الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وماهي: السمك وهو يشبه الحوت المسمّى عندنا بتازّرت وهم يقطّعونه قطعا ويشوونه ويعطون كلّ من في المركب قطعة لا يفضّلون أحدا على أحد، ولا صاحب المركب ولا سواه، ويأكلونه بالتمر وكان عندي خبز وكعك استصحبتهما من ظفار فلمّا نفدا كنت أقتات من تلك السمك في جملتهم، وعيّدنا عيد الأضحى «103» على ظهر البحر وهبّت علينا في يومه ريح عاصف بعد طلوع الفجر ودامت إلى طلوع الشمس وكادت تغرّقنا.
كرامة [للحاج خضر]
وكان معنا في المركب حاجّ من أهل الهند يسمّى بخضر، ويدعى بمولانا لأنّه يحفظ القرآن ويحسن الكتابة، فلمّا رأى هول البحر لفّ رأسه بعباءة كانت له وتناوم، فلمّا فرّج الله ما نزل بنا، قلت له يا مولانا خضر، كيف رأيت؟ قال: قد كنت عند الهول أفتح عيني أنظر هل أرى الملائكة الذين يقبضون الأرواح جاءوا فلا أراهم، فأقول: الحمد لله، لو كان الغرق لأتوا لقبض الأرواح، ثمّ اغلق عيني، ثمّ أفتحها فأنظر كذلك إلى أن فرّج الله عنّا! وكان قد تقدّمنا مركب لبعض التجار فغرق ولم ينج منه الا رجل واحد خرج عوما بعد جهد شديد، وأكلت في ذلك المركب نوعا من الطعام لم آكله قبله ولا بعده، صنعه بعض تجار عمان وهو من الذرة، طبخها من غير طحن وصبّ عليها السّيلان وهو عسل التمر وأكلناه.
ثم وصلنا إلى جزيرة مصيرة «104» التي منها صاحب المركب الذي كنّا فيه وهي على لفظ مصير وزيادة تاء التأنيث، جزيرة كبيرة لا عيش لأهلها الّا من السمك ولم ننزل إليها لبعد مرساها عن الساحل، وكنت قد كرهتهم لمّا رأيتهم ياكلون الطّير من غير ذكاة، وأقمنا بها يوما، وتوجّه صاحب المركب فيه إلى داره وعاد إلينا، ثمّ سرنا يوما وليلة فوصلنا إلى مرسى قرية كبيرة على ساحل البحر تعرف بصور «105» ، ورأينا منها مدينة قلهات في سفح
جبل فخيل لنا أنها قرية، وكان وصولنا إلى المرسى وقت الزوال أو قبله، فلمّا ظهرت لنا المدينة أحببت المشي إليها والمبيت بها، وكنت قد كرهت صحبة أهل المركب، فسألت عن طريقها فأخبرت أنّي أصل اليها عند العصر، فاكتريت أحد البحريّين ليدلّني عن طريقها، وصحبني خضر الهنديّ الذي تقدّم ذكره وتركت أصحابي مع ما كان لي بالمركب ليلحقوا بي في غد ذلك اليوم، وأخذت أثوابا كانت لي، فدفعتها لذلك الدليل ليكفيني مؤنة حملها وحملت في يدي رمحا، فإذا ذلك الدليل يحبّ أن يستولي على أثوابي! فأتى بنا إلى خليج يخرج من البحر فيه المدّ والجزر فاراد عبوره بالثياب، فقلت له: إنّما تعبر وحدك وتترك الثياب عندنا فإن قدرنا على الجواز والّا صعدنا نطلب المجاز، فرجع ثمّ رأينا رجالا جاوزوه عوما فتحقّقنا أنّه كان قصده أن يغرّقنا ويذهب بالثياب فحينئذ أظهرت النشاط وأخذت بالحزم وشددت وسطى، وكنت أهزّ الرمح فهابني ذلك الدليل، وصعدنا حتّى وجدنا مجازا، ثمّ خرجنا إلي صحراء لا ماء بها وعطشنا واشتدّ بنا الأمر فبعث الله لنا فارسا في جماعة من أصحابه، وبيد أحدهم ركوة ماء، فسقاني وسقى صاحبي، وذهبنا نحسب المدينة قريبة منّا وبيننا وبينها خنادق نمشي فيها الأميال الكثيرة.
فلمّا كان العشيّ أراد الدليل أن يميل بنا إلى ناحية البحر وهو لا طريق له لأن ساحله حجارة فأراد أن ننشب فيها ويذهب بالثياب، فقلت له: إنّما نمشي على هذه الطريق التي نحن عليها وبينها وبين البحر نحو ميل، فلمّا أظلم الليل، قال لنا: إن المدينة قريبة منّا، فتعالوا نمشي حتّى نبيت بخارجها إلى الصباح، فخفت أن يتعرّض لنا أحد في طريقنا، ولم أحقّق مقدار ما بقى إليها، فقلت له: إنّما الحقّ أن نخرج عن الطريق فننام، فإذا أصبحنا أتينا المدينة إن شاء الله.
