الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-167 -
جاكرتا وفندقها الكبير
(1)
أنا لا أزال في جاكرتا عاصمة أندونيسيا، وكان اسمها قديماً «بتافيا» ، فبدلّوه كما بُدِّلت أسماء كثيرة في آسيا وفي إفريقيا بعد أن استقلّ أصحابها وزال الاستعمار عنها.
وكان قد ضاق صدري من الفندق الذي أخذونا إليه، فأفهمونا أنهم اختاروه لنا ريثما يفرغ الجناح الفخم الذي أعدّوه لنا في فندق الهند. وهم يلفظون الاسم على الهجاء اللاتيني فيقولون «هوتيل دس إندس» . وهو فندق عظيم حقاً، رأينا الجناح الذي أعدّوه لنا فإذا هو منزل ملوك لا فندق واحد من أمثالي من عباد الله الفقراء.
والفندق عمارات منفصلة بينها حدائق وبساتين، لا أدري لماذا شبّهته في منظره وفي روعته بالجامعة الأمريكية في بيروت، لولا أنه بعيد عن البحر بنحو ألف متر والجامعة على سِيف البحر. وكان نُزُلنا الذي أعدّوه لنا في أكبر عمارة في هذا الفندق، يُصعَد
(1) هذه الحلقة منقولة بتصرف يسير عن مقالة «في جاكرتا» المنشورة في كتاب «في أندونيسيا» (مجاهد).
إليه على درَج عريض من الرخام مفروش بالسجّاد النفيس، وفيه غرفة نوم فيها سرير عرضه ثلاثة أمتار، يكفي لينام عليه العبد الفقير الذي هو أنا وأولاده جميعاً، ويبقى فيه متسَع لثلاثة من أولاد الجيران! وإلى جنبها بهو استقبال فيه الأرائك الفخمة المذهَّبة والأثاث المُلوكيّ (1)، وله شرفة لا تقلّ في السعة ولا في الفرش عنه، تطلّ على حديقة من أجمل ما رأيت من الحدائق، تظلّلها أغصان الدَّوْح الباسق المزهر دائماً زهراً ما رأيته إلاّ في تلك المناطق الاستوائية.
وأبى الشيخ أن ينزل فيه لأن إدارته أجنبية، وأصرّ على الإباء، فأنزلوه في فندق صاحبه مسلم حضرمي. ليس فندقاً على التحقيق ولكنه دكاكين على الطريق، سَدّوا أبوابها المفضية إلى الطريق وفتحوا نوافذ وأبواباً فيما بينها، ووضعوا فيها مرحاضاً ومغسلة، وجاءها ساحر فقال لها:"يا دكاكين كوني فندقاً"، فكانت -كما زعموا- فندقاً!
والذي يقرأ هذا الكلام ويرى أني نزلت في هذا الجناح العظيم وأني كنت ضيف الحكومة يحسب أني عشت فيه في النعيم المقيم، لا يدري أني كنت منه في جحيم؛ ذلك أن من طبعي العزلة والابتعاد عن الناس وأني لا أستريح إلاّ في حضرة النفر القليل من الإخوان والأصدقاء الذين أنطلق معهم على سجيّتي وأمضي على
(1) القاعدة أن النسبة إلى الجمع لا تجوز، ولكنهم قالوا من القديم: مائدة ملوكيّة ومسألة أصوليّة ورجل أنصاريّ، ونحن نقول: حقوق دولية وقضية عمّالية.
طبعي، هذا في بلدي وبين صحبي، فما بالك بالبلد الغريب بين قوم أنا فيهم كالأخرس لا أفهم عنهم ولا يفهمون عني؟
إنّ الغريبَ مُعذَّبٌ أبداً
…
إنْ حَلَّ لم يَسعَدْ وإنْ ظَعَنا
صدق خير الدين الزركلي: إن الغريب معذّب أبداً.
وكان الدليل الفاضل يهرب بالسيارة من صباح كل يوم، يُركِب بها أهله وأصحابه ويُنفِق عليهم ما خصّصته الحكومة لي ولصاحبي، وأبقي وحدي، فإذا أردت أن أشكوه لم أستطع أن أُفهِمهم ماذا أريد، وجاؤوا بهذا الترجمان لينقل إليهم ما أقول، فكيف ينقل إليهم شكواي منه؟
وأذهب إلى الشيخ وبين فندقي وفندقه مسافة كيلين (أي كيلومترين)، فأجده يقرأ أو يسبّح، فأقعد عنده ساعة، ثم أمشي على غير هدى لا أكلّم أحداً ولا يكلّمني أحد، أمشي في الطرق القريبة من الفندق، ثم أوسّع الدائرة يوماً بعد يوم، حتى صرت أعرف طريقي في هذا الجانب من المدينة الكبيرة.
