الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-183 -
أسبوع التسلّح في الشام
إلى الأستاذ «س. ق. م.» : نعم، لقد كانت لي صلات بالرئيس شكري بك القوتلي رحمه الله؛ كنت أزوره في داره، على موعد غالباً، وأحياناً أذهب إليه بلا موعد إن دعا إلى ذلك داعٍ. وكنت قد عرفته في جريدة «الأيام» لمّا أنشأَتها الكتلة الوطنية وكان شكري بك من أعضائها الظاهرين. ولمّا عدت من دير الزور سنة 1940 متحمّساً أريد أن أعمل، وكانت لجنة الطلاب التي كنت رئيسها سنة 1931 قد تفرّقَت وتبدّلت حالها، لم أجد في الساحة من الوطنيين العاملين من رجال الكتلة إلاّ شكري بك، ولقد كتبت خبر ذلك فيما مرّ من هذه الذكريات. عرفتُه مناضلاً، وعرفته وزيراً، وعرفته رئيساً، فما تغيّر عليّ قليلاً ولا كثيراً، وإن كان غيره من زعماء الكتلة قد غيّرتهم المناصب.
وكانت لي صلات قبله بالرئيس محمد علي بك العابد، والرئيس هاشم بك الأتاسي، والرئيس الشيخ تاج الدين الحسني، وجماعة من رؤساء الوزارات ومن الوزراء لا أستطيع أن أحصيهم. وكثير من الوزراء، بل ومن بعض رؤساء الوزارات، كان من إخواني أو من تلاميذي، ولعلّي أجمع ذكرياتي عنهم في حلقة أو حلقات من هذه الذكريات.
فما وجه العجب في هذا؟ وهل تصدّق أنني عجبت من عجبك، ثم ذكرت أن الحالة في مصر غيرها في الشام وفي السعودية. وأقطار العرب كلها أخوات، ومصر أختنا الكبرى، ولكن الطباع تختلف بين الأشقاء، ومصر تُغلِق غالباً على الحاكم الأبواب وتُقيم دونه الحُجّاب فلا يوصل إليه إلاّ بمشقة أو بكتاب، وأبواب رؤسائنا في الشام كانت مفتوحة، ولا تزال أبواب الملوك والأمراء في المملكة هنا مفتوحة لكل داخل.
لقد كنا نزور الرئيس وربما زارنا، ونكلّمه ويكلّمنا، فإذا جاءت الرسميات وقفنا معه عند حدّ القانون والأعراف. وكانت في دارنا لوحة مكتوبة بخطّ فارسيّ جميل لها إطار ثمين، فيها حكمة حفظتُها وأنا صغير ولا أزال دائماً أراها أمامي، هي:«أحسِنْ إلى مَن شئتَ تكن أميرَه، واحتَجْ إلى مَن شئتَ تكن أسيرَه، واستغنِ عمّن شئت تكن نظيره» . فإذا كنت في غير حاجة إلى الرئيس وإلى الاستفادة من منصبه فأنت مثله.
ولقد كنت أرى في زيارتي الأولى للمملكة من ثلاث وخمسين سنة (1)، أرى البدوي القادم من باديته يدخل على الملك المؤسّس العظيم عبد العزيز، فيقعد بين يديه يكلّمه كما يكلّم صديقه ويطلب منه حاجته، بل يناديه باسمه يقول له: يا عبدالعزيز! ولقد مشى على ذلك أبناؤه جميعاً، فإذا جاء موعد الطعام بُسطت الموائد ووُضعت الأطباق، وقعدوا مع الملك يأكلون معه مما يأكل منه.
(1) نُشرت هذه الحلقة سنة 1406هـ.
وهذا الملك فهد على سنّة أبيه وإخوته يلبس مثل ما يلبس الناس، واتخذ العقال الأسود الذي يتخذه الناس، وزاد على أبيه وإخوته رحمهم الله فاستحدث شيئاً جديداً هو هذه اللقاءات مع طلاّب الجامعات، يكلّمهم كما يكلّم الأب أولاده ويجاوبهم كما يجاوب المعلّم تلاميذه، يخاطبهم مخاطبة عفوية فيها اطّلاع وفيها نكتة وفيها فائدة ومتعة.
