المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الْقَضَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي التَّوْلِيَةِ وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ١١

[النووي]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الْقَضَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِي التَّوْلِيَةِ وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي

‌كِتَابُ الْقَضَاءِ

فِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ:

الْأَوَّلُ: فِي التَّوْلِيَةِ وَفِيهِ طَرَفَانِ: الْأَوَّلُ: فِي التَّوْلِيَةِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْأُولَى: الْقَضَاءُ وَالْإِمَامَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ قَامَ بِهِ مَنْ يَصْلُحُ، سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ، أَثِمُوا، وَأَجْبَرَ الْإِمَامُ أَحَدَهُمْ عَلَى الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، ثُمَّ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ تَحْرُمُ تَوْلِيَتُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّوَلِّي وَالطَّلَبُ، وَأَمَّا مَنْ يَصْلُحُ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَعَيَّنَ لِلْقَضَاءِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَطْلُبَهُ وَيُشْهِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ خَامِلًا، وَلَا يُعْذَرُ بِأَنْ يَخَافَ مَيْلَ نَفْسِهِ وَخِيَانَتَهَا، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْبَلَ وَيَحْتَرِزَ، فَإِنِ امْتَنَعَ، عَصَا، وَهَلْ يُجْبَرُ؟ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ، كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِيَامِ بِسَائِرِ فَرُوضِ الْكِفَايَةِ عِنْدَ التَّعَيُّنِ، فَإِنْ قِيلَ: امْتِنَاعُهُ مِنْ هَذَا الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ كَبِيرَةً، فَيَفْسُقُ بِهِ، وَيَخْرُجُ عَنِ الْأَهْلِيَّةِ، فَكَيْفَ يُوَلَّى وَيُجْبَرُ، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالتَّوْبَةِ أَوَّلًا، فَإِذَا تَابَ، وُلِّي.

قُلْتُ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: لَا يَفْسُقُ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ غَالِبًا إِلَّا مُتَأَوِّلًا، وَهَذَا لَيْسَ بِعَاصٍ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَصْلُحُ، فَذَلِكَ الْغَيْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلَحَ، وَأَوْلَى مِنْهُ، وَإِمَّا مِثْلَهُ، وَإِمَّا دُونَهُ فَإِنْ كَانَ أَصْلَحَ مِنْهُ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى هَلْ تَنْعَقِدُ لِلْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِلْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَالْأَصَحُّ الِانْعِقَادُ، لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ خَارِجَةٌ عَنْ شَرْطِ الْإِمَامَةِ. وَفِي الْقَضَاءِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ، وَأَوْلَى

ص: 92

بِالِانْعِقَادِ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ لِلْمَفْضُولِ الْقَضَاءَ حُرِّمَتْ تَوْلِيَتُهُ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ وَالْقَبُولُ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ، جَازَ الْقَبُولُ. وَأَمَّا الطَّلَبُ، فَمَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَا يَتَوَلَّى، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مِثْلُهُ، فَلَهُ الْقَبُولُ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَرُبَّمَا قَامَ بِهِ غَيْرُهُ وَأَمَّا الطَّلَبُ، فَإِنْ كَانَ خَامِلَ الذِّكْرِ، وَلَوْ تَوَلَّى، اشْتَهَرَ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِعِلْمِهِ، اسْتُحِبَّ لَهُ الطَّلَبُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْقَفَّالُ: لَا يُسْتَحَبُّ. وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِعِلْمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كِفَايَةٌ وَلَوْ وُلِّي، حَصَلَتْ كِفَايَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُسْتَحَبُّ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُكْرَهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ كِفَايَةٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَبَ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: الْأَوْلَى تَرْكُهُ، ثُمَّ كَمَا يُكْرَهُ الطَّلَبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يُكْرَهُ الْقَبُولُ، وَلَوْ وُلِّي بِلَا طَلَبٍ، وَعَلَى هَذَا حُمِلَ امْتِنَاعُ السَّلَفِ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ تَوْلِيَةَ الْمَفْضُولِ، فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَإِنْ جَوَّزْنَاهَا، اسْتُحِبَّ لَهُ الْقَبُولُ. وَفِي الْوُجُوبِ الْوَجْهَانِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الطَّلَبُ إِذَا وَثِقَ بِنَفْسِهِ، وَهَكَذَا حَيْثُ اسْتَحْبَبْنَا الطَّلَبَ وَالتَّوَلِّيَ أَوْ أَبَحْنَاهُمَا، فَذَلِكَ عِنْدَ الْوُثُوقِ، وَغَلَبَةِ الظَّنِّ بِقُوَّةٍ النَّفْسِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ، فَيَحْتَرِزُ.

فَرْعٌ

التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَاضٍ مُتَوَلٍّ فَإِنْ كَانَ، نُظِرَ، إِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِجَوْرٍ أَوْ جَهْلٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا وَالطَّالِبُ يَرُومُ عَزْلَهُ، فَالطَّلَبُ حَرَامٌ، وَالطَّالِبُ مَجْرُوحٌ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

قُلْتُ: وَسَوَاءً كَانَ فَاضِلًا أَوْ مَفْضُولًا إِذَا صَحَّحْنَا تَوْلِيَةَ الْمَفْضُولِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ص: 93

فَرْعٌ

مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ حُكْمُ الطَّلَبِ بِلَا بَذْلٍ، فَلَوْ بَذَلَ مَالًا لِيَتَوَلَّى، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْقَاصِّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ، وَالصَّحِيحُ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ، فَلَهُ بَذْلُ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَهَذَا كَمَا إِذَا تَعَذَّرَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِلَّا بِبَذْلِ مَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَحَبًّا، جَازَ لَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِيَتَوَلَّى، وَيَجُوزُ لَهُ الْبَذْلُ بَعْدَ التَّوْلِيَةِ لِئَلَّا يُعْزَلَ، وَالْآخِذُ ظَالِمٌ بِالْأَخْذِ، وَأَمَّا بَذْلُ الْمَالِ لِعَزْلِ قَاضٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِصِفَةِ الْقُضَاةِ، فَمُسْتَحَبٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْلِيصِ النَّاسِ مِنْهُ، وَلَكِنَّ أَخْذَهُ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَتِهِمْ فَحَرَامٌ. فَإِنْ فَعَلَ، وَعُزِلَ الْأَوَّلُ، وَوُلِّيَ الْبَاذِلُ، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: تَوْلِيَتُهُ بَاطِلَةٌ، وَالْمَعْزُولُ عَلَى قَضَائِهِ، لِأَنَّ الْعَزْلَ بِالرِّشْوَةِ حَرَامٌ، وَتَوْلِيَةُ الْمُرْشِي وَالرَّاشِي حَرَامٌ، وَلْيَكُنْ هَذَا عِنْدَ تَمَهُّدِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ، فَأَمَّا عِنْدَ الضَّرُورَاتِ، وَظُهُورِ فَرْعِ طُرُقِ الْفِتَنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَنْفِيذِ الْعَزْلِ وَالتَّوْلِيَةِ جَمِيعًا، كَتَوْلِيَةِ الْبُغَاةِ.

فَرْعٌ

طُرُقُ الْأَصْحَابِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي تَعَيُّنِ الشَّخْصِ لِلْقَضَاءِ وَعَدَمِ تَعَيُّنِهِ إِلَى الْبَلَدِ وَالنَّاحِيَةِ لَا غَيْرَ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ طَلَبُ الْقَضَاءِ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَ بِهَا صَالِحٌ، وَلَا قَبُولُهُ إِذَا وُلِّيَ وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بِسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْمُحْوِجَةِ إِلَى السَّفَرِ، كَالْجِهَادِ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمَ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ تِلْكَ يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِهَا، وَالْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ، وَعَمَلُ الْقَضَاءِ لَا غَايَةَ لَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَاتِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَفِيهَا فَصْلَانِ:

الْأَوَّلُ: فِي صِفَاتِ الْقَاضِي وَلَهُ ثَمَانِيَةُ شُرُوطٍ أَحَدُهَا: الْحُرِّيَّةُ،

ص: 94

وَالثَّانِي: الذُّكُورَةُ، وَالثَّالِثُ: الِاجْتِهَادُ، فَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ جَاهِلٍ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَطُرُقِهَا الْمُحْتَاجِ إِلَى تَقْلِيدِ غَيْرِهِ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ عَلِمَ أُمُورًا أَحَدُهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِجَمِيعِهِ، بَلْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يُنَازِعُ ظَاهِرَ كَلَامِهِ فِيهِ. الثَّانِي: سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا جَمِيعُهَا، بَلْ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْأَحْكَامِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهَا الْعَامَّ وَالْخَاصَّ، وَالْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ، وَالْمُجْمَلَ وَالْمُبَيَّنَ، وَالنَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَمِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرُ وَالْآحَادُ، وَالْمُرْسَلُ وَالْمُتَّصِلُ، وَحَالُ الرُّوَاةِ جَرْحًا وَتَعْدِيلًا. الثَّالِثُ: أَقَاوِيلُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ رضي الله عنه إِجْمَاعًا وَاخْتِلَافًا. الرَّابِعُ: الْقِيَاسُ فَيَعْرِفُ جَلِيَّهُ وَخَفِيَّهُ، وَتَمْيِيزَ الصَّحِيحِ مِنَ الْفَاسِدِ. الْخَامِسُ: لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً وَإِعْرَابًا، لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِهَذِهِ الْجِهَةِ يَعْرِفُ عُمُومَ اللَّفْظِ وَخُصُوصَهُ وَإِطْلَاقَهُ وَتَقْيِيدَهُ، وَإِجْمَالَهُ وَبَيَانَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشْتَرَطُ التَّبَحُّرُ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، بَلْ يَكْفِي مَعْرِفَةُ جُمَلٍ مِنْهَا، وَزَادَ الْغَزَالِيُّ تَخْفِيفَاتٍ ذَكَرَهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْهَا: أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَتَبُّعِ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَفَرُّقِهَا وَانْتِشَارِهَا، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مُصَحَّحٌ وَقَعَتِ الْعِنَايَةُ فِيهِ بِجَمِيعِ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ كَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَيَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ مَوَاقِعَ كُلِّ بَابٍ، فَيُرَاجِعُهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْبَابِ.

قُلْتُ: لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْعِبِ الصَّحِيحَ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَلَا مُعْظَمَهُ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، بَلْ مَعْرِفَتُهُ ضَرُورِيَّةٌ لِمَنْ لَهُ أَدْنَى اطِّلَاعٍ. وَكَمْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ حُكْمِيٍ لَيْسَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ. وَأَمَّا مَا فِي كِتَابَيِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ فَكَثْرَتُهُ وَشُهْرَتُهُ غَنِيَّةٌ عَنِ التَّصْرِيحِ بِهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ضَبْطُ جَمِيعِ مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ،

ص: 95

بَلْ يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي يُفْتِي فِيهَا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ، بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَافَقَ بَعْضَ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الْأَوَّلُونَ بَلْ تَوَلَّدَتْ فِي عَصْرِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. وَمِنْهَا: أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ أَجَمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ تَوَاتَرَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَةِ رُوَاتِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ فِي عَدَالَةِ رُوَاتِهِ بِتَعْدِيلِ إِمَامٍ مَشْهُورٍ عُرِفَتْ صِحَّةُ مَذْهَبِهِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ.

قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا أَطْبَقَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، وَشَذَّ مَنْ شَرَطَ فِي التَّعْدِيلِ اثْنَيْنِ، وَقَوْلُهُ: تَوَاتَرَتْ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ يَعْنِي مَعَ ضَبْطِهِمْ. وَلَوْ قَالَ: أَهْلِيَّةُ رُوَاتِهِ كَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ الْعَدَالَةَ وَالضَّبْطَ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى قَبُولِهِ يَعْنِي عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَلَا يَكْفِي عَمَلُهُمْ عَلَى وَفْقِهِ، فَقَدْ يَعْمَلُونَ عَلَى وَفْقِهِ بِغَيْرِهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَمِنْهَا: أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الْعُلُومِ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الشَّرْعِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالِمِ مَنْصِبُ الِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ، وَعَدَّ الْأَصْحَابُ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةَ أُصُولِ الِاعْتِقَادِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَكْفِي اعْتِقَادٌ جَازِمٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَبِأَدِلَّتِهِمُ الَّتِي يُحَرِّرُونَهَا.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: الْبَصَرُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ أَعْمَى وَفِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» لِلرُّويَانِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْخُصُومَ وَالشُّهُودَ.

الْخَامِسُ: التَّكْلِيفُ، فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ الصَّبِيِّ.

السَّادِسُ: الْعَدَالَةُ فَلَا يَصِحُّ تَوْلِيَةُ فَاسِقٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَوْ عَلَى الْكُفَّارِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ نَصْبِ حَاكِمٍ بَيْنَ أَهْلِ

ص: 96

الذِّمَّةِ، فَهُوَ تَقْلِيدُ رِئَاسَةٍ وَزَعَامَةٍ لَا تَقْلِيدُ حُكْمٍ وَقَضَاءٍ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ حُكْمُهُ بِإِلْزَامِهِ بَلْ بِالْتِزَامِهِمْ.

السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ نَاطِقًا سَمِيعًا، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَخْرَسَ لَا تُعْقَلُ إِشَارَتُهُ، وَكَذَا إِنْ عُقِلَتْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ أَصْلًا، فَإِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا صِيحَ بِهِ، جَازَ تَقْلِيدُهُ.

الثَّامِنُ: الْكِفَايَةُ، فَلَا يَصِحُّ قَضَاءُ مُغَفَّلٍ اخْتَلَّ رَأْيُهُ وَنَظَرُهُ بِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِمَا.

وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُحْسِنَ الْكِتَابَةَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ وَافِرَ الْعَقْلِ حَلِيمًا مُتَثَبِّتًا ذَا فِطْنَةٍ وَتَيَقُّظٍ، كَامِلَ الْحَوَّاسِّ وَالْأَعْضَاءِ، عَالِمًا بِلُغَةِ الَّذِينَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ، بَرِيئًا مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالطَّمَعِ، صَدُوقَ اللَّهْجَةِ، ذَا رَأْيٍ وَوَفَاءٍ، وَسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ جَبَّارًا يَهَابُهُ الْخُصُومُ، فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَّةِ، وَلَا ضَعِيفًا يَسْتَخِفُّونَ بِهِ، وَيَطْمَعُونَ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ قُرَشِيًّا. وَرِعَايَةُ الْعِلْمِ وَالتُّقَى أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ النَّسَبِ.

فَرْعٌ

إِنْ عَرَفَ الْإِمَامُ أَهْلِيَّتَهُ وَلَّاهُ، وَإِلَّا فَيَبْحَثُ عَنْ حَالِهِ، فَلَوْ وَلَّى مَنْ لَمْ تَجْتَمِعْ فِيهِ الشُّرُوطُ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ، أَثِمَ الْمُوَلِّي وَالْمُتَوَلِّي وَلَمْ يُنَفَّذْ قَضَاؤُهُ وَإِنْ أَصَابَ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ.

قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَكِنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ مُتَعَذِّرٌ فِي عَصْرِنَا لِخُلُوِّ الْعَصْرِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ، فَالْوَجْهُ تَنْفِيذُ قَضَاءِ كُلِّ مَنْ وَلَّاهُ سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ فَاسِقًا لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ النَّاسِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّا نُنَفِّذُ قَضَاءَ قَاضِي الْبُغَاةِ لِمِثْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَهَذَا حَسَنٌ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ قَاضِيَ الْبُغَاةِ إِذَا كَانَ مِنْهُمْ، وَبَغْيُهُمْ لَا يُوجِبُ فِسْقًا كَبَغْيِ أَصْحَابِ

ص: 97

مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه جَازَ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ أَوْجَبَ الْفِسْقَ، كَبَغْيِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ، لَمْ يَجُزْ.

قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ الشُّرُوحِ مَشْهُورٌ، قَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ، فَفِي «الْمُهَذَّبِ» أَنَّ قَاضِيَ الْبُغَاةِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ دَمَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَمَالَهُمْ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ الْعَدَالَةُ وَالِاجْتِهَادُ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَا مُجْتَهِدٍ، وَقَدْ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» بِمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، فَقَالَ: إِنْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ، فَوَلَّى سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ فَاسِقًا، أَوْ مُقَلِّدًا، نُفِّذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَذُكِرَ أَنَّ الْقَاضِيَ الْعَادِلَ إِذَا اسْتَقْضَاهُ أَمِيرٌ بَاغٍ، أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَنُفِّذَ قَضَاؤُهُ، فَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عَنْ ذَلِكَ لِمَنِ اسْتَقْضَاهُ زِيَادٌ، فَقَالَتْ: إِنْ لَمْ يَقْضِ لَهُمْ خِيَارُكُمْ قَضَى شِرَارُكُمْ.

فَرْعٌ

مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَكَذَا حُكْمُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ بِالِاجْتِهَادِ أَصْلًا، بَلْ يَتَّبِعُونَ النُّصُوصَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا أَخَذُوا بِقَوْلِ سَلَفِهِمْ، كَالشِّيعَةِ، فَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي فَحْوَى الْكَلَامِ، وَيَبْنُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى عُمُومِ النُّصُوصِ وَإِشَارَاتِهَا، جَازَ تَقْلِيدُهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ.

الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمُفْتِي: وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ إِلَّا وَاحِدٌ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ فَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَحِلُّ التَّسَارُعُ إِلَيْهِ، فَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم مَعَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْوَحْيَ يُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْفَتْوَى، وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ مَا أَمْكَنَ.

ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثِ

ص: 98

جُمَلٍ، إِحْدَاهَا فِي الْمُفْتِي، فَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُهُ وَبُلُوغُهُ وَعَدَالَتُهُ، فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ فَتْوَاهُ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَيْضًا التَّيَقُّظُ وَقُوَّةُ الضَّبْطِ، فَلَا يُقْبَلُ مِمَّنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، فَلَوْ عَرَفَ الْعَامِّيُّ مَسْأَلَةً أَوْ مَسَائِلَ بِدَلِيلِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهَا، وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَهُ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فِيهَا، وَقِيلَ: يَجُوزُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ نَقْلِيًّا جَازَ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسِيًّا فَلَا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

وَالْعَالِمُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ غَايَةَ الِاجْتِهَادِ كَالْعَامِّيِّ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَمَوْتُ الْمُجْتَهِدِ هَلْ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يُقَلَّدَ وَيُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ؟ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ، بَلْ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ كَمَا يُعْمَلُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَطَلَ قَوْلُهُ بِمَوْتِهِ، لَبَطَلَ الْإِجْمَاعُ بِمَوْتِ الْمُجْمِعِينَ، وَلَصَارَتِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، وَلِأَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُجْتَهِدَ الْيَوْمَ، فَلَوْ مَنَعْنَا تَقْلِيدَ الْمَاضِينَ، لَتَرَكْنَا النَّاسَ حَيَارَى. وَبَنَوْا عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَذْهَبَ مُجْتَهِدٍ، وَتَبَحَّرَ فِيهِ، لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ؟ فَعَلَى الصَّحِيحِ يَجُوزُ. هَكَذَا صَوَّرُوا الْفَرْعَ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِذَا كَانَ الْمَأْخَذُ مَا ذَكَرْنَا، فَسَوَاءٌ الْمُتَبَحِّرُ وَغَيْرُهُ، بَلِ الْعَامِّيُّ إِذَا عَرَفَ حُكْمَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ فَأَخْبَرَ بِهِ، وَأَخَذَ غَيْرُهُ بِهِ تَقْلِيدًا لِلْمَيِّتِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ عَلَى الصَّحِيحِ.

قُلْتُ: هَذَا الِاعْتِرَاضُ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَبَحِّرًا رُبَّمَا ظَنَّ مَا لَيْسَ مَذْهَبًا لَهُ مَذْهَبَهُ، لِقُصُورِ فَهْمِهِ وَقِلَّةِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَظَانِّ الْمَسْأَلَةِ وَاخْتِلَافِ نُصُوصِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ، وَالْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا، وَالرَّاجِحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَاسِيَّمَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله الَّذِي لَا يَكَادُ يَعْرِفُ مَا يُفْتَى بِهِ مِنْهُ إِلَّا أَفْرَادٌ، لِكَثْرَةِ انْتِشَارِهِ، وَاخْتِلَافِ نَاقِلِيهِ فِي النَّقْلِ وَالتَّرْجِيحِ.

فَإِنْ فُرِضَ هَذَا فِي مَسَائِلَ صَارَتْ كَالْمَعْلُومَةِ عِلْمًا قَطْعِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، كَوُجُوبِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي

ص: 99

مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَوُجُوبِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ، وَصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ بِلَا صَوْمٍ، وَعَدَمِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْبَائِنِ الْحَامِلِ، وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فَهَذَا حَسَنٌ مُحْتَمَلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِذَا جَوَّزْنَا الْفَتْوَى إِخْبَارًا عَنْ مَذْهَبِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ، كَفَى إِطْلَاقُ الْجَوَابِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى صَاحِبِ الْمَذْهَبِ.

فَرْعٌ

لَيْسَ لِمُجْتَهِدٍ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا لَا لِيَعْمَلَ بِهِ، وَلَا لِيُفْتِيَ بِهِ، وَلَا إِذَا كَانَ قَاضِيًا لِيَقْضِيَ بِهِ، سَوَاءٌ خَافَ الْفَوْتَ لِضِيقِ وَقْتٍ أَمْ لَا.

وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَهُ التَّقْلِيدُ إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ لِيَعْمَلَ بِهِ، لَا لِيُفْتِيَ، وَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْقَضَاءِ وَأَوْلَى. وَفِي «الشَّامِلِ» وَ «التَّهْذِيبِ» طَرَدَ قَوْلَ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي الْقَضَاءِ. وَصُورَةُ الضِّيقِ فِيهِ: أَنْ يَتَحَاكَمَ مُسَافِرَانِ وَالْقَافِلَةُ تَرْتَحِلُ، وَمَنْ قَالَ بِهِ، فَقِيَاسُهُ طَرَدُهُ فِي الْفَتْوَى.

فَرْعٌ

هَلْ يَلْزَمُ الْمُجْتَهِدَ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ إِذَا وَقَعَتِ الْحَادِثَةُ مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ سُئِلَ عَنْهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَمْ يَعْتَمِدُ اجْتِهَادَهُ الْأَوَّلَ؟ وَجْهَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْقِبْلَةِ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُ التَّجْدِيدِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِدَلِيلِ الْأُولَى، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ مَا قَدْ يُوجِبُ رُجُوعَهُ، فَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا، لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعًا، وَإِنْ تَجَدَّدَ مَا يُوجِبُ الرُّجُوعَ، لَزِمَهُ قَطْعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 100

فَرْعٌ

الْمَنْسُوبُ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ. أَحَدُهَا: الْعَوَامُّ وَتَقْلِيدُهُمُ الشَّافِعِيَّ مَثَلًا مُفَرَّعٌ عَلَى تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَقَدْ سَبَقَ.

وَالثَّانِي: الْبَالِغُونَ لِرُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا وَإِنَّمَا يُنْسَبُ هَؤُلَاءِ إِلَى الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُمْ جَرَوْا عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي الِاجْتِهَادِ وَاسْتِعْمَالِ الْأَدِلَّةِ وَتَرْتِيبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَوَافَقَ اجْتِهَادُهُمُ اجْتِهَادَهُ وَإِذَا خَالَفَ أَحْيَانًا لَمْ يُبَالُوا بِالْمُخَالَفَةِ.

وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: الْمُتَوَسِّطُونَ وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، لَكِنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَى أُصُولِ الْإِمَامِ فِي الْأَبْوَابِ وَتَمَكَّنُوا مِنْ قِيَاسِ مَا لَمْ يَجِدُوهُ مَنْصُوصًا لَهُ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ مُقَلِّدُونَ لَهُ تَفْرِيعًا عَلَى تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، وَهَكَذَا مَنْ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمْ مِنَ الْعَوَامِّ تَقْلِيدًا لَهُ، وَالْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ، وَقَدْ نَجِدُ مَا يُخَالِفُ هَذَا فَإِنَّ أَبَا الْفَتْحِ الْهَرَوِيَّ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ يَقُولُ فِي الْأُصُولِ: مَذْهَبُ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ لَهُ، فَإِنْ وَجَدَ مُجْتَهِدًا قَلَّدَهُ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، وَوَجَدَ مُتَبَحِّرًا فِي مَذْهَبٍ، فَإِنَّهُ يُفْتِيهِ عَلَى مَذْهَبِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ الْعَامِّيُّ لَا يَعْتَقِدُ مَذْهَبَهُ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمُتَبَحِّرَ فِي نَفْسِهِ.

وَإِذَا اخْتَلَفَ مُتَبَحِّرَانِ فِي مَذْهَبٍ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي قِيَاسِ أَصْلِ مَذْهَبِ إِمَامِهِمَا، وَمِنْ هَذَا يَتَوَلَّدُ وُجُوهُ الْأَصْحَابِ، فَنَقُولُ: أَيُّهُمَا يَأْخُذُ الْعَامِّيُّ؟ فِيهِ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا نَصَّ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ، أَلْحَقَ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ غَيْرَ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْحُكْمِ، فَهَلْ يَسْتَنْبِطُ الْمُتَبَحِّرُ الْعِلَّةَ وَيُعَدِّي الْحُكْمَ بِهَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: لَا، وَالْأَشْبَهُ

ص: 101

بِفِعْلِ الْأَصْحَابِ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الْحُكْمَ، ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي عِلَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَطْرُدُ الْحُكْمَ فِي فُرُوعِ عِلَّتِهِ.

فَرْعٌ

ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّهُ إِذَا نَصَّ الْإِمَامُ فِي وَاقِعَةٍ عَلَى حُكْمٍ، وَفِي أُخْرَى شَبَهِهَا عَلَى خِلَافِهِ لَا يَجُوزُ نَقْلُ قَوْلِهِ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى وَتَخْرِيجُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ لَا يُجْعَلُ قَوْلًا لَهُ إِلَّا إِذَا لَمْ يُحْتَمَلْ كَقَوْلِهِ: ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي الشِّقْصِ مِنَ الدَّارِ، فَيُقَالُ: قَوْلُهُ فِي الْحَانُوتِ كَذَلِكَ وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ مَا قَالَهُ، لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قِيَاسُ أَصْلِهِ أَوْ قِيَاسُ قَوْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ قَوْلُهُ.

فَرْعٌ

لِلْمُفْتِي أَنْ يُشَدِّدَ فِي الْجَوَابِ بِلَفْظٍ مُتَأَوَّلٍ عِنْدَهُ زَجْرًا وَتَهْدِيدًا فِي مَوَاضِعِ الْحَاجَةِ.

قُلْتُ: الْمُرَادُ مَا ذَكَرَهُ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَالُوا: إِذَا رَأَى الْمُفْتِي الْمَصْلَحَةَ أَنْ يَقُولَ لِلْعَامِّيِّ مَا فِيهِ تَغْلِيظٌ وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ ظَاهِرَهُ، وَلَهُ فِيهِ تَأْوِيلٌ، جَازَ زَجْرًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، فَقَالَ: لَا تَوْبَةَ لَهُ، وَسَأَلَهُ آخَرُ فَقَالَ: لَهُ تَوْبَةٌ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَرَأَيْتُ فِي عَيْنَيْهِ إِرَادَةَ الْقَتْلِ فَمَنَعْتُهُ، أَمَّا الثَّانِي، فَجَاءَ

ص: 102

مِسْكِينًا قَدْ قَتَلَ، فَلَمْ أُقَنِّطْهُ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَكَذَا إِنْ سَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنْ قَتَلْتُ عَبْدِي، فَهَلْ عَلَيَّ قِصَاصٌ، فَوَاسِعٌ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قَتَلْتَهُ قَتَلْنَاكَ، فَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ» وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَهُ مَعَانٍ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَفْسَدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُسْتَفْتِي، فَيَلْزَمُهُ سُؤَالُ الْمُفْتِي عِنْدَ حُدُوثِ مَسْأَلَتِهِ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ مَنْ عَرَفَ عِلْمَهُ وَعَدَالَتَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعِلْمَ، بَحَثَ عَنْهُ بِسُؤَالِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعَدَالَةَ، فَقَدْ ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ، وَأَشْبَهُهُمَا الِاكْتِفَاءُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ، بِخِلَافِ الْبَحْثِ عَنِ الْعِلْمِ، فَلَيْسَ الْغَالِبُ مِنَ النَّاسِ الْعِلْمَ، ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالَيْنِ فِي أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْبَحْثُ، يَفْتَقِرُ إِلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ، أَمْ يَكْفِي إِخْبَارُ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ؟ أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي.

قُلْتُ: الِاحْتِمَالَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ تُعْرَفِ الْعَدَالَةُ، هُمَا فِيمَنْ كَانَ مَسْتُورًا وَهُوَ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَلَمْ يُخْتَبَرْ بَاطِنُهُ وَهُمَا وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا غَيْرُهُ، أَصَحُّهُمَا الِاكْتِفَاءُ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ يَعْسُرُ مَعْرِفَتُهَا عَلَى غَيْرِ الْقُضَاةِ، فَيَعْسُرُ عَلَى الْعَوَامِّ تَكْلِيفُهُمْ بِهَا، وَهَذَا الْخِلَافُ كَالْخِلَافِ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِحُضُورِ الْمَسْتُورِينَ.

أَمَّا الِاحْتِمَالَانِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَالِاكْتِفَاءِ بِعَدْلٍ، فَهُمَا مُحْتَمَلَانِ، وَلَكِنَّ الْمَنْقُولَ خِلَافُهُمَا، فَالَّذِي قَالَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنِ اسْتَفَاضَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَقِيلَ: لَا يَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ وَلَا التَّوَاتُرُ، بَلْ إِنَّمَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ: أَنَا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ وَالشُّهْرَةَ بَيْنَ الْعَامَّةِ لَا وُثُوقَ بِهَا، فَقَدْ يَكُونُ أَصْلُهَا التَّلْبِيسَ، وَأَمَّا التَّوَاتُرُ فَلَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى مَعْلُومٍ مَحْسُوسٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَيْهَا إِخْبَارٌ مِنْهُ بِأَهْلِيَّتِهِ

ص: 103

لِأَنَّ الصُّورَةَ فِيمَنْ وُثِقَ بِدِينِهِ. وَيَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنْ أَخْبَرَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ بِأَهْلِيَّتِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: نَقْبَلُ فِي أَهْلِيَّتِهِ خَبَرَ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مَعْرِفَةٌ يُمَيِّزُ بِهَا الْمُلْتَبِسَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ آحَادِ الْعَامَّةِ لِكَثْرَةِ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمْ مِنَ التَّلْبِيسِ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ

إِذَا وَجَدَ مُفْتِيَيْنِ فَأَكْثَرَ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فَيَسْأَلَ أَعْلَمَهُمْ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: نَعَمْ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْقَفَّالُ؛ لِأَنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ، فَيَسْأَلُ مَنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلِينَ كَانُوا يَسْأَلُونَ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَعَ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ، وَيَعْمَلُونَ بِقَوْلِ مَنْ سَأَلُوهُ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَعْلَمُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنِ الْأَعْلَمِ إِذَا لَمْ يَعْتَقِدِ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمْ بِزِيَادَةِ عِلْمٍ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، فَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ سُؤَالِ آحَادِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مَعَ وُجُودِ أَفَاضِلِهِمُ الَّذِينَ فَضْلُهُمْ مُتَوَاتِرٌ، وَقَدْ يُمْنَعُ هَذَا. وَعَلَى الْجُمْلَةِ: الْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ. فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ أَوْرَعِ الْعَالِمِينَ، وَأَعْلَمِ الْوَرِعِينَ، فَإِنْ تَعَارَضَا قدَّمَ الْأَعْلَمَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ

وَإِذَا اسْتَفْتَى وَأُجِيبَ، فَحَدَثَتْ لَهُ تِلْكَ الْحَادِثَةُ ثَانِيًا، فَإِنْ عَرَفَ اسْتِنَادَ الْجَوَابِ إِلَى نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى السُّؤَالِ ثَانِيًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُقَلَّدُ مَيِّتًا وَجَوَّزْنَاهُ، وَإِنْ عَرَفَ اسْتِنَادَهُ إِلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ

ص: 104

أَوْ شَكَّ وَالْمُقَلِّدُ حَيٌّ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَحْتَاجُ إِلَى السُّؤَالِ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُهُ عَلَى جَوَابِهِ، وَأَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُ السُّؤَالُ ثَانِيًا.

