المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

-177 -

‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذ

وتربية البنات

هذه حلقة أنا أعلم أنه سيضيق بأولها ويستثقلها أكثر القراء لأن فيها كلاماً عن النحو. والنحو ثقيل على قلوب التلاميذ، وقد لبثتُ سنين من عمري أدرّسه، فوجدت الجهد المبذول فيه كثيراً والثمرة المحصَّلة منه قليلة، فذهبتُ أقلب النظر وأُجهِد الفكر لتحديد أسباب ذلك، فوجدته بكتب النحو وفي طريقة تدريسه. وإن كنت أشهد أن يد الإصلاح قد امتدّت إليها، وأنها قد ظهرت كتب جديدة كثيرة خلت من بعض العيوب القديمة.

وما عيب النحو؟ عيبه أنه يُبعد عن الملَكة ويشغل بالوسيلة عن الغاية.

كان الطفل العربي قبل فساد اللغة يتلقّاها بالتقليد والمحاكاة، فينشأ بليغ القول فصيح اللسان بعيداً عن اللحن، لأن أبويه من أهل البلاغة والفصاحة ولأن اللسان الذي يتكلمون به قريب من لسان الكتابة ولسان الأدب. فصرنا نعلّم (أو صار أكثرنا يعلّم) قواعد اللغة العربية باللغة العامّية، كما كان معلّمنا التركي على

ص: 315

عهد العثمانيين يوم كنت صغيراً في المدرسة الابتدائية أيام الحرب الأولى يسألنا: فاعل ندر؟ أي: ما هو الفاعل؟

لا أستطيع أن أُحصي الأمثلة ولكن أعرض واحداً منها. لما كنت أعلم في الابتدائية كان الكتاب المقرَّر يُعرّف الاسم بأنه «اللفظ الدالّ على معنى مستقلّ بالذهن وليس الزمن جزءاً منه» ، وكان عليّ أن أُفهِم هذا التعريف تلاميذ السنة الرابعة الابتدائية وكان عليهم أن يحفظوه. فناشدتكم الله: أهذا ممّا يعقله عاقل يقدّر مدى إدراك التلاميذ ويعرف حدود ما يمكن أن يفهموه؟ ولماذا أُفهِمهم هذا التعريف ولماذا أُلزِمهم بحفظه؟

إن البلاد العربية كلها تشكو من الضعف في العربية، ولعلّ من أسباب هذا الضعف طريقة تدريس النحو، ولعلّ من أسوأ ما في هذه الطريقة التعريفات. لماذا التعريفات من أصلها؟ إن العرب الأولين الذين أخذنا قواعد العربية عنهم ما كانوا يَعْرفونها. ولقد نقل أحمد بن فارس في كتاب «الصاحبي» (وهو من أوائل الكتب التي وقعت في يدي وأنا صغير، فقرأته وكدت أحفظ كل ما فيه، وكان من أوائل ما انتفعتُ به من الكتب)، نقل أحمد بن فارس عن أعرابي أنه سُئل: أتجرّ فلسطين؟ فلم يفهم من معنى الجرّ إلاّ السحب، وعجب كيف يسحب فلسطين وقال متعجّباً: إني إذن لقويّ!

وأنا لا أذهب مذهب مَن يدعو إلى تسهيل النحو ليُفسد بذلك اللغة، لست كهذا العدوّ الذي يأتي بثياب صديق، ولا أدعو إلى إهمال القواعد ولا إلى ترك الإعراب وتسكين أواخر الكلمات،

ص: 316

فإذا قلتَ: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} من غير تحريك أواخر الكلم ربما رفعتَ لفظ الجلالة فوقعت في الكفر حين تجعل الله يخشى العلماء! والله لا يخشى أحداً وإنما يخشاه الجميع.

في النحو أمور ينبغي أن نصلحها؛ لا أبدّل لسان العرب ولا آتي ببدع جديدة منكَرة تقطع ما بيننا وما بين كتاب الله، ولكن أقترح أموراً لا تجاوز المظهر ولا تصل إلى الجوهر.

