الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدينة الموصل
وهي مدينة عتيقة كثيرة الخصب، وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن شهيرة الامتناع عليها سور محكم البناء مشيّد البروج «264» ، وتتّصل بها دور السلطان وقد فصل بينهما وبين البلد شارع متّسع مستطيل من أعلى البلد إلى أسفله وعلى البلد سوران اثنان وثيقان «265» أبراجهما كثيرة متقاربة، وفي باطن السور بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره قد تمكّن فتحها فيه لسعته، ولم أر في اسوار البلاد مثله، إلّا السور الذي على مدينة دهلى حضرة ملك الهند.
وللموصل ربض كبير فيه المساجد والحمّامات والفنادق والاسواق، وبه مسجد جامع على شطّ الدجلة تدور به شبابيك حديد وتتّصل به مصاطب تشرف على دجلة، في نهاية من الحسن والاتقان «266» ، وأمامه مارستان وبداخل المدينة جامعان أحدهما قديم والآخر حديث «267» ، وفي صحن الحديث منهما قبة داخلها خصّة رخام مثمّنة مرتفعة على سارية رخام يخرج منها الماء بقوّة وانزعاج، فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس فيكون له مرأى حسن.
وقيساريّة الموصل مليحة «268» لها أبواب حديد ويدور بها دكاكين، وبيوت بعضها فوق بعض متقنة البناء.
المئذنة الحدباء تلّ النبيّ يونس بالموصل
وبهذه المدينة مشهد جرجيس «269» النّبي عليه السلام وعليه مسجد والقبر في زاوية منه عن يمين الداخل اليه وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى.
وهنالك تلّ يونس «270» عليه السلام وعلى نحو ميل منه العين المنسوبة اليه، يقال:
إنه امر قومه بالتّطهير فيها ثم صعدوا التلّ ودعا ودعوا فكشف الله عنهم العذاب، وبمقربة منه قرية كبيرة يقرب منها خراب، يقال: إنه موضع المدينة المعروفة بنينوى مدينة يونس عليه السلام، وأثر السور المحيط بها ظاهر، ومواضع الأبواب التي بها متبيّنة. وفي التلّ بناء عظيم ورباط فيه بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقّايات يضمّ الجميع باب واحد، وفي وسط الرباط بيت عليه ستر حرير وله باب مرصّع يقال: إنه الموضع الذي به موقف يونس عليه السلام، ومحراب المسجد الذي بهذا الرباط يقال إنه كان بيت متعبّده عليه السلام، وأهل الموصل يخرجون في كلّ ليلة جمعة إلى هذا الرباط يتعبّدون فيه، وأهل الموصل لهم مكارم أخلاق ولين كلام وفضيلة ومحبّة في الغريب واقبال عليه، وكان أميرها حين قدومي عليها السيّد الشريف الفاضل علاء الدين علي بن شمس الدين محمّد الملقّب «271» بحيدر، وهو من الكرماء الفضلاء، أنزلني بداره وأجرى عليّ الانفاق مدّة مقامي عنده، وله الصدقات والايثار المعروف، وكان السلطان أبو سعيد يعظمه وفوّض اليه في هذه المدينة وما إليها، ويركب في موكب عظيم من مماليكه وأجناده، ووجوه أهل المدينة وكبراؤها يأتون للسلام عليه غدوّا وعشيّا، وله شجاعة ومهابة، وولده يوجد في حين كتب هذا، في حضرة فاس مستقرّ الغرباء «272» ومأوى الفرق ومحطّ رحال الوفود زادها الله بسعادة أيام مولانا أمير المومنين بهجة واشراقا وحرس ارجاءها ونواحيها.
