الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-157 -
صلاة الاستسقاء المشهودة في الشام
يوم الجمعة 8 جمادى الأولى 1380
كنت في شتاء 1959من عهد الوحدة أشتغل بنشر سلسلة «أعلام التاريخ» التي تكلّمت فيها عن رجال، منهم من عرف الناس سيرته مُجمَلة ففصّلتها كعبد الرحمن بن عوف، ومن سمع الناس باسمه ولم يعرفه أكثرهم كالقاضي شُرَيك صاحب المناقب التي قلّما حوى تاريخ قضاء أمّة مثلها، وعبد الله بن المبارك المليونير الزاهد والفقيه المحارب العابد. ومنهم من لم يسمع به في بلدنا إلاّ نفر قليل كأحمد بن عرفان، الذي كان عالماً عابداً وكان زعيماً مجاهداً، والذي نازل في الهند الإنكليز والسيخ معاً وأقام دولة تحكم بالإسلام عجز العدو عنها، فقضى عليها الجَهَلة من المسلمين العوامّ.
ومنهم الرجل الذي أرجو أن يقرأ سيرته كل عالِم وطالب علم، الذي أخلص حياته للعلم وفرغ من شهوتَي بطنه وفَرجه وبلغ أرفع منصب علمي على أيامه، وهو أنه صار مدير الجامعة الكبرى، أي شيخ دار الحديث الأشرفية، التي كان من أوائل
شيوخها ابن الصلاح وأبو شامة ومن أواخرهم الشيخ بدر الدين الحسني والشيخ عبد الحكيم الأفغاني. وهو صاحب «المجموع» ، أكبر مرجع في فقه الشافعية. أما عرفتموه؟ إنه النووي.
وما كنت أكتب عنهم مكدّساً الروايات التاريخية بعضها فوق بعض، كجدار فيه الحجارة الكبار لكن بلا مِلاط يمسكها ولا هندسة تنظمها. بل كنت في تأليف هذه السلسلة أمشي على طريقتي في كتابي «رجال من التاريخ»: أجمع أقوال المؤرّخين ثم أحقّقها، ثم أختار مشهداً من حياته أجعله مدخلاً إلى الكتابة عنه، فيكون ما أكتبه عنه وسطاً بين القصّة الأدبية والسيرة التاريخية (1).
* * *
وهذه المقدّمة كلها لأقول لكم إن المطر انقطع على عهد الإمام النووي سنين طوالاً، شحّت فيها العيون وأمحَلَت فيها الأرض وتوالت سنوات الجدب، حتى صارت السهول صحارى
(1) نُشرت هذه المجموعة (أعلام التاريخ) في كتيّبات صِغار، لكنها لم تنتشر بين الناس ولم يُكتَب لها من القَبول ما كُتب للكتاب الآخر «رجال من التاريخ» . وأنا لم أصل بعد إلى هذا الكتاب فيما أراجع وأصحح من كتابات جدي رحمه الله، لكن الخطة في ذهني -حين أصل إليه بإذن الله- أن أضم إليه هذه السِّيَر التي صدرت في الماضي مستقلة مجزَّأة في سلسلة أعلام التاريخ، وأن أضم إليه بضع ترجمات مخطوطة لم يضمّها أيٌّ من الكتب التي نشرها علي الطنطاوي من قبل، ثم أفصل الأعلام القدماء عن المُحدَثين فأجعل كل مجموعة منهما في جزء مستقل، وهو الأمر الذي كان في نيّة جدي رحمه الله أن يصنعه. وأرجو الله أن يوفقني إلى ذلك كله عمّا قريب (مجاهد).
وجفّ الضرع وهلكَت المواشي. فدعا إلى إحياء سنّة الاستسقاء، وكتب إلى الملك الظاهر، الرجل العظيم الذي طهّر بلاد الشام من الأعداء الثلاثة الكبار: المغول والصليبيين والبيزنطيين وأعاد الوحدة بين مصر والشام. وخرج الناس للاستسقاء في يوم 11 جمادى الأولى سنة 668 هجرية، ومنّ الله على الناس بالمطر.
