المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الشَّهَادَاتِ فِيهِ سِتَّةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِيمَا يُفِيدُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَلَهَا شُرُوطٌ، - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ١١

[النووي]

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الشَّهَادَاتِ فِيهِ سِتَّةُ أَبْوَابٍ: الْأَوَّلُ: فِيمَا يُفِيدُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَلَهَا شُرُوطٌ،

‌كِتَابُ الشَّهَادَاتِ

فِيهِ سِتَّةُ أَبْوَابٍ:

الْأَوَّلُ: فِيمَا يُفِيدُ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ، وَلَهَا شُرُوطٌ، مِنْهَا التَّكْلِيفُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا مَنْ فِيهِ رِقٌّ، وَلَا كَافِرٍ مَا، سَوَاءٌ شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ الْعَدَالَةُ. فَالْمَعَاصِي صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَيْسَ فِيهَا صَغِيرَةٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَفِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِحَدٍّ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سَنَةٍ، وَهَذَا أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ لَهُمْ، وَهُمْ إِلَى تَرْجِيحَ الْأَوَّلِ أَمْيَلُ، لَكِنَّ الثَّانِيَ أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ، وَالثَّالِثُ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي «الْإِرْشَادِ» وَغَيْرِهِ: كُلُّ جَرِيمَةٍ تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ، فَهِيَ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ.

وَالرَّابِعُ قَالَ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ: الْكَبِيرَةُ كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ وَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَرْكُ فَرِيضَةٍ تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالْيَمِينِ، هَذَا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى سَبِيلِ الضَّبْطِ. وَفَصَّلَهُ جَمَاعَةٌ، فَعَدُّوا مِنَ الْكَبَائِرِ الْقَتْلَ وَالزِّنَى وَاللِّوَاطَ، وَشُرْبَ قَلِيلِ الْخَمْرِ، وَالسَّرِقَةَ، وَالْقَذْفَ، وَشَهَادَةَ الزُّورِ، وَغَصْبَ الْمَالِ - وَشَرَطَ الْهَرَوِيُّ فِي الْمَغْصُوبِ كَوْنَهُ نِصَابًا - وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكْلَ الرِّبَا وَمَالِ الْيَتِيمِ، وَعُقُوقَ

ص: 222

الْوَالِدَيْنِ، وَالْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْدًا، وَكِتْمَانَ الشَّهَادَةِ بِلَا عُذْرٍ. وَأَضَافَ إِلَيْهَا صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَالْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ، وَقَطْعَ الرَّحِمِ، وَالْخِيَانَةَ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَتَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا، أَوْ تَأْخِيرَهَا عَنْهُ بِلَا عُذْرٍ، وَضَرْبَ مُسْلِمٍ بِلَا حَقٍّ، وَسَبَّ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ، وَالدِّيَاثَةَ وَالْقِيَادَةَ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالسِّعَايَةَ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَمَنْعَ الزَّكَاةِ، وَتَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَنِسْيَانَ الْقُرْآنِ، وَإِحْرَاقَ الْحَيَوَانِ، وَامْتِنَاعَهَا مَنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ، وَالْيَأْسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْأَمْنَ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُقَالُ: الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ.

وَمِمَّا عُدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ الظِّهَارُ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ بِلَا عُذْرٍ، وَلِلتَّوَقُّفِ مَجَالٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْخِصَالِ، كَقَطْعِ الرَّحِمِ، وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى إِطْلَاقِهِمَا، وَنِسْيَانِ الْقُرْآنِ، وَإِحْرَاقِ مُطْلَقِ الْحَيَوَانِ. وَقَدْ أَشَارَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» إِلَى مِثْلِ هَذَا التَّوَقُّفِ، وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَجْهٌ أَنَّ تَرْكَ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ كَبِيرَةً، وَلَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَةٌ حَتَّى يَعْتَادَهُ.

قُلْتُ: قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبُ أُمَّتِي، فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أُقْرِئُهَا رَجُلٌ، ثُمَّ نَسِيَهَا» لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ. وَمِنَ الْكَبَائِرِ السِّحْرُ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَنَقَلَ الْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ «مَجْمُوعَةٍ» أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله تَعَالَى - قَالَ:

ص: 223

الْوَطْءُ فِي الْحَيْضِ كَبِيرَةٌ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ النَّمِيمَةَ كَبِيرَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ صَاحِبُ «الْعُدَّةِ» : وَمِنَ الصَّغَائِرِ النَّظَرُ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَالْغِيبَةُ، وَالْكَذِبُ الَّذِي لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ، وَالْإِشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ، وَهِجْرَةُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَكَثْرَةُ الْخُصُومَاتِ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَالسُّكُوتُ عَلَى الْغِيبَةِ وَالنِّيَاحَةُ وَالصِّيَاحُ وَشَقُّ الْجَيْبِ فِي الْمُصِيبَةِ، وَالتَّبَخْتُرُ فِي الْمَشْيِ، وَالْجُلُوسُ مَعَ الْفُسَّاقِ إِينَاسًا لَهُمْ، وَالصَّلَاةُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِدْخَالُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ وَالنَّجَاسَاتِ إِلَيْهِ، وَإِمَامَةُ قَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ لِعَيْبٍ فِيهِ، وَالْعَبَثُ فِي الصَّلَاةِ، وَالضَّحِكُ (فِيهَا) ، وَتَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَالْكَلَامُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَالتَّغَوُّطُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَفِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: وَكَثْرَةُ خُصُومَاتِ الْمُحِقِّ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونَ مَعْصِيَةً إِذَا رَاعَى حَدَّ الشَّرْعِ. وَتَخَطِّي الرِّقَابِ، فَإِنَّهُ مَعْدُودٌ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ لَا مُحَرَّمٌ وَكَذَا الْكَلَامُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ عَلَى الْأَظْهَرِ.

قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ تَخَطِّيَ الرِّقَابِ حَرَامٌ لِلْأَحَادِيثِ فِيهِ، وَالصَّوَابُ فِي الْخُصُومَاتِ مَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ، وَأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِدْخَالَهُ الصِّبْيَانَ إِذَا لَمْ يَغْلِبْ تَنْجِيسُهُمْ إِيَّاهُ، وَالْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ، وَفِي كَوْنِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ مَكْرُوهَةً أَوْ مُحَرَّمَةً خِلَافٌ سَبَقَ.

وَمِنَ الصَّغَائِرِ الْقُبْلَةُ لِلصَّائِمِ الَّذِي يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ، وَالْوِصَالُ فِي الصَّوْمِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالِاسْتِمْنَاءُ وَكَذَا مُبَاشَرَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ الْمُظَاهِرِ مِنْهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَالرَّجْعِيَّةِ، وَالْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَمُسَافَرَةُ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ زَوْجٍ وَلَا مَحْرَمٍ، وَلَا نِسْوَةٍ

ص: 224

ثِقَاتٍ، وَالنَّجْشُ وَالِاحْتِكَارُ، وَالْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَكَذَا السَّوْمُ وَالْخِطْبَةُ، وَبَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، وَالتَّصْرِيَةُ، وَبَيْعُ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ، وَاتِّخَاذُ الْكَلْبِ الَّذِي لَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤُهُ، وَإِمْسَاكُ الْخَمْرِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَبَيْعُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ، وَكَذَا الْمُصْحَفُ وَسَائِرُ كُتُبِ الْعِلْمِ، وَاسْتِعْمَالُ النَّجَاسَةِ فِي الْبَدَنِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْخَلْوَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَشْبَاهُ هَذِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَالَ الْأَصْحَابُ: يُشْتَرَطُ فِي الْعَدَالَةِ اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، فَمَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَاحِدَةً، فَسَقَ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَأَمَّا الصَّغَائِرُ، فَلَا يُشْتَرَطُ اجْتِنَابُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُصِرَّ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَصَرَّ كَانَ الْإِصْرَارُ كَارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، وَهَلِ الْإِصْرَارُ السَّالِبُ لِلْعَدَالَةِ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الصَّغَائِرِ، أَمِ الْإِكْثَارُ مِنَ الصَّغَائِرِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَيُوَافِقُ الثَّانِيَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَنْ غَلَبَتْ طَاعَتُهُ مَعَاصِيَهُ، كَانَ عَدْلًا، وَعَكْسُهُ فَاسِقٌ، وَلَفْظُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي «الْمُخْتَصَرِ» يُوَافِقُهُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَضُرُّ الْمُدَاوِمَةُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الصَّغَائِرِ إِذَا غَلَبَتِ الطَّاعَاتُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَضُرُّ.

فَرْعٌ

اللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ: مُبَاحٌ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَمَالَ الْحَلِيمِيُّ إِلَى تَحْرِيمِهِ، وَاخْتَارَهُ الرُّويَانِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ قِمَارٌ أَوْ فُحْشٌ أَوْ إِخْرَاجُ صَلَاةٍ عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِذَلِكَ الْمُقَارَنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ قِمَارًا إِذَا شُرِطَ الْمَالُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ أَخْرَجَ

ص: 225

أَحَدُهُمَا لِيَبْذُلَهُ إِنْ غُلِبَ، وَيُمْسِكَهُ إِنْ غَلَبَ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَلَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَةٌ، لَكِنَّهُ عَقَدَ مُسَابَقَةً عَلَى غَيْرِ آلَةِ قِتَالٍ، فَلَا يَصِحُّ. وَلَوْ لَمْ تَخْرُجِ الصَّلَاةُ عَنِ الْوَقْتِ عَمْدًا، لَكِنْ شَغَلَهُ اللَّعِبُ بِهِ حَتَّى خَرَجَ وَهُوَ غَافِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ ذَلِكَ مِنْهُ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ، فُسِّقَ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا تَرَكَهَا نَاسِيًا مِرَارًا؛ لِأَنَّهُ هُنَا شَغَلَ نَفْسَهُ بِمَا فَاتَتْ بِهِ الصَّلَاةُ هَكَذَا ذَكَرُوهُ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْصِيةِ الْغَافِلِ اللَّاهِي، ثُمَّ قِيَاسُهُ الطَّرْدُ فِي شَغْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِهِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَأَشَارَ الرُّويَانِيُّ إِلَى وَجْهٍ أَنَّهُ يُفَسَّقُ وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، وَفِي «الْمُهَذَّبِ» اشْتِرَاطُ التَّكَرُّرِ فِي إِخْرَاجِهَا عَنِ الْوَقْتِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا وَهُوَ خِلَافُ مَا سَبَقَ أَنَّ إِخْرَاجَ الْفَرِيضَةِ عَنِ الْوَقْتِ عَمْدًا كَبِيرَةٌ.

