المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

-174 -

‌بدأت أندونيسيا إسلامية،

فمن أين يأتيها البلاء

؟

إلى الأستاذ الذي تلطّف فكتب إليّ معلّقاً على ذكرياتي: يادكتور، أشكر لك ثناءك عليّ ثناء لا أستحقه، وتشجيعك إياي على عرض ما أعرف من تاريخ أندونيسيا. أما ما تقول من جهلك وأنت أستاذ التاريخ بتاريخ المسلمين في الشرق الأقصى فشيء -كما قلتَ- معيب حقاً، ولكن العيب ليس فيك وحدك، كلّنا فيه سواء. وأنا قبل أن أرحل من ثلاثين سنة هذه الرحلة التي أحدّثكم الآن بعض حديثها لم أكن أعرف من ذلك شيئاً، بل لم أكن أدري إلاّ أقلّ من القليل عن الدول الإسلامية التي قامت في الهند واستمرّت أكثر من ثمانمئة سنة، ولم أكن أدري شيئاً عن الإسلام في روسيا إلاّ ما عرض ابن بطوطة، حتى نشر المجمع العلمي في دمشق «رحلة ابن فضلان» .

وكم من دول إسلامية قامت في بقاع الأرض لا يكاد يعرف عنها المسلمون شيئاً. أمّا الإفاضة بسرد أخبار الدول الإسلامية في الشرق الأقصى فما منعني منه إلاّ أنني أكتب ذكريات، خشيت

ص: 265

أن أخرج عن جادتها أو أتعدّى حدودها فأجعل ما أكتب تاريخاً محضاً.

أما وهذه رغبتك، ورغبة مثلِك لا يمكن أن يُعرَض عنها. أما وقد جاءتني رسائل وسألني إخوان، ثم خبّرني الأستاذ عادل صلاحي أن الجريدة تفضّل أن أتوسّع في عرض هذه الصفحات من التاريخ

أمَا وقد كان ذلك كله فإنني أعود إلى ما قطعتُ الكلام فيه.

ضعوا الخريطة أمامكم: هذه جزيرة جاوة، وإلى يسارك وأنت تراها إلى الغرب منها جزيرة أكبر منها تزيد أضعافاً عليها، هي سومطرة، التي كانت مهد الإسلام في تلك الأقطار وكان منها شروق أنواره عليها. وإلى الشمال منها شبه جزيرة الملايا، وفي آخرها سنغافورة، بينهما مضيق مستطيل هو مضيق مَلَقة، وإلى الشمال من جاوة جزيرة من أكبر جزائر الدنيا هي كَلامَنْتان (التي كانت تُسمّى بورنيو). إلى يميننا، أي إلى الشرق منها أرخبيل فيه جزر كثيرة، تأتي بعدها جزيرة إيريان التي كانت تُدعى من قبل غينيا الجديدة، وإلى الشمال من ذلك كله أرخبيل الفلبين. الفلبين التي أغرقت البلاد ببناتها ممرّضات وخادمات، وبأبنائها خادمين وعاملين، وجُناة أحياناً مجرمين، وقد عرضوا عليكم هنا في الرائي (التلفزيون) بعض خبرهم منذ حين. وفي جنوب أرخبيل الفلبين جزيرة كبيرة هي جزيرة مَنْدَناو التي يسكنها مسلمون، يقاتَلون في دينهم ويُجنى عليهم ويضايَقون لأنهم مسلمون، ولأن من يضايقهم من الحكّام نصارى صليبيون.

* * *

ص: 266

من سومطرة سطع نور الإسلام على هاتيك البلاد، ولعلّ سَبْقها إليه لأنها على الطريق التجاري بين الهند وفارس وجزيرة العرب من جهة الغرب، وبين الصين وما وراءها من جهة الشرق.

ما حمل الإسلامَ إليها جيشٌ مقاتل ولا قائد فاتح، بل حمله -كما سبق القول- تجّار، ما دعوا إليه بخطبهم ومحاضراتهم بل بأخلاقهم وحسن معاملاتهم. ولبث الإسلام يمشي خطوة خطوة ونوره يتسرب شعاعاً بعد شعاع كما يتنفس الصبح عن نهار يمحو سواد الليل، فما أهلّ القرن الخامس عشر الميلادي حتى صارت له قوّة وصار لأهله منعة وسلطان.

