الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليمن ساكنا بها قديما وهي كبيرة حسنة العمارة يسكنها طائفتان من العرب وهم بنو حرام وبنو كنانة «17» ، وجامع هذه المدينة من أحسن الجوامع وفيه جماعة من الفقراء المنقطعين إلى العبادة منهم الشيخ الصالح العابد الزاهد قبولة الهنديّ من كبار الصالحين، لباسه مرقّعة وقلنوسة لبد، وله خلوة متّصلة بالمسجد فرشها الرمل، لا حصير بها ولا بساط، ولم أر بها حين لقاءي له شيئا الا إبريق الوضوء، وسفرة من خوص النخيل فيها كسر شعير يابسة، وصحيفة فيها ملح وصعتر، فإذا جاءه أحد قدّم بين يديه ذلك، ويسمع به أصحابه فيأتي كلّ واحد منهم بما حضره من غير تكلّف شيء وإذا صلّوا العصر اجتمعوا للذّكر بين يدي الشيخ إلى صلاة المغرب وإذا صلّوا المغرب أخذ كلّ واحد منهم موقفه للتنفّل فلا يزالون كذلك إلى صلاة العشاء الآخرة فإذا صلوا العشاء الآخرة أقاموا على الذّكر إلى ثلث الليل ثم انصرفوا ويعودون في أوّل الثلث الثالث إلى المسجد، فيتهجّدون إلى الصبح ثم يذكرون إلى أن تحين صلاة الإشراق فينصرفون بعد صلاتها.، منهم من يقيم إلى أن يصلّي صلاة الضّحى بالمسجد، وهذا دأبهم أبدا ولقد كنت أردت الاقامة معهم باقي عمري فلم أوفق لذلك والله تعالى يتداركنا بلطفه وتوفيقه!
ذكر سلطان حلي
وسلطانها عامر بن ذؤيب من بني كنانة «18» وهو من الفضلاء الأدباء الشعراء صحبته من مكّة إلى جدّة وكان حجّ في سنة ثلاثين، ولمّا قدمت مدينته أنزلني وأكرمني وأقمت في ضيافته أيّاما وركبت البحر في مركب له فوصلت إلى بلدة السرجة «19» ، وضبط اسمها بفتح السين المهمل واسكان الرّاء وفتح الجيم، بلدة صغيرة يسكنها جماعة من أولاد
الهبي «20» ، وهم طائفة من تجار اليمن أكثرهم ساكنون بصعداء «21» ولهم فضل وكرم واطعام لابناء السبيل، ويعينون الحجّاج ويركبونهم في مراكبهم، ويزوّدونهم من أموالهم وقد عرفوا بذلك واشتهروا به، وكثّر الله أموالهم وزادهم من فضله وأعانهم على فعل الخير.
وليس بالأرض من يماثلهم في ذلك إلّا الشيخ بدر الدين النقّاس الساكن ببلدة القحمة «22» ، فله مثل ذلك من الماثر والائثار.
وأقمنا بالسّرجة ليلة واحدة في ضيافة المذكورين، ثمّ رحلنا إلى مرسى الحادث «23» ولم ننزل به، ثم إلى مرسى الأبواب «24» ثم إلى مدينة زبيد، «25» مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخا وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها،
أمام قاضي صعدة من مقامة الحريري السابعة والثلاثين مدينة زبيد
واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره وهي برّيّة لا شطّيّة إحدى قواعد بلاد اليمن، وهي بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة، مدينة كبيرة كثيرة العمارة بها النخل والبساتين والمياه، أملح بلاد اليمن وأجملها ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور ولنسائها الحسن الفائق الفائت وهي وادي الحصيب الذي يذكر في بعض الآثار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ في وصيّته: يا معاذ إذا جئت وادي الحصيب فهرول!! «26» ولأهل هذه المدينة سبوت النخل المشهورة «27» ، وذلك انّهم يخرجون في أيّام البسر والرّطب في كلّ سبت إلى حدائق النخل، ولا يبقى بالمدينة أحد من أهلها ولا من الغرباء، ويخرج أهل الطرب وأهل الاسواق لبيع الفواكه والحلاوات، وتخرج النساء ممتطيات الجمال في المحامل، ولهنّ مع ما ذكرناه من الجمال الفائت الاخلاق الحسنة والمكارم «28» ، وللغريب عندهنّ مزيّة ولا يمتنعن من تزوّجه كما يفعله نساء بلادنا، فإذا أراد السفر خرجت معه وودّعته وإن كان بينهما ولد فهي تكفله وتقوم بما يجب له إلى أن يرجع أبوه ولا تطالبه في أيّام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها وإذا كان مقيما فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة لاكنّهنّ لا يخرجن عن بلدهنّ أبدا ولو أعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه على أن تخرج عن بلدها لم تفعل.
وعلماء تلك البلاد وفقهاؤها أهل صلاح ودين وأمانة ومكارم وحسن خلق، ولقيت بمدينة زبيد الشيخ العالم الصالح أبا محمّد الصنعانيّ، والفقيه الصوفي المحقّق أبا العباس الأبيانيّ، والفقيه المحدّث أبا عليّ الزّبيديّ، ونزلت في جوارهم فأكرموني وأضافوني، ودخلت حدائقهم واجتمعت عند بعضهم بالفقيه القاضي العالم أبي زيد عبد الرحمن الصوفي أحد
فضلاء اليمن ووقع عنده ذكر العابد الزاهد الخاشع أحمد بن العجيل اليمنيّ «29» وكان من كبار الرجال وأهل الكرامات.
كرامة، ذكروا أنّ فقهاء الزيديّة وكبراءهم أتوا مرّة إلى زيارة الشيخ أحمد بن العجيل فجلس لهم خارج الزاوية واستقبلهم أصحابه ولم يبرح الشيخ عن موضعه فسلّموا عليه وصافحهم ورحّب بهم ووقع بينهم الكلام في مسألة القدر «30» ، وكانوا يقولون: أن لا قدر، وان المكلّف يخلق أفعاله، فقال لهم الشيخ: فإن كان الأمر على ما تقولون فقوموا عن مكانكم هذا فأرادوا القيام، فلم يستطيعوا، وتركهم الشيخ على حالهم ودخل الزاوية، وأقاموا كذلك واشتدّ بهم الحرّ ولحقهم وهج الشمس وضجّوا ممّا نزل بهم، فدخل اصحاب الشيخ إليه وقالوا له إن هؤلاء القوم قد تابوا إلى الله ورجعوا عن مذهبهم الفاسد، فخرج عليهم الشيخ فأخذ بأيديهم وعاهدهم على الرجوع إلى الحقّ وترك مذهبهم السّيء، وأدخلهم زاويته فاقاموا في ضيافته ثلاثا وانصرفوا إلى بلادهم.
وخرجت لزيارة قبر هذا الرجل الصالح وهو بقرية يقال لها: غسانة «31» خارج زبيد، ولقيت ولده الصالح أبا الوليد إسماعيل «32» فأضافني وبتّ عنده، وزرت ضريح الشيخ وأقمت معه ثلاثا، وسافرت في صحبته إلى زيارة الفقيه أبي الحسن الزيلعيّ «33» ، وهو من كبار الصالحين ويقدم حجّاج اليمن اذا توجّهوا للحجّ، وأهل تلك البلاد وأعرابها يعظمونه