الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سلطان كلوا
وكان سلطانها في عهد دخولي إليها أبو المظفّر حسن، ويكنّى أيضا أبا المواهب «72» لكثرة مواهبه ومكارمه، وكان كثير الغزو إلى أرض الزنوج يغير عليهم ويأخذ الغنائم فيخرج خمسها ويصرفه في مصارفه المعيّنة في كتاب الله تعالى «73» ، ويجعل نصيب ذوي القربى في خزانة على حدة «74» ، فإذا جاءه الشرفاء دفعه إليهم.
وكان الشرفاء يقصدونه من العراق والحجاز وسواها، ورأيت عنده من شرفاء الحجاز جماعة منهم محمد بن جمّاز، ومنصور بن لبيدة بن أبي نمّى، ومحمد بن شميلة بن أبي نمى، ولقيت بمقدشو تبل بن كبيش بن جماز «75» ، وهو يريد القدوم عليه، وهذا السلطان له تواضع شديد ويجلس مع الفقراء وياكل معهم ويعظّم أهل الدين والشرف.
حكاية من مكارمه
حضرته يوم جمعة وقد خرج من الصلاة قاصدا إلى داره فتعرّض له أحد الفقراء اليمنيّين، فقال له: أبا المواهب، فقال: لبّيك يا فقير ما حاجتك؟ قال: أعطني هذه الثياب التي عليك، فقال له: نعم أعطيكها، قال: الساعة، قال: نعم الساعة، فرجع إلى المسجد ودخل بيت الخطيب فلبس ثيابا سواها وخلع تلك الثياب وقال للفقير: ادخل فخذها فدخل الفقير وأخذها وربطها في منديل وجعلها فوق رأسه وانصرف فعظم شكر الناس للسلطان على ما ظهر من تواضعه وكرمه، وأخذ ابنه وليّ عهده تلك الكسوة من الفقير وعوّضه عنها بعشرة من العبيد، وبلغ السلطان ما كان من شكر الناس له على ذلك فأمر للفقير أيضا بعشرة رؤس من الرقيق وحملين من العاج، ومعظم عطاياهم العاج «76» ، وقلّما يعطون
الذهب ولمّا توفّى هذا السلطان الفاضل الكريم رحمة الله عليه ولّى أخوه داوود «77» فكان على الضدّ من ذلك، إذا أتاه سائل، يقول له: مات الذي كان يعطي ولم يترك من بعده ما يعطى! ويقيم الوفود عنده الشهور الكثيرة وحينئذ يعطيهم القليل حتّى انقطع الوافدون عن بابه.
وركبنا البحر من كلوا إلى مدينة ظفار «78» الحموض، وضبط اسمها بفتح الظاء المعجم والفاء واخره راء مبنيّة على الكسر، وهي آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهنديّ، ومنها تحمل الخيل العتاق إلى الهند «79» ، ويقطع البحر فيما بينها وبين بلاد الهند مع مساعدة الريح في شهر كامل، وقد قطعته مرّة من قالقوط من بلاد الهند إلى ظفار في ثمانية وعشرين يوما بالريح الطيّبة لم ينقطع لنا جري بالليل ولا بالنهار.
وبين ظفار وعدن في البرّ مسيرة شهر في صحراء، وبينها وبين عمان عشرون يوما، ومدينة ظفار في صحراء منقطعة لا قرية بها «80» ولا عمالة لها، والسوق خارج المدينة بربض يعرف بالحرجاء «81» ، وهي من أقذر الأسواق وأشدّها نتنا وأكثرها ذبابا، لكثرة ما يباع بها من الثمرات والسمك، وأكثر سمكها النوع المعروف بالسّردين، وهو بها في النهاية من
السمن، ومن العجائب أن دوابّهم إنّما علفها من هذا السردين وكذلك غنمهم «82» ولم أر ذلك في سواها.
وأكثر باعتها الخدم وهنّ يلبسن السواد، وزرع أهلها الذّرة وهم يسقونها من أبار بعيدة الماء وكيفيّة سقيهم انّهم يصنعون دلوا كبيرة ويجعلون لها حبالا كثيرة، ويتحزّم بكلّ حبل عبد أو خادم، ويجرون الدلو على عود كبير مرتفع عن البئر ويصبّونها في صهريج يسقون منه، ولهم قمح يسمّونه العلس وهو في الحقيقة نوع من السّلت، والأرز يجلب إليهم من بلاد الهند وهو أكثر طعامهم، ودراهم هذه المدينة من النحاس والقصدير، ولا تنفق في سواها «83» ، وهم أهل تجارة لا عيش لهم الّا منها. ومن عادتهم أنّه إذا وصل مركب من بلاد الهند أو غيرها خرج عبيد السلطان إلى الساحل وصعدوا في صنبوق إلى المركب ومعهم الكسوة الكاملة لصاحب المركب أو وكيله وللربّان وهو الرئيس وللكراني. وهو كاتب المركب ويؤتى اليهم بثلاثة أفراس فيركبونها وتضرب أمامهم الأطبال والأبواق من ساحل البحر إلى دار السلطان فيسلّمون على الوزير وأمير جندار. وتبعث الضيافة لكلّ من بالمركب ثلاثا وبعد الثلاث يأكلون بدار السلطان وهم يفعلون ذالك استجلابا لأصحاب المراكب، وهم أهل تواضع وحسن أخلاق وفضيلة ومحبّة للغرباء ولباسهم القطن، وهو يجلب إليهم من بلاد الهند، ويشدّون الفوط في أوساطهم عوض السراول واكثرهم يشدّ فوطة في وسطه ويجعل فوق ظهره أخرى من شدّة الحرّ ويغتسلون مرّات في اليوم وهي كثيرة المساجد، ولهم في كلّ مسجد مطاهر كثيرة معدّة للاغتسال، ويصنع بها ثياب من الحرير والقطن والكتّان حسان جدّا.