يا أيها الأستاذ الذي كتب إليّ: أما تعلم أن قلمي ولساني مريضان، وأن مرضي هو الاستطراد؟ فلماذا فتحتَ لي الباب حتى خرجتُ عن الموضوع؟
عندي كلام كثير كثير عن الرئيس شكري بك وعن الرؤساء من قبله، ولكنني ما أنشأت هذا الفصل للقول فيه، بل للكلام عن أسبوع التسلّح الذي أبعدتَني برسالتك عنه. وسيرى قرّاء الجريدة من خبر هذا الأسبوع ما يملؤهم دهشة ويدنو بهم من غرابته إلى حد إنكار ما يقرؤون، ولكن إياكم أن تُنكِروا شيئاً منه، فإنه حقّ وصدق ما زدت فيه على ما وقع، بل نقصت منه.
إن الذي صنعه الناس في هذا الأسبوع من البذل في شراء السلاح ما رأيت مثله ولا سمعته ولا قرأته، وإنه لَيخطر على بالي الآن سؤال عجيب: لو كشف الله لهؤلاء المتبرّعين طرف الستار عن المستقبَل المحجوب، ورأوا أين سيذهب هذا السلاح وأيّ يد ستحمله وإلى أيّ صدر توجّهه، أفكانوا يتسابقون إلى العطاء ويتزاحمون على البذل كما يتزاحم على الأخذ الناس؟
ولكن لماذا أقول هذا الكلام وأنا أعلم أن الأعمال بالنيات
وأن لكل امرئ ما نوى؟ وهم ما نووا إلاّ أخيراً فلن يجدوا عند الله إلاّ الخير، والله عنده الميزان الحسّاس الذي تتحرّك إبرته بمثقال ذرّة تقع عليه، لا يضيع عنه شيء. لا أعني الذرّة كما فسّرها الأولون بالنملة الصغيرة أو بالهباءة التي تراها في الهواء عندما يدخل شعاع الشمس من الطاقة إلى الغرفة المظلمة، بل أعني الذرة بالمعنى العلمي (الأتوم)، بل أجزاء الذرّة من الكهارب (الإلكترونات)، وما هو أقل منها إن وصل إلى علمنا وجود شيء هو أقل منها.
* * *
أعود إلى الموضوع الذي قطعتني رسالتك عنه.
لمّا تتالت الطلبات وتعالت الأصوات تطلب تقوية الجيش وتسليحه، وكان ذلك هو مقصد الرئيس شكري بك ومُناه، وكان في تلك الأيام رجلَ الساعة، وجد أن الخزانة تكاد تكون فارغة ليس فيها ما يفي بثمن السلاح، والميزانية ضعيفة لا تتحمل أثقال التسليح. وكان باب شراء السلاح مفتوحاً، وكان الدكتور معروف الدواليبي أول من كسر احتكار الغرب بيعَه (1) وجعلنا نهدّد أولاً بأننا سنشتريه من كل مكان ثم نحقّق ما هدّدنا به. عندئذ فكّر الرئيس بهذا الشعب الكريم، الكريم النفس واليد. لا أعني الشعب الشامي وحده بل الشعب العربي في كل بلد من بلدان العروبة، وأخصّ منهم المسلمين الذين يعلمون أن من يُنفِق واحداً سيأخذ بدله -إن أخلص النية وصدق الإيمان- سبعمئة. كان الرئيس يعلم
(1) كلمة «بيعه» مفعول به لاحتكار.
أن هذا الشعب يُنجِده إذا استنجده، ويُمِدّه إن استمدّه، ويكون معه أبناؤه جميعاً حين يدعوهم:
لا يسألونَ أخاهم حينَ يندُبُهم
…
في النّائباتِ على ما قالَ بُرهانا
لقد جرّبنا ذلك منهم مرات فكانت التجرِبة ناجحة دائماً، وأحسبكم لم تنسوا حديث يوم الفقير أيام الرئيس تاج الدين الحسني الذي أوردتُ عليكم خبره، وما فعلت فيه لمّا كنت قاضي النبك سنة 1942.