وكان المطر قد انقطع في الشام أيام الوحدة سنين متعاقبات كانت حالنا فيها كحال الشام التي ذكرتها على عهد الإمام النووي، حتى إن عين الفيجة التي كانت تسقي دمشق كلها وكان منها ثلثا ماء بردى قد قلّ ماؤها وكاد يغور. ونظرتُ فوجدت سنّة الخروج للاستسقاء قد نُسِيَت في الشام من مئة سنة أو أكثر من مئة سنة. وكان لي حديث أسبوعي في الإذاعة يُذاع بعد صلاة الجمعة، في مثل الوقت الذي تسمعون فيه الآن من الرائي هنا حديث «نور وهداية» ، وقد استمرّ ذلك البرنامج في الإذاعة كما استمرّ برنامج «نور وهداية» حتى كاد يُنهي سَنَتَه التاسعة عشرة.
وكنت يومئذ أكتب أحاديثي، لا أرتجلها ارتجالاً كما أصنع الآن. وليتني بقيت على ما كنت عليه، فلقد أضعت على الناس بترك كتابتها نفعاً كبيراً كما أضعت على نفسي جهداً أكبر. والناس يرونني أجيب بلا إعداد فيحسبون أن أجوبتي الآن في الإذاعة والرائي كلها ارتجال، مع أنني أنفق في بعضها ساعات طوالاً أراجع فيها المسألة وأُعِدّ فيه الجواب.
فلما كان يوم الجمعة من شهر كانون الأول (ديسمبر) سنة 1959 قلت في حديث:
نحن الآن -أيها السامعون- في وسط كانون، وهذه هي السماء مُصحية زرقاء ما فيها بقعة سحاب، وهذه هي الشمس ساطعة كأنها شمس آب (أغسطس). فأين الشتاء؟ أين الثلج والمطر؟ لقد تعاقبَت علينا سنون تكاد تكون كسِنِي يوسف، وذلك نذير من الله لنا لنعود إلى ربنا ونُقلِع عن ذنوبنا، ولكن أين مَن يسمع النّذُر؟
إن مفتاح المطر في أيدينا، ولكن أين من يفكّر في مفاتيح المطر؟ إن مفتاح المطر يا أيها الناس هو التوبة والاستغفار:{اسْتغفروا ربَّكم إنّهُ كانَ غَفّاراً، يُرْسِلِ السّماءَ عليكم مِدْرَاراً، ويُمْدِدْكُم بأموالٍ وبَنينَ، ويَجْعَلْ لكُمْ جَنّاتٍ ويَجْعَلْ لكم أنْهَاراً} . كُلّ ذلك بالاستغفار: بالاستغفار تهطل الأمطار، وبالاستغفار تجري الأنهار، وبالاستغفار يكون المال والبنون.
هكذا يقول ربّكم ربّ العالَمين، ليس هذا قولي أنا.
