المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌على الطريق إلى أندونيسيا - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌على الطريق إلى أندونيسيا

-166 -

‌على الطريق إلى أندونيسيا

قلت لكم إن بين سنغافورة والملايا (ماليزيا) جسراً ممدوداً فوق البحر، فإذا قطعتم هذا الجسر وجُزتم الحدود والمكوس (الجمارك، التي تخلو منها الجزيرة) رأيتم تسع سلطنات فيها تسعة سلاطين، لم يأتِ بها اختلاف جنس ولا لسان ولا دين ولا جاءت بها إرادة الشعب، ولكن مصلحة المستعمر. وأقربها من سنغافورة سلطنة جوهور. وقد قلت لكم إنني ألقيت فيها خطبة هجمت فيها على الإنكليز هجمة الحقّ، وكان الناس بقلوبهم معي وكانوا معي بألسنتهم التي تهتف مؤيّدة لي مؤمنة بما أقول.

وذهبنا بعد الحفلة إلى مسجد جوهور. وهو في بقعة لم أرَ -على كثرة ما رأيت من البلدان وزرت من الأقطار- بقعة أجمل منها ولا أهدأ؛ هضبة مستوية كأنها قبّة ضخمة فيها الأشجار الاستوائية البارعة الجمال المتعدّدة الأزهار التي لا نعرف أمثالها في بلادنا، تتخلّلها بقاع مكشوفة أرضها خضراء ليّنة زاهرة كأنها سجّادة فاخرة، في وسطها المسجد. وهو من الرخام الأبيض الناصع، نظيف نظافة قَلّ مثالها، والمكان هادئ حتى ليسمع فيه الإنسان صوت السكون، في عالَم تداخلت فيه الأصوات وامتزجت

ص: 151

وتخالطَت: أصوات السيارات في الشارع، والآلات في المعمل، والناس في السوق، والأولاد في المدرسة

ضوضاء تتحطم منها الأعصاب حتى ليتمنّى المرء مخلصاً منها. وأين المخلص وأين الهدوء؟ على أنه ليس كل ساكن هادئ مستحَبّ مطلوب، فالسجن الانفرادي فيه الهدوء كلّه ولكن ما فيه من السعادة ولا من الأُنس شيء، والصحراء هادئة ولكن لا راحة فيها ولا هناء لأنه لا ظِلّ فيها ولا ماء.

فلما جئت هذا المكان وجدت الهدوء الجميل والسكون المؤنس وأمان النفس واطمئنان القلب، في بقعة جمعت جمال الطبيعة التي طبعها الله عليها، وجلال الدين الذي يعبّر عنه المسجد، وطيب الصحبة مع هؤلاء الإخوة الكرام. وقد صلّينا معهم فيه، ثم ذهبنا إلى دار المفتي السيد علوي بن طاهر الحدّاد، وهي على الهضبة وراء المسجد، وكان مجلس علم ومذاكرة ونكت ونوادر. والمفتي رجل حضرمي عالِم مطّلع حاضر النكتة عذب الحديث، أعلم مَن لقيت منذ خرجت من الهند متجوّلاً في جنوب آسيا إلى أن رجعت إليها.

وكانت الهيئات الإسلامية هناك عاملة على تحقيق مشروع عظيم هو إنشاء كلية إسلامية، قُدِّر لبنائها يومئذ مليون دولار ملاوي (أي ماليزي، والدولار أو الروبية الملاوية لم تكن تزيد عن الليرة السورية إلاّ شيئاً قليلاً). وقد كان أول من سعى إلى إنشائها الشيخ عبد العليم الصديقي، الداعية الإسلامي المعروف بمحاربة المدارس التنصيرية الأجنبية، وقد بلغني أنه تم جمع المبلغ بعد سفري وافتُتحَت الكلّية.

ص: 152

وكان قد سبقه مشروع آخر هو بناء مسجد كبير له مدرسة، فتبرّع سلطان برونَيْ يومئذ بخمسة ملايين روبية للجامع وبمليون لمدرسته، وهذا السلطان كان يملك من النفط (البترول) الذي ظهر في بلاده ثروة قالوا إنها لا تحدّها الأرقام.