وَأَمَّا اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ فَفِي وَجْهٍ مَكْرُوهٌ وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ، فَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: هُوَ صَغِيرَةٌ، قَالَ الْإِمَامُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، قَالَ فِي «الْأُمِّ» وَأَكْرَهَ اللَّعِبَ بِالْحَزَّةِ وَالْقَرَقَ، فَالْحَزَّةُ: قِطَعُ خَشَبٍ يُحْفَرُ فِيهَا حُفَرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَسْطُرٍ يُجْعَلُ فِيهَا حَصًى صِغَارٌ يُلْعَبُ بِهَا وَقَدْ تُسَمَّى الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْقَرَقُ: أَنْ يُخَطَّ فِي الْأَرْضِ خَطٌّ مُرَبَّعٌ، وَيُجْعَلُ فِي وَسَطِهِ خَطَّانِ كَالصَّلِيبِ، وَيُجْعَلُ عَلَى رُءُوسِ الْخُطُوطِ حَصًى صِغَارٌ يُلْعَبُ بِهَا. وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ رَأَيْتُهَا بِخَطِّ الرُّويَانِيِّ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالرَّاءِ، وَضَبَطَهَا بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ، قَالَ فِي «الشَّامِلِ» اللَّعِبُ بِهِمَا كَالنَّرْدِ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ كَالشِّطْرَنْجِ.

فَرْعٌ

اتِّخَاذُ الْحَمَامِ لِلْفَرْخِ وَالْبَيْضِ، أَوِ الْأُنْسِ، أَوْ حَمْلُ الْكُتُبِ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَأَمَّا اللَّعِبُ بِهَا بِالتَّطْيِيرِ وَالْمُسَابَقَةِ، فَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ،

ص: 226

وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمُجَرَّدِهِ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهِ قِمَارٌ وَنَحْوُهُ رُدَّتْ.

فَرْعٌ

غِنَاءُ الْإِنْسَانِ قَدْ يَقَعُ بِمُجَرَّدِ صَوْتِهِ، وَقَدْ يَقَعُ بِآلَةٍ، أَمَّا الْقَسَمُ الْأَوَّلُ فَمَكْرُوهٌ وَسَمَاعُهُ مَكْرُوهٌ، وَلَيْسَا مُحَرَّمَيْنِ، فَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ فَأَشَدُّ كَرَاهَةً، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ تَحْرِيمَهُ وَهَذَا هُوَ الْخِلَافُ الَّذِي سَبَقَ فِي أَنَّ صَوْتَهَا هَلْ هُوَ عَوْرَةٌ، فَإِنْ كَانَ فِي السَّمَاعِ مِنْهَا خَوْفُ فِتْنَةٍ، فَحَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا السَّمَاعُ مِنْ صَبِيٍّ يُخَافُ مِنْهُ الْفِتْنَةُ، وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ وَجْهًا أَنَّهُ يَحْرُمُ كَثِيرُ السَّمَاعِ دُونَ قَلِيلُهُ، وَوَجْهٌ أَنَّهُ يَحْرُمُ مُطْلَقًا، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ.

وَأَمَّا الْحُدَاءُ، وَسَمَاعُهُ، فَمُبَاحَانِ، وَأَمَّا تَحْسِينُ الصَّوْتِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَمَسْنُونٌ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ، فَقَالَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : لَا بَأْسَ بِهَا وَعَنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْجِيزَيِّ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: لَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلِ الْمَكْرُوهُ أَنْ يُفَرِّطَ فِي الْمَدِّ وَفِي إِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ حَتَّى تَتَوَلَّدَ مِنَ الْفَتْحَةِ أَلْفٌ، وَمِنَ الضَّمِّ وَاوٌ، وَمِنَ الْكَسْرَةِ يَاءٌ، أَوْ يُدْغِمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِدْغَامِ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، فَلَا كَرَاهَةَ، وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ وَإِنْ أَفْرَطَ.

قُلْتُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا أَفْرَطَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَهُوَ حَرَامٌ، صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «الْحَاوِي» فَقَالَ: هُوَ حَرَامٌ يُفَسَّقُ بِهِ الْقَارِئُ، وَيَأْثَمُ الْمُسْتَمِعُ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ لَهْجَةِ التَّقْوِيمِ، وَهَذَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالْكَرَاهَةِ. وَيُسَنُّ تَرْتِيلُ الْقِرَاءَةِ وَتَدَبُّرُهَا، وَالْبُكَاءُ عِنْدَهَا، وَطَلَبُ الْقِرَاءَةِ

ص: 227

مِنْ حَسَنِ الصَّوْتِ، وَالْجُلُوسُ فِي حِلَقِ الْقِرَاءَةِ وَلَا بَأْسَ بِتَرْدِيدِ الْآيَةِ لِلتَّدَبُّرِ، وَلَا بِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَةِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَلَا بِإِدَارَتِهَا وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً، ثُمَّ الْبَعْضُ قِطْعَةً بَعْدَهَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا كُلَّهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ النَّفَائِسِ فِي «آدَابِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ» . وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُغَنِّيَ بِبَعْضِ آلَاتِ الْغِنَاءِ مِمَّا هُوَ مِنْ شِعَارِ شَارِبِي الْخَمْرِ وَهُوَ مُطْرِبٌ كَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ وَسَائِرِ الْمَعَازِفِ وَالْأَوْتَارِ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ وَاسْتِمَاعُهُ. وَفِي الْيَرَاعِ وَجْهَانِ صَحَّحَ الْبَغَوِيُّ التَّحْرِيمَ وَالْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْيَرَاعِ كُلُّ قَصَبٍ بَلِ الْمِزْمَارُ الْعِرَاقِيُّ وَمَا يُضْرَبُ بِهِ الْأَوْتَارُ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ.