أمثّل لها بـ «أن» الناصبة المضمَرة بعد «أو» و «حتى» ولام الجحود. إنها مضمَرة وجوباً، أي أنه ما رآها أحدٌ أبداً وإنما قدّر النحاة وجودها. والنحو إنما هو وسيلة لإقامة اللسان في الكلام واجتناب اللحن فيه، فعلينا أن نُفهِم التلميذ أن الفعل يُنصَب إذا جاءت قبله «حتى» أو جاءت قبله لام الجحود. فلماذا لا نقول إنها هي الناصبة وندع هذه الأحجية (الفزّورة) التي تزعم أن «أن» مُضمَرة بعدها، وأن هذا الإضمار مستمرّ دائماً فلا تظهر «أن» أبداً ولا يراها أحد؟ لماذا لا نعلّم الطالب أن ينصب الفعل كلما اقترن بلام الجحود، وكفى الله المؤمنين القتال وكسْرَ أدمغة الأطفال بهذا الذي يُشبِه المحال؟

المهمّ أن يأتي الفعل هنا منصوباً، أمّا العامل في نصبه فلا أثر له في صحة الكلام، فسواء لدينا أكان عامل النصب لام الجحود نفسها أم «أن» التي قالوا إنها مُضمَرة بعدها.

ومثال آخر: الاسم الذي يأتي بعد «إذا» في مثل قوله تعالى: {إذا السّماءُ انْشَقّتْ} . لماذا نعلّم الطلاّب أن كلمة «السماء» فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور؟ فيكون تقدير الكلام عندهم: "إذا

ص: 317

انشقّت السماءُ انشقّت". أفهذا الكلام من لغة العرب أم هو من كلام الأعاجم؟ وهل سمعتم عربياً يقول مثله؟ إن كلام العرب مبنيّ على الإيجاز، فما كان يُفهَم من غير تلفُّظ به ما لفظوه أبداً، لذلك ستروا ضمير المتكلم «أنا» في قولك "أقوم وأقعد" لأنه لا يُتصوَّر أن تقول "أقوم" وتقصد أن الذي يقوم هو جارك أو ابن عمّك. فلماذا لا نُعرب السماء في قوله تعالى {إذا السّماءُ انشقّت} مبتدأ وجملة "انشقّت" هي الخبر؟

يقولون في الجواب إن «إذا» لا تدخل على الاسم. وجعلوا ذلك قاعدة قعّدوها، ثم جاؤوا فبنوا عليها واستندوا إليها. لكني أسأل: من أين جاءت قواعد النحو؟ إنها جاءت من استقراء كلام العرب وتتبُّع ما أُثِر عن بلغائهم، فما نطقوا به فهو الصحيح وما جانبوه وأبَوه فهو الغلط. وأول ما يُعتمَد عليه في لغة العرب هو كلام الله، القرآن الذي أنزله الله والذي هو كتاب العربية يُرجَع فيها إليه، وكتاب الإسلام يُعتمَد فيه عليه. حتى إن غير المؤمنين بأن القرآن من عند الله لم ينكروا أن ما في المصحف الذي هو بين أيدينا، والذي نقرؤه في صلواتنا، هو الذي كان يقرؤه محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فهو -باعتباره نصاً عربياً يُحتَجّ به- أوثق من كل ما يُنقَل من الشعر الجاهلي والإسلامي. وما جاء في القرآن لا يمكن أن يكون غير عربي أو غير فصيح، وفي القرآن {إذا السماءُ انشقّت} و {إذا السماء انفطرَت} وفيه من ذلك الكثير، وفي شعر العرب في جاهليتهم أمثال ذلك: «إذا القَومُ قالوا: مَن فتىً؟ خِلْتُ أنّني

» وكثير من أمثال ذلك في أشعار الجاهليين من أصحاب المعلقات وغيرهم، فمَن الذي قال لكم

ص: 318

إن كلمة «إذا» لا تدخل على الاسم وقد دخلَت عليه في كتاب الله وفي كلام بلغاء العرب؟

* * *

أنا لا أدعو إلى نبذ النحو ولا إلى تبديله، ولكن أدعو إلى اعتباره وسيلة لا غاية؛ فالنحو إنما وُضع -من يوم وُضع- لإقامة اللسان وتجنُّب اللحن، وأقصرُ طريق يوصل إلى هذه الغاية يكون هو الطريق الصحيح.

