الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودخلنا المدينة فقصدنا زاوية أحد الفتيان الأخية، ومن عوائدهم أنه لا تزال النار موقودة في زواياهم أيام الشتاء أبدا يجعلون في كل ركن من أركان الزاوية موقدا للنار ويصنعون لها منافس يصعد منها الدخان ولا يؤذي الزاوية، ويسمونها البخاريّ واحدها بخيريّ.
قال ابن جزي: وقد احسن صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الحليّ «133» في قوله في التورية، وتذكّرته بذكر البخيريّ:
إنّ البخيريّ مذّ فارقتموه غدا
…
يحثي الرّماد على كانونه التّرب
لو شئتم انّه يمسي أبا لهب
…
جاءت بغالكم حمّالة الحطب «134»
رجع. قال: فلمّا دخلنا الزاوية وجدنا النار موقدة فنزعت ثيابي ولبست ثيابا سواها واصطليت بالنار، وأتى الأخي بالطعام والفاكهة وأكثر من ذلك، فلله درّهم من طائفة ما أكرم نفوسهم وأشدّ إئثارهم، وأعظم شفقتهم على الغريب، وألطفهم بالوارد، وأحبّهم فيه وأجملهم احتفالا بأمره! فليس قدوم الانسان الغريب عليهم الّا كقدومه على أحبّ أهله إليه! وبتنا تلك الليلة بحال رضيّة، ثم رحلنا بالغداة فوصلنا إلى مدينة كردي بولي «135» ، وضبط اسمها بكاف معقودة وفتح الراء والدال المهمل وسكون الياء وباء موحدة مضمومة وواو مدّ ولام مكسورة وياء، وهي مدينة كبيرة في بسيط من الأرض حسنة متّسعة الشوارع والأسواق من أشدّ البلاد بردا، وهي محلّات مفترقة. كل محلة تسكنها طائفة لا يخالطهم غيرهم.
ذكر سلطانها
وهو السّلطان شاه بك «136» من متوسطي سلاطين هذه البلاد، حسن الصورة والسيرة جميل الخلق، قليل العطاء، صلّينا بهذه المدينة صلاة الجمعة، ونزلنا بزاوية منها،
ولقيت بها الخطيب الفقيه شمس الدين الدمشقي الحنبلي، وهو مستوطنها منذ سنين، وله بها أولاد، وهو فقيه هذا السلطان وخطيبه ومسموع الكلام عنده، ودخل علينا هذا الفقيه بالزاوية فأعلمنا أن السلطان قد جاء لزيارتنا فشكرته على فعله، واستقبلت السلطان فسلّمت عليه، وجلس فسألني عن حالي، وعن مقدمي وعمّن لقيته من السلاطين، فأخبرته بذلك كلّه، وأقام ساعة ثمّ انصرف، وبعث بدابّة مسرجة وكسوة.
وانصرفنا إلى مدينة برلو، «137» وضبط اسمها بضمّ الباء الموحدة واسكان الراء وضم اللام، وهي مدينة صغيرة على تلّ تحتها خندق ولها قلعة بأعلى شاهق نزلنا منها بمدرسة فيها حسنة، وكان الحاج الذي سافر معنا يعرف مدرّسها وطلبتها ويحضر معهم الدرس، وهو، على علّاته، من الطلبة حنفيّ المذهب، ودعانا أمير هذه البلدة وهو عليّ بك بن السلطان المكرّم سليمان پادشاه ملك قصطمونية، وسنذكره، فصعدنا إليه إلى القلعة فسلّمنا عليه فرحّب بنا، وأكرمنا، وسألني عن أسفاري وحالي فأجبته عن ذلك، وأجلسني إلى جانبه، وحضر قاضيه وكاتبه الحاجب علاء الدين محمد، وهو من كبار الكتّاب وحضر الطعام فأكلنا، ثم قرأ القراء بأصوات مبكية وألحان عجيبة وانصرفنا.
وسافرنا بالغد إلى مدينة قصطمونية «138» ، وضبط اسمها بقاف مفتوح وصاد مهمل مسكن وطاء مهمل مفتوح وميم مضمومة وواو ونون مكسورة وياء آخر الحروف، وهي من أعظم المدن وأحسنها كثيرة الخيرات رخيصة الأسعار نزلنا منها بزاوية شيخ يعرف بالأطرش لثقل سمعه، ورأيت منه عجبا، وهو أن أحد الطلبة كان يكتب له في الهواء وتارة في الأرض بأصبعه «139» ، فيفهم عنه، ويجيبه، ويحكي له بذلك الحكايات فيفهمها وأقمنا بهذه المدينة نحو أربعين يوما فكنّا نشتري طابق اللحم الغنميّ السمين بدرهمين ونشتري خبزا بدرهمين فيكفينا ليومنا ونحن عشرة، ونشتري حلواء العسل بدرهمين فتكفينا أجمعين ونشتري جوزا بدرهم وقسطلا بمثله، فنأكل منها أجمعون ويفضل باقيها ونشتري حمل الحطب بدرهم واحد، وذلك أوان البرد الشديد، ولم أر في البلاد مدينة أرخص أسعارا منها.