وليس الاستغفار باللسان وحده، ولكن بالإقلاع عن المعاصي وترك الذنوب. فهل أقلعنا عن ذنوبنا؟ هل تمسّكنا بديننا؟ هل عدنا إلى ربنا؟ هل نحن مؤمنون حقاً؟ يا أيها الناس، امتحنوا إيمانكم وحاسبوا أنفسكم. وصفَ الله المؤمنين بأنهم:{الذينَ يُؤمِنُونَ بالغيبِ ويُقيمونَ الصّلاةَ وممّا رزَقنَاهم يُنفِقُونَ} ، وقال:{إنّما المُؤمنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلوبُهُم وإذا تُلِيَتْ عليهم آياتُهُ زادَتْهُم إيماناً، وعلى ربِّهم يَتَوكّلونَ} . فهل نحن من الموصوفين بصفات المؤمنين؟
(إلى أن قلت): أوَلم يبيّن الرسول ‘ أن كل واحد منّا راعٍ
ومسؤول عن رعيّته؟ وأن الأب راع لأولاده مسؤول عن تربيتهم وتنشئتهم على الدين والفضيلة والأخلاق الإسلامية؟ فهل قام الآباء بواجب هذه الرعاية، أم أضاع الآباء سلطانهم وفقد الأزواج مكانهم، ولم يبقَ لربّ بيت سلطة على بيته ولا لرجل حكم على أهله
…
(إلى أن قلت): ماذا أُعَدّد وماذا أقول؟ أين نحن من المسلمين الأوّلين الذين كانوا مسلمين حقاً يحكمون بما أنزل الله؟ فهل نحكم نحن بما أنزل الله؟ ويتّبعون شرع الله، فهل نتّبع نحن شرع الله؟ ويريدون بأعمالهم كلها وجه الله، فهل نريد نحن بأعمالنا وجه الله؟
يا أيها السامعون، ليس العجيب أن يمنع الله عنّا المطر، ولكن العجيب أن لا تنزل علينا الحجارة والصواعق! فيا أيها الناس، عودوا إلى الله واعتبروا. يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروا.
ارجعوا إلى الله فاطلبوا منه المطر واسألوه الغيث، فإذا لم يبعث الله المطر فمَن غيرُ الله يأتيكم بالمطر؟ وإن حفرتم فلم تجدوا ماء ووجدتم ماء الأرض قد غار والعيون قد جفّت، فمَن غير الله يضع لكم الماء في الأرض؟ أإلهٌ مع الله تراجعونه؟ أفي الوجود مُلك غير مُلك الله تفرّون إليه، كما يفرّ اللاجئ السياسي من دولة إلى دولة؟ {يا مَعشرَ الجنِّ والإنْسِ إنِ اسْتَطعتم أنْ تنفُذُوا منْ أقطارِ السّماواتِ والأرضِ فانفُذُوا} . وإلى أين؟ والسماوات والأرض وما بينهما وما فيهما كلّ ذلك له وحده لا شريك له.
فلم يبقَ إلاّ الرجوع إليه واتّباع سنّة رسوله بالاستسقاء. إن المسلمين الأوّلين كانوا إذا انقطع المطر تابوا إلى الله من الذنوب،
وأزالوا المنكَرات، وردّوا المظالم، وأدّوا الحقوق، وتصدّقوا بما استطاعوا، ثم يخرج أهل البلد جميعاً، حكامهم أمامهم، إلى البرّية متذلّلين خاشعين لله ناكسي رؤوسهم (وربما صاموا قبل ذلك ثلاثة أيام) وأخرجوا معهم صبيانهم وصلّوا صلاة الاستسقاء ودعوا واستغفروا وابتهلوا.
قلّ المطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجدبَت الأرض وهلكَت المواشي، فخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام متبذّلاً (أي بثياب متواضعة) متضرّعاً خاشعاً حتى أتى المصلّى. وكان في كل بلد ساحة يجتمع فيها أهل البلد كلها لصلاة العيد، وكان في دمشق مصلّى كبير في ميدان الحصى، أي في موضع حيّ الميدان الآن. ولا يزال اسم الحيّ الذي يليه حيّ باب المُصلّى (في دمشق) معروفاً إلى الآن.
أتى صلى الله عليه وسلم المصلّى، فلم يزل في الدعاء والتضرّع والتكبير والاستغفار، ثم استقبل القبلة فاستسقى، فلم يرجع حتى أنشأ الله سحابة فرعدَت وأبرقَت ثم أمطرَت بإذن الله، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول.
وكانوا يُخرِجون الصالحين فيتوسّلون إلى الله بدعائهم، لا بأشخاصهم. لما خرج عمر يستسقي أخرج العباس وقال:"اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيّك، وها نحن نتوسل إليك بعمّ نبيّك". ثم قدمه ليدعو لهم، فدعا العباس فقال:"اللهم إنه لم ينزل بلاء إلاّ بذنب، ولا يُكشَف إلاّ بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيّك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة، فاسقِنا الغيث".