ولي تجرِبة مع إخوان لي من رفاق المدرسة ذهب أكثرهم إلى رحمة الله، بلغوا مراتب عالية في مناصب الدولة وفي مراتب العلماء، منهم الدكتور صبري القباني الطبيب المعروف، ومنهم الأستاذ سامي الحكيم الذي صار النائب العامّ في سوريا، وجماعة من أمثالهم من إخواننا، خرجوا من المدرسة ولم يتمكّنوا من قواعد اللغة العربية، فأحبوا أن نجتمع على أن نُعيد دراسة النحو، فسرتُ معهم على طريق جديد: أخذتُ كتاب «رنّات المثالث والمثاني في روايات الأغاني» وجعلت كل واحد منهم يقرأ منه فقرة، فإذا قرأ قراءة صحيحة لم أعرض له، وإذا لحن لحنة قوّمتها له وشرحت شرحاً موجَزاً (هو أشبه بالإيماء والإشارة) القاعدةَ التي يعتمد التصحيح عليها. وكنا في كل مجلس نعمد إلى باب من أبواب النحو لا نجاوزه، واستمررنا على ذلك نحواً من سنة، قالوا إنهم استفادوا فيها أكثر ممّا استفادوا في السنين الماضيات.

واتفقت مرّة مع صديق لنا كان أقوى مَن عرفت من الطلاّب في اللغة الفرنسية، حتى إنه يدرّس أو كان يدرّس إلى عهد قريب

ص: 319

(ولست أعرف هل مات أم هو حيّ) الأدب الفرنسي في إحدى جامعات فرنسا، وأحسبها جامعة ليون، هو الدكتور أنور حاتم الذي صار يوماً الأمين العامّ لرئاسة الجمهورية. اتفقنا على أن أعلّمه العربية وأن يعلمني الفرنسية، فكنا نأخذ من كل لغة أسهلَ الطرق إلى الوصول إلى الصواب فيها.

واتبعت ذلك فيما بعد، فإذا أردت أن أُرشِد التلاميذ إلى معرفة الفاعل أقول لهم: من فعل؟ فالجواب هو الفاعل. فإذا قلنا: "أحبّ زيد عَمْراً" أقول: من الذي أحبّ؟ فيقولون: زيد، فأقول: إن زيداً هو الفاعل، ثم أسأل: من الذي أحبه زيد؟ فيكون الجواب: عمرو، فيكون لفظ عمرو هو المفعول به. ولو أن هذه الطريقة عُمّمت واستفدنا ممّا وصلَت إليه الأمم من غيرنا في تدريس لغاتها وطبّقناه على تدريس لغتنا لكان من ذلك نفع كبير.

ثم إنني لمّا اتخذت التعليم مهنة لي وأحببتها وسرت بها كان يعترض طريقي فيها منغّصات، منها ما أحيد عنه وأفرّ منه ومنها ما يفرضه عليّ مَن بيدهم أمر التعليم، يُلزِمونني به ويمنعوني من الخروج عليه، وأشدّه هذه المختارات الأدبية التي نضعها أمام أنظار الطلاّب لتكون لهم نماذج في البلاغة يحذون حذوها ويحاولون أن يأتوا بمثلها.

لقد كان معلّمونا يختارون لنا دُرر الكلام ممّا أنتجت الألسنة البليغة والأقلام، فانظروا إلى أين هبطنا وماذا نختار اليوم لتلاميذنا من الآثار الأدبية ليكون لهم قدوة وإماماً.