والغالب على أهلها رجالا ونساء المرض المعروف بداء الفيل، وهو انتفاخ القدمين واكثر رجالهم مبتلون بالأدر والعياذ بالله.
ومن عوائدهم الحسنة التصافح في المسجد إثر صلاة الصبح والعصر، يستند أهل الصفّ الأول إلى القبلة ويصافحهم الذين يلونهم، وكذلك يفعلون بعد صلاة الجمعة يتصافحون أجمعون.
ومن خوّاصّ هذه المدينة وعجائبها انّه لا يقصدها أحد بسوء الّا عاد عليه مكروه وحيل بينه وبينها، وذكر لي أن السلطان قطب الدين تمتهن بن طوران شاه صاحب هرمز نازلها مرّة في البرّ والبحر فأرسل الله سبحانه عليه ريحا عاصفا كسرت مراكبه ورجع عن حصارها وصالح ملكها «84» ، وكذلك ذكر لي أن الملك المجاهد سلطان اليمن «85» عيّن ابن عمّ له بعسكر كبير برسم انتزاعها من يد ملكها، وهو أيضا ابن عمّه فلمّا خرج ذلك الأمير عن داره سقط عليه حائط وعلى جماعة من أصحابه فهلكوا جميعا ورجع الملك عن رأيه وترك حصارها وطلبها.
ومن الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس بأهل المغرب في شؤونهم نزلت بدار الخطيب بمسجدها الاعظم وهو عيسى بن عليّ، كبير القدر، كريم النفس فكان له جوار مسمّيات بأسماء خدم المغرب: إحداهنّ اسمها بخيت والأخرى زاد المال ولم أسمع هذه الأسماء في بلد سواها.
وأكثر أهلها رؤوسهم مكشوفة لا يجعلون العمائم، وفي كلّ دار من دورهم سجّادة الخوص معلّقة في البيت يصلّي عليها صاحب البيت كما يفعل أهل المغرب، وأكلهم الذرة وهذا التشابه كلّه ممّا يقوّي القول بأن صنهاجة وسواهم من قبائل المغرب أصلهم من حمير «86» .
وبقرب من هذه المدينة بين بساتينها زاوية الشيخ الصالح العابد أبي محمّد بن أبي بكر «87» عيسى من أهل ظفار، وهذه الزاوية معظمة عندهم يأتون إليها غدوّا وعشيّا، ويستجيرون بها فإذا دخلها المستجير لم يقدر السلطان عليه، رأيت بها شخصا ذكر لي أن له بها مدّة سنين مستجيرا لم يتعرّض له السلطان، وفي الأيّام التي كنت بها استجار بها كاتب السلطان وأقام فيها حتّى وقع بينهما الصلح.
أتيت هذه الزاوية فبتّ بها في ضيافة الشيخين أبي العبّاس أحمد وأبي عبد الله محمد ابني الشيخ أبي بكر المذكور وشاهدت لهما فضلا عظيما، ولمّا غسلنا أيدينا من الطعام أخذ أبو العباس منهما ذلك الماء الذي غسلنا به فشرب منه، وبعث الخادم بباقيه إلى أهله وأولاده فشربوه، وكذلك يفعلون بمن يتوسّمون فيه الخير من الواردين عليهم، وكذلك أضافني قاضيها الصالح أبو هاشم عبد الملك الزّبيديّ وكان يتولّى خدمتي وغسل يدي بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره.
وبمقربة من هذه الزاوية تربة سلف السلطان الملك المغيث «88» ، وهي معظمة عندهم ويستجير بها من طلب حاجة فتقضى له.
ومن عادة الجند أنّه إذا تمّ الشهر ولم يأخذوا أرزاقهم استجاروا بهذه التربة وأقاموا في جوارها إلى أن يعطوا أرزاقهم، وعلى مسيرة نصف يوم من هذه المدينة الأحقاف «89» ، وهي منازل عاد «90» ، وهنالك زاوية ومسجد علي ساحل البحر وحوله قرية لصيّادي السمك وفي الزاوية قبر مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عابر «91» عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد ذكرت أن بمسجد دمشق موضعا عليه مكتوب هذا قبر هود ابن عابر، والأشبه أن يكون قبره بالأحقاف لأنّها بلاده والله أعلم.
ولهذه المدينة بساتين فيها موز كثير كبير الجرم، وزنت بمحضري حبّة منه فكان وزنها ثنتى عشرة أوقية، وهو طيّب المطعم شديد الحلاوة، وبها أيضا التنبول والنارجيل المعروف