ورأيت المسلمين في الملايا من أكثر المسلمين يقظة وانتباهاً، يقومون بالدعوة إلى الإسلام، وقد رأيت في رئاسة الشؤون الدينية في جوهور دائرة خاصة للدخول في الإسلام، ورأيت الصينيين يزدحمون على بابها ليعلنوا دخولهم فيه. وهم مُقبلون على إنشاء المدارس والمساجد والكليات الإسلامية ويبذلون لذلك الأموال الوفيرة.

ولمّا كنت في سنغافورة كانت هنالك معركة الحروف اللاتينية والعربية. واللغة الملاوية (الماليزية) كانت تُكتَب بحروف عربية كما قلت لكم، كاللغة الفارسية واللغة الأردية، فحوّلها الهولنديون في أندونيسيا إلى الحروف اللاتينية، فلم يبقَ مَن يكتبها بالحروف العربية إلاّ الكهول والشيوخ، وأراد الإنكليز أن يصنعوا مثل ذلك في الملايا فأباه المسلمون عليهم. هذا ما كان يوم زرتُها، ولست أدري الآن ما حالها (1).

واللغة الشعبية في الملايا هي اللغة الملاوية (أي الماليزية)، وهي لغة أندونيسيا. وهي لغة عجيبة سهلٌ تعلّمها، يرى علماء اللغات أنها ستكون في الشرق كالإنكليزية في الغرب لسهولة

(1) اللغة الملاوية تُكتَب اليوم بالحروف اللاتينية، ولم يعد يعرف الحروفَ العربية إلا طلبةُ العلم في المدارس الدينية (مجاهد).

ص: 153

تعلّمها كما يقول من يعرفها. وهي لغة ليس فيها تصريف وليس فيها ماضٍ ومضارع وأمر، بل يأخذون المصدر فيضمّون إليه الضمائر والظروف، فإذا أراد المرء أن يقول «أُعطي» مثلاً، يقول «أنا إعطاء» ، وإن أراد أن يقول «أعطيتُ» يقول «أنا إعطاء أمس» ، كما يقول «أنا إعطاء أنت أمس» مكان «أعطيتُك» . والجمع يكون بتكرار اللفظ مرّتين، فكلمة «سوادارا» مثلاً معناها «أخ» ، فإن قال الخطيب «سوادارا سوادارا» كان معنى ذلك «إخواني» . والعدد يكون بالأرقام المُفرَدة، فإن أراد المرء أن يقول «مئة وسبعة وخمسون» قال «واحد سبعة خمسة» ، ولفظ الأعداد من واحد إلى تسعة هو: ساتوا، دوا، سيغا، أنبات، ليما، أومان، توجو، دوليان، سانبيلان.

كان في الملايا نحو ثلاثة ملايين من المسلمين، كان ذلك عددهم لما زرناهم من خمس وعشرين سنة، والعرب قِلّة وأكثرهم من الحضارمة. والحضارمة طبقات، منهم العلويون الذين يقولون إنهم سادة أشراف، ومنهم من ليس له مثل هذه الدعوى. مع أن قيمة الإنسان في دين الإسلام بعمله وتقواه لا بآبائه وجدوده، والكريم هو التقيّ، والشريف هو الذي يكون شريفاً في معاملته وفي سلوكه. ثم إن أكثر الأنساب التي يُدّعى فيها الاتصال بالرسول عليه الصلاة والسلام ليس لها ما يُثبِتها ويؤكّدها إلاّ قول أصحابها، وأنا لا أتهم أحداً في نسبه ولكن أقرّر حقيقة ثابتة.

وللعرب مدارس دينية، زُرت بعضاً منها فحسبتُني في مدرسة شرعية من مدارس دمشق التي عرفناها ونحن صغار، قبل أن تستحدث المدارس هذه الطرق في التدريس وهذه الأساليب

ص: 154

في التعليم التي بُنيت على تجارِب طويلة. ورأيتهم يقرؤون فيها ما كان يُقرَأ في مدارسنا: النحو والصرف والفقه والتجويد والحديث والتفسير. الكتب هي هي، والأساليب هي هي، والأزياء هي هي؛ لا يختلف شيء منها عمّا في مدارس الشام وعن الذي عرفناه من مدارس مصر، لا المدارس الحديثة التي دخل إليها التطوّر ونالها التبديل بل المدارس التي كانت في أوائل هذا القرن الهجري.