وقد عرفتم خبر الملك الذي ترك أبّهة المُلك في الهند ولبس مسوح الزهّاد وسمّى نفسه الفقير محمد، والذي أسلم على يديه ذلك الأمير ولُقِّب «الملك الصالح» ، وتزوّج بأميرة ولاية برلاك وخلّف منها الظاهر والمنصور، وأنشأ مدينة فاسي، وأقام مملكة انتشر الإسلام منها إلى جميع جزر أندونيسيا، ومات رحمه الله سنة 1297م.

وعرفتم أن مَلقة لمّا دخل الإسلام إليها تأسّس فيها (أي في الملايا) دولة إسلامية سنة 1409، وكان ملكها ملكاً صالحاً استمرّ المُلك بعده، حتى ولي السلطان عليّ الدين رعيت شاه الأول (ملك الرعية) وكان صالحاً مصلحاً، أقام حدود الله وعبّد الطرق وبنى في مفارقها دوراً كاملة يأوي إليها المسافرون، وأقام من يحفظ ما يُعثَر عليه من المتاع المسروق أو المفقود حتى يُوصَّل إلى أصحابه، فساد الأمن ربوع البلاد وعظم شأن مدينة ملقة حتى أمّها الأمراء والتجّار من جميع أنحاء البلاد.

ص: 267

وقامت في سومطرة الدولة العظيمة التي عاشت طويلاً وناضلَت البرتغاليين المستعمرين طويلاً، وتوالى عليها الملوك، حتى تسنّمَت ذروة مجدها وقمّة قوتها سنة 1606 لمّا تولّى عرشَها إسكندر موده، وهو رجل مسلم وإن كان اسمه إسكندر. وكان قوياً نشيطاً طَموحاً عمل على توسيع مملكته فامتدّ نفوذها إلى شبه جزيرة الملايا، وفي سنة 1613 أعدّ حملة حربية لمحاربة البرتغاليين وطردهم من ملقة، ولكن هذه الحملة لم تستطع التغلّب على قوات البرتغاليين، فأدركها داء المسلمين المتأخّرين وهو الانقسام وأن يقاتل بعضهم بعضاً، وهم إخوة في الدين آخى بينهم ربّ العالَمين! فتحوّلت هذه الجيوش إلى جوهور فحاربتها واستولت عليها، وأسرت سلطانها المسلم عليّ الدين رعيت شاه الثالث وأخاه الأمير عبد الله وبعض رجال القصر، ونُقلوا إلى أبتشيه. ولكنه كان مؤمناً، والمؤمنون إذا مسّهم طائف من الشيطان وانحرفوا وعصوا تذكّروا فإذا هم مبصرون وإذا هم تائبون، فلما صحا وذكر أخوّة الإسلام أكرم ملك جوهور فزوّج أخاه الأمير عبد الله بأخته.

وفي 25 آب (أغسطس) سنة 1614 أعاد السلطان عليّ الدين إلى جوهور، ولكنها بقيَت بحكم التابعة لمملكة أبتشيه، إلى أن وَلِي مُلكَها السلطان عبد الجليل الثالث سنة 1637، فأحسّ بالضعف قد تسرب إلى دولة أبتشيه فانتهز الفرصة وأعلن استقلال جوهور. وهذه أيضاً عِلّة أخرى من عِلل المسلمين. وتعاقب عليها الملوك حتى جاء السلطان محمود شاه الثالث، فعقد (أو أُجبر على عقد) معاهدة مع الهولنديين. واستمرت إلى سنة 1819،

ص: 268

إلى أن جاء القائد الإنكليزي رفلس إلى مدينة ريو وسأل سلطان جوهور منحه جزيرة سنغافورة ليجعلها ميناء تجارياً، وقد مرّ بكم الخبر.

