الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر سلطان ماردين في عهد دخولي اليها
وهو الملك الصالح «287» ابن الملك المنصور الذي ذكرناه آنفا ورث الملك عن أبيه وله المكارم الشهيرة، وليس بأرض العراق والشام ومصر أكرم منه، يقصده الشعراء والفقراء فيجزل لهم العطايا جريا على سنن أبيه، قصده أبو عبد الله محمد بن جابر الاندلسيّ المرويّ الكفيف مادحا فأعطاه عشرين ألف درهم، وله الصدقات والمدارس والزوايا لإطعام الطعام، وله وزير كبير القدر وهو الإمام العالم وحيد الدهر، وفريد العصر، جمال الدين السّنجاريّ قرأ بمدينة تبريز، وأدرك العلماء الكبار، وقاضي قضاته الإمام الكامل برهان الدّين الموصليّ، وهو ينتسب إلى الشيخ الوليّ فتح الموصليّ، وهذا القاضي من أهل الدين والورع والفضل يلبس الخشن من ثياب الصوف الذي لا تبلغ قيمته عشرة دراهم ويعتمّ بنحو ذلك، وكثيرا ما يجلس للأحكام بصحن مسجد خارج المدرسة كان يتعبّد فيه، فإذا رءاه من لا يعرفه ظنّه بعض خدّام القاضي واعوانه!
حكاية [صلح بين زوجين]
ذكر لي أنّ امرأة أتت هذا القاضي وهو خارج من المسجد ولم تكن تعرفه، فقالت له يا شيخ أين يجلس القاضي؟ فقال لها: وما تريدين منه؟ فقالت له: إنّ زوجي ضربني، وله زوجة ثانية وهو لا يعدل بيننا في القسم، وقد دعوته إلى القاضي فأبى وأنا فقيرة ليس عندي ما أعطيه لرجال القاضي حتّى يحضروه بمجلسه، فقال لها: وأين منزل زوجك؟ فقالت بقرية الملّاحين خارج المدينة، فقال لها: أنا أذهب معك إليه: فقالت: والله ما عندي شيء أعطيك ايّاه، فقال لها: وأنا لا اخذ منك شيئا.
ثم قال لها: اذهبي إلى القرية وانتظريني خارجها فإني على إثرك، فذهبت كما أمرها وانتظرته فوصل إليها وليس معه أحد، وكانت عادته أن لا يدع أحدا يتبعه، فجاءت به إلى منزل زوجها، فلمّا رءاه قال لها: ما هذا الشيخ النّحس الذي معك؟ فقال له: نعم والله أنا كذالك، ولا كن أرض زوجتك! فلمّا طال الكلام جاء الناس فعرفوا القاضي وسلّموا عليه، وخاف ذالك الرجل وخجل، فقال له القاضي: لا عليك أصلح ما بينك وبين زوجتك، فأرضاها الرجل من نفسه وأعطاهما القاضي نفقة ذلك اليوم، وانصرف.
ولقيت هذا القاضي وأضافني بداره ثمّ رحلت عائدا إلى بغداد فوصلت إلى مدينة الموصل التي ذكرناها، فوجدت ركبها بخارجها متوجّهين إلى بغداد، وفيهم امرأة صالحة عابدة تسمّى بالسّت زاهدة وهي من ذرّيّة الخلفاء، حجّت مرارا وهي ملازمة الصوم سلّمت عليها، وكنت في جوارها، ومعها جملة من الفقراء يخدمونها، وفي هذه الوجهة توفّيت رحمة الله عليها وكانت وفاتها بزرود، ودفنت هنالك.
ثمّ وصلنا إلى مدينة بغداد فوجدت الحاجّ في أهبة الرحيل فقصدت أميرها معروف خواجه فطلبت منه ما أمر لي به السلطان فعيّن لي شقّة محارة «288» وزاد أربعة من الرجال وماءهم، وكتب لي بذالك، ووجّه عن أمير الركب وهو البهلوان محمد الحويح «289» فأوصاه بي وكانت المعرفة بيني وبينه متقدّمة فزادها تأكيد ولم أزل في جواره وهو يحسن إلىّ ويزيد لي على ما أمر لي به.
وأصابني عند خروجنا من الكوفة إسهال فكانوا ينزلونني من أعلى المحمل مرّات كثيرة في اليوم، والأمير يتفقّد حالي ويوصي بي، ولم أزل مريضا حتّى وصلت مكّة حرم الله تعالى زادها الله شرفا وتعظيما، وطفت بالبيت الحرام كرّمه الله تعالى طواف القدوم، وكنت ضعيفا بحيت أؤدّي المكتوبة قاعدا فطفت وسعيت بين الصّفا والمروة راكبا على فرس الأمير الحويح المذكور.
ووقفنا تلك السنة يوم الاثنين «290» ، فلمّا نزلنا منى أخذت في الراحة والاستقلال من مرضى، ولمّا انقضى الحجّ أقمت مجاورا بمكّة تلك السّنة وكان بها الأمير علاء الدين بن هلال مشيّد الدّواوين مقيما لعمارة دار الوضوء بظاهر العطّارين من باب بني شيبة، وجاور في تلك السنة من المصريّين جماعة من كبراء كبرائهم منهم تاج الدّين بن الكويك «291» ، ونور الدين القاضي «292» ، وزين الدين بن الاصيل، وابن الخليليّ «293» ، وناصر الدين الأسيوطيّ،
وسكنت تلك السنة بالمدرسة المظفّريّة، وعافاني الله من مرضي فكنت في أنعم عيش وتفرّغت للطواف والعبادة والاعتمار.