وكان عملنا أن نقابل المسؤولين فنشرح لهم قضية فلسطين أو نخطب في الاجتماعات التي يعقدونها من أجلها، فإذا لم يكن عندنا مقابلة ولا محاضرة بقيت وحدي أمضي الليل كله مع هواجسي وأفكاري، أرى الأسر الهولندية من حولي، وهم يقيمون في الفنادق دائماً وحولهم أولادهم، وبيني وبين أولادي ربع محيط الأرض. ولبثت على ذلك شهراً كانت تمر عليّ فيه ليالٍ أكاد أحسّ فيها بالجنون.
يا رحمةً للغريبِ في البلدِ النّـ
…
ـازحِ ماذا بنفسِهِ صنعا
فارقَ أحبابَهُ فما انتفعُوا
…
بالعيشِ مِن بَعدِهِ وما انتفَعَا
* * *
لما قلت لكم من حلقتين إنني لا أعرف من يحبّ بناته كما أحبّ بناتي حسب قوم أني أبالغ وأدّعي. فهل تصدّقون إن قلت لكم أنني كنت في أندونيسيا أفكّر في بناتي، أخاف أن ينزلق اللحاف من فوق إحداهن فتتكشّف فتتعرّض للبرد؟ ولمّا كنت في دمشق كنت أفيق من نومي، أحسّ أن إحدى البنات قد أزيحَ عنها الغطاء في ليالي الشتاء، فأذهب إليها لأغطيها.
ومضى عليّ عيد لم أجد فيه من يقول لي «السلام عليكم» إلاّ السفير العمروسي والسيد الكتبي جزاهما الله خيراً. ولطالما أمضيت أياماً وأنا بلا طعام، أشتري كعكاً آكله مع الشاي لأن الأجراس في الفندق معطّلة، أو أنهم ألغوها واستعاضوا عنها بالهاتف، فمن أراد شيئاً اتصل بالإدارة فكلّمها. فكيف ترونني أكلّمهم وأنا لا أعرف لسانهم ولا يعرفون لساني، وليسوا أمامي لأخاطبهم بلغة الإشارات كما تفعل القرود في الغابات؟ وإذا نزلت إلى المطعم (وهو سلسلة أبهاء يضلّ الداخل إليها من كثرتها وسعتها) آخذ قائمة الطعام فلا أميز فيها حلواً من حامض ولا حاراً من بارد، فأضع إصبعي كيفما جاءت وأشير إليه أن يأتيني بما تحتها ثم أرى حظي (1)، فربما جاء طعام يؤكَل (وهذا أندر
(1) كذلك كان يصنع فخري البارودي غفر الله له لما ذهب إلى باريس، وكان من أوائل من ذهب إليها من السوريين. فرأى على مائدة =
من النادر) وربما جاء خليط عجيب لا يُساغ ولا يُبتلع، وهذا ما يكون دائماً.
وما أذكر أنني فرحت بطعام في عمري كله كما فرحت يوم دعاني السيد الكتبي، القائم بأعمال المفوضية السعودية في جاكرتا تلك الأيام. وأنا في العادة لا أجيب دعوة إلى طعام، لأن الدعوات وإن كان يُقدَّم فيها طعام أجود وألذّ من طعامي المعتاد في بيتي إلاّ أنهم يأخذون مني أكثر ممّا أعطوني؛ يأخذون حرّيتي في اختيار نوع الطعام فيطعمونني في الولائم ما يريدون لا ما أريد، وحرّيتي في اختيار المؤاكلين فيُقعدونني مع من يريدون لا مع من أريد، وحرّيتي في اختيار وقت الطعام فيطعمونني حين يريدون لا حين أريد.
أما هذه المرّة فإنني أجبت دعوة السيد الكتبي فرحاً مسرعاً، لأنها كانت قد مرّت عليّ أيام بلا طعام إلاّ الكعك والشاي وما أجد من الفواكه. فوجدت عنده فاصوليا كالتي نعرفها، ووجدت شيئاً رأيته أعجب وأغرب، شيئاً ظننتني لمّا أبصرته في حلم فخفت أن أصحو من حلمي فلا أجده: فولاً مدمّساً! فولاً حقيقياً في جاكرتا، جاءه بالعلب المختومة من مصر.