أعود إلى الحديث عن شكري بك وعن أسبوع التسلّح. لقد دعانا يومئذ في جملة من العاملين الذين أقاموا من أنفسهم جنوداً لهذا الوطن، يأتمرون بأمر شكري بك لا لأنه رئيس الجمهورية بل لأنه الزعيم المناضل.
فبدأتُ أذيع سلسلة من الأحاديث من إذاعة دمشق، وكان لي فيها حديث دائم بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع. وعندي بحمد الله صورة مكتوبة من هذا الحديث لأنني كنت أكتب أحاديثي، وقد أدركت لمّا وجدت هذه الصورة مبلغ الخسارة بترك الكتابة وارتجال الأحاديث. ولكن ما فائدة الأسف؟ إن لي في المملكة الآن إحدى وعشرين سنة (1)، أحدّث فيها كل يوم من الإذاعة وكل أسبوع من الرائي، وأُلقي خلال ذلك محاضرات وخطباً، فكم مجلَّداً يخرج منها لو أنها كُتبت؟
وأنبّه قبل أن تقرؤوا هذا الحديث أنه أُذيع قبل أن تذهب
(1) من سنة 1383 (1963).
منا بقية فلسطين، التي أعنّا اليهود على طمس اسمها فدعوناها «الضفّة». ما الضفّة يا أيها العرب؟ قولوا:«فلسطين» ، وأرغموا آناف اليهود بـ «الاسم» حتى يقدّركم الله على إرغامهم بـ «الفعل» .
* * *
وهذا نصّ الحديث الأول من الأحاديث التي أُذيعت تمهيداً لأسبوع التسلّح، أختار منه ولا أعرضه كله (1). قلت:
الحديث اليوم عن أسبوع التسلّح، ولست أحدّثكم فيه استرضاء للّجنة العليا (وأذكر أنه كان من أعضائها صديقنا الأستاذ نصوح بابيل فلعلّه يكتب عنها) ولا لأن الموجّه له المعنيّ به فخامةُ الرئيس، بل لأني معتقد بأن العمل له والمشاركة فيه واجب شرعيّ وعقليّ ووطنيّ. يدعو الديّنَ إلى ذلك دينُه، والعاقلَ عقلُه، والوطنيَّ وطنيتُه، ولولا ذلك ما قلت فيه كلمة، وأنتم تعرفونني وتسمعون لي من أكثر من خمس وعشرين سنة وتقرؤون لي من ثلاثين سنة، فهل وجدتموني بعت قلمي يوماً لأحد، أو دفعَتني منفعة أرجوها أو مضرّة أخشاها إلى أن أقول بلساني ما لا يؤمن به قلبي؟
ولست أقول هذا تمدّحاً وفخراً، بل لأحملكم على تصديق ما أقوله اليوم لكم. وماذا أقول لكم؟ وهل ترونني أحتاج إلى أن أوضّح الواضحات، وأقنعكم بوجود الشمس في رابعة النهار، وأثبت لكم أن العمل على التسلّح ضرورة لازب؟
(1) انظر مقالة «أسبوع التسلح وفلسطين» ، وهي في كتاب «هُتاف المجد» ، وقد أذيع هذا الحديث سنة 1955 (مجاهد).
وهل في هذا البلد كله، وهل في بلاد العرب، وهل في ديار المسلمين جميعاً رجل واحد يشكّ في هذه الحقيقة الظاهرة التي يراها كل من في وجهه عينان، وهي أن سلاح الخطب والتصريحات والبيانات والشكاوى لم يعُد يُفيد ولا يُجدي، وأن اللغة الوحيدة التي تفهم بها إسرائيل هي لغة المدفع، وأننا عرفنا الآن كيف نكلّم إسرائيل بهذا اللسان؟
هذا يا أيها السامعون أول قرار ستتخذه الحكومة (أعني قرار التسلّح)، فيقول لها الشعب صدقت، ونحن معك. هذا هو القرار الذي يترجم عن أفكار الناس جميعاً ويعبّر عن آرائهم جميعاً، من رجل السوق إلى موظف الديوان، إلى تلميذ المدرسة، إلى عامل المعمل وفلاح الحقل.