من ذلك التاريخ بدأ الإنكليز يتدخلون في جوهور عن طريق السلطان حسين الذي نصبوه سلطاناً وهو عميل لهم، كما أقام الهولنديون السلطان عبد الرحمن وهو يعمل لمصلحتهم، فكان مقرّ الأول مدينة سنغافورة ومقرّ الثاني مدينة ريو. استمرّ ذلك إلى سنة 1862 التي تولّى فيها الملك السلطان أبو بكر، فدبّت في جوهور حياة جديدة شملت المرافق كلها، فأُنشئت المدارس والمستشفيات وبُنيت المساجد وأُصلحت طرق المواصلات، وعمل على تحسين حال الزراعة في البلاد. وفي أواخر حياته سنة 1895 أقرّ الدستور وجعل الدين الإسلامي هو الدين الرسمي للبلاد.

وكان هذا السلطان بعيد النظر بارع السياسة عالي الهمّة، عمل على تحسين صلاته بالدول المجاورة له، ثم ساح في بلاد الله، فذهب في آذار (مارس) سنة 1866 إلى أوربا وقابل الملكة فكتوريا ودرس الحياة الإنكليزية والأنظمة القائمة فيها، ثم سافر في شباط (فبراير) سنة 1893 إلى أوربا مرّة أخرى وطاف بإنكلترا وألمانيا وإيطاليا ودول البلقان، وزار تركيا وقابل السلطان عبدالحميد فأكرمه وأنعم عليه بوشاح من الدرجة الأولى. وكان قد سافر قبل ذلك سنة 1883 إلى الشرق لزيارة الصين واليابان، وقابل «الميكادو» إمبراطور اليابان، وأسلم على يديه في هذه الرحلة خمسة من وجوه اليابانيين.

ص: 269

كما قامت في جاوة دول إسلامية أولاها الدولة الدمكية لمّا قُتل إمبراطور الإمبراطورية الكبيرة ماجاباهيت. وكانت ولاية دمك من الولايات التي استقلّت، وتمكّن ملكها سنة 1515 من إسقاط إمبراطورية ماجاباهيت ونقل شعارها إلى دمك عاصمة الدولة الإسلامية.

ثم قامت (كما مرّ بكم) دولة بنتام سنة 1568، ثم قامت دولة ماتارام سنة 1579 حين تجمّعت جيوش الدولة البوذية في جاوة وانضمّت إليها الدولة البوذية في جزيرة بالي، وهي جزيرة صغيرة شرقي جاوة، يقصدها السياح ليروا نساءها المجوسيات اللواتي كنّ يخرجن (إلى الوقت الذي زرت فيه أندونيسيا) عاريات الصدور، وهي بلد الرقص فيها من أشكاله وأنواعه ما يُعَدّ بالعشرات وبلد المتعة واللهو، ولم يبقَ بيننا وبينها إلاّ مسيرة ساعتين بالسيارة، ولم أمشِ إليها ولم أرَ شيئاً منها. هذه الجيوش التي تجمّعَت أغارت على الدولة الإسلامية بقُوى هائلة وأنزلَت بها خسائر فادحة، ولكن المسلمين ثبتوا ثبات الإيمان أمام الهجمات فأمدّهم الله بالنصر، وما النصر إلاّ من عند الله (1).

* * *

حاولت أن أجلو لكم صورة مُجمَلة عن الدول الإسلامية التي قامت في هذه المناطق البعيدة من الشرق الأقصى، فكتبتُ

(1) ما سبق من هذه الحلقة إلى هنا منقول باختصار من فصل «لمحات من تاريخ الدين والوطنية في أندونيسيا» ، وهو منشور في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

ص: 270

خلاصات، رؤوس أقلام كما يقولون. فجاءت هذه الخلاصات في بضع صفحات، إن شُرحَت وفُصّلَت (ولا بدّ لها من شرح وتفصيل) كان منها منهج سنة كاملة في الجامعة. فحاولتُ أن ألخّصها وأن أوجزها، فكان هذا الموجز قائمة أسماء وتواريخ جافة تصدّع رأس القارئ ولا يكاد يستفيد منها إلاّ القليل.

