المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب رب السماء - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ٦

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌كيف قابلت عبد الحميد السراجبعد الخطبة التي هزّت دمشق

- ‌صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام

- ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

- ‌تعليق على مقالة وجواب على رسالة

- ‌قصّة الوحدة والانفصال

- ‌نظرة في أسباب الانفصالبين سوريا ومصر

- ‌عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت

- ‌التفاصيل التي حبكت بها الصحفالناصرية روايتها عن قتلي

- ‌عودة إلى رحلة الشرقفي الطريق إلى أندونيسيا

- ‌إن الشجى يبعث الشجىلماذا أتحدث عن بنانوأنا أرثي شكري فيصل

- ‌على الطريق إلى أندونيسيا

- ‌جاكرتا وفندقها الكبير

- ‌سويسرا ليست في أورُبّا

- ‌جمال يعجز عن تصويره البيان

- ‌لوحات حية من حياة أندونيسياعيد سعدت فيه برغم البعدوالوحدة والسفر الطويل

- ‌معركة أدبيةكانت نتيجتها دعوى قضائية

- ‌أندونيسيا والإسلام

- ‌أندونيسيا بين عسف اليابانيينونكث البريطانيين

- ‌بدأت أندونيسيا إسلامية،فمن أين يأتيها البلاء

- ‌خواطر وصور عن التربية والمدارس والتعليم

- ‌ما الذي يجعل تعليم الأمسأكثر رسوخاً رغم مساوئه

- ‌من ذكرياتي في تعليم التلاميذوتربية البنات

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (1)

- ‌ملاحظات عن المحاماة والمحامينوالقضاء والقضاة (2)

- ‌أخبار غير قضائية في محكمة دمشق

- ‌صور ومشاهد من ساحات القضاء

- ‌يوم أغرّ من أيام دمشق

- ‌أسبوع التسلّح في الشام

الفصل: ‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب رب السماء

-158 -

‌خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء

كنت أتكلّم عن صلاة الاستسقاء وأصف ما كنا نشعر به من الدفقة الإيمانية التي ملأت نفوسنا.

لقد نظرت فرأيت كثيراً من الأولاد جاؤوا مع آبائهم، فناديتهم ودعوتهم إليّ، فلما اجتمعوا حولي قلت لهم: يا أولاد، هل تعرفون لماذا جئنا؟ جئنا لنطلب من الله المطر. إذا لم ينزل المطر ماتت زروعنا وهلكَت مواشينا، ولا ينزله إلاّ الله. ونحن يا أولاد، نحن الكبار مذنبون، نحن قد خالفنا أوامر الله، نحن قد فعلنا ما نهانا عنه الله، لذلك يؤدّبنا فلا يسمع دعاءنا. أما أنتم فلا ذنب لكم، أنتم ما كلّفكم الله لأنكم صغار. إن الله يحبّكم لأنكم تحبّونه. ألا تحبون الله يا أولاد؟ الله الذي خلقكم، الله الذي يبعث لكم الطعام والشراب، الله الذي يعطيكم الخيرات كلّها، ألا تحبون الله؟

فصاحوا جميعاً: بلى، نحب الله.

قلت: والله يحبكم. يحبكم أكثر ممّا يحبكم آباؤكم وأكثر ممّا تحبكم أمهاتكم. الله أرحم بعباده من الآباء والأمهات،

ص: 33

إذا عصى أحدكم أباه حرمه من مصروفه جزاء عصيانه، ولكن الله يُطعِم في الدنيا من خيره الكافرَ كما يطعم المؤمن، فالله يا أولاد أكرم الأكرمين. لو كنتم عطشانين وآباؤكم عندهم الماء أفلا يسقونكم؟ الله يا أولاد أكرم من آبائكم وعنده أكثر ممّا عند آبائكم، فإن سألتموه أعطاكم. فقولوا: يا ربنا اسقِنا. مدّوا يا أولاد أيديكم الصغيرة وافتحوها، فإن الله لا يردّها فارغة. قولوا: يا ربّ اسقنا، يا ربّ ابعث لنا المطر. لا تُعِيدوا كلامي يا أولاد كأنه درس محفوظات. قد عرفتم ماذا نريد فقولوا ما يخطر على بالكم، فإن الله يسمعكم، كل واحد منكم يدعو وحده فالله يسمعه.