جاءنا الأستاذ الجندي رحمه الله مرّة بقصيدة المتنبي

ص: 320

«وا حَرَّ قلباه» التي يودّع بها سيف الدولة، فشرحها لنا وألزمَنا حفظها. فلمّا جئنا في الحصة التي بعدها وقد حفظناها قال لنا: دعوها واضربوا صفحاً عنها، فإن المتنبي شاعر مولَّد لا يُحتَجّ بشعره، وسألزمكم بما هو صحيح من أشعار العرب وما يُحتجّ به ويُقاس عليه. وحفّظنا المعلَّقات وأشهر قصائد الجاهلية وقصائد الشعراء الإسلاميين. وأنا لا أزال إلى الآن أحفظ قصائد كاملة من ذلك كله، من شعر الجاهلية وصدر الإسلام وممّن جاء بعدهم من عباقرة البيان وملوك الكلام، كما أحفظ بعض ما هو خير من ذلك كله وما لا يقاس به شيء منها، لأنه في الثريا وهذا كله في الثرى، هو كتاب الله.

تلك كانت هي المختارات التي نحفظها، فانظروا كيف صارت كتب المحفوظات اليوم وما فيها من المختارات. لا أقول لكم ماذا صارت، فخذوها من أيدي أبنائكم وانظروا ماذا فيها.

أحفظ من كلام المنفلوطي في نظراته (التي كنا نعكف عليها ونستفيد منها) أن أحد العلماء سأل ابنه من هو مثله الأعلى الذي يأمل أن يكون مثله، قال الولد: أنت. قال الأب: يا مسكين، لقد كان مثلي الأعلى أن أكون مثل أحد الصحابة أو الأئمة الكبار، فبلغتُ ما ترى.

وذلك حقّ، فمَن أعدّ عدّته وهيّأ نفسه ليمشي إلى عرفات فإنه يبلغ مِنى، ومن كان أقصى همّه مِنى لم يكَد يبلغ الحُجون!

ومن أشدّ الذكريات التي لا أزال كلما خطرت على بالي أحس أنها تحزّ في قلبي، أنني اضطُررت في آخر عهدي بالتدريس

ص: 321

أن أشرح للطلاب بعض المختارات من الشعر العربي المعاصر، بل الذي يسمّونه شعراً وما هو بالشعر. وكنت أحسّ كأنني أحتقر نفسي حين أهبط إلى هذا الحضيض فأُضطرّ إلى العناية به وشرحه، وأني أخدع الطلاّب حين أُوهِمهم أن هذا من بليغ القول وفصيح الكلام وأنه أدب رفيع، وما هو إلاّ هذيان وضيع وهذر أحمق رقيع، وأصحابه كالثعلب الذي أراد أن يقطف عنقود العنب فوثب إليه فما استطاع أن يصل، فعزّى نفسه قائلاً لها: إنه حصرم حامض، وذهب يذمّه.

هذا مثال دعاة الشعر الجديد: المنثور منه والمشعور والمحطَّم المكسور. ومثله ما دُعي الآن بشعر الحداثة. ولست أدري لماذا لا يُساق أصحابه إلى إصلاحيات الأحداث التي تعالج جنايات الحداثة! ولست أدري: متى يجاوزونها ويبلغون سنّ الرشد؟

* * *

وفي نفسي كلام كثير منبثق عن ألم كبير من ذكرياتي في تعليم العربية، قواعدها وأدبها، أمسك القلم عن الإفاضة فيه، ولا بدّ بإذن الله أن أعود إليه وأبيّن الحقّ الذي عندي فيه، ومَن شاء بعده فليؤمن ومن شاء فليكفر.