وسجّلتها -على عادتي- في شريط أرسله إلى الجريدة، فيطبعه ولدي الكريم السيد طاهر أبو بكر (وهو أمهر من عرفت ممّن يعمل على الطابعة، أي الآلة الكاتبة) ونِمتُ بعد موهن من الليل (أي بعد نصف الليل) وأنا مطمئنّ إلى أن الشريط مُعَدّ جاهز. فلما أصبحتُ أدرته فلم يَدُر، واستنطقتُه فلم ينطق، فإذا هو قد انقطع وتجمّع في داخل العلبة (أي الكاسيت)، فصنعتُ ما صنع القرد الذي قلّد النجار في كتاب «كليلة ودمنة» فعلق ذنَبه في شقّ الخشبة؛ ذلك أني حاولت فتح العلبة، فظهر الشريط وانفلت، وإذا هو شريط طويل جداً لم أستطع أن أعيد لفّه، ولو أعدتُه لم أقدر أن أرجعه إلى مكانه. فكنت كالذي زعموا أنه أخرج العفاريت من القمقم وأراد أن يُعيدها فما عادت (1)!

فصُدمت والله كأني كنت أعدو فلطمني جذع شجرة على وجهي، فشجّ جبيني وكسر حماستي وقطع جريي. وقعدتُ متألماً

(1) وبعد أن أعدتُ كتابة الحلقة مرّة ثانية جاء ابن بنتي المهندس مجاهد ديرانية فأعاد العفاريت إلى القمقم وأرجع الشريط كما كان حتى جعله ينطق، فصار عندي نسختان مختلفتان من هذه الحلقة الواحدة.

ص: 271

منزعجاً، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: الحمد لله، لعلّ الذي كان هو الخير، فالأمر أكثر من أن تتّسع له حلقة من ذكريات، ولا ينفع فيه إلاّ أن يتطوع أستاذ من أساتذة التاريخ (كالذي كتب إليّ وافتتحتُ بكتابه هذه الحلقة) فيجمع الأخبار ويستقصي المصادر، وأكثرها مكتوب بغير اللغة العربية، وينشئ من ذلك كتاباً في تاريخ المسلمين في الشرق الأقصى.

وخير من ذلك هو أن تجعل الجامعات أو إحداها كرسياً لهذا التاريخ، ليعرف أبناء المسلمين أخبار إخوانهم، فإن من لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم.

* * *

أتمّ الكلام على الحقبة الإسلامية الجديدة. قلت لكم إن الجمعيات والأحزاب الإسلامية كوّنت منها بين الحربين شبه اتحاد باسم المجلس الإسلامي الأعلى، وعقد هذا المجلس مؤتمرات عامّة واشتغل بمسألة الخلافة، وأسّس «جمعية الخلافة في الهند الشرقية» (وكلمة «الهند الشرقية» هي الترجمة العربية لكلمة أندونيسيا). وكانت هذه الجمعية فرعاً لجمعية الخلافة في الهند، وكان من أعمالها أن أوفدَت وفداً إلى الملك عبد العزيز رحمه الله، من رئيس شركة إسلام وسلطان منصور عن الجمعية المحمدية.

واهتمّ هذا المجلس بقضايا العرب في فلسطين وبرقة وعمل على مقاطعة إيطاليا. وكذلك ترون أن المسلمين في كل بقعة من الأرض يجعلون قضية فلسطين قضيتهم، ونحن العرب نجعلها

ص: 272

قضية عربية، فكأننا نُبعِدهم عنها ونأبى معاونتهم فيها!

وأنشأ هذا المجلس فرعاً للصحافة يردّ مفترَيات المجلاّت الأوربية والصينية، ولا سيما الحملة التي أثارها المبشّر جاندير والمجلاّت الإلحادية مثل «صوت العموم» ، وجاهد جهاداً رائعاً لإبطال القوانين الاستعمارية، ومنها قانون الزواج المدني المخالف للإسلام، وقانون التدريس الديني، وقانون تمليك الأراضي جبراً للشركات الأجنبية بحُجّة النفع العامّ (كما تصنع إسرائيل في فلسطين).

ثم قلت لكم إنها اجتمعت مرّة أخرى أيام حُكم اليابان وكوّنت اتحاداً أوثق وأقوى هو مجلس الشورى الإسلامي الذي يُدعى اختصاراً باسم «ماشومي» . ولمّا كان الاستقلال وصارت فرق الدفاع الوطني هي الجيش بقي حزب الله معتزلاً، وألّف شبه حكومة داخلية باسم «دار الإسلام» ، ولمّا زرت جاوة الزيارة التي أحدّثكم حديثها كانت هذه الحكومة موجودة في بقعة جبلية تضمّ ملايين من السكان وتقيم حكم الله.