يا أيها السامعون، إن دعوة واحدة تصدر عن قلب مخلص لله واثق من الإجابة قد يرفع الله بها هذا البلاء. لما كان القحط على عهد عمر وجّه رجلين من الأنصار معهما إبل كثيرة عليها الميرة والتمر، فدخلا اليمن فقسما ما كان معهما إلاّ فضلة بقيَت على جمل. قالا: فبينما نحن مارّان نريد الانصراف فإذا نحن برجل قائم قد التفّت ساقاه من الجوع يصلّي، فلما رآنا أسرع في صلاته ثم قال لنا: هل معكما شيء؟ فصببنا بين يديه وقلنا: هذه من عمر. قال: والله لئن وكَلَنا الله إلى عمر لنهلكنّ. ثم أعرض عنّا وترك ما قدّمنا إليه وعاد إلى صلاته، ومدّ يديه يدعو، فما ردّهما نحوه حتى أرسل الله السماء بالغيث.
ولمّا أجدبَت السماء في الأندلس على عهد الخليفة الناصر أمر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن يخرج بالناس إلى الاستسقاء، فقال القاضي لغلامه قبل أن يخرج: اذهب فانظر ماذا يصنع أمير المؤمنين. فعاد فقال له: وجدته في ثياب رثّة، واضعاً جبهته على الأرض يبكي ويقول: اللهم إن كنتُ أذنبت فلا تُهلِك الناس بذنبي. فقال القاضي لغلامه: يا غلام، هات المِمْطر (أي الرداء المشمّع الذي يدفع المطر)، فإنه إذا خشع جبّار الأرض رحم جبّار السماء.
وخرج فاستسقى فنزل المطر (1).
فيا أيها السامعون، أحيوا سنّة نبيّكم في الاستسقاء، واجتلبوا الأمطار بالدعاء والاستغفار. إنها سنّة من سُنَن الإسلام ولكنها
(1) القصّة في كتابي «رجال من التاريخ» (واسمها «خطيب الزهراء»).
نُسِيَت في بلاد الشام، فما علمت أن أهل الشام خرجوا يستسقون من مئة سنة أو أكثر. فأحيوها، فإن من أحيا سنّة كان له أجرها وأجر من عمل بها.
* * *
ومرّ الشتاء كله ولم تنزل الأمطار. بل لقد تجرّأ واحد من الحكام يومئذ فقال في خطبة له ألقاها: "إننا سنتخذ من التكنولوجيا (1) وسائل جديدة تُغنينا عن استجداء السحاب وانتظار المطر". وكانت كلمة فاجرة من عبد ضعيف مدّعٍ، لا يستطيع إذا حبس الله الغيث أن يُنزِله ولا إذا غيّض الله العيون أن يُفيضها، ولا يملك لنفسه، فضلاً عن أن يملك لغيره، نفعاً ولا ضراً.
واستمرّ الجدب والقحط، فقلت في حديثي الأسبوعي في الإذاعة يوم الجمعة الثلاثين من أيلول (سبتمبر) 1960: بدأَت اليوم في التقويم أيام الشتاء، فإذا أردتم أن يكون شتاء خير، وأن تنفتح السماء بالمطر، وأن ينشقّ الثرى بالثمر، وأن يرحمكم مَن في السماء، فارحموا أنتم مَن في الأرض، أعطوا ممّا تملكون ليُعطيكم الله ما لا تملكون.
وحثثت الناس على التوبة وعلى الرجوع إلى الله، ونصحت الحاكمين بالتمسك بشرع الله، وبيّنت أحكام الخروج للاستسقاء وما ينبغي أن يصنع الناس قبلها:
(1) كلمة التكنولوجيا سَرَت على الألسنة، وهي مؤلَّفة من كلمتين يونانيتين معناهما التقريبي علم الإتقان، وأنا أرى أن نقول «تِقانة» على وزن نِجارة وحدادة وطيانة، وهو شِبه قياسي.