قُلْتُ: الْأَصَحُّ أَوِ الصَّحِيحُ تَحْرِيمُ الْيَرَاعِ، وَهُوَ هَذِهِ الزَّمَّارَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الشَّبَّابَةُ وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّوْلَعِيُّ كِتَابًا فِي تَحْرِيمِ الْيَرَاعِ مُشْتَمِلًا عَلَى نَفَائِسَ، وَأَطْنَبَ فِي دَلَائِلِ تَحْرِيمِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَمَّا الدُّفُّ، فَضَرْبُهُ مُبَاحٌ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِمَا، فَأَطْلَقَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا تَحْرِيمَهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: حَلَالٌ: وَحَيْثُ أَبَحْنَاهُ هُوَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ جُلَاجِلُ، فَإِنْ كَانَ، فَالْأَصَحُّ حِلُّهُ أَيْضًا. وَلَا يَحْرُمُ ضَرْبُ الطُّبُولِ إِلَّا الْكُوبَةَ، وَهُوَ طَبْلٌ طَوِيلٌ مُتَّسِعُ الطَّرَفَيْنِ ضَيِّقُ الْوَسَطِ، وَهُوَ الَّذِي يَعْتَادُ ضَرْبَهُ الْمُخَنَّثُونَ، وَالطُّبُولُ الَّتِي تُهَيَّأُ لِمَلَاعِبِ الصِّبْيَانِ إِنْ لَمْ تَلْحَقْ بِالطُّبُولِ الْكِبَارِ، فَهِيَ كَالدُّفِّ، وَلَيْسَتْ كَالْكُوبَةِ بِحَالٍ، وَالضَّرْبُ بِالصَّفَّاقَتَيْنِ حَرَامٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْمُخَنَّثِينَ،

ص: 228

وَتَوَقَّفَ فِيهِ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ الْكُوبَةِ. وَفِي تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ عَلَى الْوَسَائِدِ وَجْهَانِ، قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ بِأَنَّ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامَ، وَالرَّقْصُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، قَالَ الْحَلِيمِيُّ: لَكِنَّ الرَّقْصَ الَّذِي فِيهِ تَثَنٍّ وَتَكَسُّرٌ يُشْبِهُ أَفْعَالَ الْمُخَنَّثِينَ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

فَرْعٌ

إِنْشَاءُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ وَاسْتِمَاعُهُ جَائِزٌ، فَلَوْ هَجَا الشَّاعِرُ فِي شِعْرِهِ وَلَوْ بِمَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلَيْسَ إِثْمُ حَاكِي الْهَجْوِ كَإِثْمِ مُنْشَئِهِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيضُ هَجْوًا كَالتَّصْرِيحِ، وَقَالَ ابْنُ كَجٍّ: لَيْسَ التَّعْرِيضُ هَجْوًا، وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إِذَا كَانَ يَفْحُشُ وَيُشَبِّبُ بِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ يَصِفُ أَعْضَاءً بَاطِنَةً، فَإِنْ شَبَّبَ بِجَارِيَتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ مُعَيَّنَةً، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ مَنْ تَحِلُّ لَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ إِذَا ذَكَرَ جَارِيَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ بِمَا حَقُّهُ الْإِخْفَاءُ، لِسُقُوطِ مُرُوءَتِهِ.

وَلَوْ كَانَ يُشَبِّبُ بِغُلَامٍ، وَيَذْكُرُ أَنَّهُ يَعْشَقُهُ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: يُفَسَّقُ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الذُّكُورِ بِالشَّهْوَةِ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ. وَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ اعْتِبَارُ التَّعْيِينِ فِي الْغُلَامِ كَالْمَرْأَةِ. وَإِنْ كَانَ يَمْدَحُ النَّاسَ وَيُطْرِي، نُظِرَ إِنْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى ضَرْبِ مُبَالَغَةٍ، جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَكَانَ كَذِبًا مَحْضًا، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ أَنَّهُ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِنْ كَثُرَ مِنْهُ.

وَقَالَ الْقَفَّالُ، وَالصَّيْدَلَانِيُّ: لَا يَلْحَقُ بِالْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْكَاذِبَ يُوهِمُ الْكَذِبَ صِدْقًا بِخِلَافِ الشَّاعِرِ، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَهَذَا حَسَنٌ بَالِغٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَلَى قِيَاسِهِ: إِنَّ التَّشْبِيبَ بِالنِّسَاءِ وَالْغِلْمَانِ بِغَيْرِ تَعْيِينٍ لَا يُخِلُّ بِالْعَدَالَةِ وَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ التَّشْبِيبَ صَنْعَةٌ، وَغَرَضُ الشَّاعِرِ تَحْسِينُ الْكَلَامِ لَا تَحْقِيقُ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لَوْ سَمَّى امْرَأَةً لَا يَدْرِي مَنْ هِيَ.

ص: 229

فَرْعٌ

مَا حَكَمْنَا بِإِبَاحَتِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَدْ يَقْتَضِي الْإِكْثَارُ مِنْهُ رَدَّ الشَّهَادَةِ، لِكَوْنِهِ خَارِمًا لِلْمُرُوءَةِ فَمَنْ دَاوَمَ عَلَى اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْمُرُوءَةِ، وَكَذَا مَنْ دَاوَمَ عَلَى الْغِنَاءِ أَوْ سَمَاعِهِ وَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ وَيَأْتُونَهُ، أَوِ اتَّخَذَ جَارِيَةً أَوْ غُلَامًا لِيَتَغَنَّيَا لِلنَّاسِ، وَكَذَا الْمُدَاوَمَةُ عَلَى الرَّقْصِ، وَضَرْبِ الدُّفِّ، وَكَذَا إِنْشَادُ الشِّعْرِ، وَاسْتِنْشَادُهُ إِذَا أَكْثَرَ مِنْهُ، فَتَرَكَ بِهِ مُهِمَّاتِهِ، كَانَ خَارِمًا لِلْمُرُوءَةِ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، قَالَ: وَكَذَا لَوْ كَانَ الشَّاعِرُ يَكْتَسِبُ بِشِعْرِهِ.