ولمّا كنت في رحلتي من غربي جاوة إلى شرقيها ووصل بنا القطار إلى أعالي الجبال، وكنا نسير في شبه نفق بين أشجار الغابات الكثيفة من الجهتين كأننا نمشي منهما بين جبلين، رأينا الجند قد احتلّوا عربات القطار كلها ووضعوا فيها الرشاشات ووجّهوها إلى النوافذ، فسألت فإذا نحن في منطقة «دار الإسلام» . وكان فيها -كما قلت لكم- حكومة في حكومة، وعاصمتها يدعوها أصحابها «المدينة المنورة» ، وسمعت أنه كان لها يومئذ

ص: 273

جيش فيه عشرة آلاف، وهي تحكم منطقة جبلية واسعة (1).

وقصة هذه الحكومة أنه لمّا ثار الشيوعيون في ماريون سنة 1948 وأضعفوا الجمهورية رجع الهولنديون فاغتنموا هذه الفرصة -كما عرفتم- وهجموا على جوكجا واعتقلوا سوكارنو وحتا وسالم ونفوهم وعادوا لاحتلال البلاد، فتألّفت حكومة وطنية في سومطرة، وأشعلوها حرباً على الهولنديين سرعان ما امتدّت نيرانها إلى كل مكان، فقرّروا مواصلة الجهاد باتباع أسلوب حرب العصابات وسلّموا قيادتها إلى كارتو سويريو، وعاهدوه على أن تُقام بعد الظفر حكومة إسلامية تحكم بما أنزل الله، تُحِلّ الحلال وتحرّم الحرام وتُقيم الحدود وتنفّذ أحكام الإسلام كلها.

وأبلى كارتو سويريو في الجهاد أعظم بلاء وكان له الأثر الكبير في طرد المستعمرين وتحقيق الاستقلال، فلمّا استقلّت البلاد لم يفوا له بما وعدوه، فاعتزل بجنوده ومن تبعه واعتصم في هذه المنطقة الجبلية وأقام فيها حكومة إسلامية، وضع لها دستوراً مستمَداً من أحكام الشرع وسمّى عاصمتها «المدينة المنورة» . وهذا الذي أصفه هو ما رأيته أيام زيارتي لأندونيسيا سنة 1954، ولست أدري ما حالها اليوم لأن القوم لا يتحدّثون عنها ولا يُحبّون الكلام فيها، والأخبار العامّة لا تشير إليها.

* * *

وعقدَت الأحزاب الإسلامية والجمعيات الإسلامية مؤتمراً

(1) انظر فصل «نثار من المشاهدات والأخبار» في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

ص: 274

جمعها كلها (1)، وقرّر توحيد الصفوف بحزب ماشومي وانتخب لرياسته أول الأمر سوكيمان، وكان السكرتير الأول (أي الناموس) آبي كوشنو، وهو أخو شكري أمينوتو (ولعلّ هذا الاسم محرف عن شكري أمين) والثاني كارتو سويريو الذي كنت أتكلم عنه، والسكرتير العامّ ولي الفتاح.

ثم عاودَتنا علّة الانقسامات والانفصالات، ففي منتصف عام 1947 انشقّت جماعة «شركة إسلام» وأعادوا تشكيل حزبهم القديم ودخلوا الوزارة يومئذٍ، ثم انشقّت بعدهم «التربية الإسلامية» سنة 1949 وكوّنت حزباً مستقلاًّ رئيسه سراج الدين عباس. ثم كان مؤتمر جوكجا في 25 كانون الأول (ديسمبر) 1949 ودام خمسة أيام بلياليها، وكان أعظم مؤتمر إسلامي في تلك البلاد، شهده سبعمئة مندوب وكان من مقرراته:

(1)

تثبيت ماشومي وتكوين مكتب تنفيذي له، واعتبار جميع الأحزاب والجمعيات أعضاء فيه.