ودعا الأولاد وصدقوا الدعاء، واختلطَت الأصوات، أصوات الصغار وأصوات الكبار، وعلا البكاء، ونسي كلٌّ مَن يقف معه لأنه لم يعُد ينظر يميناً ولا شمالاً بل ينظر إلى الأعلى، إلى العلوّ المطلَق لا العلوّ المادي، لا يكلّم أحدٌ أحداً، ولكن كل واحد منهم يخاطب ربه رأساً.

وكانت ساعة ما وجدت في حياتي مثلها إلاّ مرّات معدودات في التسع والسبعين سنة التي عشتها (إلى يوم كتابة هذه الحلقة). كانت القلوب كمدّخرات (بطاريّات) فارغة، فشحنها هذا الموقف بالطاقة شحناً كاملاً. لقد أحسسنا المذلة أمام الله فجعلَنا نحسّ العزّة بالله. لم نعُد نرجو في تلك الساعة غيره، ولا نخاف غيره، ولا نتوجه إلاّ إليه، ولا نطلب إلاّ منه.

ويا ليتني أستطيع أن أجعل أو أصوغ من الكلمات صورة

ص: 34

-ولو ناقصة- لِما كان، ولكنّ من المواقف ما تعجز عن تصويره الكلمات.

* * *

ورجعنا بنفوس غير التي جئنا بها، ومرت الجمعة، ومرّ السبت والأحد والإثنين والسماءُ على حالها، زرقاء ما فيها مُزْنة سحاب، والمستهزئون يتكلّمون والشامتون لا يسكتون. فلما كان يوم الأربعاء، بعد خمسة أيام من صلاة الاستسقاء، قال الكريم: خذوا.

وكان غيث عامّ استمر إلى موعد حديثي الأسبوعي بعد صلاة الجمعة يوم 4/ 11/1960، والحديث مكتوب أمامي. قلت فيه:

الحمد لله، الحمد لله، اللهمّ يا ربّنا لك الحمد. كنا قبل ثلاثة أيام فقط ننظر إلى السماء فنراها مُصْحِية زرقاء ما فيها قطعة سحاب، ونبصر بردى فنرى الهرّة إذا خاضت ماءه لم يبلغ ماؤه بطنَها، وباناس الذي يدعونه بانياس (من فروع بردى) عند شارع الجامعة قد تركوا مجراه وشقّوا في جانبه ساقية عرضها شبران، فكان ماء باناس لا يملؤها. وتورا (أكبر فروع بردى) في آخر القَصّاع ليس فيه قطرة ماء وأرضه جافّة كأرض الشارع. ونتلفّت وراءنا فنرى ثلاث سنين توالت بالجدب، حتى يبسَت الأرض، ومات القطيع، وشحّت الينابيع، وغارت الآبار، فكاد اليأس يملأ نفوسنا.

كان هذا كلّه قبل ثلاثة أيام فقط. فتعالوا انظروا الآن، تعالوا

ص: 35

انظروا آثار نعمة الله وقولوا: الحمد لله، الحمد لله، اللهمّ يا ربّنا لك الحمد.

وتعالوا فاسألوا أنفسكم: كيف تمّت هذه النعمة؟ كيف استنزلنا الأمطار حتى عمّت الديار وشملت العباد فأحيَت البلاد؟ هل استنزلتم المطر بآلات نصبتموها أو حسابات حسبتموها، أو أسباب مادّية اتخذتموها؟ لا، ولكننا استنزلنا المطر بالأمر الذي جعله الله وحده سبباً لنزول الأمطار (كما جعل سبب الإحراق النار) وهو الاستغفار.

إن الله الذي خلق الأسباب وخلق المسبَّبات خلق النار وجعلها سبب الإحراق، وخلق الماء وجعله سبب الريّ، وخلق الطعام وجعله سبب الشبع، وخلق العقول وجعلها سبب التفكير والعلم، الله نفسه الذي خلق هذا كله: السبب والمسبَّب، هو الذي أمر بالدعاء والاستغفار وجعل ذلك سبب نزول الأمطار.