وأتى في أثناء تلك السنة حجّاج الصعيد وقدم معهم الشيخ الصالح نجم الدين الأصفونيّ «294» ، وهي أوّل حجّة حجّها، والاخوان علاء الدين عليّ، وسراج الدين عمر ابنا القاضي الصالح نجم الدين البالسيّ قاضي «295» مصر، وجماعة غيرهم وفي منتصف ذي القعدة وصل الامير سيف الدين يلملك، وهو من الفضلاء، ووصل في صحبته جماعة من أهل طنجة بلدي حرسها الله، منهم الفقيه أبو عبد الله محمد ابن القاضي أبي العبّاس ابن القاضي الخطيب أبي القاسم الجراويّ، والفقيه أبو عبد الله بن عطاء الله، والفقيه أبو محمد عبد الله الحضريّ، والفقيه أبو عبد الله المرسى، وأبو العبّاس ابن الفقيه أبي عليّ البلنسيّ، وأبو محمد بن القابلة وأبو الحسن البياريّ وأبو العبّاس ابن تافوت وأبو الصبر أيّوب الفخّار، وأحمد ابن حكّامة، ومن أهل قصر المجاز «296» الفقيه أبو زيد عبد الرحمن بن القاضي أبي العبّاس ابن خلوف، ومن أهل القصر الكبير «297» الفقيه أبو محمد بن مسلم وأبو اسحاق ابراهيم بن يحيى وولده.
ووصل في تلك السنة الامير سيف الدين تقزدمور من الخاصّكية «298» ، والأمير
موسى بن قرمان «299» ، والقاضي فخر الدين ناظر «300» الجيش كاتب المماليك، والتاج اسحاق، والسّت حدق مربية «301» الملك الناصر، وكانت لهم صدقات عميمة بالحرم الشريف واكثرهم صدقة القاضي فخر الدين.
وكانت وقفتنا في تلك السنة في يوم الجمعة من عام ثمانية وعشرين «302» ، وفي هذه السنة وصل أحمد بن الأمير رميثة «303» ومبارك بن الأمير عطيفة «304» من العراق صحبة الأمير محمد الحويح والشيخ زاده الحرباويّ، والشيخ دانيال «305» ، وأتوا بصدقات عظيمة للمجاورين وأهل مكّة، من قبل السلطان أبي سعيد ملك العراق، وفي تلك السنة ذكر اسمه في الخطبة بعد ذكر الملك الناصر ودعوا له بأعلى قبّة زمزم وذكروا بعده سلطان اليمن الملك المجاهد نور الدين «306» ، ولم يوافق الامير عطيفة على ذلك، وبعث شقيقه منصورا ليعلم الملك الناصر بذلك، فأمر رميثة بردّه فردّ، فبعثه ثانية على طريق جدّة حتى أعلم الملك الناصر بذلك، ووقفنا تلك السنة وهي سنة تسع وعشرين يوم الثلاثاء «307» .
ولمّا انقضى الحجّ أقمت مجاورا بمكّة حرسها الله سنة ثلاثين، وفي موسمها وقعت الفتنة بين أمير مكّة عطيفة وبين ايدمور أمير جندار الناصريّ «308» وسبب ذلك أنّ تجارا من أهل اليمن سرقوا، فتشكّوا إلى أيد مور بذلك، فقال ايدمور أمير لمبارك بن الامير عطيفة أيت بهؤلاء السرّاق! فقال: لا أعرفهم فكيف نأتي بهم؟ وبعد فأهل اليمن تحت حكمنا، ولا حكم عليهم لك، إن سرق لأهل مصر والشام شيء فاطلبني به، فشتمه أيدمور وقال له: يا قوّاد! تقول لي هكذا! وضربه على صدره، فسقط ووقعت عمامته عن رأسه، وغضب له عبيده، وركب أيدمور يريد عسكره، فلحقه مبارك وعبيده فقتلوه وقتلوا ولده، ووقعت الفتنة بالحرم، وكان به أمير أحمد ابن عمّ الملك الناصر. «309»
ورمى الترك بالنشّاب فقتلوا امرأة قيل إنها كانت تحرّض أهل مكّة على القتال، وركب من بالركب من الأتراك واميرهم خاصّ ترك، فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورون وفوق رؤوسهم المصاحف وحاولوا الصلح ودخل الحجّاج مكّة فأخذوا مالهم بها، وانصرفوا إلى مصر.
وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشقّ عليه وبعث العساكر إلى مكّة ففرّ الأمير عطيفة وابنه مبارك وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة فلما وصل العسكر إلى مكّة بعث الامير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان ولولده فأمنوا وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الامير فخلع عليه، وسلّمت إليه مكّة وعاد العسكر إلى مصر. وكان الملك الناصر رحمه الله حليما فاضلا.