لقد استطعت الآن أن أرفع رأسي الذي طالما أحناه الخجل في هذه السنين السبع الماضيات، الخجل من ديننا الذي يأمرنا أن نُعِدّ للعدوّ ما نستطيع من القوة من الحديد والبارود والطيارات والدبابات، فأعددنا كلاماً حرّكنا به المنابر وزلزلنا به الصحف وهززنا به أسلاك البرق! الخجل من سلائق العروبة أن تدنّسها بالعار أخلاق الهزيمة، الخجل من الله أن يرانا نبتعد نحن المسلمين عن قتال كلاب يهود بعدما قاتل أجدادنا الإمبراطوريتين اللتين ورثتا العالَم: فارس والروم. لا نقاتلهم ونحن في قلب بلادنا مدافعين عنها وقد قاتل أجدادنا فاتحين في أقصى الأرض! قصّرنا وأهملنا فكانت النتيجة هي التي ترونها في القدس وفي القرى الأمامية.
هل تدرون ما حديث القرى الأمامية (وأقول لكم بأسف إن حديث القرى الأمامية صار الآن تاريخاً يُروى)؟ لقد وقفتُ في قَلْقيليَة فإذا البلدة على صخرة مقفرة، وبساتينها أمامها يضحك فيها النبت وترقص الأشجار وتغنّي السواقي. أمّا البلدة فبقيَت للعرب، وأمّا البساتين فأُعطيَت لليهود (وأقول مرة ثانية إن البساتين أيضاً أُعطيت لليهود ولا أقول أخذها اليهود).
ولقد كان أهل قلقيلية يقفون معنا لمّا كنا في المؤتمر سنة 1953 وذهبنا نزورها، كانوا يشيرون بأيديهم إلى الشجرة يقولون: أترون هذه الشجرة؟ لقد زرعتها بيدي في أرضي وتعهّدتها وسقيتها، فلما كبرَت وأثمرَت أكل ثمرَها اليهود! أترون هذه الساقية؟ لقد شققتها وأجريتها، فلما سال ماؤها عذباً سائغاً شربه اليهود! وبيوتنا التي عمّرناها بأيدينا أقام فيها اليهود، وفُرُشنا التي فرشها لنا نساؤنا نام عليها اليهود.
وفي كل شبر من فلسطين بقعة حمراء من أثر الدم الزكي، دم الشهداء الذين سقطوا صرعى دفاعاً عن بيوتهم وقريتهم وعن شرفهم وعن دينهم، ودم النساء والأطفال الذين ذبحهم اليهود.
لقد وقفنا في قَبْيَة على أنقاض المدرسة التي ضربها اليهود بالقنابل من سنتين فمات المعلّم والتلاميذ، ونبشنا الأنقاض، ورأينا هيكل طفل صغير يشير بيد من عظم قد فني من حوله اللحم، يفتش في الأرض عن عربي من الثمانين مليوناً، عن مسلم من الستمئة مليون (صاروا اليوم ألف مليون) ينقذه من هذه الحفنة من شُذّاذ الآفاق من اليهود، فلم يجد.
لم يوجد يومئذ ولكن أرجو أن يكون قد وُجد الآن، وُجد من ينتقم لتلميذ مدرسة قبية، من يثأر للحبالى اللاتي بقر بطونَهن خنازيرُ البشر اليهود، للنساء اللائي قطع أثداءهن اليهود، للأطفال الذين ذبحهم اليهود على أعيُن أمهاتهم، لقبية ودير ياسين (ولم تكن جريمة صبرا وشاتيلا قد وقعت)، للمسجد الأقصى الذي ضربه اليهود بالبارود وأراقوا على ثراه دم الأبرياء من المصلّين، للكرامة العربية، ولعزّة الإسلام.