وأقول -بالمناسبة- قبل أن أنتقل إلى الشقّ الثاني من حلقة اليوم، أقول كلمة عن مناهج الدين وعن كتب الدين. إن في بعض البلاد الإسلامية خمس ساعات في الأسبوع لتدريس القرآن وعلوم الدين، ولكن هذه الساعات يذهب أكثرها هدراً فلا يُستفاد منه

ص: 322

ولانصل إلى الثمرة المقصودة؛ ذلك أن التلميذ يأخذ كتاب التاريخ وكتاب الجغرافية وكتاب العلوم فيجد لغة سهلة واضحة مفهومة، ثم يأخذ كتاب الدين المقرَّر فيجد كلاماً بعيداً عمّا يألف وعمّا يعرف. ذلك أننا ننقل من كتبٍ مؤلَّفة قبل مئات من السنين فنُثبِت ما فيها في كتب المدارس. وأنا أعلم أن حقائق الدين لا تتبدّل وأن تبديلها كفر بها وخروج عليها، فلا يفهم أحدٌ أنني أدعو إلى تغيير أحكام الدين وحقائقه. إنّ الذي أدعو إليه هو تجديد الأسلوب وأن تكون كتب الدين مكتوبة بلغة العصر، فإنّ لكل عصر لغة يفهم بها أبناؤه:{ومَا أرْسَلْنا مِن رَسولٍ إلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لهُم} .

ومن مقتضى ما أطلبه من تبديل الأسلوب أن نبدّل المقاييس مثلاً، فلا نقيس بالقلّتين لأنه لم يعُد يعرف أحدٌ ما هي «القُلّة» ، حتى ولا أهل هَجَر التي يقولون إنهم يعتمدون فيها على قِلال هجر. بل لم يعُد يعرف أكثر الناس أين هجر: أهي القطيف أم هي البحرين؟ والناس يقيسون المسافات بالأكيال لا بالفرسخ ولا بالبُرد، فلماذا نعلّم الطلاّب مسافة السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه الصائم إن شاء بهذه المقاييس القديمة؟ والناس إنما يزِنون بالكيل (الكيلو، وهي كلمة يونانية معناها ألف) والغرام، ونحن نزن بالقيراط وبالمثقال وبحبّة الشعير. ومَن من الناس يعرف ما هو «الوسق» ويعرف ما مقدار الخمسة الأوسُق؟!

وأن تراعى في الكتب حالة التلاميذ الذين توضع لهم. جاءتني مرّة بنت صغيرة في الصف الرابع الابتدائي وسألتني: ما هي الحشفة؟ فقلت: لا أدري، فمن أين سمعتِ بها؟ قالت: هي في كتابنا. فأخذت الكتاب فإذ فهي بيان موجِبات الغسل وأن منها

ص: 323

«أن تتوارى الحشفة في الفرج» . فناشدتُكم الله مرّة ثانية: أهذا ممّا يُكتَب في كتاب للبنات الصغيرات؟ فلو أنهن كُنّ كبيرات بالغات وعلّمناهن مثل هذا فلا يُنكِره أحد لأنه دين ينبغي أن يُعرف، وإن كان علينا أن نعرّف به بأيسر عبارة تُفيد المقصود ولا توقع فيما هو محذور.

والبنات الكبيرات: ما لنا نعلمهن تفصيلات مسائل البيع والشراء وهنّ مقصورات في البيوت لا يبعن ولا يشترين؟ أنا أعلم أنها من أحكام الدين، لكن كل امرئ يُعلَّم ما يحتاج إليه. وفي كتب التلاميذ أنواع من البيع ما بقي في الدنيا من يتعامل بها، بل من يعرفها، كبيع المُنابذة وبيع الملامسة وأمثال ذلك من البيوع التي تركها الناس وانصرفوا عنها، حتى إنك لو ذكرت أسماءها أمام التجار الكبار لما عرفوها.

* * *

وبعد، فهذه طائفة من ذكرياتي في التعليم، لعلّ من القرّاء من ضاق بها أو مَن ملّ من سردها، وعندي منها الكثير، ينتفع به بعض المدرّسين إذا عُدت يوماً إلى سرد بعضه. فهل تسمحون لي الآن أن أعود إلى تربية الأولاد؟ وإذا غلبَت الأفكار التي أوردها على الحوادث التي أسردها فسامحوني.