أن ينظر كل واحد منهم في المعاصي التي يقيم عليها هو وأهله والمخالفات التي يعلمون أنهم يرتكبونها، فليتوبوا منها وليعزموا على عدم العودة إليها. ثم ليقُم خطباء المنابر يوم الجمعة الآتية فيحثّوا الناس على الخروج للاستسقاء، ويبيّنوا لهم أحكامه وآدابه وسنّة رسول الله ‘ فيه. فإذا كان يوم الثلاثاء الذي بعد الجمعة القادمة صاموه، وصاموا الأربعاء والخميس، ثم خرجوا يوم الجمعة في الساعة التاسعة إلى سفح جبل قاسيون في آخر خطّ المهاجرين، حيث تُصلّى صلاة العيد كلّ سنة، وقد أخلصوا النيّات لله، ولم يفكّروا في تجارة ولا لهو ولا سياسة ولا مصلحة من المصالح الدنيَوِية، لا يفكّرون إلاّ في التوجه إلى الله ودعائه دعاء المضطرّ، يقولون: يا ربّ، يدعونه وحده لا يُشرِكون معه أحداً، يقولون: اللهمّ اسقِنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين
…
(إلى أن قلت): فيا أيها السامعون من مسلمين ومن نصارى، ومن كلّ مَن يعتقد بأن لهذا الكون إلهاً منه المبتدأ وإليه المصير: إذا داهمتكم الشدائد وسُدّت في وجوهكم مسالك الأرض وأُغلقَت دونكم أبواب الفرج، وانقطع عنكم المطر من السماء وجفّت الينابيع في الأرض وغارت المياه من الآبار، فارفعوا أيديكم إلى السماء، فإن باب السماء لا يُغلِقه ربّكم أبداً، فاسألوه يعطِكم وادعوه يستجِب لكم.
* * *
واختلف الناس في كيفية صلاة الاستسقاء: هل تكون معها خطبة؟ وهل تكون الخطبة قبلها أم تكون بعدها؟ وهل يخرج النساء إليها أم يمتنع خروج النساء؟ وكل منهم يريد فتوى على
مذهبه الذي يتبعه.
وفوجئ الناس بهذه الدعوة إلى الخروج لأن هذه السنّة قد نُسِيَت في الشام وتُركت من عهد بعيد. وكان ممّن أبى الفكرة ولم يوافق عليها شيخنا المفتي العامّ الشيخ أبو اليسر عابدين، لا رداً للسنّة ولا جهلاً بأحكامها، فمنزلته في العلم وفي التقوى ترفعه عن أن يُظَنّ به هذا الظنّ، ولكن خاف (كما قال لي) أن نخرج فنستسقي فلا نُسقى، فيشمت بنا الأعداء وتنطلق للكلام عنّا ألسنة الملحدين وأعداء الدين.
فأجبت على ذلك في الجمعة التي بعدها وقلت: إننا نخرج اتّباعاً للسنّة وندعو لأن الله أمر بالدعاء، فعلينا العمل وعلى الله الإجابة، وليس يضرّنا ألاّ يُستجاب لنا لأن لله حكمة هي أسمى من عقولنا.
وذهبت فجئت بفتاوى من المفتين. وعندنا في الشام أربعة مفتين رسميين للمذاهب الأربعة: المفتي الأكبر هو مفتي الحنفية لأنه كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية التي استُحدث على عهدها -فيما أعلم أنا- منصب المفتي الرسمي، وهو الشيخ أبواليسر. ولم يكن من رأيه الخروج، فبيّنت للناس ما أعرف من كيفية الصلاة وأحكامها في المذهب الحنفي، وطلبت من مفتي المالكية، وكان السيد مكي الكتاني، فكتب لي بخطّه أحكامها في المذهب المالكي (وورقته أمامي الآن وأنا أُعِدّ هذه الحلقة). وكتب لي الفقيه الحنبلي الكبير الشيخ حسن الشطي، وهو أعلم من مفتي الحنابلة قريبه الشيخ جميل، أحكامَ الاستسقاء في مذهب الإمام أحمد، وكتب لي فقيه الشافعية في الشام الشيخ صالح
العقّاد بخطّه (وما كتبه أمامي الآن) عن أحكامها في المذهب الشافعي. وكان عندنا جماعة من أهل الحديث لا يأخذون إلاّ ما صحّ منه، فطلبت من صديقنا الشيخ ناصر الألباني فكتب لي ما ورد من الأحاديث في أحكامها، وورقته بخطّه أمامي الآن.