فهل في السامعين من يشكّ أو يتردّد أو يحتاج إلى أن أرغّبه في البذل لأسبوع التسلّح؟ هل فيهم من يحتاج إلى أن أُثير في نفسه الحماسة أو أوقظ فيها الإيمان؟ هل فيهم من يُعوِزه أن أبيّن له أن ما يدفعه الآن هو الذي يبقى له يوم القيامة، وأنه بهذا العطاء سيكون من المجاهدين لأن الجهاد درجات: جهاد باللسان، وجهاد بالمال، وجهاد بالنفس؟ هل أحتاج أن أقول لكم إن الأمّة التي تكون مثلنا مهدَّدة بالعدو الغادر الجاثم على أبوابها، ولا تبذل من مالها الشيء القليل للتسلّح وللاستعداد، تذهب بذلك القليل والكثير؟
فأعطوا من أرباحكم قبل أن يذهب الربح ورأس المال. أعطوا من أجور أملاككم قبل أن تخرج من أيديكم هذه الأملاك. أعطوا من ثمرات أرضكم قبل أن تخسروا الأرض والثمرات. أعطوا من رواتبكم قبل أن تبقوا بلا رواتب. أعطوا من وفر ما تتخلّون عنه من الكماليات، فإن من لا يستغني عن الكماليات في مثل هذا المقام يُضطرّ يوماً أن يستغني مُكرَهاً عن الضروريات. من كان عنده عرس فليدع ثمن علب السكاكر ونفقات العرس التي
لاداعي إليها للجان التسلّح ويُعلِن ذلك للمدعوّين، يشكره الناس ويكن قدوةً لهم في الخير. ومن كان له مأتم فليترك الآس والحنّاء وحفلات الثلاثة الأيام والأربعين وهاتيك البدع التي لا يرضاها الشرع ولا يقرّها الدين، وليدفع تكاليف ذلك للجان التسلّح، وليُعلِن ذلك للناس. ومن كان يريد أن يشتري ثوباً جديداً يمكن أن يستغني عنه أو تحفة أو لوحة فليدعها وليدفع ذلك للجنة التسلّح، وليجعل للإيصال إطاراً يعلّقه في غرفة الاستقبال مكان الصورة، وليثق أنه يكون أجمل من كل صورة فنّية. ومن كان يذهب إلى السينما ثلاث مرات في الأسبوع فليذهب مرتين وليدفع أجرة الثالثة إلى لجان التسلّح، أو فليرجع إلى عقله ودينه ويدع السينما ويَتُب منها ويجعل نفقاتها لأسبوع التسلّح.
وكل ما يمكن الاستغناء عنه فلنستغنِ عنه لنجعل ثمنه سلاحاً ندافع به عن بلادنا، ونسترجع به أرضنا من عدوّنا، ونُخلِص النية فنُرضي بذلك ربنا. ويستمرّ ذلك دائماً، لا أسبوعاً واحداً، لأن الكماليات لا مكان لها في بلد مهدَّد بالعدوّ الجاثم على الأبواب.
إن من حقّ الرجل أن يستريح في بيت ويستمتع بعد انتهاء عمله ويستلقي ويأخذ جريدته وقهوته، ولكن إن شبّت النار في الدار لا يبقى للمتعة والراحة مجال؛ كلاّ، ولا للطعام ولا للمنام. إن الطعام والماء من الضروريات، ولكن في حالة الخطر نترك الضروريات فكيف بالكماليات؟ إن أهل فلسطين اضطُرّوا إلى الدفاع عن أنفسهم، كل يدافع بسلاحه عن بيته وعن حريمه وعن أولاده، فاحمدوا الله أنتم على أن لكم جيشاً يدافع عنكم ولا يدع العدو يصل إلى أبواب بيوتكم، وادعوا الله أن يجعل هذا الجيش
بأيدي من هو منكم مخلص لكم، لئلا يُضطرّ كل واحد منكم أن يدافع عن بيته بنفسه أو أن يهرب منه تاركاً ماله وأثاثه فيه.
لا يريد منكم هذا الجيش إلاّ قليلاً من المال، قليلاً لا يزعجكم ولا يبقيكم دفعه بلا طعام. فإذا شحّت نفوسكم وغلب عليكم حبّ المال -وحبُّ المال فطرة في النفوس- فاذكروا إخوانكم من أهل فلسطين؛ مَن كان أكثر مالاً فخرج على وجهه لا يملك شيئاً. أفليس خيراً لكم أن تُعطوا قليلا ليبقى لكم الكثير، من أن لا تعطوا شيئاً ولا يبقى لكم شيء؟ وانووا عند العطاء رضا الله لا التفاخر ولا التظاهر، ولا رضا الحُكّام ولا ثناء الناس. قولوا: هذا ندفعه يا رب ابتغاء وجهك، فاخلفه علينا واكتبنا به مع المجاهدين بأموالهم في سبيلك.