فَرْعٌ

لَوِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ جَوَابُ مُفْتِيَيْنِ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا الْبَحْثَ وَتَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ اعْتَمَدَهُ، وَإِلَّا فَأَوْجُهٌ، أَصَحُّهَا: يَتَخَيَّرُ، وَيَأْخُذُ بِقَوْلِ أَيِّهِمَا شَاءَ، وَالثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَغْلَظِ الْجَوَابَيْنِ، وَالثَّالِثُ: بِأَخَفِّهِمَا، وَالرَّابِعُ: بِقَوْلِ مَنْ يَبْنِي قَوْلَهُ عَلَى الْأَثَرِ دُونَ الرَّأْيِ، وَالْخَامِسُ: بِقَوْلِ مَنْ سَأَلَهُ أَوَّلًا.

قُلْتُ: وَحُكِيَ وَجْهٌ سَادِسٌ أَنَّهُ يَسْأَلُ ثَالِثًا، فَيَأْخُذُ بِفَتْوَى مَنْ وَافَقَهُ. وَهَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ مِنَ التَّخْيِيرِ هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي أَوَّلِ «الْمَجْمُوعِ» عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ فَرْضَهُ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا وَقَدْ حَصَلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَنَقْلَ الرُّويَانِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ مَنْ سَأَلَ مُفْتِيًا وَلَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى فَتْوَاهُ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ ثَانِيًا وَثَالِثًا لِتَسْكُنَ نَفْسُهُ، أَمْ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى جَوَابِ الْأَوَّلِ وَالْقِيَاسُ فِي وَجْهِ الثَّانِي.

الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَيَجُوزُ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْأَلَ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِرَسُولٍ ثِقَةٍ يَبْعَثُهُ، وَبِالرُّقْعَةِ، وَيَكْفِي تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ لُغَتَهُ.

قُلْتُ: لَهُ اعْتِمَادُ خَطِّ الْمُفْتِي إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يَقْبَلُ خَبَرَهُ أَنَّهُ خَطُّهُ، أَوْ كَانَ يَعْرِفُ خَطَّهُ وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 105

وَمِنْ آدَابِ الْمُسْتَفْتِي أَنْ لَا يَسْأَلَ الْمُفْتِيَ وَهُوَ قَائِمٌ أَوْ مَشْغُولٌ بِمَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَمَامِ الْفِكْرِ، وَأَنْ لَا يَقُولَ إِذَا أَجَابَهُ: هَكَذَا قُلْتُ أَنَا، وَأَنْ لَا يُطَالِبَ بِالدَّلِيلِ، فَإِنْ أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ، سَأَلَ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَإِذَا سَأَلَ فِي رُقْعَةٍ، فَلْيَكُنْ كَاتِبُهَا حَاذِقًا، لِيُبَيِّنَ مَوَاضِعَ السُّؤَالِ، وَيُنْقِطَ مَوَاضِعَ الِاشْتِبَاهِ، وَلْيَتَأَمَّلِ الْمُفْتِي الرُّقْعَةَ كَلِمَةً كَلِمَةً، وَلْيَكُنِ اعْتِنَاؤُهُ بِآخِرِ الْكَلَامِ أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ السُّؤَالِ، وَلْيَتَثَبَّتْ فِي الْجَوَابِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً، وَأَنْ يُشَاوِرَ مَنْ فِي مَجْلِسِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا لَا يَحْسُنُ إِظْهَارُهُ.

وَلَهُ أَنْ يُنْقِطَ مِنَ الرُّقْعَةِ مَوَاضِعَ الْإِشْكَالِ، وَأَنْ يُصْلِحَ مَا فِيهَا مِنْ خَطَأٍ وَلَحْنٍ فَاحِشٍ، وَإِذَا رَأَى فِي آخِرِ بَعْضِ السُّطُورِ بَيَاضًا، شَغَلَهُ بِخَطِّهِ، لِئَلَّا يُلْحَقَ فِيهِ بَعْدَ جَوَابِهِ شَيْءٌ، وَلْيُبَيِّنِ الْمُفْتِي بِخَطِّهِ، وَلْيَكُنْ قَلَمُهُ بَيْنَ قَلَمَيْنِ. وَلَوْ كَتَبَ مَعَ الْجَوَابِ حُجَّةً مِنْ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَلَا بَأْسَ، وَلَا يَعْتَادُ ذِكْرَ الْقِيَاسِ، وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ.

فَإِنْ تَعَلَّقَتِ الْفَتْوَى بِقَاضٍ، فَحَسَنٌ أَنْ يُومِئَ إِلَى الطَّرِيقِ لِلِاجْتِهَادِ، وَإِذَا رَأَى فِي الْفَتْوَى جَوَابَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى، لَمْ يُفْتِ مَعَهُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَلَهُ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِ بِإِذْنِ صَاحِبِ الرُّقْعَةِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَلَا يَحْبِسُهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ بِخَطِّ غَيْرِ الْمُفْتِي.

فَرْعٌ

مَتَّى تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ، دَارَ الْمُقَلِّدُ مَعَهُ، وَعَمِلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِقَوْلِهِ الثَّانِي، وَلَا يَنْقُضُ مَا مَضَى، وَلَوْ نَكَحَ الْمُجْتَهِدُ امْرَأَةً، ثُمَّ خَالَعَهَا ثَلَاثًا؛ لِأَنَّهُ رَأَى الْخُلْعَ فَسْخًا، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ قَالَ الْغَزَالِيُّ: يَلْزَمُهُ مُفَارَقَتُهَا، وَأَبْدَى تَرَدُّدًا فِيمَا لَوْ فَعَلَ الْمُقَلِّدُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُقَلِّدِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ يَتَحَوَّلُ. وَلَوْ قَالَ مُجْتَهِدٌ لِلْمُقَلِّدِ وَالصُّورَةُ هَذِهِ:

ص: 106

أَخْطَأَ بِكَ مَنْ قَلَّدْتَهُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَلَّدَهُ أَعْلَمَ مِنَ الثَّانِي، أَوِ اسْتَوَيَا، فَلَا أَثَرَ لِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَعْلَمَ، فَالْقِيَاسُ أَنَّا إِنْ أَوْجَبْنَا تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ لَهُ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي زَعَمَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ رحمه الله أَنَّهُ الْقِيَاسُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلِ الْوَجْهُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ الثَّانِي، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةً، وَقَدْ لَخَّصَ الصَّيْمَرِيُّ، وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِتَفْصِيلٍ حَسَنٍ، فَقَالُوا: إِذَا أَفْتَى، ثُمَّ رَجَعَ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُسْتَفْتِي رُجُوعَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَمِلَ بِالْأَوَّلِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَكَذَا إِذَا نَكَحَ بِفَتْوَاهُ، أَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى نِكَاحٍ بِفَتْوَاهُ، ثُمَّ رَجَعَ، لَزِمَهُ فِرَاقُهَا، كَنَظِيرِهِ فِي الْقِبْلَةِ.

وَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ، فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، لَزِمَ الْمُسْتَفْتِي نَقْضَ عَمَلِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يُعْمَلُ خِلَافُ هَذَا لِأَصْحَابِنَا، وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبَا الْمُسْتَصْفَى وَ «الْمَحْصُولِ» ، فَلَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمُخَالَفَةِ هَذَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو ابْنُ الصَّلَاحِ رحمه الله: وَإِنْ كَانَ الْمُفْتِي إِنَّمَا يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ، فَرَجَعَ لِكَوْنِهِ تَيَقَّنَ مُخَالَفَةَ نَصِّ إِمَامِهِ، وَجَبَ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ اجْتِهَادِيًّا؛ لِأَنَّ نَصَّ إِمَامِهِ فِي حَقِّهِ كَنَصِّ الشَّارِعِ فِي حَقِّ الْمُسْتَقِلِّ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَفْتِي بِرُجُوعِهِ. فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ فِي حَقِّهِ، وَيَلْزَمُ الْمُفْتِي إِعْلَامُهُ بِرُجُوعِهِ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَكَذَا بَعْدَهُ حَيْثُ يَجِبُ النَّقْضُ، وَإِذَا عَمِلَ بِفَتْوَاهُ فِي إِتْلَافٍ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ أَخْطَأَ، وَخَالَفَ الْقَاطِعَ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْفَتْوَى ضَمِنَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ مُقَصِّرٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى

ص: 107

قَوْلَيِ الْغُرُورِ أَوْ يُقْطَعَ بِعَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا إِذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِتْلَافُ، وَلَا أَلْجَأَ إِلَيْهِ بِإِلْزَامٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ

لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ مَذْهَبٌ مُدَوَّنٌ، وَإِذَا دُوِّنَتِ الْمَذَاهِبُ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ؟ إِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْأَعْلَمِ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الثَّانِيَ أَعْلَمُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ، بَلْ يَجِبُ وَإِنْ خَيَّرْنَاهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا، كَمَا لَوْ قَلَّدَ فِي الْقِبْلَةِ هَذَا أَيَّامًا، وَهَذَا أَيَّامًا.

وَلَوْ قَلَّدَ مُجْتَهِدًا فِي مَسَائِلَ، وَآخَرَ فِي مَسَائِلَ أُخْرَى، وَاسْتَوَى الْمُجْتَهِدَانِ عِنْدَهُ أَوْ خَيَّرْنَاهُ، فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْأَوَّلَيْنِ الْجَوَازُ، وَكَمَا أَنَّ الْأَعْمَى إِذَا قُلْنَا: لَا يَجْتَهِدُ فِي الْأَوَانِي وَالثِّيَابِ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي الثِّيَابِ وَاحِدًا، وَفِي الْأَوَانِي آخَرَ، لَكِنِ الْأُصُولِيُّونَ مَنَعُوا مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ. وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فِيمَا إِذَا اخْتَارَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَسَّقَ بِهِ، وَعَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ لَا يُفَسَّقُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قُلْتُ: قَدِ اسْتَقْصَى الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ رحمه الله هَذَا الْبَابَ، فَاسْتَوْعَبَ وَأَجَادَ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ أَنَا هَذَا الْبَابَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» وَجَمَعْتُ فِيهِ مِنْ مَجْمُوعَاتِ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ وَمُتَفَرِّقَاتِهَا هَذَا الْمَذْكُورَ هُنَا مَعَ مِثْلِهِ أَوْ أَمْثَالِهِ، وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهُ هُنَا نُبَذًا أُشِيرُ إِلَيْهَا، وَلَا أَلْتَزِمُ تَرْتِيبِهِ.

فَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعَلِّمِ وَالْمُفْتِي الرِّفْقُ بِالْمُتَعَلِّمِ وَالْمُسْتَفْتِي، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْفَهْمِ عَنْهُ، وَقَدِ اسْتَوْعَبْتُ آدَابَ الْعَالِمِ وَالْمُعَلِّمِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» وَذَكَرْتُ فِيهِ مَا لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، قَالَ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَحْوَالَ الْمُفْتِينَ، فَمَنْ صَلُحَ لَهَا، أَقَرَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَصْلُحْ، مَنَعَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَعُودَ، وَيُوَاعِدُهُ عَلَى

ص: 108

الْعَوْدِ، وَطَرِيقُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ الْمَشْهُورِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ عَنْ حَالِهِ، وَيَعْتَمِدُ خَبَرَهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي مَعَ شُرُوطِهِ السَّابِقَةِ مُتَنَزِّهًا عَنْ خَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ، فَقِيهَ النَّفْسِ، سَلِيمَ الذِّهْنِ، رَصِينَ الْفِكْرِ، حَسَنَ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَسَوَاءٌ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالْمَرْأَةُ وَالْأَعْمَى وَالْأَخْرَسُ إِذَا كَتَبَ أَوْ فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رحمه الله: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي كَالرَّاوِي فِي أَنَّهُ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْقَرَابَةُ وَالْعَدَاوَةُ، وَجَرُّ النَّفْعِ، وَدَفْعُ الضُّرَّ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ الشَّرْعِ بِمَا لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِشَخْصٍ، فَكَانَ كَالرَّاوِي لَا كَالشَّاهِدِ وَفَتْوَاهُ لَا يَرْتَبِطُ بِهَا إِلْزَامٌ بِخِلَافِ حُكْمِ الْقَاضِي. قَالَ: وَوَجَدْتُ عَنْ صَاحِبِ «الْحَاوِي» إِنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا نَابَذَ فِي فَتْوَاهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا، صَارَ خَصْمًا مُعَانِدًا، تُرَدُّ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ، كَمَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَيُقْبَلُ فَتَاوَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْخَوَارِجِ، وَمَنْ لَا يُكَفَّرُ بِبِدْعَتِهِ وَلَا بِفِسْقِهِ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ هَذَا ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الشُّرَاةُ وَهُمْ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، وَالرَّافِضَةُ الَّذِينَ يَسُبُّونَ السَّلَفَ، فَفَتَاوِيهِمْ مَرْدُودَةٌ، وَأَقَاوِيلُهُمْ سَاقِطَةٌ.

وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى وَهُوَ قَاضٍ، فَهُوَ كَغَيْرِهِ، فَلَا يُكْرَهُ لَهُ الْفَتْوَى هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَفِي الْأَحْكَامِ وَجْهَانِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُكْرَهُ فَتْوَاهُ فِي الْأَحْكَامِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْحِسَابِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْمَسَائِلُ الْحِسَابِيَّةُ الْفِقْهِيَّةُ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَصَاحِبُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُفْتِي الْمُنْتَسِبِ إِلَى مَذْهَبِ إِمَامٍ كَمَا سَبَقَ أَنْ يَكُونَ فَقِيهَ النَّفْسِ، حَافِظًا مَذْهَبَ إِمَامِهِ، ذَا خِبْرَةٍ بِقَوَاعِدِهِ، وَأَسَالِيبِهِ وَنُصُوصِهِ، وَقَدْ قَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأُصُولِيَّ الْمَاهِرَ الْمُتَصَرِّفَ فِي الْفِقْهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفَتْوَى بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ لَزِمَهُ أَنْ

ص: 109

يَسْتَفْتِيَ فِيهَا. وَيَلْتَحِقُ بِهِ الْمُتَصَرِّفُ الْبَحَّاثُ فِي الْفِقْهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْخِلَافِ وَفُحُولِ الْمُنَاظِرِينِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِإِدْرَاكِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ اسْتِقْلَالًا، لِقُصُورِ آلَتِهِ، وَلَا مِنْ مَذْهَبِ إِمَامٍ لِعَدَمِ حِفْظِهِ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ.

وَإِذَا اسْتَفْتَى الْعَامِّيُّ عَمَّا لَمْ يَقَعْ، لَمْ يَجِبْ جَوَابُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَتَسَاهَلَ فِي فَتْوَاهُ، وَمَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَفْتَى، وَتَسَاهُلُهُ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ لَا يَتَثَبَّتَ وَيُسْرِعَ بِالْجَوَابِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، فَإِنْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَلَا بَأْسَ بِالْإِسْرَاعِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنِ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُسَارَعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ تَسَاهُلُهُ بِأَنْ تَحْمِلَهُ أَغْرَاضٌ فَاسِدَةٌ عَلَى تَتَبُّعِ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ الْمَكْرُوهَةِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالشُّبْهَةِ طَلَبًا لِلتَّرْخِيصِ عَلَى مَنْ يَرُومُ نَفْعَهُ، أَوِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَنْ يَرُومُ ضُرَّهُ، وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَلَا وُثُوقَ بِهِ.

وَأَمَّا إِذَا صَحَّ قَصْدُهُ، فَاحْتَسَبَ فِي طَلَبِ حِيلَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا، وَلَا تَجُرُّ إِلَى مَفْسَدَةٍ، لِيُخَلِّصَ بِهَا الْمُسْتَفْتِيَ مِنْ وَرِيطَةِ يَمِينٍ وَنَحْوِهَا، فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَعَلَّهُ يَحْمِلُ [مَا جَاءَ] عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ مِنْ هَذَا.

