الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقيت بها الشيخ الامام العالم المفتي المدرس تاج الدين السلطانيوكي من كبار العلماء، قرأ بالعراقين وتبريز واستوطنها مدّة وقرأ بدمشق وجاور بالحرمين قديما.
ولقيت بها العالم المدرس صدر الدين سليمان الفنيكي، من أهل فنيكة «140» من بلاد الروم، وأضافني بمدرسته التي بسوق الخيل «141» ولقيت بها الشيخ المعمّر الصالح دادا أمير علي دخلت عليه بزاويته بمقربة من سوق الخيل فوجدته ملقى على ظهره فأجلسه بعض خدامه ورفع بعضهم حاجبيه عن عينيه ففتحهما، وكلمني بالعربي الفصيح، وقال قدمت خير مقدم وسألته عن عمره فقال: كنت من أصحاب الخليفة المستنصر بالله وتوفّى وأنا ابن ثلاثين سنة وعمري الآن مائة وثلاث وستّون سنة «142» ، فطلبت منه الدعاء لي وانصرفت.
ذكر سلطان قصطمونية
وهو السلطان المكرم سليمان پادشاه، واسمه بباء معقودة والف ودال مسكن، وهو كبير السن ينيف على سبعين سنة، حسن الوجه طويل اللّمة «143» صاحب وقار وهيبة، يجالسه الفقهاء والصلحاء دخلت عليه بمجلسه فأجلسني إلى جانبه وسألني عن حالي ومقدمي وعن الحرمين الشريفين ومصر والشام، فأجبته وأمر بإنزالي على قرب منه، وأعطاني ذلك اليوم فرسا عتيقا قرطاسيّ اللون وكسوة وعيّن لي نفقة وعلفا وأمر لي بعد ذلك بقمح وشعير نفّد لي في قرية من قرى المدينة على مسيرة نصف يوم منها، فلم أجد من يشتريه لرخص الأسعار فاعطيته للحاج الذي كان في صحبتنا.
ومن عادة هذا السلطان أن يجلس كلّ يوم بمجلسه بعد صلاة العصر ويوتى بالطعام فتفتح الأبواب ولا يمنع أحد من حضريّ أو بدويّ، أو غريب أو مسافر من الأكل، ويجلس في أول النهار جلوسا خاصّا، ويأتي ابنه فيقبّل يديه، وينصرف إلى مجلس له، ويأتي أرباب الدولة فيأكلون عنده وينصرفون.
ومن عادته في يوم الجمعة أن يركب إلى المسجد، وهو بعيد عن داره، والمسجد المذكور هو ثلاث طبقات من الخشب، فيصلّي السلطان وأرباب دولته والقاضي والفقهاء ووجوه الأجناد في الطبقة السفلى، ويصلي أفندي «144» ، وهو أخو السلطان، وأصحابه وخدّامه وبعض أهل المدينة في الطبقة الوسطى، ويصلي ابن السلطان وليّ عهده وهو أصغر أولاده، ويسمى الجواد «145» ، وأصحابه ومماليكه وخدامه وسائر الناس في الطبقة العليا، ويجتمع القراء فيقعدون حلقة أمام المحراب، يقعد معهم الخطيب والقاضي ويكون السلطان بازاء المحراب ويقرءون سورة الكهف «146» بأصوات حسان ويكرّرون الآيات بترتيب عجيب، فإذا فرغوا من قراءتها صعد الخطيب المنبر فخطب ثم صلّى، فإذا فرغوا من الصلاة تنفّلوا وقرأ القارئ بين يدي السلطان عشرا وانصرف السلطان ومن معه، ثم يقرأ القارئ بين يدي أخي السلطان، فإذا أتمّ قراءته انصرف هو ومن معه، ثم يقرأ القارئ بين يدي ابن السلطان، فإذا فرغ من قراءته قام المعرّف، وهو المذكّر «147» فيمدح السلطان بشعر تركيّ ويمدح ابنه ويدعو لهما وينصرف، ويأتي ابن الملك إلى دار أبيه بعد أن يقبل يد عمّه في طريقه، وعمّه واقف في انتظاره ثم يدخلان إلى السلطان فيتقدم أخوه ويقبّل يده ويجلس بين يديه، ثم يأتي ابنه فيقبّل يده وينصرف إلى مجلسه فيقعد به مع ناسه، فإذا حانت صلاة العصر صلوها جميعا وقبل أخو السلطان يده وانصرف عنه فلا يعود اليه إلّا في الجمعة الأخرى وامّا الولد فإنّه يأتي كلّ يوم غدوة كما ذكرناه.
ثو سافرنا من هذه المدينة ونزلنا في زاوية عظيمة بإحدى القرى من أحسن زاوية
رأيتها في تلك البلاد، بناها أمير كبير تاب إلى الله تعالى يسمّى فخر الدين «148» وجعل النظر فيها لولده والإشراف لمن أقام بالزاوية من الفقراء، وفوائد القرية وقف عليها، وبنى بازاء الزاوية حمّاما للسبيل يدخله الوارد والصادر من غير شئ يلزمه وبنى سوقا بالقرية ووقفه على المسجد الجامع وعيّن من أوقاف هذه الزاوية لكلّ فقير يرد من الحرمين الشريفين أو من الشام ومصر والعراقين وخراسان وسواها كسوة كاملة ومائة درهم يوم قدومه وثلاثماية درهم يوم سفره والنفقة أيّام مقامه، وهي الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء، ولكل فقير من بلاد الروم عشرة دراهم وضيافة ثلاثة أيّام.