ثم رحلنا من الموصل ونزلنا قرية تعرف بعين «273» الرّصد وهي على نهر عليه جسر مبنيّ، وبها خان كبير، ثم رحلنا ونزلنا قرية تعرف بالمويلحة «274» ثم رحلنا منها ونزلنا جزيرة ابن عمر «275» وهي مدينة كبيرة حسنة محيط بها الوادي، ولذلك سميّت جزيرة، وأكثرها خراب، ولها سوق حسنة ومسجد عتيق مبنّى بالحجارة محكم العمل، وسورها مبنىّ بالحجارة أيضا واهلها فضلاء لهم محبّة في الغرباء، ويوم نزولنا بها رأينا جبل الجودى المذكور في كتاب الله عز وجل «276» الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، وهو جبل عال مستطيل.
ثم رحلنا منها مرحلتين ووصلنا إلى مدينة نصيبين «277» ، وهي مدينة عتيقة متوسّطة قد خرب أكثرها وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية، والبساتين الملتفّة، والأشجار المنتظمة، والفواكه الكثيرة، وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطيب، ويدور بها نهر يعطف عليها انعطاف السوار منبعه من عيون في جبل قريب منها، وينقسم انقساما فيتخلّل بساتينها، ويدخل منه نهر إلى المدينة فيجرى في شوارعها ودورها ويخترق صحن مسجدها الأعظم وينصبّ في صهريجين أحدهما في وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي.
وبهذه المدينة مارستان ومدرستان، وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة، ولقد صدق أبو نواس «278» في قوله
طابت نصيبين لي يوما وطبت لها
…
يا ليت حظّي من الدنيا نصيبين!
قال ابن جزي: والناس يصفون مدينة نصيبين بفساد الماء والوخامة، وفيها يقول بعض الشعراء.
لنصيبين قد عجبت وما في
…
دارها داع إلى العلّات
يعدم الورد أحمرا في ذراها
…
لسقام حتّى من الوجنات «279»
ثمّ رحلنا إلى مدينة سنجار «280» ، وهي مدينة كبيرة كثيرة الفواكه والأشجار، والعيون المطرّدة والأنهار، مبنيّة في سفح جبل، تشبّه بدمشق في كثرة أنهارها وبساتينها، ومسجدها الجامع مشهور البركة، يذكر أن الدعاء به مستجاب، ويدور به نهر ماء ويشقّه، وأهل سنجار أكراد، ولهم شجاعة وكرم وممّن لقيته بها الشيخ الصالح العابد الزاهد عبد الله الكرديّ أحد المشايخ الكبار صاحب كرامات، يذكر عنه أنّه لا يفطر الّا بعد أربعين يوما، ويكون إفطاره على نصف قرص من الشّعير لقيته برابطة بأعلى جبل سنجار «281» ، ودعا لي وزوّدني بدراهم لم تزل عندي إلى أن سلبني كفّار الهنود.
ثم سافرنا إلى مدينة دارا «282» وهي عتيقة كبيرة بيضاء المنظر لها قلعة مشرفة وهي الآن خراب لا عمارة بها وفي خارجها قرية معمورة بها كان نزولنا، ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة ماردين «283» ، وهي مدينة عظيمة في سفح جبل من أحسن مدن الإسلام وأبدعها وأتقنها وأحسنها أسواقا وبها تصنع الثياب المنسوبة اليها من الصوف المعروف بالمرعز «284» ، ولها قلعة شمّاء من مشاهير القلاع في قنّة جبلها.
قال ابن جزي: قلعة ماردين هذه تسمّى الشهباء وايّاها عنى شاعر العراق صفّي الدين عبد العزيز بن سرايا الحلّي «285» بقوله في سمطه:
فدع ربوع الحلّة الفيحاء
…
وازورّ بالعيس عن الزّوراء
ولا تقف بالموصل الحدباء
…
انّ شهاب القلعة الشّهباء
محرق شيطان صروف الدّهر وقلعة حلب تسمّى الشّهباء، ايضا، وهذه المسمّطة بديعة مدح بها الملك المنصور سلطان ماردين «286» وكان كريما شهير الصّيت، ولي الملك بها نحو خمسين سنة، وأدرك أيّام قازان ملك التتر وصاهر السلطان خذا بنده بابنته دنيا خاتون.