وَالْمَرْجِعُ فِي الْمُدَاوَمَةِ وَالْإِكْثَارِ إِلَى الْعَادَةِ، وَيَخْتَلِفُ الْأَمْرُ فِيهِ بِعَادَاتِ النَّوَاحِي وَالْبِلَادِ، وَيُسْتَقْبَحُ مَنْ شَخْصٍ قَدْرٌ لَا يُسْتَقْبَحُ مَنْ غَيْرِهِ، وَلِلْأَمْكِنَةِ فِيهِ أَيْضًا تَأْثِيرٌ، فَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ فِي الْخَلْوَةِ مِرَارًا لَا يَكُونُ كَاللَّعِبِ بِهِ فِي سُوقٍ مَرَّةً عَلَى مَلَإٍ مِنَ النَّاسِ، وَهَلْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: لَمَّا اسْتَمَرَّتِ الْعَادَةُ أَنَّ الشَّاعِرَ يَكْتَسِبُ بِشِعْرِهِ وَعَدَّ صَنْعَةَ الْغَنَاءِ حِرْفَةً وَمَكْسَبًا، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ مِمَّنْ يَلِيقُ بِحَالِهِ، لَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْمُرُوءَةِ؟ وَكَلَامُ الْأَصْحَابِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ مَا ذَكَرْتُهُ فِي الشَّاعِرِ يَكْتَسِبُ بِشِعْرِهِ لِابْنِ الْقَاصِّ.

فَرْعٌ

مَا حَكَمْنَا بِتَحْرِيمِهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، كَالنَّرْدِ وَسَمَاعِ الْأَوْتَارِ، وَلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهَا، هَلْ هُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ فَتُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمَرَّةٍ أَمْ مِنَ الصَّغَائِرِ، فَيُعْتَبَرُ الْمُدَاوَمَةُ وَالْإِكْثَارُ؟ وَجْهَانِ يَمِيلُ كَلَامُ الْإِمَامِ إِلَى أَوَّلِهِمَا، وَالْأَصَحُّ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ، وَزَادَ الْإِمَامُ، فَقَالَ: يُنْظَرُ إِلَى عَادَةِ الْبَلَدِ وَالْقُطْرِ، فَحَيْثُ يَسْتَعْظِمُونَ النَّرْدَ وَسَمَاعَ الْأَوْتَارِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ

ص: 230

الْإِقْدَامَ فِي مِثْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جَسُورِ مُنْحَلٍّ عَنْ رِبْقَةِ الْمُرُوءَةِ، فَتَسْقُطُ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، وَحَيْثُ لَا يَسْتَعْظِمُونَهُ لَا يَكُونُ مُطْلَقُ الْإِقْدَامِ مُشْعِرًا بِتَرْكِ الْمُبَالَاةِ، وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ، وَحِينَئِذٍ يَقَعُ النَّظَرُ فِي أَنَّهُ صَغِيرَةٌ أَمْ كَبِيرَةٌ.

فَرْعٌ

الْخَمْرُ الْعَيْنِيَّةُ لَمْ يَشُبْهَا مَاءٌ وَلَا طُبِخَتْ بِنَارٍ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَنْ شَرِبَهَا عَامِدًا عَالِمًا بِحَالِهَا، حُدَّ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، سَوَاءٌ شَرِبَ قَدْرًا يُسْكِرُهُ أَمْ لَا، قَالَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ: وَكَذَا حُكْمُ بَائِعِهَا وَمُشْتَرِيهَا فِي رَدِّ شَهَادَتِهِمَا، وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِإِمْسَاكِهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ التَّخَلُّلُ أَوِ التَّخْلِيلُ، وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَحْرِيمِهِ، وَسَائِرِ الْأَنْبِذَةِ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهَا الْقَدْرَ الْمُسْكِرَ، حُدَّ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ شَرِبَ قَلِيلًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ كَالْحَنَفِيِّ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ، الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ: يُحَدُّ، وَلَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَالثَّانِي: تُرَدُّ وَيُحَدُّ، وَالثَّالِثُ: لَا تُرَدُّ وَلَا يُحَدُّ، وَاحْتَجَّ الْأَصْحَابُ لِلْأَصَحِّ بِأَنَّ الْحَدَّ إِلَى الْإِمَامِ، فَاعْتُبِرَ اعْتِقَادُهُ، وَالشَّهَادَةُ تَعْتَمِدُ اعْتِقَادَ الشَّاهِدِ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَ جَارِيَةً وَوَطِئَهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يَزْنِي بِهَا، فَبَانَ أَنَّهَا مِلْكَهُ، فُسِّقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ يَعْتَقِدُهَا جَارِيَتَهُ، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَالنَّبِيذُ يَحْتَاجُ إِلَى زَجْرٍ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ لِسُقُوطِ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِ.

وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَعْتَقِدِ التَّحْرِيمَ، وَأَمَّا إِذَا شَرِبَهُ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُحَدُّ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَعَنِ الْقَفَّالِ أَنَّ مَنْ نَكَحَ بِلَا وَلِيٍّ وَوَطِئَ، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إِنِ اعْتَقَدَ الْحِلَّ، وَتُرَدُّ إِنِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَلَكِنْ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ

ص: 231

لَا تُرَدُّ شَهَادَةُ مُسْتَحِلِّ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالْمُفْتِي بِهِ وَالْعَامِلِ بِهِ وَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الْفَيَّاضِ مِثْلَهُ.