وليس ينقص هذه البلادَ إلاّ العلماء والدعاة إلى الله. ولو أن البلاد العربية قد أدّت أمانة تبليغ الإسلام في هذا العصر كما أدّتها من قبل حين خرج العرب من صحرائهم يحملون هذا النور، تحت رايات محمد عليه الصلاة والسلام، ينشرونه في الأرض

لو أننا سلكنا اليوم سبيلهم ومشينا على سَنَنهم وبعثنا بالعلماء إلى أقطار الإسلام كلها لَعاد لنا مجد الماضي، ولرجعَت لنا عِزّة الجدود، ولكتبنا في التاريخ مرّة ثانية هاتيك الصفحات (1).

* * *

يسافر المرء من دمشق إلى حلب أو من القاهرة إلى أسيوط فيشكو بُعد الشقّة وطول السفر، ويقول: متى نحطّ الرحال وينتهي الترحال؟ فكيف بنا وقد سافرنا في رحلة واحدة من كراتشي في غربي القارة الهندية إلى جاكرتا في غربي جزيرة جاوة؟ رحلة لو كانت في أيام ابن بطّوطة لأكلَت من عمره سنة، ولو كانت

(1) ما سبق من هذه الحلقة من أولها إلى هنا جزء من فصل «في الملايا» ، وما يأتي إلى آخرها منقول بتصرف قليل من فصل «في جاكرتا» ، وكلا الفصلين منشورٌ في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).

ص: 155

من نصف قرن لاستغرقَت شهراً، قطعناها في أقلّ من عشرين ساعة، نرى الأرض تُطوى من تحتنا ونُبصِر البلاد كأنها في مصوَّر (خريطة) مجسّمة موضوعة على المكتب، ونحن مشدودون إلى المقاعد لا نمشي إلاّ هذه الأمتار المعدودة بين المقعد والحمّام.

أكلنا ولبثنا بعد الأكل حتى جعنا، ثم أكلنا ولبثنا حتى جعنا، ونمنا حتى شبعنا من النوم، وأفقنا حتى نعسنا فنمنا، وتكلّمنا حتى مللنا فسكتنا، وسكتنا حتى مللنا السكوت فتكلّمنا

والطيارة ماضية بنا. حتى إذا بلغ السأم منّا قالت المضيفة: اربطوا الأحزمة، هذه جاكرتا.

فصحونا وجعلنا ننظر من نوافذ الطيارة كحالنا كلما وردنا بلداً جديداً. وأجمل ما في ركوب الطيارة منظر الأرض حين تدنو منها وتُسِفّ لتحطّ فيها، ننظر فإذا نحن نمشي على ظهور البيوت ونثب على المآذن والمداخن، كأننا نطير في المنام! ونظرنا، فرأينا البلدة بساتين واسعة فيها بيوت صغيرة ملوّنة، وجعلنا نبتدر النزول ونتسابق إليه. والمُسافر يصبر الطريق كلّه، فإذا قرب الوصول وبدا له المنزل ضاق صدره وتصرّم صبره، وهذه طبيعة الإنسان.

وأشوَقُ ما يكونُ المرءُ يوماً

إذا دنَتِ الخيامُ منَ الخيامِ

ولمّا مسّت أقدامنا الأرض تشهّدنا وأقبلنا ننظر، فإذا في استقبالنا وجوه القوم: وكيل وزارة الخارجية جاء باسم الحكومة يستقبلنا ويدعونا ليُنزِلنا ضيوفاً عليها ما بقينا في بلدها، وسفير مصر (الذي رأيت من نُبله وفضله وتواضُعه ما لم أنسَهُ إلى الآن ولا أنساه أبداً) الأستاذ علي فهمي العمروسي، والقائم بأعمال

ص: 156

المفوّضية السعودية، الرجل الفاضل الكريم الذي لم أرَه بعد تلك الرحلة الأستاذ عِزّة الكثبي، وهو أخ وفيّ وعربي نبيل. ولم يكن في جاكرتا من ممثّلي الدول العربية يومئذ غيرهما. وزعيم عرب أندونيسيا السيد علي سنكر، وآخرون إذا لم أذكر الآن أسماءهم فإني أذكر دائماً كرمهم وفضلهم.

