسعته، وزدت فاقترحت بأن يُسمّى «دار العدل» لا القصر العدلي، إحياء لمنقبة نور الدين زنكي لمّا أنشأ دار العدل في دمشق، وقصّته معروفة وهي في كتابي «رجال من التاريخ» (1).

وغلب الرأي الآخر، وأقيم البناء في موضع المشيرية (أو المندوبية كما سُمّيت من بعد)؛ أنشؤوه من ثلاث طبقات من الأمام واثنتين من الخلف، لكل طبقة سقف عالٍ يقرب من سقوف المساجد، لا كسقوف البيوت الجديدة التي يقف الرجل الطويل فيمدّ يده فيبلغ بيده سقفها، وجعلوا لها قوساً يكاد (يكاد أو تكاد كلاهما صحيح، فالقوس مؤنثة ولكنها تُذكَّر) يقارب بعلوّه سقف البناء كله، وجعلوه على شكل الأقواس الأندلسية وهي غالباً ثلثا دائرة، بينما نجد الأقواس التركية نصف دائرة، ومن الأقواس ما هو أقلّ من نصفها. ومن شاء أن يرى الأقواس وأشكالها في الأبنية الأثرية وجد علم ذلك في كتب كثيرة فيها صورها وتاريخها، وليس هذا مجال الكلام عنها. وجعلوا للقصر واجهة من الخلف

(1) في مقالة «السلطان الشهيد» (مجاهد).

ص: 380

من جهة الجنوب فيها قوس أصغر، وجعلوا طبقتها العليا لوزارة العدل.

وكنت -كما عرفتم- وثيق الصلة يومئذ بالقائمين على الوزارة، وهم سامي العظم وكيلها ورشدي الحكيم رئيس ديوانها، وهما من أصدقاء أبي وخالي مُحِبّ الدين ومن رفاقه في صحبة الشيخ طاهر الجزائري. وعارف النكدي، المفتّش العامّ الذي عملت معه لمّا كان رئيس تحرير «الأيام» وكانت صلتي به صلة التلميذ بأستاذه، وقد شرّفني فوقها بصداقته مع صديقه أستاذنا عزّ الدين التنوخي. ومحاسب الوزارة زيوار بك الجابي. فاستطعت بذلك أن أختار المكان الذي أريده في القصر العدلي، فاخترت الجناح الأرضي في الواجهة الجنوبية، أي ما تحت الوزارة، ونقلت المحكمة إليها، فكانت المحكمة الشرعية أول محكمة تدخل القصر.

وكان للمحكمة الشرعية لمّا كانت في سوق الخياطين مسجد إمامُه الرسميّ الشيخ صادق أبو قورة، وفي المشيرية حتى لمّا صارت المندوبية أيام الفرنسيين مسجدٌ إمامُه الرسمي الشيخ يحيى المكتبي، وكلاهما من تلاميذ الشيخ بدر الدين ومن الذين يتولون خدمته. وكان الشيخ يحيى أقربَ الناس إليه، كان وكيله في أعماله ورسوله إلى الوزراء والرؤساء في حاجات البلد التي يرفعونها للشيخ، وأشهد أنْ طالما أنقذ الشيخ يحيى ناساً من الثوار وغيرهم من أيدي الفرنسيين، نجّاهم -بعون الله ثم بجاه الشيخ بدر الدين وبسعيه هو- من القتل.

أما الشيخ صادق فهو رجل يغلب عليه صفاء القلب، يقول

ص: 381

أحياناً كلاماً مغطّى عجيباً لا يكاد يُفهم. ومن العجائب ما أخبرني به أخي أنور العطار رحمه الله ورحم الشيخ صادقاً، أن للشيخ صادق أخوين أحدهما اسمه الشيخ عمر المسالخي والثاني اسمه الشيخ علي المستوي! (1)

* * *

(1) قارئ هذه الفقرات الأخيرة من هذه الحلقة يدرك أن الشيخ بدأ كلاماً لم يتمّه. والظاهر أن نيته كانت أن يكمل في أول الحلقة الآتية ما بدأه هنا، ثم صرفه عن ذلك تشعّبُ أحاديث الذكريات في طرق شتى كما سترون. فمَن أراد أن يصل هذا الحديثَ بتتمّته فليقفز إلى وسط الحلقة 215 (في الجزء الأخير من هذه الذكريات) فثَمّة خبرُ ما انتهى إليه مسجد المحكمة في موقعها الجديد (مجاهد).

ص: 382