قُلْتُ: قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: قَالَ فِي «الْأُمِّ» إِذَا أَخَذَ مِنَ النِّثَارِ فِي الْفَرَحِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُحِلُّ ذَلِكَ، وَأَنَا أَكْرَهُهُ. قَالَ فِي «الْأُمِّ» : وَمَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَحْضُرُ الدَّعْوَةَ بِغَيْرِ دُعَاءٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا يَسْتَحِلُّ صَاحِبُ الطَّعَامِ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ مُحَرَّمًا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ دَعْوَةَ رَجُلٍ مِنَ الرَّعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَةَ سُلْطَانٍ، أَوْ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالسُّلْطَانِ فَهَذَا طَعَامٌ عَامٌّ، فَلَا تَأْثِيرَ بِهِ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ تَكَرُّرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ شُبْهَةٌ حَتَّى يَمْنَعَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ، فَإِذَا تَكَرَّرَ، صَارَ دَنَاءَةً، وَقِلَّةَ مُرُوءَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْمُرُوءَةُ، وَهِيَ التَّوَقِّي عَنِ الْأَدْنَاسِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَا مُرُوءَةَ لَهُ، فَمَنْ تَرَكَ الْمُرُوءَةَ لَبِسَ مَا لَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ بِأَنْ لَبِسَ الْفَقِيهُ الْقَبَاءَ وَالْقَلَنْسُوَةَ وَيَتَرَدَّدُ فِيهِمَا فِي بَلَدٍ لَمْ تَجْرِ عَادَةُ الْفُقَهَاءُ بِلُبْسِهِمَا فِيهِ، أَوْ لَبِسَ التَّاجِرُ ثَوْبَ الْجَمَّالَ، أَوْ تَعَمَّمَ الْجَمَّالُ وَتَطَلَّسَ، وَرَكِبَ بَغْلَةً مُثْمِنَةً، وَطَافَ فِي السُّوقِ، وَاتَّخَذَ نَفْسَهُ ضُحْكَةً، وَمِنْهُ الْمَشْيُ فِي السُّوقِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ وَالْبَدَنِ إِذَا لَمْ يَكُنِ الشَّخْصُ سُوقِيًّا مِمَّنْ يَلِيقُ بِهِ مِثْلُهُ، وَكَذَا مَدُّ الرَّجُلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْأَكْلُ فِي السُّوقِ وَالشُّرْبُ مِنْ سِقَايَاتِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ سُوقِيًّا، أَوْ شَرِبَ لِغَلَبَةِ عَطَشٍ، وَمِنْهُ أَنْ يُقْبِّلَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، أَوْ يَحْكِي مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ، أَوْ يُكْثِرُ مِنَ الْحِكَايَاتِ الْمُضْحِكَةِ، أَوْ يَخْرُجُ عَنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَالْمُعَامِلِينَ، وَيُضَايِقُ فِي الْيَسِيرِ

ص: 232

الَّذِي لَا يُسْتَقْصَى فِيهِ، وَمِنْهُ الْإِكْثَارُ عَلَى اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ وَالْحَمَامِ وَالْغِنَاءُ عَلَى مَا سَبَقَ.

وَمِنْهُ أَنْ يَتَبَذَّلَ الرَّجُلُ الْمُعْتَبَرُ نَفْسَهُ بِنَقْلِ الْمَاءِ وَالْأَطْعِمَةِ إِلَى بَيْتِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ شُحٍّ، فَإِنْ فَعَلَهُ اسْتِكَانَةً، وَاقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ التَّارِكِينَ لِلتَّكَلُّفِ، لَمْ تَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْمُرُوءَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ يَلْبَسُ مَا يَجِدُ وَيَأْكُلُ حَيْثُ يَجِدُ لِتَقَلُّلِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنَ التَّكَلُّفِ الْمُعْتَادِ، وَهَذَا يُعْرَفُ بِتَنَاسُبِ حَالِ الشَّخْصِ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَظُهُورِ مَخَايِلِ الصِّدْقِ فِيمَا يُبْدِيهِ، وَقَدْ يُؤَثِّرُ فِيهِ الزِّيُّ وَاللُّبْسَةُ.

وَفِي قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ كَحَجَّامٍ وَكَنَّاسٍ وَدَبَّاغٍ وَقَيِّمِ حَمَّامٍ وَحَارِسٍ وَنَخَّالٍ وَإِسْكَافٍ وَقَصَّابٍ وَنَحْوِهِمْ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْقَبُولُ، وَفِي الْحَائِكِ الْوَجْهَانِ، وَقِيلَ:(يُقْبَلُ قَطْعًا) وَقِيلَ: يُقْبَلُ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُبَاشَرَةِ نَجَاسَةٍ أَوْ قَذَرٍ كَالْحَائِكِ وَالنَّخَّالِ وَالْحَارِسِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَفِي الصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ طَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: طَرْدُ الْوَجْهَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ الْقَبُولُ قَطْعًا، لَكِنْ مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَمِنْ سَائِرِ الْمُحْتَرِفَةِ كَذِبًا وَخُلْفًا فِي الْوَعْدِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْوَجْهَانِ فِي أَصْحَابِ الْحِرَفِ هُمَا فِيمَنْ يَلِيقُ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ صَنْعَةَ آبَائِهِ، فَأَمَّا غَيْرُهُ، فَتَسْقُطُ مُرُوءَتُهُ بِهَا، وَهَذَا حَسَنٌ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يُقَالَ: الْإِسْكَافُ وَالْقَصَّابُ إِذَا اشْتَغَلَا بِالْكَنْسِ، بَطَلَتْ مُرُوءَتُهُمَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ.