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْتِيَ فِي كُلِّ حَالٍ تُغَيِّرُ خُلُقَهُ وَتَشْغَلُ قَلْبَهُ وَتَمْنَعُهُ التَّثَبُّتَ وَالتَّأَمُّلَ؛ كَحَالَةِ الْغَضَبِ أَوِ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ وَالْحُزْنِ وَالْفَرَحِ الْغَالِبِ، وَالنُّعَاسِ، وَالْمَلَالَةِ، وَالْمَرَضِ الْمُقْلِقِ، وَالْحَرِّ الْمُزْعِجِ، وَمُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَتَى أَحَسَّ بِشُغْلِ قَلْبِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ الِاعْتِدَالِ، لَمْ يُفْتِ، فَإِنْ أَفْتَى فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إِدْرَاكِ الصَّوَابِ، صَحَّتْ فَتْوَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُخَاطِرًا. وَالْأَوْلَى لِلْمُتَصَدِّي لِلْفَتْوَى أَنْ يَتَبَرَّعَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَلَهُ كِفَايَةٌ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ أُجْرَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِزْقٌ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ أُجْرَةٍ

ص: 110

مِنْ أَعْيَانِ الْمُسْتَفْتِينَ كَالْحَاكِمِ. وَاحْتَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ فِي حِيلَةٍ، فَقَالَ: يَقُولُ لِلْمُسْتَفْتِي: يَلْزَمُنِي أَنْ أُفْتِيَكَ قَوْلًا، وَلَا يَلْزَمُنِي أَنْ أَكْتُبَ لَكَ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْكِتَابَةِ جَازَ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنَ الْأُجْرَةِ إِلَّا قَدْرَ أُجْرَةِ كِتَابَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَتْوًى، لِئَلَّا يَكُونَ آخِذًا زِيَادَةً بِسَبَبِ الْإِفْتَاءِ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا: وَلَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى أَنْ جَعَلُوا لَهُ رِزْقًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِيَتَفَرَّغَ لِفَتَاوِيهِمْ، جَازَ.

وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ، فَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا بِخِلَافِ الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ حُكْمُهُ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَرَّمَ قَبُولُهَا إِنْ كَانَتْ رِشْوَةً عَلَى أَنْ يُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُ، كَمَا فِي الْحَاكِمِ وَسَائِرِ مَا لَا يُقَابَلُ بِالْأَعْوَاضِ.

قَالَ الْخَطِيبُ: وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفْرِضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِتَدْرِيسِ الْعِلْمِ أَوْ لِلْفَتْوَى فِي الْأَحْكَامِ مَا يُغْنِيهِ عَنِ التَّكَسُّبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَلْفَاظِ كَالْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالْوَصَايَا وَنَحْوِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ اللَّافِظِ أَوْ نَازِلًا مَنْزِلَتَهُمْ فِي الْخِبْرَةِ بِمُرَادِهِمْ فِي الْعَادَةِ، وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي وَالْعَامِلِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ ذَاتِ الْوَجْهَيْنِ أَوِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يُفْتِيَ أَوْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، بَلْ عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَعْمَلَ بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا إِنْ عَلِمَهُ، وَإِلَّا فَبِالَّذِي رَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَّحَ أَحَدَهُمَا. وَلَا عَلِمَ السَّابِقَ، لَزِمَهُ الْبَحْثُ عَنْ أَرْجَحِهِمَا، فَيَعْمَلُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّرْجِيحِ، اشْتَغَلَ بِهِ مُتَعَرِّفًا ذَلِكَ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَمَآخِذِهِ وَقَوَاعِدِهِ، وَإِلَّا فَلْيَنْقُلْهُ عَنِ الْأَصْحَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ تَرْجِيحٌ بِطَرِيقٍ، تَوَقَّفَ.

وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فَيَتَعَرَّفُ أَرْجَحُهُمَا بِمَا سَبَقَ إِلَّا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالتَّأَخُّرِ إِلَّا إِذَا وَقَعَا مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَنْصُوصًا لِلشَّافِعِيِّ، وَالْآخِرُ مُخَرَّجًا، فَالْمَنْصُوصُ هُوَ

ص: 111

الرَّاجِحُ الْمَعْمُولُ بِهِ غَالِبًا، كَمَا إِذَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى.

وَلَوْ وَجَدَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّرْجِيحِ خِلَافًا لِلْأَصْحَابِ فِي الْأَرْجَحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ، فَلْيَعْتَمِدْ مَا صَحَّحَهُ الْأَكْثَرُ، وَالْأَعْلَمُ وَالْأَوْرَعُ، فَإِنْ تَعَارَضَ أَعْلَمُ وَأَوْرَعُ، قُدِّمَ الْأَعْلَمُ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ عَنْ أَحَدٍ تَرْجِيحٌ، اعْتَبَرَ صِفَاتِ النَّاقِلِينَ لِلْقَوْلَيْنِ، وَالْقَائِلِينَ لِلْوَجْهَيْنِ فَمَا رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ وَالْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ الْمُرَادِيُّ مُقَدَّمٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا رَوَاهُ الرَّبِيعُ الْجِيزَيُّ وَحَرْمَلَةُ، كَذَا نَقَلَهُ الْخَطَابِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَصْحَابِنَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبُوْيِطِيَّ، وَزِدْتُهُ أَنَا لِكَوْنِهِ أَجَلَّ مَنِ الرَّبِيعِ، وَأَقْدَمَ مِنَ الْمُزَنِيِّ، وَأَخَصَّ بِالشَّافِعِيِّ مِنْهُ.

قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَيَتَرَجَّحُ أَيْضًا مَا وَافَقَ أَكْثَرَ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ. وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَجْهَيْنِ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: الْمُخَالِفُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَرْجَحُ، فَلَوْ لَمْ يَطَّلِعِ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَعْنًى مُخَالِفٍ لَمَا خَالَفَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُوَافِقَ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ نَجِدْ مُرَجِّحًا مِمَّا سَبَقَ.

وَلَوْ تَعَارَضَ جَزْمُ مُصَنِّفَيْنِ، فَهُوَ كَتَعَارُضِ الْوَجْهَيْنِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْبَحْثِ كَمَا سَبَقَ، وَيُرَجَّحُ أَيْضًا بِالْكَثْرَةِ، فَإِذَا جَزَمَ مُصَنِّفَانِ بِشَيْءٍ، وَجَزَمَ ثَالِثٌ مُسَاوٍ لِأَحَدِهِمَا بِخِلَافِهِمَا، رَجَّحْنَاهُمَا عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ نَقْلَ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ لِنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ، وَوُجُوهِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَتْقَنُ وَأَثْبَتُ مِنْ نَقْلِ أَصْحَابِنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ غَالِبًا إِنْ لَمْ يَكُنْ دَائِمًا وَهَذَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ بِهِ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله ذَكَرَهُ فِي بَابِهِ وَمَظِنَّتِهِ، وَالْآخِرُ جَاءَ مُسْتَطْرَدًا فِي بَابٍ آخَرَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي اخْتَصَرْتُهُ وَهَذَّبْتُهُ مُحَصِّلٌ لَكَ جَمِيعَ

ص: 112

مَا ذَكَرْتُهُ وَلَا أَقُولُ هَذَا تَبَجُّحًا بَلْ نَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمُنَاصَحَةً لِلدِّينِ، وَهُمَا وَاجِبَانِ عَلَيَّ وَعَلَى سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي جَوَابِهِ عَلَى قَوْلِهِ: فِيهِ قَوْلَانِ، أَوْ وَجْهَانِ، أَوْ خِلَافُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ جَوَابًا صَحِيحًا لِلْمُسْتَفْتِي، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَهُوَ بَيَانُ مَا يُعْمَلُ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَجْزِمَ بِمَا هُوَ الرَّاجِحُ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ الرَّاجِحُ، انْتَظَرَ ظُهُورَهُ، أَوِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِفْتَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ، كَمَا فَعَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى كَانَ قَوْلَانِ قَدِيمٌ وَجَدِيدٌ، فَالْعَمَلُ عَلَى الْجَدِيدِ إِلَّا فِي نَحْوِ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً قَدْ أَوْضَحْتُهَا مُفَصَّلَةً فِي أَوَّلِ شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» مَعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَيَتَرَتَّبُ بِهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَإِذَا كَانَ فِي رُقْعَةِ الِاسْتِفْتَاءِ مَسَائِلُ، فَحَسَنٌ أَنْ يُرَتَّبَ الْجَوَابُ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ لَمْ يُطْلَقِ الْجَوَابُ، فَإِنَّهُ خَطَأٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الرُّقْعَةِ تَعَرُّضٌ لَهُ، بَلْ يَذْكُرُ جَوَابَ مَا فِي الرُّقْعَةِ فَإِنْ أَرَادَ الْجَوَابَ عَلَى خِلَافِ مَا فِيهَا، فَلْيَقُلْ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَا، فَجَوَابُهُ كَذَا، وَإِذَا كَتَبَ الْجَوَابَ، أَعَادَ نَظَرَهُ فِيهِ وَتَأَمَّلَهُ، وَإِذَا كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِالْإِفْتَاءِ فِي الرُّقْعَةِ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: فَالْعَادَةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَنْ يَكْتُبَ فِي النَّاحِيَةِ الْيُسْرَى؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ.

قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَلَوْ كَتَبَ وَسَطَ الرُّقْعَةِ، أَوْ فِي حَاشِيَتِهَا، فَلَا عَتَبَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْتُبُ فَوْقَ الْبَسْمَلَةِ بِحَالٍ.

وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ إِرَادَةِ الْإِفْتَاءِ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَيُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيَحْمَدَهُ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ:

ص: 113

لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي الْآيَةَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ فِي أَوَّلِ فَتْوَاهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوِ اللَّهُ الْمُوَفِّقُ، أَوْ حَسْبُنَا اللَّهُ، أَوْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، نَقَلَ ذَلِكَ الصَّيْمَرِيُّ عَنْ كَثِيرِينَ، قَالَ: وَحَذَفَهُ آخَرُونَ. قَالَ: وَلَا يَدَعُ أَنْ يَخْتِمَ جَوَابَهُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَوْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَنَحْوَهُ.

قَالَ: وَلَا يَقْبُحُ أَنْ يَقُولَ: الْجَوَابُ عِنْدَنَا، أَوِ الَّذِي عِنْدَنَا، أَوِ الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ كَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ قَالَ: وَإِذَا كَانَ السَّائِلُ قَدْ أَغْفَلَ الدُّعَاءَ لِلْمُجِيبِ، أَوِ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ الْفَتْوَى، أَلْحَقَ الْمُفْتِي ذَلِكَ بِخَطِّهِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ، وَيَكْتُبُ بَعْدُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَنَحْوَهُ: كَتَبَهُ فُلَانٌ، أَوْ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ، فَيَنْتَسِبُ إِلَى مَا يُعْرَفُ بِهِ مِنْ قَبِيلَةٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، ثُمَّ يَنْتَسِبُ إِلَى الْمَذْهَبِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ أَوِ الْحَنَفِيُّ وَنَحْوُهُمَا، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: وَإِنْ كَانَتِ الْفَتْوَى تَتَعَلَّقُ بِالسُّلْطَانِ، دَعَا لَهُ، فَقَالَ: وَعَلَى السُّلْطَانِ أَوْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ، أَوْ أَصْلَحَهُ، أَوْ سَدَّدَهُ، أَوْ شَدَّ أَزْرَهُ، وَلَا يَقُولُ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ السَّلَفِ.

وَقَدْ نَقَلَ النَّحَّاسُ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهِيَةِ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَيُشْبِهُهَا فِي آخِرِ كِتَابِ «الْأَذْكَارِ» .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصِرَ جَوَابَهُ، وَيَكُونَ بِحَيْثُ يُفْهَمُ لِلْعَامَّةِ فَهْمًا جَلِيًّا، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْخَطِيبُ وَغَيْرُهُمَا: وَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ: أَنَا أَصْدَقُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَوِ الصَّلَاةُ لَغْوٌ وَنَحْوَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ، فَلَا يُبَادِرْ بِقَوْلِهِ: هَذَا

ص: 114

حَلَالُ الدَّمِ، أَوْ عَلَيْهِ الْقَتْلُ، بَلْ يَقُولُ: إِنْ ثَبَتَ هَذَا بِإِقْرَارِهِ، أَوْ بِبَيِّنَةٍ، اسْتَتَابَهُ السُّلْطَانُ، فَإِنْ تَابَ، قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وَإِلَّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا وَأَشْبَعَ الْقَوْلَ فِيهِ، وَإِنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا يُكَفَّرُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ قَالَ: يُسْأَلُ الْقَائِلُ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ كَذَا، فَالْجَوَابُ كَذَا، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ كَذَا، فَالْجَوَابُ كَذَا.

وَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ أَوْ قَلَعَ سِنًّا أَوْ عَيْنًا، احْتَاطَ فِي الْجَوَابِ، فَيَذْكُرُ الشُّرُوطَ الَّتِي يَجِبُ بِاجْتِمَاعِهَا الْقِصَاصُ، وَإِذَا سُئِلَ عَمَّنْ فَعَلَ مَا يَقْتَضِي تَعْزِيرَهُ، ذَكَرَ مَا يُعَزَّرُ بِهِ، فَيَقُولُ: ضَرَبَهُ السُّلْطَانُ مَا بَيْنَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يُزَادُ عَلَى كَذَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْصِقَ الْجَوَابَ بِآخِرِ الِاسْتِفْتَاءِ، وَلَا يَدَعَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةً مَخَافَةَ أَنْ يَزِيدَ السَّائِلُ شَيْئًا يُفْسِدُ الْجَوَابَ.

وَإِذَا كَانَ مَوْضِعُ الْجَوَابِ وَرَقَةً مُلْصَقَةً، كَتَبَ عَلَى مَوْضِعِ الْإِلْصَاقِ، وَإِذَا ضَاقَ آخِرُ الْوَرَقَةِ عَنِ الْجَوَابِ، لَمْ يَكْتُبْهُ فِي وَرَقَةٍ أُخْرَى، بَلْ فِي ظَهْرِ هَذِهِ أَوْ حَاشِيَتِهَا. وَأَيُّهُمَا أَوْلَى؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، ثَالِثُهَا: هُمَا سَوَاءٌ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ حَاشِيَتَهَا أَوْلَى، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ فِي فَتْوَاهُ مَعَ الْمُسْتَفْتِي أَوْ خَصْمِهِ، وَوُجُوهُ الْمَيْلِ مَعْرُوفَةٌ.

وَمِنْهَا أَنْ يَكْتُبَ مَا لَهُ دُونَ مَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْلِمَ أَحَدَهُمَا مَا يَدْفَعُ بِهِ حُجَّةَ صَاحِبِهِ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْجَوَابَ خِلَافُ غَرَضِ الْمُسْتَفْتِي، وَأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِكِتَابَتِهِ فِي وَرَقَتِهِ، اقْتَصَرَ عَلَى مُشَافَهَتِهِ بِالْجَوَابِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرِّقَاعِ أَنْ يُقَدِّمَ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ، كَالْقَاضِي وَهَذَا فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الْإِفْتَاءُ، فَإِنْ تَسَاوَوْا وَجَهِلَ السَّابِقَ، أَقْرَعَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْمَرْأَةِ، وَالْمُسَافِرِ الَّذِي شَدَّ رَحْلَهُ وَيَتَضَرَّرُ بِتَخَلُّفِهِ عَنْ رُفْقَتِهِ إِلَّا إِذَا كَثُرَ الْمُسَافِرُونَ وَالنِّسَاءُ بِحَيْثُ يَتَضَرَّرُ غَيْرُهُمْ تَضَرُّرًا ظَاهِرًا، فَيُقَدِّمُ حِينَئِذٍ بِالسَّبْقِ، ثُمَّ الْقَرْعَةِ، ثُمَّ لَا

ص: 115

يُقَدِّمُ أَحَدًا إِلَّا فِي فُتْيَا وَاحِدَةٍ. قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: إِذَا سُئِلَ عَنْ مِيرَاثٍ، فَالْعَادَةُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي الْوَرَثَةِ عَدَمُ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَمْنَعُ الْإِرْثَ، بَلِ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إِذَا أَطْلَقَ الْأُخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ فِي الْجَوَابِ: مِنْ أَبَوَيْنِ أَوْ أَبٍ أَوْ أُمٍّ، وَإِذَا سُئِلَ عَنِ الْمِنْبَرِيَّةِ وَهِيَ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ وَبِنْتَانِ، لَا يَقُولُ: لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، وَلَا التُّسُعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، بَلْ يَقُولُ: لَهَا الثُّمُنُ عَائِلًا، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا، أَوْ لَهَا ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَإِذَا كَانَ فِي الْمَذْكُورِينَ مَنْ لَا يَرِثُ أَفْصَحَ بِسُقُوطِهِ، فَقَالَ: وَسَقَطَ فُلَانٌ، فَإِنْ كَانَ سُقُوطُهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، قَالَ: وَسَقَطَ فُلَانٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ بِحَالٍ. قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَدِيدَ الِاحْتِرَازِ فِي جَوَابِ الْمُنَاسَخَاتِ.

قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: وَحَسَنٌ أَنْ يَقُولَ: تُقَسَّمُ التَّرِكَةُ بَعْدَ إِخْرَاجِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ إِنْ كَانَا. قَالُوا: وَإِذَا رَأَى فِي الرُّقْعَةِ فَتْوَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْإِفْتَاءِ، وَخَطُّهُ مُوَافِقٌ لِمَا عِنْدَهُ، كَتَبَ تَحْتَهُ: الْجَوَابُ صَحِيحٌ، أَوْ: جَوَابِي مِثْلُ هَذَا، أَوْ: بِهَذَا أَقُولُ. وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْجَوَابَ بِعِبَارَةٍ أَخْصَرَ مِنْ عِبَارَةِ السَّابِقِ.

وَإِنْ كَانَ فِيهَا خَطُّ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ، قَالَ الصَّيْمَرِيُّ وَغَيْرُهُ: لَمْ يُفْتِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِلْخَطَأِ، بَلْ يَضْرِبُ عَلَيْهِ، وَيَنْهَرُ الْمُسْتَفْتِي، وَيُعَرِّفُهُ قُبْحَ مَا فَعَلَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ أَهْلِ الْفَتْوَى.

وَإِنْ رَأَى فِيهَا اسْمَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَلَهُ الِامْتِنَاعُ خَوْفًا مِمَّا قُلْنَاهُ.

وَالْأَوْلَى أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَهَا بِإِبْدَالِهَا، فَإِنْ أَبَى، أَجَابَهُ شِفَاهًا، وَإِذَا خَافَ فِتْنَةً مِنَ الضَّرْبِ عَلَيْهَا، وَلَمْ تَكُنْ فُتْيَاهُ خَطَأً، امْتَنَعَ مِنَ الْإِفْتَاءِ مَعَهُ.

ص: 116

وَهَلْ يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يَتَخَيَّرَ وَيُقَلِّدَ أَيَّ مَذْهَبٍ شَاءَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ مُنْتَسِبًا إِلَى مَذْهَبٍ، بُنِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ لَهُ مَذْهَبٌ أَمْ لَا؟ أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ لِعَارِفِ الْأَدِلَّةِ، فَعَلَى هَذَا لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ مَنْ شَاءَ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْقَفَّالِ لَهُ مَذْهَبٌ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَسِبًا، بُنِيَ عَلَى وَجْهَيْنِ، حَكَاهُمَا ابْنُ بَرْهَانٍ بِفَتْحِ الْبَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَنَّ الْعَامِّيَّ هَلْ يَلْزَمُهُ التَّقَيُّدُ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ؟ أَحَدُهُمَا: لَا، فَعَلَى هَذَا هَلْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ أَمْ يَبْحَثَ عَنْ أَسَدِّ الْمَذَاهِبِ، فَيُقَلِّدَ أَهْلَهُ وَجْهَانِ، كَالْبَحْثِ عَنِ الْأَعْلَمِ.

وَالثَّانِي وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الْحَسَنِ إِلْكِيَا: يَلْزَمُهُ.

وَهُوَ جَارٍ فِي كُلِّ مَنْ يَبْلُغُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ سَائِرِ الْعُلُومِ، لِئَلَّا يَتَلَقَّطُ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ بِخِلَافِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ تَكُنْ مَذَاهِبَ مُدَوَّنَةً، فَيَتَلَقَّطُ رُخَصَهَا.

فَعَلَى هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَخْتَارَ مَذْهَبًا يُقَلِّدُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَيْسَ لَهُ التَّمَذْهُبُ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي، وَلَا بِمَا وَجَدَ عَلَيْهِ أَبَاهُ، هَذَا كَلَامُ الْأَصْحَابِ. وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّمَذْهُبُ بِمَذْهَبٍ، بَلْ يَسْتَفْتِي مَنْ شَاءَ، أَوْ مَنِ اتَّفَقَ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَلَقُّطٍ لِلرُّخَصِ.

وَلَعَلَّ مَنْ مَنَعَهُ لَمْ يَثِقْ بِعَدَمِ تَلَقُّطِهِ. وَإِذَا اسْتَفْتَى وَأَفْتَاهُ الْمُفْتِي، فَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا بِإِلْزَامِهِ، قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُهُ إِذَا أَخَذَ فِي الْعَمَلِ

ص: 117

بِهِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِحَّتُهُ، قَالَ: وَهَذَا أَوْلَى الْأَوْجُهِ، وَالْمُخْتَارُ مَا نَقَلَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُفْتٍ آخَرُ، لَزِمَهُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَاهُ، وَإِنْ لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ آخَرُ لَمْ يَلْزَمْهُ بِمُجَرَّدِ إِفْتَائِهِ، إِذْ لَهُ أَنْ يُسْأَلَ غَيْرَهُ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يُخَالِفُهُ، فَيَجِيءُ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي اخْتِلَافِ الْمُفْتِيَيْنِ، وَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَبْدَأَ مِنَ الْمُفْتِيَيْنِ بِالْأَسَنِّ الْأَعْلَمِ وَبِالْأَوْلَى فَالْأَوْلَى فَإِنْ أَرَادَ جَمْعَهُمْ فِي رُقْعَةٍ، وَإِنْ أَرَادَ إِفْرَادَهُمْ فِي رِقَاعٍ، بَدَأَ بِمَنْ شَاءَ، وَتَكُونُ رُقْعَةُ الِاسْتِفْتَاءِ وَاسِعَةً، وَيَدْعُو فِي الْوَرَقَةِ لِمَنْ يَسْتَفْتِيهِ، وَيَدْفَعُ الْوَرَقَةَ إِلَى الْمُفْتِي مَنْشُورَةً، وَيَأْخُذُهَا مَنْشُورَةً، فَيُرِيحُهُ مِنْ نَشْرِهَا وَطَيِّهَا.

وَإِذَا لَمْ يَجِدْ صَاحِبُ الْوَاقِعَةِ مُفْتِيًا فِي بَلَدِهِ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا مَنْ يَنْقُلُ حُكْمَهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: هَذِهِ مَسْأَلَةُ فَتْرَةِ الشَّرِيعَةِ الْأُصُولِيَّةِ وَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالصَّحِيحُ فِي كُلِّ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكْلِيفَ وَلَا حُكْمَ فِي حَقِّهِ أَصْلًا، فَلَا يُؤَاخَذُ إِذَا صَاحَبَ الْوَاقِعَةَ شَيْءٌ بِصُنْعِهِ.

فَهَذَا آخِرُ النُّبَذِ الَّتِي يَسَّرَ اللَّهُ الْكَرِيمُ إِلْحَاقَهَا وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ طَوِيلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْمُخْتَصَرِ فَهِيَ قَصِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذَكَرْتُهُ فِي شَرْحِ «الْمُهَذَّبِ» ، وَمَوْضِعُ بَسْطُهَا وَالزِّيَادَاتُ وَالْفُرُوعُ هُنَاكَ. وَهَذَا الْفَصْلُ مِمَّا يَكْثُرُ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا بَسَطْنَاهُ أَدْنَى بَسْطٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْقَاضِي فِي الِاسْتِخْلَافِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَلَهُ حَالَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلِقَ التَّوْلِيَةَ، وَلَا يَنْهَاهُ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِمَا تَوَلَّاهُ، كَقَضَاءِ بَلْدَةٍ صَغِيرَةٍ، فَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ كَقَضَاءِ بَلْدَتَيْنِ أَوْ بَلَدٍ كَبِيرٍ، فَلَهُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ، وَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ فِي الْمُمْكِنِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالْقِيَاسُ فِيمَا إِذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقَدْرِ

ص: 118

الْمُسْتَخْلَفِ فِيهِ هَذَانِ الْوَجْهَانِ إِلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْجَمِيعِ، وَقَطَعَ ابْنُ كَجٍّ بِالْجَوَازِ فِي الْكُلِّ عِنْدَ مُطْلَقِ الْإِذْنِ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ، فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ، فَإِنْ كَانَ مَا فَوَّضَهُ إِلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا النَّهْيُ كَالْعَدَمِ، وَالْأَقْرَبُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إِمَّا بُطْلَانُ التَّوْلِيَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ، وَإِمَّا اقْتِصَارُهُ عَلَى الْمُمْكِنِ، وَتَرْكِ الِاسْتِخْلَافِ.

قُلْتُ: هَذَا أَرْجَحُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ الْعَامِّ، أَمَّا فِي الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ، كَتَحْلِيفِ وَسَمَاعِ بَيِّنَةٍ، فَقَطَعَ الْقَفَّالُ بِجَوَازِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَهُوَ مُقْتَضَى إِطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ.

فُرُوعٌ

أَحَدُهَا: يُشْتَرَطُ فِي الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ: فَإِنْ فَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرًا خَاصًّا، كَفَاهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْبَابِ حَتَّى إِنَّ نَائِبَ الْقَاضِي فِي الْقُرَى إِذَا كَانَ الْمُفَوَّضَ إِلَيْهِ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ وَنَقْلُهَا دُونَ الْحُكْمِ، كَفَاهُ الْعِلْمُ بِشُرُوطِ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ.

الثَّانِي: قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي «التَّجْرِبَةِ» : نَصُّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي «الْمَبْسُوطِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ الشَّافِعِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَعْمَلُ بِاجْتِهَادِهِ حَتَّى لَوْ شَرَطَ عَلَى النَّائِبِ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ، وَيَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ الْمُنِيبِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إِذَا جَوَّزْنَا تَوْلِيَةَ الْمُقَلِّدِ لِلضَّرُورَةِ، فَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ فِي حَقِّهِ كَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِخِلَافِ اعْتِقَادِ مُقَلِّدِهِ،

ص: 119

فَلَوْ خَالَفَ وَشَرَطَ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ عَلَى النَّائِبِ الشَّافِعِيِّ الْحُكْمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : لَهُ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْإِمَامَانِ دُونَ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَهَذَا حُكْمٌ مِنْهُ بِصِحَّةِ الِاسْتِخْلَافِ، لَكِنْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبَا «الْمُهَذِّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرُهُمْ: لَوْ قَلَّدَ الْإِمَامُ رَجُلًا الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ بِمَذْهَبٍ عَيْنِهِ، بِطَلَ التَّقْلِيدُ. وَمُقْتَضَى هَذَا بُطْلَانُ الِاسْتِخْلَافِ هُنَاكَ، وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَنَفِيَّ لَوْ وَلَّى شَافِعِيًّا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَا عَلَى غَائِبٍ، صَحَّتِ التَّوْلِيَةُ، وَلَغَا الشَّرْطُ، فَيَقْضِي بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يُرَاعَى الشَّرْطُ هَنَاكَ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ لَمْ تَجْرِ صِيغَةُ الشَّرْطِ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ: قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ، فَاحْكُمْ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَلَا تَحْكُمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، صَحَّ التَّقْلِيدُ، وَلَغَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ، قَالَ: وَلَوْ قَالَ: لَا تَحْكُمْ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ، جَازَ، وَقَدْ قَصَرَ عَمَلَهُ عَلَى بَاقِي الْحَوَادِثِ، وَحَكَى وَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ: لَا تَقْضِ فِيهِمَا بِقِصَاصٍ أَنَّهُ يَلْغُو أَمْ يَكُونُ مَنْعًا لَهُ فِي الْحُكْمِ فِي الْقِصَاصِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.

الثَّالِثُ: حَيْثُ مَنَعْنَا الِاسْتِخْلَافَ، فَاسْتَخْلَفَ فَحُكْمُ الْخَلِيفَةِ بَاطِلٌ، لَكِنْ لَوْ تَرَاضَى خَصْمَانِ بِحُكْمِهِ، كَانَ كَالْمُحَكِّمِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي إِنْفَاذُ حُكْمِهِ، بَلْ يَسْتَأْنِفُ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا جَوَّزْنَا الِاسْتِخْلَافَ، فَاسْتَخْلَفَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، فَحُكْمُهُ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَلَا يَجُوزُ إِنْفَاذُهُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا نَصَّبَ الْإِمَامُ قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، نُظِرَ إِنْ خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِطَرَفٍ مِنْهُ، أَوْ بِزَمَانٍ، أَوْ جَعَلَ أَحَدَهُمَا قَاضِيًا فِي الْأَمْوَالِ، وَالْآخِرَ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، جَازَ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: وَكَذَا لَوْ وَلَّاهُمَا عَلَى أَنْ يَحْكُمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْوَاقِعَةِ الَّتِي يَرْفَعُهَا الْمُتَخَاصِمَانِ إِلَيْهِ، وَإِنْ عَمَّمَ وِلَايَتَهُمَا مَكَانًا وَزَمَانًا وَحَادِثَةً، فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمَا الِاجْتِمَاعَ

ص: 120

فِي الْحُكْمِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ يَكْثُرُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَتَتَعَطَّلُ الْحُكُومَاتُ، وَإِنْ أَثْبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الِاسْتِقْلَالَ فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، فَعَلَى هَذَا إِنْ وَلَّاهُمَا مَعًا، بَطَلَتْ تَوْلِيَتُهُمَا، وَإِنْ وَلَّاهُمَا مُتَعَاقِبَيْنِ، صَحَّتْ تَوْلِيَةُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَأَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، الْوَكِيلَيْنِ وَالْوَصِيَّيْنِ.

فَعَلَى هَذَا لَوْ تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ فِي إِجَابَةِ دَاعِي الْقَاضِيَيْنِ يُجَابُ مَنْ سَبَقَ دَاعِيهِ، فَإِنْ جَاءَا مَعًا أُقْرِعَ، وَإِنْ تَنَازَعَا فِي اخْتِيَارِ الْقَاضِيَيْنِ، فَقَدْ أَطْلَقَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ يُقْرَعُ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ دُونَ الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا، حَضَرَا عِنْدَ أَقْرَبِ الْقَاضِيَيْنِ إِلَيْهِمَا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُقْرِعُ، وَقِيلَ: يُمْنَعَانِ مِنَ التَّخَاصُمِ حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى أَحَدِهِمَا. وَإِنْ أَطْلَقَ نَصَّبَ قَاضِيَيْنِ، وَلَمْ يَشْرُطِ اجْتِمَاعَهُمَا، وَلَا اسْتِقْلَالَهُمَا، قَالَ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» : يُحْمَلُ عَلَى إِثْبَاتِ الِاسْتِقْلَالِ تَنْزِيلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى مَا يَجُوزُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّوْلِيَةُ بَاطِلَةٌ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالِاسْتِقْلَالِ.

قُلْتُ: قَوْلُ صَاحِبِ «التَّقْرِيبِ» أَصَحُّ، وَبِهِ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْخَامِسَةُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَكِّمَ الْخَصْمَانِ رَجُلًا غَيْرَ الْقَاضِي، وَهَلْ لِحُكْمِهِ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارٌ، قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ نَعَمْ، وَخَالَفَهُمُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ، فَرَجَّحَا الْمَنْعَ، وَقِيلَ الْقَوْلَانِ فِي الْأَمْوَالِ فَقَطْ، فَأَمَّا النِّكَاحُ وَاللَّعَّانُ، وَالْقِصَاصُ، وَحَدُّ الْقَذْفِ وَغَيْرُهَا، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا التَّحْكِيمُ قَطْعًا، وَالْمَذْهَبُ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَمِيعِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَلَا يُجْزِئُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَذْهَبِ، إِذْ لَيْسَ لَهَا طَالِبٌ مُعَيَّنٌ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ مَا يَقْضِي ذَهَابَ بَعْضِهِمْ إِلَى طَرْدِ الْخِلَافِ فِيهَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقِيلَ الْقَوْلَانِ فِي التَّحْكِيمِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مَخْصُوصَانِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجُزْ، وَقِيلَ: هُمَا إِذَا كَانَ

ص: 121

قَاضٍ وَإِلَّا فَيَجُوزُ قَطْعًا وَالْمَذْهَبُ طَرْدُهُمَا فِي الْحَالَيْنِ، فَإِذَا جَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ اشْتُرِطَ فِي الْمُحَكِّمِ صِفَاتُ الْقَاضِي، وَلَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ إِلَّا عَلَى مَنْ رَضِيَ بِحُكْمِهِ حَتَّى لَا تُضْرَبَ دِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِذَا لَمْ يَرْضَوْا بِحُكْمِهِ، وَلَا يَكْفِيَ رِضَى الْقَاتِلِ، وَقِيلَ: يَكْفِي، وَالْعَاقِلَةُ تَبَعٌ لَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْخِلَافُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِنَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْجَانِي، ثُمَّ تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ، فَإِنْ قُلْنَا: تَجِبُ عَلَيْهَا ابْتِدَاءً لَمْ تُضْرَبْ عَلَيْهِمْ إِلَّا بِرِضَاهُمْ قَطْعًا وَهَذَا حَسَنٌ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْمُتَحَاكِمَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا الْقَاضِي نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ، فَهَلْ يُشْتَرَطُ رِضَا الْآخَرِ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ نَصٍّ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَلْيَكُنْ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِخْلَافِ إِنْ جَازَ، فَالْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ نَائِبُ الْقَاضِي.

قَالَ: وَيُشْتَرَطُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ كَوْنُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ بِحَيْثُ يَجُوزُ لِلْمُحَكَّمِ أَنْ يَحْكُمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَهُ أَوْ أَبَاهُ، لَمْ يَجُزْ.

وَلَيْسَ لِلْمُحَكَّمِ الْحَبْسُ، بَلْ غَايَتُهُ الْإِثْبَاتُ وَالْحُكْمُ وَقِيلَ: يَحْبِسُ وَهُوَ شَاذٌّ وَهَلْ يُلْزِمُ حُكْمَهُمَا بِنَفْسِ الْحُكْمِ كَحُكْمِ الْقَاضِي أَمْ لَا يُلْزِمُهُ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمَا بَعْدَ الْحُكْمِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَيُقَالُ: وَجْهَانِ، أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ، وَمَتَى رَجَعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْحُكْمِ، امْتَنَعَ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِيَ شَاهِدِينَ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: عَزَلْتُكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ.

وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنْ أَحَسَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ فَرَجَعَ، فَفِي تَمْكِينِهِ مِنَ الرُّجُوعِ وَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِذَا جَوَّزْنَا التَّحْكِيمَ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، فَخَطَبَ امْرَأَةً، وَحَكَّمَا رَجُلًا فِي التَّزْوِيجِ، كَانَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَاخْتِيَارُ الْأُسْتَاذَيْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَبِي طَاهِرٍ الزِّيَادَيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَشَايِخِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّحْكِيمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلِيٌّ

ص: 122

خَاصٌّ مِنْ نَسِيبٍ أَوْ مُعْتِقٍ، وَشُرِطَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ قَاضٍ، وَحَكَى صَاحِبُ الْعُدَّةِ الْقَاضِي أَبُو الْمَكَارِمِ الطَّبَرَيُّ ابْنُ أُخْتِ الرُّويَانِيِّ وَجْهَيْنِ فِي اشْتِرَاطِهِ. وَلْيَكُنْ هَذَا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يُفَرَّقُ فِي التَّحْكِيمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَلَدِ قَاضٍ أَمْ لَا، وَإِذَا رُفِعَ حُكْمُ الْمُحَكِّمِ إِلَى الْقَاضِي، لَمْ يَنْقُضْهُ إِلَّا بِمَا يُنْقِضُ قَضَاءَ غَيْرِهِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي أَحْكَامٍ مَنْثُورَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْلِيَةِ.

يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ نَصْبُ الْقَاضِي فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَنَاحِيَةٍ خَالِيَةٍ عَنْ قَاضٍ، فَإِنْ عَرَفَ حَالَ مَنْ يُوَلِّيهِ عَدَالَةً وَعِلْمًا، فَذَاكَ، وَإِلَّا أَحْضَرَهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ لِيَعْرِفَ عِلْمَهُ، وَيَسْأَلَ عَنْ سِيرَتِهِ جِيرَانَهُ وَخُلَطَاءَهُ، فَلَوْ وَلَّى مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهُ، لَمْ تَنْعَقِدْ تَوْلِيَتُهُ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَوْنَهُ بِصِفَةِ الْقُضَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ نَصْبَ الْقَاضِي إِلَى وَالِي الْإِقْلِيمِ وَأَمِيرِ الْبَلْدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَجْعُولُ إِلَيْهِ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَكَيْلٌ مَحْضٌ، وَكَذَا لَوْ فَوَّضَ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اخْتِيَارَ قَاضٍ، ثُمَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَالِدَهُ وَلَا وَلَدَهُ، كَمَا لَا يَخْتَارُ نَفْسَهُ.

وَلَوْ قَالَ لِأَهْلِ بَلَدٍ: اخْتَارُوا رَجُلًا مِنْكُمْ، وَقَلَّدُوهُ الْقَضَاءَ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَيُشْتَرَطُ فِي التَّوْلِيَةِ تَعْيِينُ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ مِنْ قَرْيَةٍ، أَوْ بَلْدَةٍ، أَوْ نَاحِيَةٍ، وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَوْلَى، فَلَوْ قَالَ: وَلَيْتَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَوْ مَنْ رَغِبَ فِي الْقَضَاءِ بِبَلْدَةِ كَذَا مِنْ عُلَمَائِهَا، لَمْ يَجُزْ.

وَلَوْ قَالَ: فَوَّضْتُ الْقَضَاءَ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ، فَهَذَا نَصْبُ قَاضِيَيْنِ. وَفِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ لِلْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ: إِنَّ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ تَنْعَقِدُ بِمَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْوِكَالَةُ، وَهُوَ الْمُشَافَهَةُ بِاللَّفْظِ، وَالْمُرَاسَلَةُ، وَالْمُكَاتَبَةُ عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَيَجِئُ فِي الْمُرَاسَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ خِلَافٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْوِكَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ الصِّحَّةَ كَمَا ذَكَرَهُ. وَفِيهِ أَنَّ صَرِيحَ اللَّفْظِ: وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ، وَاسْتَخْلَفْتُكَ، وَاسْتَنَبْتُكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ التَّفْوِيضَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: اقْضِ بَيْنَ النَّاسِ، أَوِ احْكُمْ بِبَلْدَةِ كَذَا، وَهُوَ

ص: 123

مُلْحَقٌ بِالصَّرَائِحِ، كَمَا فِي الْوِكَالَةِ.

وَفِيهِ أَنَّ الْكِنَايَاتِ: اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ فِي الْقَضَاءِ، أَوْ رَدَدْتُهُ إِلَيْكَ، أَوِ اعْتَمَدْتُ، أَوْ فَوَّضْتُ، أَوْ وَكَّلْتُ، أَوْ أَسْنَدْتُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مَا يُلْحِقُهَا بِالصَّرَائِحِ وَلَا يَكَادُ يَتَّضِحُ فَرْقٌ بَيْنَ: وَلَّيْتُكُ الْقَضَاءَ، وَفَوَّضْتُهُ إِلَيْكَ.

قُلْتُ: الْفَرْقُ وَاضِحٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَّيْتُكَ مُتَعَيَّنٌ لِجَعْلِهِ قَاضِيًا، وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ تَوْكِيلُهُ فِي نَصْبِ قَاضٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهِ أَنْ عِنْدَ الْمُشَافَهَةِ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي الْمُرَاسَلَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ لَا يُشْتَرَطُ الْفَوْرُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْوَكَالَةِ خِلَافٌ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ، وَأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَطَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْفَوْرُ فَلْيَكُنْ هَكَذَا هُنَا.

فَرْعٌ

يَجُوزُ تَعْمِيمُ التَّوْلِيَةِ وَتَخْصِيصُهَا، إِمَّا فِي الْأَشْخَاصِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ سُكَّانِ مَحَلَّةٍ أَوْ قَبِيلَةٍ، أَوْ فِي خُصُومَاتِ شَخْصَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ، أَوْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ بَيْنَ مَنْ يَأْتِيهِ فِي دَارِهِ أَوْ فِي مَسْجِدِهِ مِنَ الْخُصُومِ، وَإِمَّا فِي الْحَوَادِثِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ فِي الْأَنْكِحَةِ دُونَ الْأَمْوَالِ أَوْ عَكْسِهِ، أَوْ فِي قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَالِ، وَإِمَّا فِي طَرَفِ الْحُكْمِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الْبَيِّنَةِ أَوْ عَكْسِهِ، وَإِمَّا فِي الْأَمْكِنَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَإِمَّا فِي الْأَزْمِنَةِ بِأَنْ يُوَلِّيَهُ سَنَةً أَوْ يَوْمًا مُعَيَّنًا، أَوْ يَوْمًا سَمَّاهُ مِنْ كُلِّ أُسْبُوعٍ.

وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ إِذَا قَالَ: وَلَّيْتُكَ سَنَةً، بَطَلَتِ التَّوْلِيَةُ كَمَا فِي الْإِمَامَةِ،

ص: 124

وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ كَالْوَكَالَةِ، وَلَوْ كَانَ كَالْإِمَامَةِ لَمَا جَازَ بَاقِي التَّخْصِيصَاتِ. وَمَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ مُطْلَقًا، اسْتَفَادَ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالتَّحْلِيفَ، وَفَصْلَ الْخُصُومَاتِ بِحُكْمٍ بَاتٍّ أَوْ إِصْلَاحٍ عَنْ تَرَاضٍ، وَاسْتِيفَاءَ الْحُقُوقِ وَالْحَبْسَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَتَزْوِيجَ مَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ حَاضِرٌ، وَالْوَلَايَةَ فِي مَالِ الصِّغَارِ وَالْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ وَالنَّظَرَ فِي الضَّوَالِّ وَفِي الْوَقْفِ حِفْظًا لِلْأُصُولِ، وَإِيصَالًا لِلْغَلَّاتِ إِلَى مَصَارِفِهَا بِالْفَحْصِ عَنْ حَالِ الْمُتَوَلِّي إِذَا كَانَ لَهَا مُتَوَلٍّ، وَبِالْقِيَامِ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَعُمُّ نَظَرُهُ فِي الْوُقُوفِ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ؛ لِأَنَّ الْخَاصَّةَ سَتَنْتَهِي إِلَى الْعُمُومِ. وَالنَّظَرُ فِي الْوَصَايَا وَتَعْيِينُ الْمَصْرُوفِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ بِالْقِيَامِ بِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ، وَبِالْفَحْصِ عَنْ حَالِهِ إِنْ كَانَ، وَالنَّظَرُ فِي الطُّرُقِ، وَالْمَنْعُ مِنَ التَّعَدِّي فِيهَا بِالْأَبْنِيَةِ وَإِشْرَاعِ مَا لَا يَجُوزُ إِشْرَاعُهُ قَالَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: وَنَصْبُ الْمُفْتِينَ وَالْمُحْتَسِبِينَ وَأَخْذُ الزَّكَوَاتِ.

وَفَصَّلَ الْمَاوَرْدِيُّ أَمْرَ الزَّكَوَاتِ، فَقَالَ: إِذَا أَقَامَ الْإِمَامُ لَهَا نَاظِرًا خَرَجَتْ عَنْ عُمُومِ وِلَايَةِ الْقَاضِي، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَطَّرِدَ هَذَا التَّفْصِيلُ، فِي الْمُحْتَسِبِينَ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي إِقَامَةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ نَصْبُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي جِبَايَةُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ بِالتَّوْلِيَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْأَصَحِّ.

الطَّرَفُ الثَّانِي فِي الْعَزْلِ وَالِانْعِزَالِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: إِذَا جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ عَمِيَ أَوْ خَرِسَ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الضَّبْطِ وَالِاجْتِهَادِ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ، وَكَذَا لَوْ

ص: 125

فَسَقَ عَلَى الْأَصَحِّ، فَلَوْ زَالَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ، فَفِي عَوْدِ وَلَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْلِيَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا، الْأَصَحُّ، لَا يَعُودُ، وَقَطَعَ السَّرَخْسِيُّ بِعَوْدِهَا فِي صُورَةِ الْإِغْمَاءِ. وَلَوْ أُخْبِرَ الْإِمَامُ بِمَوْتِ الْقَاضِي أَوْ فِسْقِهِ، فَوَلَّى قَاضِيًا، ثُمَّ بَانَ خِلَافُهُ، لَمْ يَقْدَحْ فِي تَوْلِيَةِ الثَّانِي.

الثَّانِيَةُ: فِي الْحَالِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ عَزْلُهُ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ خَلَلٌ، فَلِلْإِمَامِ عَزْلُهُ، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَيَكْفِي فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ خَلَلٌ، نُظِرَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، لَمْ يَجُزْ عَزْلُهُ، وَلَوْ عَزَلَهُ لَمْ يَنْعَزِلْ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ صَالِحٌ، نُظِرَ إِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ جَازَ عَزْلُهُ وَانْعَزَلَ الْمَفْضُولُ بِالْعَزْلِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْعَزْلِ بِهِ مَصْلَحَةٌ مِنْ تَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهَا، فَلِلْإِمَامِ عَزْلُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، لَمْ يَجُزْ، فَلَوْ عَزَلَهُ، نُفِّذَ عَلَى الْأَصَحِّ مُرَاعَاةً لِطَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَمَتَى كَانَ الْعَزْلُ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ، وَيُحْكَمُ بِنُفُوذِهِ. وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَوْلِيَةَ قَاضٍ بَعْدَ قَاضٍ هَلْ هِيَ عَزْلٌ لِلْأَوَّلِ؟ وَجْهَانِ، وَلْيَكُونَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ قَاضِيَانِ.

فَرْعٌ

هَلْ يَنْعَزِلُ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ خَبَرُ الْعَزْلِ؟ قِيلَ: قَوْلَانِ كَالْوَكِيلِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَهُ، لِعِظَمِ الضَّرَرِ فِي نَقْضِ أَقْضِيَتِهِ، ثُمَّ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا عَزَلَهُ لَفْظًا، أَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْتَ مَعْزُولٌ، أَوْ عَزَلْتُكَ، فَأَمَّا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ: إِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا، فَأَنْتَ مَعْزُولٌ، فَلَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ الْكِتَابُ قَطْعًا، وَإِنْ كَتَبَ إِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي فَأَنْتَ

ص: 126

مَعْزُولٌ، لَمْ يَنْعَزِلْ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، ثُمَّ إِنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ انْعَزَلَ، وَكَذَا إِنْ قُرِئَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ إِعْلَامُهُ بِصُورَةِ الْحَالِ. وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي أُمِّيًّا وَجَوَّزْنَاهُ، فَقُرِئَ عَلَيْهِ، فَالِانْعِزَالُ أَوْلَى.

فَرْعٌ

لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ، كَالْوَكِيلِ وَفِي «الْإِقْنَاعِ» لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَنْعَزِلُ إِلَّا بِعِلْمِ مَنْ قَلَّدَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِيمَنْ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ، فَيَنْعَزِلُ بِهِ كُلُّ مَأْذُونٍ لَهُ فِي شُغْلٍ مُعَيَّنٍ، كَبَيْعٍ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ، وَسَمَاعِ شَهَادَةٍ فِي حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَأَمَّا مَنِ اسْتَخْلَفَهُ فِي الْقَضَاءِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: يَنْعَزِلُ كَالْوَكِيلِ، وَالثَّانِي: لَا، لِلْحَاجَةِ، وَأَصَحُّهَا يَنْعَزِلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي مَأْذُونًا لَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ فِي هَذَا لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ زَالَتْ بِزَوَالِ وَلَايَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ لَمْ يَنْعَزِلْ إِنْ كَانَ قَالَ: اسْتَخْلِفْ عَنِّي فَامْتَثَلَ، وَإِنْ قَالَ: اسْتَخْلِفْ عَنْ نَفْسِكَ، أَوْ أَطْلَقَ، انْعَزَلَ، وَلَوْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ نَائِبًا عَنِ الْقَاضِي، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْقَاضِيَ هَلْ لَهُ عَزْلُ خَلِيفَتِهِ.