إنكم لا تعرفون مبلغ نعمة الله عليكم إذ تستطيعون أن تلقوا
= مجاورة مَن يأكل طعاماً استطابه، فلما فرغ قال للنادل «أنكور» (ومعناها «أيضاً» أو «مثله») فحسب أن اسم الأكلة «أنكور» فقالها للنادر، فجاءه بمثل الأكلة التي كانت أمامه، فقال للنادل: يا ابن الحرام، ليش أنكوري ما هو مثل أنكوره؟!
من تكلمونه وأن تجدوا ما تأكلونه حتى تتغربوا مثلي، فتلبثوا سبعة أشهر لا تسيغون طعاماً ولا تملكون كلاماً.
ولما عرف السفير المصري السيد فهمي العمروسي جزاه الله خيراً ما نحن فيه، فتح لنا بيته وأباح لنا مائدته، وأرادنا أن نجيء كل يوم، فكنا نؤم هذه الدار المباركة كلما ضاق بنا الصبر واشتدّ علينا الأمر. وأقام لنا -متفضّلاً- حفلة تعارف كبرى، استعدّ لها ودعا المئات من وجوه القوم ووكّل الدليل المحترم يوسف لتوزيع البطاقات، فأبقاها عنده وأهمل (من أمانته!) توزيعها، فلم يحضر أحد، وضاع التعب والمال كما ضاعت ذمّة الترجمان. وكيف يحضر الناس حفلة لم يُدعوا إليها ولم يسمعوا بها؟
* * *
ولم يكن في حمّام الفندق مغتسَل (مغطس، أي بانيو)، ما فيه إلاّ رشّاش، بل هو حمّام حسبت نفسي لما دخلته في واحد من حمامات دمشق القديمة: غرفة رطبة أرضها من الرخام، فيها بحرة صغيرة عميقة تُملأ بالماء، ويغترف منه المستحمّ بالطاس التي يكون مثلها في حمّاماتنا ويُراق الماء على الجسد. وحمّامات الفنادق التي رأيتها في أندونيسيا كلها على هذا المثال، ولست أدري هل جاءهم من الهولنديين أم اتبعوا فيه عادات أهل البلاد؟
ولقد كنا رأينا العجب في الباكستان من تأخّر المواعيد، فلا تبدأ حفلة في موعد افتتاحها ولا يسافر قطار في موعد سيره ومن وعدك بالزيارة الساعة الثامنة جاءك في التاسعة، أما في أندونيسيا فكل ما رأيناه فيها مضبوط وكل شيء يجيء في وقته. ومن عجائب
الضبط أن شاي العصر يأتيك به النادل (الجارسون) الساعة الرابعة تماماً، لا يتأخر دقيقة ولا يتقدم دقيقة. وهم يُلبِسون الإبريق (برّاد الشاي) غطاء كالسدارة العراقية مطرَّزاً منقوشاً، نعرفه عند بعض الأنيقات من ربات البيوت في دمشق، ولكنه يضع الشاي أمام غرفتك ويمضي، لا يؤذنك به ولا يقرع عليك الباب، ولعلك تكون نائماً قد امتدّت بك القيلولة فلم تحسّ به، ولعلك قد شُغلت عنه فلم تنتبه إليه، فتشربه بارداً. ومن عجائبهم أنك إن لم تصرّح أنك تريد الشاي محلّى بالسكّر جاؤوك به بلا سكّر، وإن لم تؤكّد لهم القول بأنك تريده حاراً حملوه إليك بعدما برد.
* * *
قلت لكم إن جاوة لا تبلغ في مساحتها مساحة الجمهورية السورية، وكان فيها -على ذلك- سنة 1953 لمّا زرناها ثلاثة وخمسون مليوناً، وقالوا إنهم يزيدون كل سنة ثمانمئة ألف، والجزر الأخرى تكاد تكون خالية، فليس في سومطرة (ومساحتها أكثر من ثلاثة أضعاف جاوة) إلاّ اثنا عشر مليوناً، وكلامنتان (التي كانت تُسمّى بورنيو، ومساحتها نحو ضعف سومطرة) ليس فيها إلاّ ثلاثة ملايين. وهذا كان كله لما زرناها من ربع قرن، لذلك كانت الحكومة تعمل دائماً على ترغيب الجاويين بالهجرة إلى إحدى هذه الجزر: تعطيهم الأرض فيها مجّاناً، وتبني لهم قرى ومدناً على أسماء قراهم ومدنهم وتنقلهم إليها على حسابها، والناس يُعرِضون عن هذا كله ويتعلّقون بمساكنهم على شدّة أزمة المساكن في تلك البلاد. لهذا كنت أنصح من يفكّر أن يزورها ألاّ يتوجّه إليها حتى يضمن لنفسه غرفة ينام فيها وإلا نام في الشارع، وهل
يدَعونه ينام في الشارع؟ وهذه نصيحة لم نبالِ بها لما قدّمها إلينا الوزير الأندونيسي المفوَّض في بغداد، ولكنا وجدناها لما جئنا حقاً وأكثر من الحق
…
إن كان في الدنيا شيء أكثر من الحق.
