الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد تكرّر لي لقاء القاضي مجد الدين ثانية حين خروجي من الهند، قصدته من هرمز متبركا بلقائه، وذلك سنة ثمان وأربعين، وبين «137» هرمز وشيراز مسيرة خمسة وثلاثين يوما، فدخلت عليه وهو قد ضعف عن الحركة فسلّمت عليه فعرفني، وقام إليّ فعانقني ووقعت يدي على مرفقه، وجلده لاصق بالعظم لا لحم بينهما، وأنزلني بالمدرسة حيث أنزلني أول مرة وزرته يوما فوجدت ملك شيراز السلطان أبا اسحاق، وسيقع ذكره، قاعدا بين يديه ممسكا بأذن نفسه، وذلك هو غاية الادب عندهم، ويفعله الناس إذا قعدوا بين يدي الملك، وأتيته مرة أخرى إلى المدرسة فوجدت بابها مسدودا، فسألت عن سبب ذلك فأخبرت أن أمّ السلطان واخته نشأت بينهما خصومة في ميراث فصرفهما إلى القاضي مجد الدين فوصلتا اليه إلى المدرسة وتحاكمتا عنده، وفصل بينهما بواجب الشرع.
وأهل شيراز لايدعونه بالقاضي، وانما يقولون له مولانا أعظم وكذلك يكتبون في التسجيلات والعقود التي تفتقر إلى ذكر اسمه فيها، وكان آخر عهدي به في شهر ربيع الثاني من عام ثمانية وأربعين ولا حت عليّ أنواره وظهرت لي بركاته نفع الله به وبامثاله.
ذكر سلطان شيراز
وسلطان شيراز في عهد قدومي عليها الملك الفاضل أبو اسحاق بن محمد شاه ينجو «138» سمّاه أبوه باسم الشيخ أبي اسحاق الكازروني «139» ، نفع الله به، وهو من خيار السلاطين، حسن الصورة والسيرة والهيئة، كريم النفس، جميل الأخلاق ومتواضع، صاحب قوّة، وملك كبير، وعسكره ينيف على خمسين ألفا من الترك والأعاجم وبطانته الأدنون إليه أهل إصفهان، وهو لايأتمن أهل شيراز على نفسه ولا يستخدمهم ولا يقرّبهم ولا يبيح لأحد منهم حمل السلاح لأنهم أهل نجدة وبأس شديد وجرءة على الملوك ومن وجد بيده السلاح منهم عوقب.
ولقد شاهدت مرّة رجلا تجرّه الجنادرة وهم الشّرط إلى الحاكم وقد ربطوه في عنقه، فسألت عن شأنه فأخبرت أنه وجدت في يده قوس بالليل فذهب السلطان المذكور إلى قهر أهل شيراز وتفضيل الأصفهانيّين عليهم لأنه يخافهم على نفسه وكان أبوه محمد شاه ينجوا واليا على شيراز من قبل ملك العراق، وكان حسن السيرة محبّبا إلى أهلها فلما توفّى ولّى السلطان أبو سعيد مكانه الشيخ حسينا، وهو ابن الجوبان أمير الأمراء، وسياتي ذكره، وبعث معه العساكر الكثيرة فوصل إلى شيراز وملكها وضبط مجابيها، وهي من أعظم بلاد الله مجبى.
ذكر لي الحاج قوام الدين الطّمغجي «140» ، وهو والي المجبى بها، أنه ضمنها بعشرة آلاف دينار دراهم في كلّ يوم، وصرفها من ذهب المغرب الفا وخمسمائة دينار ذهبا، واقام بها الأمير حسين مدّة، ثم أراد القدوم على ملك العراق فقبض على أبي اسحاق بن محمد شاه ينجوا وعلى أخويه ركن الدين ومسعود بك وعلى والدته طاش خاتون «141» ، وأراد حملهم إلى العراق ليطلبوا بأموال أبيهم، فلما توسّطوا السوق بشيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعة حياء أن ترى في تلك الحال فإنّ عادة نساء الأتراك ألّا يغطين وجوههن، واستغاثت باهل شيراز وقالت: أهكذا يا أهل شيراز أخرج من بينكم وأنا فلانة زوجة فلان؟ فقام رجل من النّجارين يسمى بهلوان محمود قد رأيته بالسوق حين قدومي على شيراز فقال: لا نتركها تخرج من بلدنا ولا نرضى بذلك فتابعه الناس على قوله وثارت عامّتهم ودخلوا في السلاح، وقتلوا كثيرا من العسكر وأخذوا الأموال وخلّصوا المرأة وأولادها، وفرّ الأمير حسين ومن معه وقدم على السلطان أبي سعيد مهزوما فأعطاه العساكر الكثيفة وأمره بالعود إلى شيراز والتحكّم في أهلها بما شاء.