لقد دعوتكم السنة الماضية وقلت لكم: إن الخروج للاستسقاء من سُنَن الدين التي نسيها الناس في الشام، فليس في دمشق كلّها من رأى خروجاً عاماً للاستسقاء. مع أن هذه السنّة موجودة في بلاد المغرب إلى اليوم، خبّرني السيد المنتصر الكتاني أن أهل فاس كلما كان الجدب وكلما قلّت الأمطار يجتمعون في الجامع الكبير، ثم يخرجون جميعاً معهم الأولاد والضعفاء، يتقدّمهم العلماء والأمراء، وكلهم متذلّل متخشّع يلبس رثّ الثياب، وقد يمشون حفاة، فلا يزالون يَدْعون الطريق كله بهذا الدعاء المأثور: "اللهم اسقِ عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك،

ص: 36

وأحيِ بلدك الميت". ويُعلِنون التوبة والاستغفار، حتى يصلوا إلى المصلّى في خارج البلد فيصلّوا ركعتَي الاستسقاء، ويخطب الخطيب ويدعو ويجهرون بالاستغفار والدعاء.

وقلت لكم: أحيوا هذه السنّة في دمشق، فإن من أحيا سنّة ميتة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، كما أن من سنّ سنّة سيّئة أو أحياها بعد ما ماتت كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. ورويت لكم قصّة الاستسقاء على عهد النووي والكتاب الذي كتبه (وذلك كلّه في كتابي عن النووي)، ودعوتكم إلى صيام ثلاثة أيام، وإلى ردّ المظالم وأداء الحقوق وصدق التوبة، والخروج إلى الاستسقاء إلى سفح قاسيون.

فاستجاب أكثر العامة وصاموا، وصام أكثر النساء واستعدّوا، ولكن من الناس من سخر منّا وهزئ بنا وقال: نحن في عصر الذرّة وأنتم تعالجون أموركم بالدعاء؟ قلت: لا يا أصحابنا، نحن لا ندَع العلم ولا نهمل الأسباب، ولا نقول للعطشان -والماء أمامَه- اترك الكأس لا تمدّ إليها يداً وقل اللهم اروِني، ولا نقول للرجل اترك مريضك لا تعرضه على الطبيب ولا تشترِ له الدواء وقُل اللهم اشفِه، ولا نترك النار تشبّ في الدار لا نُلقي عليها دلو ماء ونقعد ندعو نقول: اللهمّ أطفئ النار!

لا، ولا يقول هذا الشرع. إن الشرع يأمرنا أن نتخذ الأسباب المادّية كلها، أن نُعِدّ للعدوّ عُدّة القتال، أن نستعمل للمريض أحسن الدواء، أن نسعى للرزق أكمل السعي، ثم ندعو الله الذي خلق لنا هذه الأسباب وخلق لنا العقول التي عرفنا بها أسرارها،

ص: 37

وخلق لنا هذه الأسرار وأودعها في مخلوقاته.

فخبّروني، هل لاستنزال المطر سبب مادّي عندكم فنتخذه؟ وإذا كنتم تعترفون بأنكم لا تملكون سبباً مادّياً تُنزِلون به الأمطار العامة التي تعمّ البلاد وتروي أرضها، فلماذا لا تَمُدّون أيديكم إلى من يستطيع وحده أن يُنزِل المطر فتسألوه وتدعوه؟

وقال قوم: كيف تستسقون الآن ووقت المطر ما جاء؟ إنكم تخرجون فتدعون فلا ينزل المطر، فيكذّب الناس بالدين ويسخرون بأهله وتكونون أنتم السبب. قلنا: ما للاستسقاء وقت؛ وقته عند الحاجة إلى المطر. وما دون كرم الله حجاب ولا على عطاء الله حساب، وقد نصّ العلماء على أنها إذا اشتدّت الحاجة إلى الماء جاز الاستسقاء ولو في قلب الصيف.