(2)

أن يكون للحزب أقسام: للدعاية والنشر، وللنساء، والاقتصاد والتربية والثقافة.

(3)

تأليف جبهة تضمّ جمعيات الشباب كلها باسم جبهة الشباب الأندونيسي.

(4)

تأليف لجنة دائمة للحَجّ.

(1) سبق الحديث عن الأحزاب والجمعيات الإسلامية في الحلقة الماضية لكنه قُطع ولم يتم، وهذه تتمته هنا، وهي من فصل «الحركة الإسلامية في أندونيسيا» المنشور في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

ص: 275

(5)

توحيد الصحافة الإسلامية في أندونيسيا.

(6)

إعداد لجنة من العلماء لوضع الدستور الإسلامي.

(7)

المطالبة بحلّ الخلاف مع «دار الإسلام» حلاًّ سلمياً.

(8)

تأييد فلسطين وتونس والجزائر ومرّاكش عملياً ومالياً (لأنها لم تكن يومئذ قد نالت استقلالها).

(9)

إنشاء وقف بخمسين مليون روبية لافتتاح مدارس إسلامية.

ولكن هذا الاتحاد لم يدُم وعاد إلى الانقسامات، وانشقّت جمعية نهضة العلماء، وعقدت هي وشركة إسلام والتربية الإسلامية مؤتمراً في فلمبان في سومطرة الجنوبية وأعلنت انفصالها عن ماشومي، وشكّلت حزباً واحداً منها هو «مسلم ليغ» (أي الجماعة الإسلامية) وقرّرت اعتبار الخلاف بينها وبين ماشومي خلافاً شكلياً، خلافاً في الطريقة فقط لا في المبدأ ولا في الغاية، وانتخب الكياي دحلان رئيساً لها.

فصار في أندونيسيا جبهتان إسلاميتان: ماشومي ورئيسها محمد ناصر الذي رأس مؤتمر القدس في دورته الثانية في دمشق، وهو رجل عالِم فاضل متواضع يحبّه ويحترمه كل من يلقاه، وكان يقدَّر عدد المنتسبين إلى ماشومي لمّا كنت في تلك البلاد بأكثر من أحد عشر مليوناً. و «مسلم ليغ» ورئيسه دحلان. كما أن فيها «دار الإسلام» ورئيسها كارتو سويريو.

وفي نيسان (أبريل) سنة 1953 عُقد مؤتمر العلماء في ميدان عاصمة سومطرة، حضره ستمئة عالِم وقرّروا مقرَّرات منها:

ص: 276

(1)

أن يكون الحكم شورياً انتخابياً مقيَّداً بأحكام الشرع.

(2)

وأن يُعتبر الانتخاب واجباً شرعياً، ولا يجوز انتخاب غير المسلم.

قلت: لأن الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، فلا يجوز لغير المسلم أن يضع قوانين تُطبَّق على المسلمين وتقيد حرّياتهم وتتحكّم فيهم. وهذه الحقيقة -على ظهورها وبيانها- غفل عنها أو تغافل علماء المسلمين. وأنا أحمد الله على أنني كنت من نحو أكثر من ربع قرن أولَ من جهر بها على منابر المساجد والجمعيات والنوادي، قلت ذلك تصريحاً وتوضيحاً، وعرضت له في إذاعة دمشق تلويحاً وتلميحاً.

* * *

هذا ما رأيته وسمعته في رحلتي إلى أندونيسيا. أما الذي انتهت إليه الدعوة الإسلامية الآن، وأما حال الإسلام والمسلمين فيها في هذه الأيام فلست أعرف عنه إلاّ القليل الذي يُنشر في الصحف أو يُشار إليه في الإذاعات. ولكن العجيب والله الذي ما ينقضي منه العجب أن من كان معه الحقّ ينام عن حقّه وصاحب الباطل يجدّ لنصرة باطله؛ الذي يقول إن الواحد يساوي واحداً (وتلك حقيقة الحقائق) لا يدعو لها ولا ينصح الناس بها، والذي يزعم أن الثلاثة تساوي واحداً (وذلك باطل الأباطيل) يحشد الرجال ويجمع الأموال لإقناع الناس بهذا المحال، وهو أن الثلاثة الريالات تعدل الريال الواحد! والذي معه كتاب يدّعي أنه من عند الله وليس في الوجود دليل واحد يثبت مدّعاه يعمل على

ص: 277

نشره ودعوة الناس إليه، والذي معه كتاب الله الذي يقوم كل دليل في الوجود على أنه من عند الله، ما نقص منه حرف ولا زيد عليه حرف ولا تبدّل فيه حرف، يقعد عن دعوة الناس إليه.