يا أيها السامعون والسامعات من أهل الشام: إن أرواح الشهداء تناديكم من كل بقعة في فلسطين، والدماء تصرخ بكم، وصخرة الأقصى وأمجاد الماضي والعروبة والإسلام والقرآن، كل ذلك يهتف اليوم بكم:{ها أنتُمْ هؤلاءِ تُدْعَونَ لتُنفِقوا في سبيلِ اللهِ، فمنكمْ مَن يَبخَلُ، ومَنْ يبخَلْ فإنّما يبخَلُ عَنْ نفسِهِ، واللهُ الغنيُّ وأنتمُ الفقراءُ، وإن تتولَّوا يَستبدلْ قوماً غيرَكمْ ثم لا يكونوا أمثالَكُم} .
* * *
وفي يوم السبت 10/ 12/1955 كان الاجتماع الكبير في مدرَّج الجامعة السورية (جامعة دمشق الآن)، فامتلأت مقاعدها والممرات بين المقاعد، واحتشد الناس من حولها، وسُدّت الشوارع المفضية إليها، وكان يوم كأنه يوم المحشر، وحضر
شكري بك والعلماء والوجهاء ورجال الحكومة ولجنة الأسبوع، حتى كأنه لم يبقَ في الشام أحد لم يحضر حفلة الافتتاح.
وأخجل أن أقول (وإن كان الذي أقوله حقاً) إن خطبتي كانت هي عماد هذه الحفلة. والخطبة مكتوبة عندي، لا أنقلها كلها إلى هذه الحلقة من الذكريات لأنها طويلة، ولكن أنقل منها ما يتسع لنقله المكان (1). قلت:
أنا أمتطي صهوات هذه المنابر وأقارع الفرسان في حلبات البيان من ثلاثين سنة إلى الآن، فلم تحرن عليّ هذه الأعواد ولم تتعسّر عليّ الخطب إلاّ هذه العشيّة؛ لا لأن الأحاديث الأربعة التي ألقيتها في التسلّح (وقد نقلت إليكم واحداً منها) قد استنفدَت كل ما لديّ من صور وأفكار، بل لأن سلاح الخطيب الحماسة التي يهزّ بها أوتار القلوب والعاطفة التي يستدرّ بها دموع العيون، وأنا أنزل الليلة إلى الميدان بلا سلاح. والخطيب يُسكِر السامعين بخمرة البلاغة ويجيئهم وقد أذهب السكْر قُواهم فيُدعَون فيلبّون، وأنا أواجه الليلة سامعين صاحين لم تلعب بألبابهم نشوة البيان. وما لي وللخيال؟ ما لي وللشعر وعندي من الحقائق الواقعة ما يُغني عن حيك الأساطير؟
ذهبتُ سنة ستّ وأربعين إلى مصر، وكان الطريق على فلسطين فأقمت فيها عشرة أيام، وكان لي فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين، فلُمتُهم على قعودهم وقيام اليهود، على قعودهم
(1) الخطبة كلها في كتاب «هُتاف المجد» ، وهي بعنوان «في افتتاح أسبوع التسلح» (مجاهد).
وإهمالهم جمعَ المال وشراء السلاح، فقالوا إن الأيدي منقبضة والنفوس شحيحة. قلت: لا، بل أنتم المقصّرون. قالوا: هذا تاجر من أغنى التجار، فهلمّ بنا إليه تنظر ماذا نأخذ منه.
وذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين، وحوله ولدان له شابّان يتفجّران صحّة ورجولة وجمالاً. وكلّمناه، وحشدتُ له كل ما أقدر عليه من شواهد الدين وأدلّة المنطق ومثيرات الشعور، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية، ما أحسّت بها فضلاً عن أن ترتجّ منها. وقال: أنا لا أقصّر، أعرف واجبي وأدفع كل مرة الذي أقدر عليه. قلت: وهل أعطيت مثل الذي يعطي تجار اليهود؟ قال: وهل تمثّلني بتجار اليهود؟ قلت: وهل أعطيت مرة مالك كله؟
فشُده وفتح عينيه، وظنّ أن الذي يخاطبه مجنون وقال: مالي كله؟! ولماذا أعطي مالي كله؟ قلت: إن أبا بكر لمّا سُئل التبرّع للتسلّح أعطى ماله كله. قال: ذاك أبو بكر، وهل أنا مثل أبي بكر؟ قلت: عمر أعطى نصف ماله، وعثمان جهّز ألفاً
…
فلم يدَعْني أكمل وقال: يا أخي، أولئك صحابة رسول الله، الله يرضى عنهم. أين نحن منهم؟ قلت: ألا ترى أن البلاد في خطر وأننا إذا لم نُعطِ القليل ذهب القليل والكثير؟ قال: يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي. أنا رجل بيّاع شرّاء لا أفهم في السياسة وليس لي بها صلة، وهذا مالي حصّلته بعرق جبيني وكدّ يميني، ما سرقته سرقة، فهل تريد أن أدفعه وأبقى أنا وأولادي وأحفادي بلا شيء؟ قلت: ما نطلب مالك كله ولكن نطلب عُشره.
قال: دفعت ما عليّ، ما قصّرت. وأعرضَ عنا وأقبل على عمله.
يا سادة، هذه حادثة أرويها لكم كما وقعَت، ولو كان يجوز لي لعيّنتُ البلد والتاجر، ولولا أني قرأت في جريدة من الجرائد إشارة إلى قصة مثلها ما عرضت لها.
ومرّت سبع سنوات، وذهبت من سنتين (أي سنة 1953) إلى المؤتمر الإسلامي في القدس، ومررنا في الطريق بمخيَّم اللاجئين وأقبل الناس يسلّمون علينا، وإذا أنا بشيخ أبيض اللحية محنيّ الظهر غائر الصدغين رثّ الثياب، أحسستُ لمّا التقت العينان كأن قد برقَت عيناه برقة خاطفة وكاد يفتح فمه بالتحية، ثم تماسك وأغضى وارتبك كأنه يريد الفرار. فلما انتهى السلام راغ مني ودخل في غمار الناس. ولبثت أفكّر فيه من هو وأين قابلته، فما لبثت أن ذكرته، وتكشّف لي المنسيّ فجأة كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور.
إنه هو، هو يا سادة. وكلّمته فتجاهلني، فلما ألححتُ عليه اعترف. ولم أشمت به، ومعاذ الله أن يراني أنحدر إلى هذه الدرك. ولم أُزعِجه بلوم أو عتاب، ولكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام، لذلك استبقني فقال: لا تقُل شيئاً، هذا هو القدَر، ولو كان لله إرادة لألهمني وألهم إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك. قلت: أوَلم يبقَ لك شيء؟ فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع وقال: بلى، بقي الكثير؛ بقيَت الصحّة والثقة في الله، وبقي هؤلاء. وأشار إلى امرأة عجوز وطفل صغير.
قلت: لا تيأس من رحمة الله. قال: الحمد لله أن جعلنا عبرة،
ولكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام ومصر والأردن قد اعتبروا بنا. ونظرت إلى الطفل فسمعت العجوز تقول له: قبّل يد عمّك. فجاء وجسده المحمارّ من البرد يبدو من ثقوب الثوب كزرّ من الورد أخذَت تتفتّح عنه الأكمام. كان بثوب رقيق ممزَّق، وأنا في المعطف الثقيل والعباءة من فوقي وأُحِسّ البرد يقرص عظامي!
وأحسست بقلبي يتمزّق كتمزّق هذه الأسمال، ولم يكن معي ما أساعده به إلاّ أن نزعت العباءة فلففته بها، وقلت لنفسي: فليُسعَدِ النطقُ إن لم يسعَدِ الحالُ. ورحت أكلّمه فلم أجد إلاّ أن قلت له: أتحبّ بابا؟ أحسب أن الشيخ أبوه، فقالت العجوز للولد: قول له: بابا في الجنة. قال: بابا في الجنة. أعادها بلهجته كأنه ببغاء ليس يدري ما يقول، فسكتُّ حائراً ملتاعاً. ثم أردتُ أن أقطع حبل الصمت بأيّ كلام فقلت: فماذا تصنع الآن؟ قال: إنني أوفّر لأشتري السكّين لأذبح اليهود كما ذبحوا بابا. وسكت اللسان ونطقَت العيون؛ لقد بكيت وبكى الحاضرون جميعاً، ومشيت وأنا لا أبصر من الدموع طريقي.