وقال قوم: أصلحوا أنفسكم وطهّروها قبل أن تخرجوا للاستسقاء. قلنا: نحن نعرف والله أن قلوبنا في غفلة، وأن الذنوب تُرهِق بثقلها عواتقنا، وأننا خَطّاؤون. وإننا نستحيي لكثرة ذنوبنا أن نمدّ أيدينا فنقول يا ربّ، ولكن خبّروني: لِمَن نمدّ أيدينا إن لم نمدّها إليه؟ ألنا ربّ غيره؟ هل في الوجود إله آخر نفرّ إليه من الله؟

إنه لا رب إلاّ الله، وكل ما في الوجود ملكه، ونحن عبيده، مهما فررنا منه فلا بدّ من رجوعنا إليه، لذلك جئنا مُقِرّين بذنوبنا تائبين من معاصينا، نسأله أن يعيننا على ترك الذنب وعلى صدق التوبة لأنه لا حول لنا ولا قوة إلاّ منه وبه.

لقد قلنا: يا رب، إننا نرى المنكَرات الفاشية والمعاصي

ص: 38

المعلَنة، ولكننا والله ما أمرنا بها ولا أقررناها ولا رضيَت بها قلوبنا، وإننا يا ربّ لا نملك إلاّ ألسنتنا وأقلامنا، وقد كلّت ألسنتنا وانبرَت أقلامنا ونحن نقول ونكتب، نقول للناس: الربا حرام، الزنا حرام، الكذب حرام، الغشّ حرام، كشف العورات حرام، الاختلاط بين الرجال والنساء حرام، الحكم بغير ما أنزل الله حرام حرام حرام. فما سمعوا منّا، فما ذنبنا يا ربّ؟

يا ربّ لا تعاملنا بعملنا ولكن برحمتك، ولا تأخذنا بعدلك ولكن بفضلك.

وحاربَنا كثيرون وصرفوا الناس عن الخروج معنا، ولكن الناس خرجوا، وقاموا ساعتين كاملتين في وَقْدة الشمس، ومدّوا أكفّ الضراعة وصرخوا من أعماق القلوب. فكّروا في الأسباب البشرية كلها، فلما رأوها لا تستطيع أن تسوق المطر يجلل البلاد ويعمّ البلاد، فتمرع الأرض وتعيش المواشي ويدرّ الضرع وتفيض الينابيع، ولمّا رأوا أن المطر لا يُشترى بمال الأغنياء ولا بقوّة الأقوياء ولا بعلم العلماء

قطعوا قلوبهم عند ذلك عن الأسباب كلها لأنهم أيِسوا منها، وربطوا قلوبهم بالله وحده، ثم صرخوا: يا الله، يا الله!

ولم يعُد أحدٌ ينظر إلى أحد، ولم يعُد أحدٌ يفكّر في مال ولا ينظر إلى جاه ولا سلطان، ولم يعُد للدنيا وجود في تلك الساعة في قلوب الذين اتصلَت قلوبهم بالله وحده، فامتلأَت بالخشوع وفاضت من ذلك العيون بالدموع، وارتجّت تلك السفوح من قاسيون بـ «يا الله» ، فردّدَت صداها صخور الجبل، وردّدَت

ص: 39

صداها جوانب الوادي، فأحسسنا كأن كل شيء في الدنيا ينادي معنا:«يا الله» .

وكانت دقائق أقسم بالله العظيم إني لم أحسّ مثلها في حياتي، وإني ما كنت أظنّ أن أحسّ يوماً مثلها. دقائق فيها من سموّ الروح ومن أخذة الإيمان ومن نشوة القلب ما لا يُوصَف. سلوا مَن كانوا حاضرين ممّن سال بهم السفح وامتلأ الجبل وقدّرَهم المُقِلّ بخمسة عشر ألفاً والمُبصِر قدّرهم بخمسة وعشرين ألفاً، ملؤوا ساحة التدريب والحدائق المُطيفة بها. إنهم أحياء ما مرّ على المشهد الذي شهدوه إلاّ أسبوع واحد فسلوهم: هل أبالغ أو أتزيّد، أو أن الواقع كان أكثر ممّا أقول؟

لقد عمّ الخشوع كل من كان هناك، حتى الذين وقفوا من فوق من الشباب والبنات ليسخروا منّا. كانوا يسخرون، فلما جرفَتهم موجة هذا الخشوع جعلوا يبكون كما كان يبكي كلّ من حضر. ولقد كان فيهم بنت سافرة متكشّفة جاءت لتلهو مع الشباب، فلما ارتجّ الجوّ بكلمة «يا الله» تتجاوب أصداؤها في مداخل الوادي وبين صخور الجبل جعلَت تصرخ مع الناس «ياالله» وتبكي وتستغفر وتتوب، واقتربَت من نسائنا تسألهن كيف يمكن أن ترجع إلى الله وأن تتمسّك بالدين.