كان عندنا مفتون لجميع المذاهب تعيّنهم الحكومة وتختار المفتي في المذهب من أعلم الناس به، ثم تراخى الأمر وانقطع الحبل، وتولّى هذه المناصب الآن من ليس أهلاً لها، وإلى الله المشتكى.
وجاءتنا مشكلة أخرى؛ قام جماعة من المشايخ الذين يميلون إلى الصوفية ومعهم أتباع لهم من الشباب يُنكِرون علينا أننا اخترنا سفح قاسيون لصلاة الاستسقاء، بدعوى أن هذا المكان يقيم فيه الوهابية صلاة العيد.
وأنتم لا تدرون ما معنى التهمة بالوهابية في الشام في تلك الأيام! كانت الوهابية تهمة خطيرة يثيرون بها العوامّ. وطالما كتبت في «الرسالة» وفي صحف الشام من نحو نصف قرن أقول إنه ليس في الدنيا مذهب اسمه المذهب الوهابي وإن ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة، وإنه كان حنبلي المذهب لم يأتِ بجديد ولم يبتدع بدعة. ولكن المصيبة في إقناع العوامّ.
ولَجّ هؤلاء في معارضتهم، فاجتمعنا في دار شيخنا الشيخ أبي الخير الميداني رئيس رابطة العلماء، وكان حاضراً هذه الجلسة جماعة منهم، وحضرها أخي الأستاذ الشيخ مصطفى
الزرقا. فحاولنا أن نأخذهم بالحسنى وأن نقنعهم باللين وأن نقيم لهم الحُجَج والبراهين، ولكن كنا كمن يخاطب صخرة صمّاء لا تعي ولا تفهم، فثار بهم الشيخ مصطفى الزرقا ثورة ما رأيته -على طول صحبتي إياه وصِلَتي به- قد ثار يوماً مثلها، وغضب غضباً شديداً فسكتوا. ولو كان مني أنا هذا الغضب ما كان في ذلك عجب، فأنا أعترف أني حديد المزاج، والشيخ مصطفى معروف بطول الأناة وسعة الصدر، ولكنه رأى منهم ما يُغضِب الحليم.
ثم حُلَّت المشكلة بأن تكون الدعوة إلى الاجتماع باسم الشيخين الميداني ونائبه، وهما شيخان جليلان، بل إنهما صوفيّان، لا يجرؤ أحد من الناس على اتهامهما بالوهابية أو رد كلامهما. ونشرنا دعوة هذا نصّها:
رابطة العلماء: عملاً بالسنة المطهّرة تدعو الناس إلى الخروج إلى صلاة الاستسقاء في سفح جبل قاسيون، آخر خطّ المهاجرين، صباح يوم الجمعة في 8 جمادى الأولى 1380 الموافق 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1960، وأن يخرج معهم أولادهم، وأن يكون خروجهم بالتخشّع والتذلّل والاستغفار والتضرّع، وذلك بعد التوبة الصادقة، وردّ المظالم، وأداء الحقوق، وصدق الرجوع إلى الله تعالى. وتُقام الصلاة في الساعة التاسعة تماماً، يصلّي بالناس الميداني، ويخطب علي الطنطاوي.
الإمضاء: أبو الخير الميداني رئيس رابطة العلماء، مكي الكتاني نائب الرئيس.