لقد أفلس هؤلاء المكفّرون المنصّرون الذين يقولون إنهم المبشّرون، يبشرون بالعذاب الأليم، أفلسوا في أوربا وافترق عنهم عقلاء الناس. ولقد رأيت بعيني كثيراً من الكنائس في أوربا الغربية قد أقفرَت من روّادها، ومنها التي أغلقت أبوابها، ومنها ما عُرض للإيجار أو البيع بالمزاد! بل لقد شهدت في ألمانيا مسجداً صغيراً له متوضّأ يتطهّر فيه الناس في زاوية من الكنيسة، فلما سألت علمت أنهم فضّلوا أن يدخلها الناس ولو من غير دينهم، على أن تبقى خلاء ما فيها إلاّ الهواء!

أفلسوا في بلادهم فجاؤوا إلينا. وإذا كان الذي يسرق مالك من كيسك ومتاعك من دارك يُسمّى لصاً، فماذا يُسمى الذي يسرق عقيدتك من قلبك؟ والعقيدةُ أثمن من أموال الدنيا. لكن الحكومات تحمي الناس من لصوص الأموال والمحاكم تعاقب السارقين والسجون مأوى اللصوص والمجرمين، وهؤلاء المساكين غدوا في تلك البلاد كقطيع بلا راعٍ، قد سُلّط عليهم عدوّ يملك المال ويملك الحيلة ويملك القوّة، ولو كان عند جمهورهم من العلم بالإسلام مثل الذي عندهم من الحماسة للإسلام لردّوا عدوهم.

الإسلام عقيدة وعلم وعمل، ومسلمو أندونيسيا جاءهم الإسلام حينما جاءهم الاستعمار البرتغالي. ما حمله إليهم علماء

ص: 278

يعلّمونهم ولا فقهاء يفقّهونهم، بل حمله تجار كانوا صادقين في دعوتهم فدعوهم إلى الإسلام فاستجابوا. فيا أيها المسلمون، كيف تتركون مئة وخمسين مليوناً من إخوانكم لهؤلاء المكفّرين المنصّرين الذي تؤيّدهم قوى الشرّ كلها، وكثير من هؤلاء الإخوان فقراء وأكثرهم ليسوا علماء، فإذا تركتموهم وحدهم أمام هذه الحملة القوية الظالمة صارت أندونيسيا -لا سمح الله- أندلساً أخرى، وصرتم تقرعون الأكُفّ ندماً وتَنْظمون القصائد أسفاً وتُريقون الدموع عبثاً على أنكم أضعتم بقعودكم عن نصرتهم وعن الذود عن دينكم ودينهم، أضعتم أكبر دولة إسلامية.

ولن يكون هذا إن شاء الله أبداً، لأن للباطل دولة ثم يضمحل، ولا يكسب الجولة الأخيرة إلاّ الحقّ ولا يكون الظفر إلاّ للحقّ.

إن بلاء أندونيسيا بمن يُسمَّون بالمبشّرين قديم؛ فالهولنديون عملوا على تأييدهم وسخّروا لذلك مناهج المدارس وأعدّوا لتلقّيه الصغار. وهذا ما تَنبّه إليه أعداؤنا وغفلنا نحن عنه، هو الاهتمام بالأطفال. الأطفال هم أمّة المستقبل، نفوسهم صفحة بيضاء تنقش عليها ما تشاء، وقلوبهم عجينة طرية، إنهم كالأرض الخلاء تُقيم عليها البناء بلا تعب ولا عناء. والكبار كالبيت القديم، عليك -إذا أردت تجديده- أن تهدمه وأن تنقل أنقاضه وأن تُخلي أرضه ثم تقيم البناء الجديد عليه.