ولقد أعقبَت الحربَ العالمية الثانية أزمةُ مساكن في كل مكان، من نيويورك إلى أقصى الشرق، ولكن ليس في الدنيا بلد تمكّنت منه هذه الأزمة كجاكرتا، فإنه لم يكن فيها يومئذ -على سعتها وكثرة دورها وكبر فنادقها- مكان لنزيل جديد؛ ذلك أنه كان فيها إلى سنة 1941 ستمئة وثمانون ألفاً فقط، فلما صارت هي العاصمة وانتقلت الحكومة إليها بلغ سكانها سنة 1949 مليوناً ونصف المليون، وسنة 1952 مليونين وربعاً، ثم وصل سكانها لمّا زرناها إلى نحو ثلاثة ملايين. على أن القوم هناك في يقظة وعمل، فقد أُنشئت مدينة جديدة قرب جاكرتا هي كيبا يوران، مساكنها جديدة بعضها تنشئه الحكومة بمالها وموظفيها وبعضٌ ينشئه الناس بأموالهم، بُدئ بها في أواخر سنة 1948، فلم تأتِ سنة 1951 حتى تم بناء ثلاثة آلاف وخمسمئة بيت ألف منها للحكومة، وكان البنيان لما زرناها مستمراً ولكن الأزمة لا تزال ممسكة بالخناق.
والأرض رخيصة والفنادق واسعة، ولكن ليس فيها مكان لنزيل، بل إنك لا تلقى في كل مئة غرفة غرفةً واحدة فيها مسافر، وإنما هي أسر تقيم فيها تتخذها منازل لها، ونصفها تستأجره الحكومة لموظفيها. ولقد وجدنا نحن جناحاً فخماً لا ينقصه شيء، ولكن المصيبة في الطعام وفي الكلام. أما الطعام، فإني لما دخلت بغداد قلت: أين مني طعام الشام؟ ويا شوقي إليه!
فلما جئنا كراتشي قلت: واشوقاه إلى طعام بغداد! فلما أوغلنا في الشرق وبلغنا جاكرتا تمنيت أن أجد مثل طعام كراتشي!
ولما قعدت إلى العشاء أول يوم وصلت فيه إلى جاكرتا رأيت على طرف المائدة في الفندق طبقين صغيرين، طبقاً فيه زبد وطبقاً فيه شيء أحمر ما شككت في أنه مُربّى. وماذا يكون قد وُضع إلى جنب الزبد إن لم يكن فيه المُربّى؟ فأخذت بطرف السكين شيئاً من هنا وشيئاً من هناك ووضعته في فمي، وإذا بي أضع في فمي -والعياذ بالله- جمرة ملتهبة! وإذا هذا الشيء الأحمر نار حامية: نوع من الفلافل التي لم نسمع بها ولا نقدر على تصوّرها، وإذا القوم الذين يألفونها ويحبّونها يأخذون من هذا الشيء مثل رأس الدبوس بِعيدان دقيقة كالتي تخلّل بها الأسنان، وأنا أخذت منها ما أخذت، فماذا تظنونه فعل بي؟ لقد بقيت يوماً كاملاً لا أستطيع أن أُدخِل فمي شيئاً، وإن كنت قد أخرجت منه من مبتكَرات الشتائم ومن غرائب السباب ما نفّست به عن نفسي وأذهبت به غيظي، ولكنه ذهب كرصاصات تُطلَق في الهواء لا تصيب أحداً، لأنني قلته بالعربية وهم لا يفهمونها، فكانوا ينظرون إليّ وأنا أهدر بهذه الشتائم وأشير إلى فمي وأحرك بأصابعي حركة من يدلّ على أنها النار المحرقة، فكان المهذّب منهم يبتسم وغيره يضحك، لا يدرون ماذا حلّ بي.