وكان العصر قد أذّن، وكان رفيقي في الرحلة، الشيخ أمجد الزهاوي رحمة الله عليه، إذا دخل وقت الصلاة لا يشتغل إلاّ بالصلاة، سواء لديه أين كان ومع مَن كان. ولقد كان على مائدة الملك حسين في عمّان يوم دعا أعضاء المؤتمر الإسلامي (وقد اعتذرت عنها أنا فلم أحضرها)، فسمع الأذان فترك الطعام وقام. ولا يصنع ذلك تظاهراً وتفاخراً ولا يخطر له التفاخر على بال، بل يفعله لأنه يراه الشيء الطبيعي (كلمة طبيعي فصيحة) لا يفكّر لِمَ يفعله. وإن كان الأفضل غير الذي فعل.

فلما وصلنا إلى المستقبلين أقبلوا يسلّمون علينا، وهو يصافحهم مشغول الذهن حاضر كأنه غائب، يتلفّت يسألني: أفندي، أين نصلّي؟ فقلت له: إن الوقت متّسع وسنصل إلى الفندق فنصلّي. فغضب وتركني. وكان رحمه الله سريع الغضب سريع الرضا. وسأل واحداً من المستقبِلين عن القبلة فدلّه عليها، فنزع جبّته فبسطها على أرض المطار وقال:«الله أكبر» . وكان يقولها -كما قلت لكم من قبل (أو لم أقُل لكم فلست أدري والله) - يجمع نفسه ثم يُطلِقها كأنها قنبلة تُلقى في وجه إبليس، تخرج من أعماق قلب مؤمن، يستصغر الدنيا كلها حين ينطق بها فلا يَكبُر عليه شيء منها لأنه يقوم بين يدي الله، والله أكبر.

ص: 157

وخشيت أن ينتقد الناس هذا الموقف منه، ولكن أثر الإيمان بدا واضحاً، فإذا وكيل الوزارة والسفير والقائم بالأعمال وأكثر المستقبلين يقفون معه، يصطفّون وراءه ليصلّوا بصلاته. وكانت ساعة خشوع، وكانت خيرَ فاتحة لأيامنا في أندونيسيا إذ ألقى الله محبّة الشيخ وإكباره في نفوسهم. ومَن أحبّ الله بامتثال أمره واتّباع شرعه حبّبه الله إلى الناس وأعلى منزلته فيهم.

لقد بقينا في كراتشي أكثر من عشرين يوماً ننتظر سِمَة الدخول إلى أندونيسيا والسفارة هناك تؤجّل وتتعلّل بالعلل، وقد عرفنا الآن سبب ذلك التعلّل والتأجيل. كان السبب أزمة المساكن، فلم يكن في جاكرتا مكان لقادم ينزل فيه إن لم يكن قد حجزه من قبل، وما تأخّروا بإعطائنا سمة الدخول إلاّ ليهيّؤوا لنا مكاناً في الفندق، وقد أخذونا إليه الآن.

ومشينا في الشوارع تظلّلها الأشجار الكبار (الكبار جداً) وتكتنفها البساتين، تُخفي البيوت الملوّنة، فتبدو من خلال الغصون والأوراق كأنها فكرة تلوح لكاتب أو صورة حلوة تتراءى من خلال الأحلام لشاعر. أمّا الفندق الذي أخذونا إليه فهو فندق الشركة الهولندية التي جئنا بطياراتها، شركة «ك ل م» ، وكانت من أكبر شركات الطيران يومئذ وأقدمها، ولكن فندقها هذا عجب؛ إنه يشبه ثكنة أو شيئاً كالثكنة، ولم أرَ مثله إلاّ الفندق الأميركي الذي نزلنا فيه بعدُ في دهلي الجديدة (نيودلهي).