لقد رجعنا بقلوب غير القلوب التي خرجنا بها، رجعنا ونحن نحسّ أننا قد بدّلنا بنفوسنا نفوساً جديدة. ولكن الناس لبثوا الأيام الأولى التي تلت الصلاة على سُخرهم وشكّهم. قالوا: أين المطر؟ أما قلتم إن الاستغفار سبب الأمطار؟ قلنا:

ص: 40

ما قلنا نحن شيئاً، ولكن ربّكم هو الذي قال:{استغفروا ربَّكم إنهُ كانَ غفّاراً، يُرسِلِ السّماءَ عليكم مِدْرَاراً} . ربّنا غفّار، ولكن لمن؟ {لِمَنْ تابَ وآمَنَ وعمِلَ صالحاً} ، فهل تُبنا وآمنّا وعملنا صالحاً؟ ومن قال لكم بأن المطر ينزل حتماً إذا أقمنا صلاة الاستسقاء؟ إن النووي الذي خبّرتكم خبره لما استسقى نزل المطر بعد سبعة أيام.

فضحكوا وسخروا، وقال قوم: انظروا، أن الصحو قد ازداد ببركة دعاء هؤلاء! واستمرّوا يسخرون. ولكن الله أراد أن ينصر سنّة نبيّه ويحقّق وعده، ويعاملنا بما هو أهل له لا بما نحن له أهل، فما مرّت خمسة أيام حتى تلبّدَت السماء بالسحب تغطّي الشام كله، ثم هطلت الأمطار.

وتتابعَت علينا الهواتف بالتهنئة، وعاد إلى الإيمان ناسٌ كاد يزعزعها اليأس، وحسب هؤلاء الإخوان أن هذا الخشوع كان بخطابي أو بخطاب السيد الكتاني وأن هذه الاستجابة إنما كانت لدعائي أنا. وأنا والله ما قلت هذا بلساني ولا اعتقدته بقلبي. ومَن أنا حتى يكون لي هذا الشأن؟ أنا والله عاصٍ خطّاء مستور بِسَتر الله. وما أنا من الصالحين، وإني لأرجو أن يسيّرني ربي بركابهم وأن يُلحِقني بهم.

ولكن بدعاء الداعين المخلصين، بنداء هؤلاء الأطفال الذين جئنا بهم فقلنا لهم، قولوا: يا ربّ ابعث المطر. هؤلاء الأطفال الذين لم يَجرِ عليهم القلم ولم يبلغوا سنّ التكليف، ودعاء من لايعرفه الناس. ولَرُبّ أشعثَ أغبر لا ينتبه إليه أحد ليس له مال

ص: 41

ولا جاه ولا منصب، لو أقسم على الله لأبرّه. الله أعلم بدعاء من كانت الاستجابة، فالحمد لله. الحمد لله. اللهمّ يا ربّنا لك الحمد.

لقد كان هذا الخير ببركة الدعاء وإحياء سنّة الاستسقاء. إن آلافاً منكم صَدَقُوا التوجّه إلى الله دقائق فكانت هذه النعمة السابغة، فكيف لو توجّهنا إليه جميعاً؟ كيف لو كنا معه دائماً، نُحِلّ الحلال ونحرّم الحرام ولا نخالف الشرع ولا نُعلِن المعاصي؟

فيا أيها الناس، استغفروا ربكم وتوبوا إليه، وكلّما دهمكم خطب أو كان لكم مطلب فمدّوا أيديكم وقولوا «يا الله» فإن باب الله مفتوح دائماً. ما لكم تقصدون أبواب اللئام وهي مُغلَقة في وجوهكم وتَدَعُون باب أكرم الأكرمين وهو لا يُغلَق أبداً؟ يا أيها الناس، إن هذا المطر دليل ظاهر على أن الله يستجيب دعاء من دعاه، فهل بعد هذا الدليل شكّ أو ارتياب؟

* * *

ص: 42