لقد قلت من قديم إن الإسلام اليوم أمام هجوم ما عرفه أهله أيام حملات الصليبيين ولا هجمات المغول والتتر، وهو أشدّ من الاستعمار الذي طالما قاسينا منه وبذلنا من مُهَجنا وأرواحنا، وأرقنا من دمائنا، وحملنا من تخريب بلادنا وخسران خيراتنا

ص: 324

الكثيرَ الكثير لندفع شرّه عنّا. فهذا الاستعمار العسكري انتهى، ولكن بُلينا باستعمار شرّ منه هو الاستعمار الفكري والاجتماعي؛ إن أعداءنا يدخلون علينا من بابين: باب يأتي منه مرض يقتل وهو الكفر، ولكنه مرض بطيء الانتشار ضعيف العدوى، ومرض دونه خطراً وهو أقلّ منه ضرراً، ولكن عدواه سريعة وانتشاره عاجل. الأول هو مرض الشُّبُهات والثاني مرض الشّهَوات.

وأول ما يتمثّل المرض الثاني في هتك حجاب المسلمات، واختلاط البنين بالبنات، وتمهيد طريق الفاحشة للشبّان والشابّات. وقد سُخّرت له قوى هائلة لا طاقة لنا اليوم بدفعها مجتمعة، إلاّ أن يحفظ كلُّ أب منّا بنتَه، وكل زوج زوجتَه، وكل أخ أختَه.

أنا أقيم في مكّة، وصيف مكّة أتون متّقد الحرارة فيه قد تقارب الخمسين، فماذا أعمل؟ هل أستطيع أن أنصب على جبل «أبيقُبَيس» مكيّفاً (كونديشن) ضخماً وعلى قُعَيْقِعان (جبل الهندي) مثله لأبرّد جوّ مكّة؟ وإن جاء البرد في جبال الشام ولبنان فهل أضع في ذُراها مدافئ كبيرة تدفع البرد وتعدّل الجوّ؟ أم آتي في الصيف بمكيّف صغير أضعه في بيتي وأغلق بابه عليّ، وأضع مدفأة في داري في الجبل فأدفئ بيتي؟ علينا أن نحفظ أنفسنا وأن نحفظ من استرعانا الله أمره من أهلنا وأولادنا.

فكيف أعمل على تعليم بناتي الحجاب؟ أنا لا أريد أن أُجبِر بنتي عليه إجباراً، فتتخذه وهي كارهة له ضائقة به حتى إذا استطاعت نبذه نبذَته، بل أريد أن تتخذه مقتنعة به مطمئنّة إليه محبّة له. ففكّرتُ وطلبت العون من الله لمّا جاوزَت بنتي الأولى

ص: 325

التاسعة ومشت في طريق العاشرة، أو قبل ذلك بقليل، لقد نسيتُ الآن. قلت لأمها: اذهبي فاشتري لها خماراً (إيشارب) غالياً نفيساً. وكان الخمار العادي يُباع بليرتين اثنتين وإن ارتفع ثمنه فبثلاث، قالت: إنها صغيرة تسخر منها رفيقاتها إن غطّت شعرها ويهزأن منها. قلت: لقد قدّرتُ هذا وفكّرت فيه، فاشتري لها أغلى خمار تجدينه في السوق مهما بلغ ثمنه.

فكلّمتني بالهاتف من السوق وقالت: لقد وجدت خماراً نفيساً جداً من الحرير الخالص ولكن ثمنه أربعون ليرة. وكان هذا المبلغ يعدل يومئذ أكثر من ثلث راتبي في الشهر كله، فقلت لها: اشتريه. فتعجّبَت وحاولت أن تثنيني عن شرائه فأصررت، فلمّا جاءت به ولبسَته البنت وذهبَت به إلى المدرسة كان إعجاب التلميذات به أكثر من عجبهن منها بارتدائه، وجعلن يثنين عليه، وقد حسدها أكثرهن على امتلاكه. فاقترن اتخاذها الحجاب وهي صغيرة بهذا الإعجاب وهذا الذي رأته من الرفيقات، وذهب بعضهن في اليوم التالي فاشترين ما يقدرن عليه من أمثاله، وإن لم تشترِ واحدة منهنّ خماراً في مثل نفاسته وارتفاع سعره.