* * *
لما كان صباح يوم الجمعة (1) بدأ الناس يتوافدون على الساحة، وكان فيها مركز للمقاومة الشعبية أو ما لست أدري ما اسمها، فيها شُبّان وبنات يتدرّبون معاً. نسوا أن النصر من عند الله فهم يطلبون نصر الله بمعصية الله! وكان في خروج النساء للاستسقاء خلاف بين العلماء، ولكن منهم من قال بجواز خروجهن متحجّبات الحجاب الكامل الذي لا يُظهِر منهن ما يصرف الأنظار إليهن.
وهذا السفح من أجمل متنزَّهات الدنيا، وقد زرت الشرق والغرب ومشيت من شمالي هولندا إلى شرقي جاوة، فما وجدت أجمل منه إلاّ قليلاً. وقد منّ الله عليّ فجعل لي داراً فوقه، ولكنْ حيل بيني وبينها فحُرمتُ منها، وأسأل الله أن يُزيل العقبات دونها ويسهّل لي الوصول إليها. وهنا (في هذا المكان) كان على الأظهر دير مرّان الذي وصفه ياقوت في معجم البلدان، فارجع إليه تعرف خبره.
غصّ السفح كله بالناس كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً،
(1) يوم الجمعة الموافق الثامن والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 1960، وقد رأيتم أن الحديث الذي سبقه كان هو حديث الإذاعة الأسبوعي يوم الجمعة الثلاثين من أيلول (سبتمبر). وبينهما كان حديث لم يُشِر إليه جدّي رحمه الله في هذه الذكريات ولم يُنشَر من قبل قط، فمَن شاء الاطّلاع عليه فهو في كتاب «نور وهداية» الذي سيصدر -بإذن الله- في تاريخ مقارب لصدور هذه الطبعة المصحَّحة من الذكريات. عنوان الحديث «يا الله» ، وهو العنوان الذي اجتهدت في اختياره لأن الحديث أُذيع أصلاً بلا عنوان (مجاهد).
وصلّينا صلاة الاستسقاء. ثم قمت بعدها فخطبت خطبة لم أتعمّد فيها بلاغة اللفظ ولم أنظر فيها إلى عمق التأثير ولم أطلب إعجاب الناس، بل لقد حاولت بمقدار ما استطعت أن أنساهم وأن أوجّه قلبي كله لله. ثم تكلّم السيد مكي، رحمه الله ورحم شيخنا الميداني، فكان كلامه أعظم من كلامي، لأنه كان من أرباب القلوب وإن لم يكن من كبار العلماء، وكان من أصحاب الأحوال وإن لم يكن ممّن ينمّق الأقوال. فبلغ كلامه من نفوس الناس ما لم يبلغ كلامي، وسيطرَت على الجميع عاطفة إيمانية عجيبة، ليست من صُنعي ولا من صنعه، ولم تكن لخطبته ولا لخطبتي، ولكنها نفحة من نفحات الله، فلم تكن تسمع إلاّ دعاء مختلطاً بنشيج وبكاء يخالطه دعاء، حتى إن بنات المقاومة الشعبية حاولن أن يغطّين أجسادهن بمقدار ما استطعن، ثم انضمَمْن إلى نسائنا ودعون مثل دعائنا وبكين مثل بكائنا! وكان موقفٌ ندر أن يُرى مثله. وإن من الذين حضروا هذا المشهد كثيراً من المتعاقدين الذي يعملون الآن في المملكة، فاسألوهم عنه يحدّثوكم حديثه.
إن الإيمان -يا أيها القُرّاء- مستقرّ في قرارة كل نفس، ولكنه مُغطّى. ومن أسرار العربية أن الكفر في أصل معناه هو التغطية والستر. الإيمان موجود ولكن تتراكم فوقه غبار الشبهات وأوزار الشهوات وهموم الحياة، حتى يخفى فلا يراه الناس، بل إن صاحبه لا يكاد يحسّ به، فإن ذُكّر فذكر نفض عنه هذا الغطاء وظهر إيمانه واضحاً جلياً.
* * *