وهو ساحة مربّعة حولها صفوف من الغرف، كل غرفة منها لها شرفة واسعة تُفضي إلى غرفة أخرى للنوم فيها حمّام. ووراء

ص: 158

هذه الساحة ساحة أخرى، وما شئت من ساحات مربعة وغرف محيطة به، وكل ساحة تُفضي إلى الأخرى. فإذا دخلتها ضعت فيها، فكأنك في قصور الجِنّ في حكايات ألف ليلة. وكان علينا إذا أردنا الطعام أن نجتاز ستّ ساحات ونمشي مثل ما بين الحرم المكّي وأجياد!

والعجيب أن جاوة أزحم بلاد الدنيا بالسكان، لا أعرف لها مثيلاً إلاّ باكستان الشرقية (التي صارت بنغلاديش)، وكان فيها يوم زرناها ثلاثة وخمسون مليوناً من الناس في جزيرة لا تعادل ثلثَي الجمهورية السورية. وكان فيها أزمة سكن لا شبيه لها، وبيوتها -مع ذلك- من طبقة واحدة أو طبقتين.

وقد تفضّلَت علينا الحكومة الأندونيسية فأنزلَتنا ضيوفاً عليها، وربطَت بنا دليلاً موظفاً من وزارة الخارجية يتكلّم العربية كما نتكلمها نحن، لأنه درس في مصر ولأن زوجته مصرية، وجعلَت لنا سيارة. فأفسد هذا الدليل كل ما صنعَته وهدم كل الذي بَنَته؛ دعانا من أول يوم ليدوّرنا في البلد، ولم يكن الشيخ يمشي إلاّ إلى اجتماع فيه منفعة لقضية فلسطين التي جئنا من أجلها أو إلى عمل يفيدها، أما التفرج والتجوال والتمتّع والاطلاع فلا يباليه ولا يلتفت إليه. فذهبت مع الدليل وحدي فأراني البلدة كلها، وذهب بي إلى بنشة في طريق جبلي طويل بلغ الغاية في الجمال، وزاد عليها وأدخلني مطعماً لم أستطع أن آكل من طعامه شيئاً وأكل هو كلّ شيء. ولمّا كان الحساب حلفت أنا فدفعت أجرة السيارة وثمن الطعام، وصار ذلك قانوناً لنا: يأتي هو بالسيارة ويختار هو المطعم، وينتقي أغلى الطعام فيأكل هو وأنظر أنا، فإذا جاء الدفع

ص: 159

دفعت أنا ونظر هو

قسمة عادلة وشركة مشروعة!

ومضَت على ذلك أيام، ثم علمت أن السيارة وضعَتها الحكومة قيد أمري أنا، وأنه يُقدّم حساباً لنفقاتي كلها فيأخذها من المالية، أي أنه يأكل على حسابي، ثم يزعم أني أنا الذي أكلت ويأخذ من الحكومة الثمن! والعجيب أن أمثال هذا الموظف في كل مكان من مشرق الأرض إلى مغربها ومن شماليها إلى جنوبيها. وكانت هذه مزيّة واحدة من مزاياه التي لا تُعَدّ ولا تُحصى، واسم هذا الموظف الصادق الأمين

الذي اختاروه ليكون إعلاناً عن بلده وناطقاً بلسانها، اسمه تاج الدين يوسف.

على أني أسارع فأشهد أنه لا يصلح مثالاً لإخواننا الأندونيسيين وأنهم أفضل وأجَلّ من أن يكون هذا مثالهم. ولقد رأينا -بعدُ- مَن محا بحسناته سيّئات هذا الرجل، وهو الأستاذ محمد صالح السعيدي، الذي صحبنا إلى شرقي جاوة مبعوثاً من وزارة الشؤون الدينية، فرأيت من استقامته وأمانته وعلمه ما كاد يُنسيني اعوجاج الأول وخيانته وجهله.

* * *

ص: 160