بدأَت اتخاذ الحجاب فخورة به محبّة له، لم تُكرَه عليه ولم تلبسه جبراً. وإذا كان العامّة يقولون «الشيء الغالي ثمنه فيه» فإن هذا الخمار بقي على بهائه وعلى جِدّته حتى لبسه بعدها بعض أخواتها وهو لا يزال جديداً، فنشأن جميعاً بحمد الله متمسّكات بالحجاب تمسُّك اقتناع به وحرص عليه. حتى إن بنتي الشهيدة السعيدة إن شاء الله، التي قتلها أعداء الله غدراً فكسروا قلبي كسراً لا أظنّ أنه سيُجبَر بعده في الدنيا أبداً، وإن كان الإيمان يخفّف

ص: 326

الحزن ويهوّن الألم، عاشت هي وبنتها في أوربا سنين طوالاً جداً، فما بدّلَت حجابها ولا غيّرت ثيابها. بل إن بنتها هادية وكانت في مدرسة ألمانية (وهي آخر مدرسة في ألمانيا بقيَت -بفضل مديرة متمسكة عجوز- خالية من الاختلاط ومقصورة على البنات) فدخلَت المعلمة الفصل فوجدت حفيدتي في نقاش مع رفيقاتها، وعلَت أصواتهن يتناقشن في أمر الحجاب الذي تتخذه، فسألَت المعلمة ما الخبر، فقلن لها إنهن يتناقشن في الحجاب، فقالت لهادية: إنني أعطيك عشر دقائق لتقومي فتشرحي للطالبات سبب اتخاذك هذا الحجاب. وكانت تُحسِن النطق بالألمانية، حتى إنها أخذت فيها الدرجة الأولى وسبقت بنات الألمان أنفسهن، فشرحت ما تعرف من أمر الحجاب، وبيّنت حكمه في الإسلام وفوائده وما يدفع عن البنت من ضرر، حتى اقتنعنَ وسكتنَ ولم تعُد واحدةٌ منهن بعد ذلك إلى التعرّض لها.

وقدمَت بنتي في إحدى الإجازات إلى عمان، وكنا فيها، فاجتمعَت عند طبيب أسنان في غرفة الانتظار بجماعة من النساء المتكشّفات السافرات، اللواتي يحسبن التقدّم والرقيّ بتقليد الأجانب عنهن واتباعهن في سلوكهن. فلما رأينها متحجبة أحببن أن يسخرن منها فقُلن لها: من أي قرية جاءت الستّ؟ فقالت: من قرية تُدعى جنيف. وكانت تُقيم فيها يومئذ مع زوجها وأولادها، وحدّثَتهن عن حياتها فيها فخجلن من أنفسهن وسكتن عنها وأكبرنها. وكانت لطول بقائها في تلك الديار تُحسن الألمانية وتكاد تُحسن الفرنسية وتعرف كثيراً من الإنكليزية، فكان ذلك درساً لهؤلاء المقلّدات المتحذلقات.

ص: 327

وعندي من هذه التجارِب شيء كثير ربما عُدت إليه يوماً. ولن أستمرّ الآن فيه لأنني أريد أن أعود بكم إلى حيث قطعت الكلام عند انتقالي إلى محكمة الشام، فأسرد عليكم بعض ذكريات القضاء وذهابي إلى مصر ووضع قانون الأحوال الشخصية ودخول انتخابات سنة 1947 التي أشار إليها صديقنا الأستاذ نصوح بابيل، وكان قد دخلها أيضاً، فإلى اللقاء في تلك الأحاديث إن شاء الله.

* * *

ص: 328