فلما بلغ أهلها ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم به فقصدوا القاضي مجد الدين، وطلبوا منه أن يحقن دماء الفريقين، ويقع الصلح، فخرج إلى الأمير حسين فترجّل له الامير عن فرسه وسلم عليه ووقع الصلح ونزل الامير حسين ذلك اليوم خارج المدينة.
فلما كان من الغد برز أهلها للقائه في أجمل ترتيب وزيّنوا البلد، وأوقدوا الشمع الكثير ودخل الأمير حسين في أبّهة وحفل عظيم، وسار فيهم بأحسن سيرة، فلما مات السلطان أبو سعيد وانقرض عقبه وتغلّب كل أمير على ما بيده خافهم الامير حسين على نفسه وخرج عنهم، وتغلّب السلطان أبو اسحاق عليها، وعلى إصفهان وبلاد فارس وذلك مسيرة شهر ونصف شهر، واشتدّت شوكته وطمحت همّته إلى تملك ما يليه من البلاد فبدأ بالأقرب منها وهي مدينة يزد، مدينة حسنة نظيفة عجيبة الأسواق ذات أنهار مطّردة وأشجار نضيرة، وأهلها تجار شافعيّة المذهب فحاصرها وتغلب عليها وتحصن الأمير مظفّر شاه ابن الامير محمد شاه بن مظفر بقلعة على ستة أميال منها منيعة تحدق بها الرمال فحاصره بها.
فظهر «142» من الأمير مظفّر من الشجاعة ما خرق المعتاد ولم يسمع بمثله فكان يضرب على عسكر السلطان أبي إسحاق ليلا ويقتل ما شاء ويخرق المضارب والفساطيط ويعود إلى قلعته فلا يقدر على النيل منه، وضرب ليلة على دوّار السلطان، وقتل هنالك جماعة، وأخذ من عتاق خيله عشرة وعاد إلى قلعته، فأمر السلطان أن تركب في كل ليلة خمسة آلاف فارس ويصنعون له الكمائين، ففعلوا ذلك وخرج على عادته في مائة من أصحابه فضرب على العسكر واحاطت به الكمائن وتلاحقت العساكر فقاتلهم وخلص إلى قلعته ولم يصب من أصحابه إلا واحد أوتى به إلى السلطان أبي إسحاق فخلع عليه وأطلقه وبعث معه امانا لمظفر لينزل اليه فأبى ذلك.
ثم وقعت بينهما المراسلة ووقعت له محبّة في قلب السلطان أبي إسحاق لما رأى من شجا عنه، فقال أريد أن أراه فإذا رأيته انصرفت عنه فوقف السلطان في خارج القلعة ووقف هو ببابها وسلّم عليه، فقال له السلطان انزل على الأمان، فقال له مظفر: إني عاهدت الله ألا أنزل إليك حتى تدخل انت قلعتي، وحينئذ أنزل اليك فقال له: أفعل ذلك، فدخل اليه السلطان في عشرة من أصحابه الخوّاص، فلما وصل باب القلعة ترجّل مظفر وقبّل ركابه، ومشى بين يديه مترجّلا، فأدخله داره وأكل من طعامه ونزل معه إلى المحلّة راكبا فاجلسه السلطان إلى جانبه وخلع عليه ثيابه وأعطاه مالا عظيما ووقع الاتّفاق بينهما أن تكون الخطبة باسم السلطان أبي إسحاق «143» ، وتكون البلاد لمظفر وأبيه وعاد السلطان إلى بلاده
جامع مدينة يزد