وكنت قد رأيت جملة من الرجال في سفح جبل هنالك، فخفت أن يكونوا لصوصا وقلت التستّر أولى، وغلب العطش على صاحبي فلم يوافق على ذلك، فخرجت عن الطريق وقصدت شجرة من شجر أمّ غيلان، وقد أعييت وأدركني الجهد، لاكنّي أظهرت قوّة وتجلّدا خوف الدّليل، وأمّا صاحبي فمريض لا قوّة له، فجعلت الدليل بيني وبين صاحبي، وجعلت الثياب بين ثوبي وجسدي، وأمسكت الرمح بيدي، ورقد صاحبي، ورقد الدّليل، وبقيت ساهرا، فكلّما تحرّك الدّليل كلّمته وأريته أنّي مستيقظ ولم نزل كذلك حتّى أصبح، فخرجنا إلى الطّريق فوجدنا الناس ذاهبين بالمرافق إلى المدينة، فبعثت الدليل ليأتينا بماء، وأخذ صاحبي الثياب.
وكان بيننا وبين المدينة مهاو وخنادق، فأتانا بالماء فشربنا وذلك أوان الحرّ، ثمّ وصلنا إلى مدينة قلهات، وضبط اسمها بفتح القاف واسكان اللام وآخرة تاء مثنّاة، فأتيناها ونحن
في جهد عظيم، وكنت قد ضاقت نعلي على رجلي حتّى كاد الدم أن يخرج من تحت أظفارها، فلمّا وصلنا باب المدينة كان ختام المشقّة أن قال لنا الموكّل بالباب: لابدّ لك أن تذهب معي إلى أمير المدينة ليعرف قضيّتك، ومن أين قدمت فذهبت معه إليه فرأيته فاضلا حسن الأخلاق، وسألني عن حالي وأنزلني وأقمت عنده ستّة أيّام لا قدرة لي فيها على النّهوض على قدمي لما لحقها من الآلام.
ومدينة قلهات على الساحل «106» ، وهي حسنة الأسواق، ولها مسجد من أحسن المساجد حيطانه بالقاشانيّ وهو شبه الزلّيج وهو مرتفع ينظر منه إلى البحر والمرسى وهو من عمارة الصّالحة بيبي مريم «107» ، ومعنى بيبي عندهم الحرّة، وأكلت بهذه المدينة سمكا لم آكل مثله في إقليم من الأقاليم وكنت أفضله على جميع اللحوم فلا آكل سواه وهم يشوونه على ورق الشجر ويجعلونه على الأرز ويأكلونه.
والأرز يجلب إليهم من أرض الهند، وهم أهل تجارة، ومعيشتهم ممّا يأتي اليهم في البحر الهنديّ، وإذا وصل إليهم مركب فرحوا به أشدّ الفرح، وكلامهم ليس بالفصيح مع أنّهم عرب، وكلّ كلمة يتكلّمون بها يصلونها بلا، فيقولون مثلا تأكل لا؟ تمشي لا؟ تفعل كذا لا؟
«108» ، وأكثرهم خوارج لا كنهم لا يقدرون على إظهار مذهبهم لأنهم تحت طاعة السلطان قطب الدين تمتهن ملك «109» هرمز، وهو من أهل السنّة، وبمقربة من قلهات قرية طيبي «110» ،
واسمها على نحو اسم الطّيب إذا أضافه المتكلّم لنفسه، وهي من أجمل القرى وأبدعها حسنا ذات أنهار جارية، واشجار ناضرة، وبساتين كثيرة، ومنها تجلب الفواكه إلى قلهات، وبها الموز المعروف بالمرواري، والمرواريّ بالفارسية هو الجوهريّ وهو كثير بها، ويجلب منها إلى هرمز وسواها، وبها أيضا التنبول لا كن ورقته صغيرة والتمر يجلب إلى هذه الجهات من عمان «111» .
ثمّ قصدنا بلاد عمان فسرنا ستّة أيّام في صحراء ثمّ وصلنا بلاد عمان في اليوم السابع وهي خصبة ذات أنهار وأشجار وبساتين وحدائق نخل وفاكهة كثيرة مختلفة الأجناس، ووصلنا إلى قاعدة هذه البلاد، وهي مدينة نزوا «112» ، وضبط اسمها بنون مفتوح وزاي مسكن وواو مفتوح، مدينة في سفح جبل تجفّ بها البساتين والأنهار، ولها أسواق حسنة ومساجد معظمة نقيّة، وعادة أهلها انّهم يأكلون في صحون المساجد، ياتي كلّ إنسان بما عنده ويجتمعون للأكل في صحن المسجد، ويأكل معهم الوارد والصادر ولهم نجدة وشجاعة، والحرب قائمة فيما بينهم أبدا وهم إباضيّة المذهب ويصلّون الجمعة ظهرا اربعا «113» فإذا فرغوا منها قرأ الإمام آيات من القرآن ونثر كلاما شبه الخطبة يرضيّ فيه عن أبي بكر وعمر ويسكت عن عثمان وعليّ، وهم إذا أرادوا ذكر عليّ رضي الله عنه كنّوا عنه بالرجل فقالوا ذكر عن الرجل أو قال الرجل ويرضّون عن الشقيّ اللعين ابن ملجم، ويقولون فيه العبد الصالح قامع الفتنة، ونساؤهم يكثرن الفساد ولا غيرة عندهم، ولا إنكار لذلك وسنذكر حكاية إثر هذا ممّا يشهد «114» بذلك.