فتداركوا أطفالكم، انظروا المربّين والمربّيات الذين تسلّمونهم إياهم، انظروا المدارس التي تبعثون إليها بهم، انظروا

ص: 279

المعلّمين الذين تُقعِدونهم بين أيديهم

تَنبّهوا فإن كل كلمة تُلقى في أذن الطفل وكل بذرة عقيدة تُغرس في قلبه سيكون لها أثر ظاهر في مُقبل أيامه، في دينه وفي خلقه وفي سلوكه. لقد طالما قلت وأعدت وكرّرت القول: إن بذور الخير والشرّ والإيمان والكفر تُغرَس في نفوس الأطفال في السنوات الخمس أو الست الأولى من أعمارهم، فاللهَ اللهَ في أطفالكم، واللهَ اللهَ في إخوانكم في أندونيسيا، فإن مَن نجا منهم من حملة التنصير والتكفير (التي تُسمّى كذباً دعوة التبشير) وقع في «البنغاسيلا» التي أوحى بها إلى أوليائه الشيطانُ، زخرف القول غروراً، لتجرّ عليهم هلكة وثبوراً.

أتدرون ما «بنغاسيلا» التي يتخذها بعض المسلمين ديناً بدلاً من دين الله؟ «بنغا» كلمة فارسية الأصل معناها خمسة، يستعملها الذين يلعبون النرد، و «سيلا» بمعنى ركن أو دعامة؛ فالبنغاسيلا هي «الأركان الخمسة» .

بُني الإسلام على خمس، وهم يدعون إلى دين جديد يُبنى على خمس بدلاً من الخمس التي بُني عليها الإسلام. خَمسُنا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت. وخَمسُهم الإيمان بالله الواحد الأحد، والإنسانية العادلة المتحضرة، ووحدة أندونيسيا القومية، وسيادة الشعب، والعدالة الاجتماعية.

كلام إن فهمه المؤمن بالإسلام يستطيع أن يفسّره تفسيراً لا اعتراض عليه، ولكن الذين وضعوه والذين سمعوه ففهموه يفسّرونه على وجوه تناقض الإسلام. خذوا قولهم «سيادة الشعب» . أيّ شعب في أندونيسيا إلاّ الشعب المسلم الذي تبلغ نسبته في

ص: 280

السكان خمسة وتسعين في كل مئة منهم؟ أفيرضى المسلم بغير ما جاء به الإسلام؟

في أندونيسيا ثلاثة عشر ألف جزيرة المسكون منها ثلاثة آلاف، يُنادى فيها كل يوم خمس مرات:«أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة» ، فأين الإيمان بمحمد في «بنغاسيلا» هذه التي ابتدعوها؟ وأين فيها الصلاة؟ وما الإيمان إن لم يكن معه عمل؟ والله ما ذكر الذين آمنوا إلاّ وصفهم بالذين عملوا الصالحات.

لقد أقرّت هذه «البنغاسيلا» لجنةُ استقلال أندونيسيا يوم 18 آب (أغسطس) سنة 1945، ولكن المبادئ التي بُني عليها الإسلام ما أقرّتها لجنة من البشر، بل أنزلها الله الذي أنزل القرآن، حين هبط به مقدّم الملائكة جبريل على مقدّم البشر محمد، صلّى الله على محمد وعلى جبريل، ليكون هو الدين الباقي إلى يوم القيامة. فمَن يُنزِل غير ما أنزل الله؟ كلاّ، لا بنغاسيلا، ولا تبشير بالكفر، ولا نترك شعيرة من شعائر الإسلام، ولا ندع شيئاً منه إلى غيره، مهما زيّنه لنا جمهور المنصّرين من أعوان الشياطين.

{لا جَرَمَ أنّ ما تَدْعونَني إليهِ ليْسَ لهُ دَعْوَةٌ في الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ، وأنّ مَرَدَّنا إلى الله، وأنّ المُسْرِفينَ هُمْ أصْحَابُ النّارِ. فَسَتَذْكرونَ ما أقولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أمري إلى اللهِ إنّ اللهَ بَصيرٌ بِالعِبَاد} .

* * *

ص: 281