ثم انصرفنا وبتنا ليلة بزاوية في جبل شامخ لا عمارة فيه عمّرها بعض الفتيان الأخيّة، ويعرف بنظام الدين من أهل قصطمونية ووقف عليها قرية ينفق خراجها على الوارد والصادر بهذه الزاوية.
وسافرنا من هذه الزاوية إلى مدينة صنوب «149» ، وضبط اسمها بفتح الصاد وضمّ النون وآخره باء، وهي مدينة حافلة جمعت بين التحصين والتحسين، يحيط بها البحر من جميع جهاتها إلا واحدة وهي جهة الشرق، ولها هنالك باب واحد لا يدخل إليها أحد إلا بإذن أميرها إبراهيم بك «150» ابن السلطان سليمان پادشاه الذي ذكرناه.
ولما أستوذن لنا عليه دخلنا البلد ونزلنا بزاوية عزّ الدين أخي جلبي، وهي خارج باب البحر، ومن هنالك يصعد إلى جبل داخل في البحر، كمينا سبتة «151» ، فيه البساتين والمزارع والمياه وأكثر فواكهه التين والعنب وهو جبل مانع لا يستطاع الصعود إليه، وفيه إحدى عشرة قرية يسكنها كفار الروم تحت ذمّة المسلمين وبأعلاه رابطة تنسب للخضر وإلياس عليهما
السلام لا تخلو عن متعبد وعندها عين ماء، والدعاء فيها مستجاب وبسفح هذا الجبل قبر الوليّ الصالح الصحابي بلال الحبشي «152» ، وعليه زاوية فيها الطعام للوارد والصادر.
والمسجد الجامع بمدينة صنوب من أحسن المساجد وفي وسطه بركة ماء عليها قبّة تقلّها أربع أرجل ومع كل رجل ساريتان من الرخام وفوقها مجلس يصعد له على درج خشب وذاك من عمارة السلطان بروانه ابن السلطان علاء الدين الروميّ، وكان يصلي الجمعة بأعلى تلك القبة وملك بعد ابنه غازي جلبي، فلما مات تغلب عليها السلطان سليمان المذكور «153» ، وكان غازي جلبي المذكور شجاعا مقدما، ووهبه الله خاصيّة في الصبر تحت الماء وفي قوّة السباحة «154» ، وكان يسافر في الأجفان الحربيّة لحرب الروم، فإذا كانت الملاقاة واشتغل الناس بالقتال غاص تحت الماء وبيده آلة حديد يخرق بها أجفان العدو فلا يشعرون بما حلّ بهم حتى يدهمهم الغرق، وطرقت مرسى بلده مرّة أجفان للعدو فخرقها وأسر من كان فيها! «155» وكانت فيه كفاية لا كفاء لها إلّا أنهم يذكرون انّه كان يكثر أكل الحشيش، وبسببه مات فإنه خرج يوما للتصيد وكان مولعا به فاتبع غرالة ودخلت له بين أشجار وزاد في ركض فرسه فعارضته شجرة فضربت رأسه فشدّخته فمات، وتغلب السلطان سليمان على البلد
وجعل به ابنه ابراهيم، ويقال: إنّه ايضا يأكل ما كان يأكله صاحبه، على أن أهل بلاد الروم كلها لا ينكرون أكلها، ولقد مررت يوما على باب الجامع بصنوب، وبخارجه دكاكين يقعد الناس عليها، فرأيت نفرا من كبار الأجناد وبين ايديهم خديم لهم بيده شكّارة مملوّة بشيء يشبه الحنّاء وأحدهم ياخذ منها بملعقة ويأكل وأنا أنظر إليه ولا علم لي بما في الشكّارة فسألت من كان معي فأخبرني أنه الحشيش «156» ! وأضافنا بهذه المدينة قاضيها ونائب الأمير بها ومعلّمه ويعرف بابن عبد الرزّاق.
لما دخلنا هذه المدينة رءانا أهلها ونحن نصلي مسبلي أيدينا، وهم حنفيّة لا يعرفون مذهب مالك، ولا كيفية صلاته، والمختار من مذهبه هو إسبال اليدين، وكان بعضهم يرى الروافض بالحجاز والعراق يصلّون مسبلي أيديهم، فاتّهمونا بمذهبهم وسألونا عن ذلك فأخبرناهم انّنا على مذهب مالك فلم يقنعوا بذلك منّا واستقرّت التّهمة في نفوسهم حتى بعث إلينا نائب السلطان بأرنب وأوصى بعض خدامه أن يلازمنا حتى يرى ما نفعله به فذبحناه وأكلناه، وانصرف الخديم اليه وأعلمه بذلك فحينئذ زالت عنّا التهمة، وبعثوا لنا بالضيافة، والروافض لا يأكلون الأرنب! وبعد أربعة أيام من وصولنا إلى صنوب، توفيت أمّ الأمير إبراهيم بها فخرجت في جنازتها، وخرج ابنها على قدميه كاشفا شعره، وكذلك الأمراء والمماليك وثيابهم مقلوبة، وامّا القاضي والخطيب والفقهاء فإنهم قلبوا ثيابهم ولم يكشفوا، بل جعلوا عليها مناديل من الصوف الأسود عوضا عن العمائم، وأقاموا يطعمون الطعام أربعين يوما، وهي مدة العزاء عندهم.