فَرْعٌ

الْقُوَّامُ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْأَوْقَافِ جَعَلَهُمُ الْغَزَالِيُّ كَالْخُلَفَاءِ، وَالْمَذْهَبُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْقَاضِي وَانْعِزَالِهِ، لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ أَبْوَابُ الْمَصَالِحِ وَهُمْ كَالْمُتَوَلِّي مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ.

فَرْعٌ

الْقُضَاةُ وَالْوُلَاةُ لَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَانْعِزَالِهِ لِشِدَّةِ

ص: 127

الضَّرَرِ فِي تَعْطِيلِ الْحَوَادِثِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا قَالَ الْقَاضِي بَعْدَ الِانْعِزَالِ: كُنْتُ حَكَمْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَهَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ مَعَ آخَرَ؟ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: نَعَمْ، وَالصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ مَعَ غَيْرِهِ أَنَّ حَاكِمًا جَائِرَ الْحُكْمِ حَكَمَ بِكَذَا، وَلَمْ يُضِفْ إِلَى نَفْسِهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا لَوْ شَهِدَتِ الْمُرْضِعَةُ بِرَضَاعٍ مُحَرِّمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِعْلَهَا.

وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ نَفْسَهُ، فَوَجَبَ الْبَيَانُ، لِيَزُولَ اللَّبْسُ، وَالْوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، قُبِلَتْ وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَعْرُوفُ، وَأَشَارَ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، فَإِنْ عَلِمَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَضَافَ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هُمَا إِذَا عَلِمَ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قُبِلَ قَطْعًا لِجَوَازِ إِرَادَةِ غَيْرِهِ.

وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ لَوْ شَهِدَ الْمَعْزُولُ أَنَّ حَاكِمًا حَكَمَ بِكَذَا، وَشَهِدَ مَعَهُ آخَرُ أَنَّ الْمَعْزُولَ حَكَمَ بِهِ، وَجَبَ أَنْ نَقْبَلَ، لِأَنَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا نَعْتَنِي إِلَّا بِتَصْحِيحِ الصِّيغَةِ.

قُلْتُ: الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَوْ شَهِدَ الْمَعْزُولُ أَنَّهُ مِلْكُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ حُكْمِي بِكَذَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فِعْلِهِ، وَقَوْلُ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ: حَكَمْتُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، كَقَوْلِ الْمَعْزُولِ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ قَبْلَ الْعَزْلِ: حَكَمْتُ بِكَذَا، فَيُقْبَلُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِنْشَاءِ فِي الْحَالِ وَحَتَّى لَوْ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الْحُكْمِ: نِسَاءُ الْقَرْيَةِ طَوَالِقُ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، قُبِلَ قَوْلُهُ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى حُجَّةٍ.

ص: 128

فَرْعَانِ

ذَكَرَهُمَا الْهَرَوِيُّ، أَحَدُهُمَا: قَالَ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ: الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ هَذَا الْأَمِينِ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ أَيَّامَ قَضَائِي لِيَحْفَظَهُ لِزَيْدٍ، وَقَالَ الْأَمِينُ: إِنَّهُ لِعَمْرٍو، وَمَا قَبَضْتُهُ مِنْكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ، وَإِنْ وَافَقَهُ عَلَى الْقَبْضِ مِنْهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ بِحُكْمِ الْقَاضِي هُمَا اللَّذَانِ شَهِدَا عِنْدَهُ، وَحَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا، لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلِ الْقَاضِي. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ: وَعَلَى هَذَا تَفَقَّهْتُ، وَأَدْرَكْتُ الْقُضَاةَ.

الْخَامِسَةُ: لَيْسَ عَلَى الْقَاضِي تَتَبُّعُ أَحْكَامِ الْقَاضِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا السَّدَادُ، وَلَهُ التَّتَبُّعُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ احْتِيَاطًا. وَإِذَا جَاءَهُ مُتَظَلِّمٌ عَلَى الْقَاضِي الْمَعْزُولِ، وَطَلَبَ إِحْضَارَهُ، لَمْ يُسَارِعْ إِلَى إِجَابَتِهِ، فَقَدْ يَقْصِدُ ابْتِذَالَهُ، بَلْ يَسْأَلُهُ عَمَّا يُرِيدُ مِنْهُ، فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَيْنًا، أَوْ دَيْنَ مُعَامَلَةٍ، أَوْ إِتْلَافًا أَوْ غَصْبًا، أَحْضَرَهُ، وَفَصَلَ خُصُومَتَهُمَا، كَغَيْرِهِمَا. وَلَوْ قَالَ: أَخَذَ مِنِّي كَذَا عَلَى سَبِيلِ الرِّشْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ، أَوْ أَخَذَ مِنِّي مَالًا بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَدَفَعَهُ إِلَى فُلَانٍ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَخْذَ كَالْغَصْبِ، وَأَمَّا فُلَانٌ الَّذِي ادَّعَى الدَّفْعَ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَالَ: أَخَذْتُهُ بِحُكْمِ الْمَعْزُولِ لِي، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، وَلَا قَوْلُ الْمَعْزُولِ لَهُ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى حُكْمِ الْمَعْزُولِ لَهُ أَيَّامَ قَضَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةً، انْتَزَعَ مِنْهُ الْمَالَ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهُ لِي، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْآخِذُ مِنَ الْمُدَّعِي لِحُكْمِ الْمَعْزُولِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُتَظَلِّمُ لِلْآخِذِ، بَلْ قَالَ: حَكَمَ عَلَيَّ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ وَنَحْوِهُمَا، فَقَدْ حَكَى الْغَزَالِيُّ وَجْهًا أَنَّ دَعْوَاهُ لَا تُسْمَعُ، وَلَا يُصْغَى إِلَيْهِ وَهَذَا الْوَجْهُ خَطَأٌ لَا نَعْرِفُهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَصْحَابِ، بَلِ اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنْ دَعَوَاهُ مَسْمُوعَةً، وَبَيِّنَتُهُ مَحْكُومٌ بِهَا، وَلَكِنْ هَلْ يَحْضُرُ الْمَعْزُولُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا:

ص: 129

نَعَمْ كَغَيْرِهِ، وَالثَّانِي: لَا يُحْضِرْهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ بِمَا يَدَّعِيهِ، أَوْ عَلَى إِقْرَارِ الْمَعْزُولِ بِمَا يَدَّعِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ جَرَيَانُ أَحْكَامِهِ عَلَى الصَّوَابِ، فَيَكْفِي هَذَا الظَّاهِرُ حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِخِلَافِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقَامُ فِي غَيْبَتِهِ، وَيُحْكَمُ بِهَا لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنْ يَكُونَ إِحْضَارُهُ ثَبَتَ فَيُقِيمُ الْمُدَّعِي شُهُودًا يَعْرِفُ الْقَاضِيَ بِهِمْ أَنَّ لِدَعْوَاهُ أَصْلًا وَحَقِيقَةً، ثُمَّ إِذَا حَضَرَ الْمَعْزُولُ ادَّعَى الْمُدَّعِي، وَشَهِدَ الشُّهُودُ فِي وَجْهِهِ، فَإِنْ أُحْضِرَ بَعْدَ الْبَيِّنَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَأَقَرَّ، طُولِبَ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ أَنْكَرَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالرُّويَانِيُّ كَالْمُوَدِّعِ وَسَائِرِ الْأُمَنَاءِ، وَقِيلَ: يُصَدَّقُ بِلَا يَمِينٍ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ، وَالْإِصْطَخْرِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَاصِمٍ، وَالْبَغَوِيُّ. وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ حَتَّى إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَ ظُلْمًا بِالْحُكْمِ جَرَى الْخِلَافُ فِي أَنَّ إِحْضَارَهُ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَأَنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ هَلْ يُحَلَّفُ؟ وَلَوِ ادَّعَى عَلَى نَائِبِ الْمَعْزُولِ فِي الْقَضَاءِ، فَهُوَ كَالدَّعْوَى عَلَى الْمَعْزُولِ، وَأَمَّا أُمَنَاؤُهُ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الْأُجْرَةِ فَلَوْ حُوسِبَ بَعْضُهُمْ فَبَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَقَالَ: أَخَذْتُ هَذَا الْمَالَ أُجْرَةَ عَمَلِي، فَصَدَّقَهُ الْمَعْزُولُ، لَمْ يَنْفَعْهُ تَصْدِيقُهُ، بَلْ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا يَزِيدُ عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَهَلْ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فِي أُجْرَةِ الْمِثْلِ؟ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا، بَلْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِجَرَيَانِ ذِكْرِ الْأُجْرَةِ.

وَالثَّانِي: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ مَجَّانًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُسَمِّ أُجْرَةً، هَلْ يَسْتَحِقُّهَا؟

فَرْعٌ

لَوِ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْقَاضِي الْبَاقِي عَلَى قَضَائِهِ، نُظِرَ إِنِ ادَّعَى مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، حَكَمَ بَيْنَهُمَا خَلِيفَتُهُ أَوْ قَاضٍ آخَرُ، وَإِنِ ادَّعَى ظُلْمًا فِي الْحُكْمِ، وَأَرَادَ تَغْرِيمَهُ، لَمْ يُمْكِنْ، وَلَا يَحْلِفُ الْقَاضِي وَلَا تُغْنِي

ص: 130

إِلَّا الْبَيِّنَةُ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى عَلَى الشَّاهِدِ أَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ، وَأَرَادَ تَغْرِيمَهُ، لِأَنَّهُمَا أَمِينَانِ شَرْعًا.

وَلَوْ فَتَحَ بَابَ تَحْلِيفِهِمَا لَتَعَطَّلَ الْقَضَاءُ، وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ قَالَ لِلْقَاضِي: قَدْ عُزِلْتَ، فَأَنْكَرَ وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ التَّحْلِيفُ فِي جَمِيعِ هَذَا كَسَائِرِ الْأُمَنَاءِ إِذَا ادُّعِيَتْ خِيَانَتُهُمْ.

الْبَابُ الثَّانِي فِي جَامِعِ آدَابِ الْقَضَاءِ فِيهِ أَطْرَافٌ

الْأَوَّلُ: فِي آدَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَهِيَ عَشْرَةٌ.

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكْتُبَ الْإِمَامُ كِتَابَ الْعَهْدِ لِمَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ، وَيَذْكُرَ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إِلَى الْقِيَامِ بِهِ، وَيَعِظُهُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ يَبْعَثُهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، نُظِرَ إِنْ كَانَ بَعِيدًا لَا يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ إِلَيْهِ، فَلْيُشْهِدْ شَاهِدَيْنِ عَلَى التَّوْلِيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكِتَابُ وَيَقْرَآنِهِ، أَوْ يَقْرَؤُهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ قَرَأَ غَيْرُ الْإِمَامِ، فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَنْظُرَ الشَّاهِدَانِ فِيهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ الشَّاهِدَانِ مَعَهُ، فَيُخْبِرَانِ بِالْحَالِ هُنَاكَ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَلَيْسَ هَذَا عَلَى قَوَاعِدِ الشَّهَادَاتِ، إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ قَاضٍ يُؤَدِّي عِنْدَهُ الشَّهَادَةَ. وَلَوْ أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ، كَفَى، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الشُّهُودِ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ قَرِيبًا يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ إِلَيْهِ وَيَسْتَفِيضُ، فَإِنْ أَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ يَخْرُجَانِ مَعَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَفِي الِاكْتِفَاءِ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالْإِجَارَةِ، وَأَصَحُّهُمَا الِاكْتِفَاءُ، وَبِهِ قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنِ الْخُلَفَاءِ الْإِشْهَادُ، وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَطْلَقَ الْوَجْهَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْبَلَدِ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَيُشْبِهُ أَنْ لَا يَكُونَ خِلَافٌ، وَيَكُونَ التَّعْوِيلُ عَلَى الِاسْتِفَاضَةِ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ مُجَرَّدِ الْكِتَابَةِ بِغَيْرِ اسْتِفَاضَةٍ، وَلَا إِشْهَادٌ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي اعْتِمَادِهِ وَجْهَيْنِ.

ص: 131

الْأَدَبُ الثَّانِي: إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى بَلَدِ قَضَائِهِ، سَأَلَ عَنْ حَالِ مَنْ فِيهِ الْعُدُولِ وَالْعُلَمَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ، سَأَلَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَى عِلْمٍ بِحَالِ الْبَلَدِ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ، سَأَلَ حِينَ يَدْخُلُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.

قُلْتُ: قَالَ الْأَصْحَابُ: فَإِنْ تَعَسَّرَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ فَالْخَمِيسُ، وَإِلَّا فَالسَّبْتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَنْ يَنْزِلَ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ أَوِ النَّاحِيَةِ، لِئَلَّا يَطُولَ الطَّرِيقُ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَإِذَا دَخَلَ، فَإِنْ رَأَى أَنْ يَشْتَغِلَ فِي الْحَالِ بِقِرَاءَةِ الْعَهْدِ، فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَهُ، وَيَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمًا فَأَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ عَلَى حَسَبِ صِغَرِ الْبَلَدِ أَوْ كِبَرِهِ أَنَّ فُلَانًا جَاءَ قَاضِيًا، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ يَوْمَ كَذَا لِقِرَاءَةِ الْعَهْدِ، فَمَنْ أَحَبَّ، فَلْيَحْضُرْ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا، قَرَأَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شُهُودٌ شَهِدُوا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَيَسْتَحْضِرُ النَّاسُ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنِ الشُّهُودِ وَالْمُزَكَّيْنَ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.

قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَتَسَلَّمُ دِيوَانَ الْحُكْمِ وَهُوَ مَا كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي قَبْلَهُ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، وَحُجَجِ الْأَيْتَامِ وَالْأَوْقَافِ، وَحُجَجِ غَيْرِهِمُ الْمُودَعَةِ فِي الدِّيوَانِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَقَدِ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ النَّظَرَ فِي الْأُمُورِ نَظَرَ أَوَّلًا فِي الْمَحْبُوسِينَ هَلْ يَسْتَحِقُّونَهُ أَمْ لَا؟ وَيَأْمُرُ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ لِلنَّظَرِ فِيهِمْ مَنْ يُنَادِي يَوْمًا فَأَكْثَرَ عَلَى حَسَبِ الْحَاجَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْظُرُ فِي الْمَحْبُوسِينَ يَوْمَ كَذَا، فَمَنْ لَهُ مَحْبُوسٌ، فَلْيَحْضُرْ، وَيَبْعَثُ إِلَى الْحَبْسِ أَمِينًا لِيَكْتُبَ اسْمَ كُلِّ مَحْبُوسٍ وَمَا حُبِسَ بِهِ، وَمَنْ حُبِسَ لَهُ فِي رُقْعَةٍ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَنَّهُ يَبْعَثُ أَمِينَيْنِ وَهُوَ أَحْوَطُ. فَإِذَا جَلَسَ فِي الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَحَضَرَ النَّاسُ، صُبَّتِ الرِّقَاعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَأْخُذُ رُقْعَةً

ص: 132

وَيَنْظُرُ فِي الِاسْمِ الْمُثْبَتِ فِيهَا، وَيَسْأَلُ عَنْ خَصْمِهِ فَمَنْ قَالَ: أَنَا خَصْمُهُ بَعَثَ مَعَهُ ثِقَةً إِلَى الْحَبْسِ لِيَأْخُذَ بِيَدِهِ وَيُحْضِرَهُ، وَهَكَذَا يَحْضُرُ مِنَ الْمَحْبُوسِينَ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ الْمَجْلِسَ يَحْتَمِلُ النَّظَرَ فِي أَمْرِهِمْ وَفِي «أَمَالِي» السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ لِلِابْتِدَاءِ.

وَإِذَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ الْمَحْبُوسُ وَخَصْمُهُ، سَأَلَ الْمَحْبُوسَ عَنْ سَبَبِ حَبْسِهِ، وَجَوَابُهُ يُفْرَضُ عَلَى وُجُوهٍ، مِنْهَا أَنْ يَعْتَرِفَ أَنَّهُ حُبِسَ بِحَقٍّ، فَإِنْ كَانَ مَا حُبِسَ بِهِ مَالًا، أُمِرَ بِأَدَائِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا مُعْسِرٌ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي التَّفْلِيسِ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَلَمْ يَثْبُتْ إِعْسَارُهُ، رُدَّ إِلَى الْحَبْسِ، وَإِنْ أَدَّى أَوْ ثَبَتَ إِعْسَارُهُ نُودِيَ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّ لَهُ خَصْمًا آخَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ خُلِّيَ، وَإِنْ كَانَ مَا حُبِسَ بِهِ حَدًّا، أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَخُلِّيَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: شَهِدْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ، فَحَبَسَنِي الْقَاضِي لِيَبْحَثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، فَفِي جَوَازِ الْحَبْسِ بِهَذَا السَّبَبِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُحْبَسُ بِهِ، أَطْلَقَهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ، وَبَحَثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: حُبِسْتُ بِخَمْرٍ أَوْ كَلْبٍ أَتْلَفْتُهُ عَلَى ذَمِّيٍّ، وَهَذَا الْقَاضِي لَا يَعْتَقِدُ التَّغْرِيمَ بِذَلِكَ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُمْضِيهِ، وَالثَّانِي: يَتَوَقَّفُ، وَيَسْعَى فِي اصْطِلَاحِهِمَا عَلَى شَيْءٍ.

وَمِنْهَا أَنْ يَقُولَ: حُبِسْتُ ظُلْمًا، فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ مَعَهُ، فَعَلَى الْخَصْمِ الْبَيِّنَةُ، وَيُصَدَّقُ الْمَحْبُوسُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ خَصْمًا غَائِبًا، فَقِيلَ: يُطْلَقُ قَطْعًا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُطْلَقُ حُبِسَ، أَوْ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ، وَيُكْتَبُ إِلَى خَصْمِهِ فِي الْحُضُورِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، أُطْلِقَ حِينَئِذٍ، وَإِنْ قَالَ: لَا خَصْمَ لِي أَصْلًا، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي فِيمَ حُبِسْتُ، نُودِيَ عَلَيْهِ لِطَلَبِ الْخَصْمِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ، حُلِّفَ وَأُطْلِقَ قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَفِي مُدَّةِ الْمُنَادَاةِ لَا يُحْبَسُ، وَلَا يُخَلَّى بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يُرْتَقَبُ، وَحَيْثُ أَطْلَقَ الَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ مَظْلُومٌ لَا يُطَالِبُ بِكَفِيلٍ عَلَى الْأَصَحِّ.

ص: 133

فَرْعٌ

لَوْ كَانَ قَدْ حَبَسَهُ الْأَوَّلُ تَعْزِيرًا قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَطْلَقَهُ الثَّانِي، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِهَذَا، فَإِنْ بَانَتْ جِنَايَتُهُ عِنْدَ الثَّانِي، وَرَأَى إِدَامَةَ حَبْسِهِ، فَالْقِيَاسُ الْجَوَازُ.

فَرْعٌ

فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْمَحْبُوسِينَ، نَظَرَ فِي الْأَوْصِيَاءِ، فَإِذَا حَضَرَ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَصِيٌّ، بَحَثَ الْحَاكِمُ عَنْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَصْلُ الْوِصَايَةِ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّ الْقَاضِي الْمَعْزُولَ نَفَّذَ وِصَايَتَهُ، وَأَطْلَقَ تَصَرُّفَهُ، قَرَّرَهُ، وَلَمْ يَعْزِلْهُ إِلَّا أَنْ يَطْرَأَ فِسْقُهُ وَنَحْوُهُ وَيَنْعَزِلَ، فَيَنْزِعَ الْمَالَ مِنْهُ، وَإِنْ شَكَّ فِي عَدَالَتِهِ فَوَجْهَانِ، قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يُقِرُّ الْمَالَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْأَمَانَةُ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَنْتَزِعُهُ حَتَّى تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ ضَعِيفًا، أَوْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِحِفْظِهِ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، ضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ يُعِينُهُ، وَالثَّانِي تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ، فَإِنْ قَالَ: فَرَّقْتُ مَا أَوْصَى بِهِ، نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِمُعَيَّنِينَ، لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، لِأَنَّهُمْ يُطَالِبُونَ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصَلَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ لِجِهَةٍ عَامَّةٍ، فَإِنْ كَانَ عَدْلًا أَمْضَى تَصَرُّفَهُ وَلَمْ يُضَمِّنْهُ، وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، ضُمِّنَهُ لِتَعِدِيهِ بِالتَّفْرِيقِ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَوْ فَرَّقَ الثُّلُثَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرُ الْوَصِيِّ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَضِيعَ، نُظِرَ إِنْ كَانَتِ الْوِصَايَةُ لِمُعَيَّنِينَ، وَقَعَ الْمَوْقِعُ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِلَّا فَيُضَمَّنُ عَلَى الْأَصَحِّ.

فَرْعٌ

ثُمَّ بَعْدَ الْأَوْصِيَاءِ يَنْظُرُ فِي أُمَنَاءِ الْقَاضِي الْمَنْصُوبِينَ عَلَى الْأَطْفَالِ

ص: 134

، وَتَفْرِقَةِ الْوَصَايَا، فَمَنْ تَغَيَّرَ حَالُهُ بِفِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَوْصِيَاءِ وَمَنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ، أَقَرَّهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيُوَلِّيَ غَيْرَهُ بِخِلَافِ الْأَوْصِيَاءِ؛ لِأَنَّ الْأَمِينَ يُوَلَّى مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْوَصِيِّ.

فَرْعٌ

ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ وَالْمُتَوَلِّينَ لَهَا، وَفِي اللُّقَطِ وَالضَّوَالِّ، فَمَا لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ لِلْمُلْتَقِطِ، أَوْ يَجُوزُ وَلَمْ يَخْتَرْ تَمَلُّكَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ، حَفِظَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، أَوْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِكِ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ مَعْزُولَةً عَنْ أَمْثَالِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُ أَنْ يَخْلِطَهَا بِمِثْلِهَا فَإِذَا ظَهَرَ الْمَالِكُ، غُرِمَ لَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

فَرْعٌ

لِيُقَدِّمْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَإِنْ عَرَضَتْ حَادِثَةٌ وَهُوَ مَشْغُولٌ بِهَذِهِ الْمُهِمَّاتِ اسْتَخْلَفَ مَنْ يَنْظُرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ فِيمَا هُوَ فِيهِ.

الْأَدَبُ الثَّالِثُ: يُرَتِّبُ الْقَاضِي بَعْدَ الْمَذْكُورَاتِ أَمْرَ الْكُتَّابِ وَالْمُزَكِّينَ وَالْمُتَرْجِمِينَ، أَمَّا الْكُتَّابُ فَلِلْحَاجَةِ إِلَى كِتَابَةِ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، وَالْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَفَرَّغُ لَهَا غَالِبًا.

وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَا يَكْتُبُهُ مِنَ الْمَحَاضِرِ وَغَيْرِهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَدْلًا. وَفِي «الْمُهَذَّبِ» وَجْهٌ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْعَدَالَةَ لَيْسَا بِشَرْطٍ بَلْ مُسْتَحَبَّانِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُمْضِي مَا كَتَبَهُ حَتَّى يَقِفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا وَافِرَ الْعَقْلِ، عَفِيفًا عَنِ الْأَطْمَاعِ، جَيِّدَ الْخَطِّ،

ص: 135

ضَابِطًا لِلْحُرُوفِ، وَأَنْ يُجْلِسَهُ الْقَاضِي بَيْنَ يَدَيْهِ لِيُمْلِيَ عَلَيْهِ، وَيُشَاهِدَ مَا يَكْتُبُهُ.

وَأَمَّا الْمُزَكُّونَ فَسَيَأْتِي فِيهِمْ فَصْلٌ مُفْرَدٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمُتَرْجِمُونَ، فَلِلْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَاضِيَ لُغَتَهُ مِنْ خَصْمٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُتَرْجِمِ التَّكْلِيفُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُ إِلَى الْقَاضِي قَوْلًا لَا يَعْرِفُهُ، فَأَشْبَهَ الشَّاهِدُ وَالْمُزَكِّي بِخِلَافِ الْكَاتِبِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ شَرَطْنَا الْعَدَدَ فِيهِ وَفِي الْمُزَكِّي.

قَالَ الْأَصْحَابُ: فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مِمَّا يَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، قُبِلَتِ التَّرْجَمَةُ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَانْفَرَدَ الْإِمَامُ بِاشْتِرَاطِ رَجُلَيْنِ، وَاخْتَارَهُ الْبَغَوِيُّ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالْعِتْقُ وَسَائِرُ مَا لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِرَجُلَيْنِ، فَيُشْتَرَطُ فِي تَرْجَمَتِهِ رَجُلَانِ، وَفِي الزِّنَا هَلْ يَكْفِي رَجُلَانِ أَمْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ قَوْلَانِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا، وَقِيلَ: يَكْفِي رَجُلَانِ قَطْعًا، وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ أَعْجَمِيَّيْنِ فَهَلْ يَكْفِي لَهُمَا مُتَرْجِمَانِ أَمْ يُشْتَرَطُ لِكُلٍّ مُتَرْجِمَانِ؟ قَوْلَانِ كَشُهُودِ الْفَرْعِ، وَبِالْأَوَّلِ قَطَعَ الْعِبَادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَرْجِمُ أَعْمَى عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ يُفَسِّرُ اللَّفْظَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَايَنَةٍ وَإِشَارَةٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَإِذَا كَانَ بِالْقَاضِي صَمَمٌ وَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ يُسْمِعُهُ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَصَحُّهَا: يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ كَالْمُتَرْجِمِ، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمُسْمِعَ لَوْ غَيَّرَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ، وَالْحَاضِرُونَ بِخِلَافِ الْمُتَرْجِمِ.

وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْخَصْمَانِ أَصَمَّيْنِ، اشْتُرِطَ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَعْتَنِي اعْتِنَاءَهُمَا، وَإِنْ كَانَا سَمِيعَيْنِ، فَلَا. فَأَمَّا إِسْمَاعُ الْخَصْمِ مَا يَقُولُهُ الْقَاضِي، وَمَا يَقُولُهُ الْخَصْمُ، فَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ، وَإِذَا شَرَطْنَا الْعَدَدَ. اشْتُرِطَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ يَقُولُ كَذَا، وَمَنْ مَنَعَ، قَالَ: لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ مُحَقَّقَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَدَدُ، اشْتُرِطَتِ الْحُرِّيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ، كَهِلَالِ رَمَضَانَ،

ص: 136

وَلَا يُسَلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الرِّوَايَاتِ وَلِيَجْرِيَ الْخِلَافُ فِي لَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ مَعَ بُعْدِهِ مِنَ الْمُتَرْجِمِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الِاكْتِفَاءُ بِإِسْمَاعِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْمَالِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُتَرْجِمِ.

فَرْعٌ

إِذَا لَمْ يَجِدِ الْقَاضِي كِفَايَةً، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْقَضَاءِ، وَإِنْ وَجَدَهَا وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ. وَيُسْتَحَبُّ تَرْكُ الْأَخْذِ، وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَالْمَذْهَبُ: الْأَوَّلُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا مَعَ رِزْقِ الْقَاضِي لِثَمَنِ وَرَقِ الْمَحَاضِرِ وَالسِّجِلَّاتِ، وَلِأُجْرَةِ الْكَاتِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أَوِ احْتِيجَ إِلَيْهِ لِمَا هُوَ أَهَمُّ، فَإِنْ أَتَى الْمُدَّعِي بِوَرَقَةٍ تَثْبُتُ فِيهَا خُصُومَتُهُ وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ، وَبِأُجْرَةِ الْكَاتِبِ، فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُعْلِمُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُثْبِتْ مَا جَرَى، فَقَدْ تُنْسَى شَهَادَةُ الشُّهُودِ وَحُكْمُ نَفْسِهِ. وَلْيَكُنْ رِزْقُ الْقَاضِي بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَا الْإِمَامُ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْخَيْلِ وَالْغِلْمَانِ، وَالدَّارِ الْوَاسِعَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رضي الله عنهم لِأَنَّهُ قَدْ بَعُدَ الْعَهْدُ بِزَمَنِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ النَّصْرِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ وَالْهَيْبَةِ فِي الْقُلُوبِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ الْإِمَامُ الْيَوْمَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يُطَعْ، وَتَعَطَّلَتِ الْأُمُورُ. وَلَوْ رَزَقَ الْإِمَامُ الْقَاضِيَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ رَزَقَهُ أَهْلُ وِلَايَتِهِ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَالَّذِي خَرَّجَهُ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْأَذَانِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِزْقُ الْمُؤَذِّنِ

ص: 137

مِنْ مَالِ الْإِمَامِ، أَوْ أَحَدِ الرَّعِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُورِثُ تُهْمَةً وَمَيْلًا فِي الْمُؤَذِّنِ بِخِلَافِ الْقَاضِي، وَكَمَا يَرْزُقُ الْإِمَامُ الْقَاضِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَرْزُقُ أَيْضًا مَنْ يَرْجِعُ مَصْلَحَةُ عَمَلِهِ إِلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَمِيرِ وَالْمُفْتِي وَالْمُحْتَسِبِ، وَإِمَامِ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِ، وَمَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَالْقَاسِمِ، وَكَاتِبِ الصُّكُوكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، لَمْ يُعَيِّنْ قَاسِمًا وَلَا كَاتِبًا لِئَلَّا يُغَالِيَ بِالْأُجْرَةِ وَأَلْحَقَ بِهَؤُلَاءِ الْمُقَوِّمَ، وَفِي الْمُتَرْجِمِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: يُرْزَقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَهَؤُلَاءِ، وَالثَّانِي: لَا، كَالْوَكِيلِ. قَالَهُ ابْنُ الْقَاصِّ وَأَبُو زَيْدٍ، وَعَلَى هَذَا فَمُؤْنَةُ مَا يُتَرْجِمُ بِهِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْمُسْمِعُ كَالْمُتَرْجِمِ، فَفِي مُؤْنَتِهِ الْوَجْهَانِ، وَهُمَا جَارِيَانِ فِي الْمُزَكِّي، وَالْقَوْلُ فِي الشَّاهِدِ يَأْتِي فِي الشَّهَادَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْأَدَبُ الرَّابِعُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَسِيحًا بَارِزًا نَزِهًا لَا يُؤْذِي فِيهِ حَرٌّ وَلَا بَرْدٌ وَرِيحٌ وَغُبَارٌ وَدُخَانٌ، فَيَجْلِسُ فِي الصَّيْفِ حَيْثُ يَلِيقُ بِهِ، وَكَذَا فِي الشِّتَاءِ وَزَمَنِ الرِّيَاحِ، وَاسْتَحَبَّ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ جُلُوسِهِ مُرْتَفِعًا كَدِكَّةٍ وَنَحْوِهَا لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى النَّاسِ، وَعَلَيْهِمُ الْمُطَالَبَةُ، وَحَسَنٌ أَنْ يُوَطَّأَ لَهُ الْفِرَاشُ، وَمَوْضِعُ الْوِسَادَةِ، لِيَعْرِفَهُ الدَّاخِلُ، وَيَكُونَ أَهِيبَ عِنْدَ الْخُصُومِ، وَأَرْفَقَ بِالْقَاضِي لِئَلَّا يَمَلَّ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَتَّكِئُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ مَجْلِسًا لِلْقَضَاءِ، فَإِنِ اتُّخِذَ، كُرِهَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ يُنَزَّهُ عَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَحُضُورِ الْحُيَّضِ وَالْكُفَّارِ وَالْمَجَانِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْضُرُونَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي: لَا يُكْرَهُ كَمَا لَا يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِيهِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْإِفْتَاءِ، وَإِذَا أَثْبَتْنَا الْكَرَاهَةَ، فَهِيَ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ أَشَدُّ، وَكَرَاهَةُ اتِّخَاذِهِ مَجْلِسًا لِلْقُضَاةِ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ، فَإِنِ ارْتَكَبَهَا لَمْ يُمَكَّنِ الْخُصُومَ مِنْ

ص: 138