والعجيب أن الخبز مفقود، وإذا طلبت قطعة من الخبز في الفندق الكبير الذي يقدّم الطعام محسوباً ثمنه مع أجرة المنام فإنك تُضطرّ أن تدفع ثمن الخبز، لأنه ترف ولا يدخل في قائمة الطعام! وإنما يأكلون الرز المسلوق بلا ملح ولا سمن، هذا الرز
الذي لازمنا ملازمة الظلّ حيث سرنا في باكستان والهند والملايا وسيام. وإذا تأنّق الأندونيسيون قدّموه لك في أكلة نسيت اسمها، أكلة وطنية عظيمة كالقوزي عندنا، أو الرز البخاري أو السليق هنا، وهذه الأكلة رز مطبوخ بدهن النارجيل، أي جوز الهند (وما أدري أطعمه أقبح أم ريحه؟ ثم تبيّنَت لي الحقيقة، وهي أن ريحه أقبح من طعمه وأن طعمه أقبح من ريحه) ومعه الفليفلة الحمراء مقطَّعة قطعاً يزيد عددها على عدد حبّات الرز، ومعه اللحم وأشياء أخرى لا أعرف ما هي. وفي أندونيسيا رقاق مثل الجَرادِق، يأكلونه بدل الخبز من الكوخ إلى القصر، طعمه طيّب، وقد حسبته نوعاً من الخبز وإذا هو -كما قالوا- سمك! تعجّبت منه لما رأيته، فلما جئت مكّة وجدته كثيراً فيها له أشكال وأنواع، ثم فقدته فلم أعُد أراه في هذه الأيام.
وإذا أردتم أن تعرفوا مناخ بلد فانظروا إلى صحّة أهله. وأنا أشهد أني لم أجد حيثما ذهبت في أندونيسيا مهزولاً ولا أصفر الوجه معروقاً ولا عاجزاً، ولم أجد خلال شهر كامل جُزت فيه جاوة من غربها إلى شرقها إلاّ ستّة شحادين فقط، على حين ترى في الهند وباكستان كل عشرة أمتار شحّاداً.
أما الثمار فغريبة عنّا، لا نكاد نعرف منها إلاّ البرتقال والعنب. وكان ثمن كيل (أي كيلو) العنب لما كنا في جاكرتا من ربع قرن ستين روبية، لأنهم يأتون به من أستراليا، مع أن أجرة المغنى (أي الفيلاّ) المتوسطة القدر ستون روبية في الشهر. وعندهم أنواع من البرتقال، منها شيء بحجم البطيخة الكبيرة جداً يوضع على المائدة منه حزّتان أو ثلاث، وعرض الحزّة الواحدة
ثلاث أصابع وطولها شبر ونصف الشبر. وعندهم «البابّايا» ، وهي كالبطيخ الأصفر المستطيل (وأنتم تعرفونها هنا في المملكة)، شجرها عال مثل النخل يرتفع عن الأرض نحواً من أربعة أمتار، موجود في كل مكان في الهند والملايا، وأنواع أخرى من الثمار لا أجد لها شبيهاً في ثمارنا. أما الموز فعندهم منه أكثر من ثلاثين نوعاً، منه ما يشوونه ويبيعونه مشوياً، ومن أنواعه ما يفضَّل أكله مطبوخاً، ومنها ما يُعقَد بالسكر كما يُعقد المشمش عندنا. ومن أحلى ثمارها الأناناس، وطعمه وهو طازج غير طعمه الذي تذوقته محفوظاً في العلب.
وأشهر الثمار في جاوة النارجيل (جوز الهند)، وأشجاره في كل مكان، لا يختلف شكلها عن أشجار النخل إلاّ بأنها أعلى وأن جذعها أنعم ملمساً. وهم لا يأكلونه في أندونيسيا والهند أكلاً، وإنما يقوّر البائع رأس النارجيلة ويدفعها إليك تشرب ماءها، وتكون وهي رطبة ممتلئة بالماء. أما الذي نأكله منها هنا فإنه لا يتجمد إلاّ بعد أمد طويل، فإن كانت غضّة طازجة كان هشاً كالقشطة، ومن أحبّ أكله أعطاه البائع ملعقة صغيرة فاستخرجه بها وأكله.
ولقد عشت هذا الشهر (كما عشت شهوراً قبل ذلك وبعده) لا آكل إلاّ الحليب وبعض الفواكه وقطعة من اللحم، لأن الطعام الإنكليزي لا أسيغه والطعام الوطني فيه هذه النار المحرقة، ولذلك كُتب عليّ أن أعيش بلا طعام.
* * *