* * *
وقبل أن أختم هذه الحلقة لأكملها في التي تليها أسارع فأقول إن هذا التاجر لا يمثّل الفلسطينيين، وإنما هو البقعة السوداء في الثوب الأبيض، كان هو الشاذّ بينهم وليس هو القاعدة لهم. وأشهد أن لقد بذل الفلسطينيون (إلاّ قليلاً منهم) من دمائهم ومن أموالهم ما لا يبذل أكثرَ منه قومٌ مثلهم.
* * *
إلى القرّاء الكرام
لقد بذلتُ في تصحيح هذا الكتاب غايةَ ما استطعت من الجهد، لكنّي لا آمَنُ أن يكون فيه خطأ سهوتُ عنه، لأن الكمال ليس لأحد من البشر، إنما هو من صفات خالق البشر. فأرجو أن يَمُنّ عليّ قارئه (وقارئ سائر كتب جدّي التي صحّحتُها وأعدت إخراجها من قريب) فينبّهني إلى أي خطأ سهوت عنه لكي أتداركه في الطبعات الآتيات، وأنا أشكره وأدعو له اللهَ بأن يجزل له الأجر والثواب.
مجاهد مأمون ديرانية
المحتويات
الحلقة (156) كيف قابلت عبد الحميد السراج بعد الخطبة التي هزّت دمشق
…
5
الحلقة (157) صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام
…
19
الحلقة (158) خرجنا للاستسقاء فاستجاب ربّ السماء
…
33
الحلقة (159) تعليق على مقالة وجواب على رسالة
…
43
الحلقة (160) قصّة الوحدة والانفصال
…
57
الحلقة (161) نظرة في أسباب الانفصال
…
73
الحلقة (162) عندما زعمت الصحافة الناصرية أني ذُبِحت
…
91
الحلقة (163) التفاصيل التي حبكت بها الصحف الناصرية روايتها عن قتلي
…
107
الحلقة (164) عودة إلى رحلة الشرق
…
123
الحلقة (165) إن الشجى يبعث الشجى. لماذا أتحدث عن بنان وأنا أرثي شكري فيصل؟
…
135
الحلقة (166) على الطريق إلى أندونيسيا
…
151
الحلقة (167) جاكرتا وفندقها الكبير
…
161
الحلقة (168) سويسرا ليست في أورُبّا
…
173
الحلقة (169) جمال يعجز عن تصويره البيان
…
187
الحلقة (170) لوحات حية من حياة أندونيسيا
…
203
الحلقة (171) معركة أدبية كانت نتيجتها دعوى قضائية
…
215
الحلقة (172) أندونيسيا والإسلام
…
233
الحلقة (173) أندونيسيا بين عسف اليابانيين ونكث البريطانيين
…
249
الحلقة (174) بدأت أندونيسيا إسلامية، فمن أين يأتيها البلاء؟
…
265
الحلقة (175) خواطر وصور عن التربية والمدارس
…
283
الحلقة (176) ما الذي يجعل تعليم الأمس أكثر رسوخاً رغم مساوئه؟
…
299
الحلقة (177) من ذكرياتي في التعليم وتربية البنات
…
315
الحلقة (178) ملاحظات عن المحاماة والمحامين والقضاء والقضاة (1)
…
329
الحلقة (179) ملاحظات عن المحاماة والمحامين والقضاء والقضاة (2)
…
341
الحلقة (180) أخبار غير قضائية في محكمة دمشق
…
353
الحلقة (181) صور ومشاهد من ساحات القضاء
…
369
الحلقة (182) يوم أغرّ من أيام دمشق
…
383
الحلقة (183) أسبوع التسلّح في الشام
…
399