قُلْتُ: لَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ لِهَذَا الْقَيْدِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَيَّدَ بِصَنْعَةِ آبَائِهِ، بَلْ يَنْظُرُ هَلْ يَلِيقُ بِهِ هُوَ أَمْ لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ النَّجَاسَةَ إِنَّمَا يَجْرِي فِيهِمِ الْخِلَافُ إِذَا حَافَظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَاتَّخَذُوا لَهَا ثِيَابًا طَاهِرَةً، وَإِلَّا فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ بِالْفِسْقِ.

فَرْعٌ

مَنْ تَرَكَ السُّنَنَ الرَّاتِبَةَ، وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَحْيَانًا، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَمَنِ اعْتَادَ تَرْكَهَا، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتَهَاوُنِهِ بِالدِّينِ وَإِشْعَارِ

ص: 233

هَذَا بِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِالْمُهِمَّاتِ، وَحَكَى أَبُو الْفَرَجِ فِي غَيْرِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتِيِ الْفَجْرِ وَجْهَانِ أَنَّهُ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِاعْتِيَادِ تَرْكِهَا.

فَرْعٌ

نُصَّ أَنَّ مُسْتَحِلَّ الْأَنْبِذَةِ إِنْ أَدَامَ الْمُنَادَمَةَ عَلَيْهَا، وَالْحُضُورَ مَعَ أَهْلِ السَّفَهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِطَرْحِهِ الْمُرُوءَةَ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الطَّوَّافِينَ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَسَائِرِ السُّؤَالِ إِلَّا أَنْ يُكْثِرَ الْكَذِبَ فِي دَعْوَى الْحَاجَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ، أَوْ يَأْخُذَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، فَيُفَسَّقُ. وَمُقْتَضَى الْوَجْهِ الذَّاهِبِ إِلَى رَدِّ شَهَادَةِ أَصْحَابِ الْحِرَفِ رَدُّ شَهَادَتِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى خِسَّتِهِ.

الشَّرْطُ السَّادِسُ الِانْفِكَاكُ عَنِ التُّهْمَةِ، وَلِلتُّهْمَةِ أَسْبَابٌ، الْأَوَّلُ أَنْ يَجُرَّ بِشَهَادَتِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعَ بِهَا ضُرًّا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَلَا لِمُكَاتَبِهِ بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ، وَلَا شَهَادَةُ الْوَارِثِ لِمُورِثِهِ، وَلَا الْغَرِيمِ لِلْمَيِّتِ، وَالْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِغَرِيمِهِ الْمُوسِرِ، وَكَذَا الْمُعْسِرِ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الضَّامِنِ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ، وَلَا الْإِبْرَاءِ، وَلَا الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، وَلَا الْوَصِيِّ وَالْقَيِّمِ فِي مَحَلِّ تَصَرُّفِهِمَا، وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الدَّارُ بَيْنَنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِالنِّصْفِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِشَرِيكِهِ بِبَيْعِ الشِّقْصِ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي مِنْ شَرِيكِهِ، لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُفْعَةٌ بِأَنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: تُقْبَلُ، وَكَذَا لَوْ عَفَا عَنِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ شَهِدَ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّ زَيْدًا جَرَحَ مُوَرِّثَهُ، لَمْ يُقْبَلْ لِلتُّهْمَةِ. وَلَوْ شَهِدَ بِمَالٍ آخَرَ لِمُوَرِّثِهِ الْمَجْرُوحِ، أَوِ الْمَرِيضِ إِنْ يَشْهَدْ بَعْدَ الِانْدِمَالِ، قُبِلَتْ قَطْعًا، وَكَذَا قَبْلَهُ عَلَى الْأَصَحِّ.

ص: 234

فَرْعٌ

ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ لِأَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادِيِّ رحمه الله أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُودِعِ لِلْمُودَعِ إِذَا نَازَعَهُ فِي الْوَدِيعَةِ أَجْنَبِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَدِيمُ الْيَدَ لِنَفْسِهِ، وَيُقْبَلُ لِلْأَجْنَبِيُّ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْمُرْتَهِنِ لَا يُقْبَلُ لِلرَّاهِنِ، وَيُقْبَلُ لِلْأَجْنَبِيِّ، وَإِنَّ شَهَادَةَ الْغَاصِبِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِالْعَيْنِ لِأَجْنَبِيٍّ لَا تُقْبَلُ لِفِسْقِهِ، وَلِتُهْمَتِهِ بِدَفْعِ الضَّمَانِ، وَمُؤْنَةٍ لِرَدٍّ، فَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ الرَّدِّ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ التَّلَفِ، لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ الضَّمَانَ، وَإِنَّ شَهَادَةَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تُقْبَلُ لِلْأَجْنَبِيِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّ شَهَادَةَ الْمُشْتَرِي شِرَاءً صَحِيحًا بَعْدَ الْإِقَالَةِ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ، لَا تُقْبَلُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَبْقِي لِنَفْسِهِ الْغَلَّاتِ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْمِلْكَ مِنْ تَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْبَيْعِ. وَلَوْ شَهِدَ بَعْدَ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ أَوِ الْمَجْلِسِ، فَوَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، وَتَرْجِعُ الْفَوَائِدُ إِلَى الْبَائِعِ أَمْ حِينَهُ وَلَا يَرْجِعُ.

وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِمَيِّتٍ دَيْنٌ عَلَى شَخْصٍ، فَشَهِدَ أَجْنَبِيَّانِ لِرَجُلٍ بِأَنَّهُ أَخُو الْمَيِّتِ، ثُمَّ شَهِدَ الْغَرِيمَانِ لِآخَرَ بِأَنَّهُ ابْنُهُ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْغَرِيمَيْنِ، لِأَنَّهُمَا يَنْقُلَانِ مَا عَلَيْهِمَا لِلْأَخِ إِلَى الْآخَرِ بِخِلَافَ مَا لَوْ تَقَدَّمَتْ شَهَادَةِ الْغَرِيمَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَارِثِينَ عَلَى مَوْتَ الْمُوَرِّثَ، وَلَا شَهَادَةُ الْمُوصَى لَهُمَا عَلَى الْمُوصِي، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى مَوْتِ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ، لِأَنَّهُمَا لَا يَنْتَفِعَانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى نَقْلِ الْحَقِّ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمُوَرِّثِ، فَكَأَنَّهُ هُوَ، وَلَوْ شَهِدَ شُهُودٌ بِقَتْلِ الْخَطَإِ، فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنَ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ الْقَتْلِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ ضَرَرَ التَّحَمُّلِ.

وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى مُفْلِسٍ بَدَيْنٍ، فَشَهِدَ غُرَمَاؤُهُ الْآخَرُونَ

ص: 235

بِفِسْقِهِمَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْهُ ضَرَرَ الْمُزَاحِمَةِ. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ لِاثْنَيْنِ بِوَصِيَّةٍ مِنْ تَرِكَةٍ، فَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةٍ لِلشَّاهِدَيْنِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ الْأَرْبَعَةُ، لِتُهْمَةِ الْمُوَاطَأَةِ، بِوَصِيَّةٍ لِلشَّاهِدَيْنِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا لَا تُقْبَلُ الْأَرْبَعَةُ، لِتُهْمَةِ الْمُوَاطَأَةِ، وَالصَّحِيحُ قَبُولِ الشَّهَادَتَيْنِ، لِانْفِصَالِ كُلِّ شَهَادَةٍ عَنِ الْأُخْرَى، وَلَا يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ نَفْعًا، وَلِهَذَا قُلْنَا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِ الْقَافِلَةِ لِبَعْضٍ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ إِذَا قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَخَذَ مَالِي فُلَانٌ، وَلَمْ يَقُلْ: أَخَذَ مَالَنَا.

السَّبَبُ الثَّانِي: الْبَعْضِيَّةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَصْلٍ وَلَا فَرْعٍ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاصِّ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهَا تُقْبَلُ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَلَا تُقْبَلُ لِمُكَاتَبِ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ، وَمَا دُونَهُمَا. وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ أَبَاهُمَا قَذَفَ ضُرَّةَ أُمِّهِمَا أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ خَالَعَهَا، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا قَوْلَانِ، الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ: الْقَبُولُ. وَلَوِ ادَّعَتِ الطَّلَاقَ، فَشَهِدَ لَهَا ابْنَاهَا، لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ شَهِدَا حِسْبَةً ابْتِدَاءً، قُبِلَتْ، وَكَذَا فِي الرَّضَاعِ، وَلَوْ شَهِدَ الْأَبُ مَعَ ثَلَاثَةٍ عَلَى زَوْجَةِ ابْنِهِ بِالزِّنَى، فَإِنْ سَبَقَ مِنْ الِابْنِ قَذْفٌ، فَطُولِبَ بِالْحَدِّ، فَحَاوَلَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ لِدَفْعِهِ، لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ لَمْ يَقْذِفْ أَوْ لَمْ يُطَالِبْ بِالْحَدِّ، وَشَهِدَ الْأَبُ حِسْبَةً، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.

فَرْعٌ

فِي يَدِ زَيْدٍ عَبْدٌ ادَّعَى شَخْصٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ عَمْرٍو (بَعْدَمَا اشْتَرَاهُ عَمْرٌو) مِنْ زَيْدٍ صَاحِبِ الْيَدِ وَقَبَضَهُ، وَطَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ فَأَنْكَرَ زَيْدٌ جَمِيعَ ذَلِكَ، فَشَهِدَ ابْنَاهُ لِلْمُدَّعِي بِمَا يَقُولُهُ، فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ، أَحَدُهُمَا: لَا يُقْبَلُ لِتَضَمُّنِهَا إِثْبَاتَ الْمِلْكِ لِأَبِيهِمَا، وَأَظْهَرُهُمَا الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ الْمُدَّعِي وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ.

فَرْعٌ

تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ، وَعَكْسُهُ، سَوَاءٌ شَهِدَ بِمَالٍ أَوْ

ص: 236

عُقُوبَةٍ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْوَالِدِ بِقِصَاصٍ أَوْ حَدِّ قَذْفٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمَنْ شَهِدَ لِوَلَدٍ، أَوْ وَالِدٍ وَأَجْنَبِيٍّ، قُبِلَتْ لِلْأَجْنَبِيِّ فِي الْأَصَحِّ أَوِ الْأَظْهَرِ.

فَرْعٌ

فِي حَبْسِ الْوَالِدَيْنِ بِدَيْنِ الْوَلَدِ أَوْجُهٌ، الْأَصَحُّ الْمَنْعُ، قَالَ الْإِمَامُ: وَإِلَيْهِ صَارَ مُعْظَمُ أَئِمَّتِنَا، وَالثَّالِثُ: يُحْبَسُ فِي نَفَقَةِ وَلَدِهِ، وَلَا يُحْبَسُ فِي دُيُونِهِ، حَكَاهُ الْإِمَامُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَاصِّ، وَقَدْ سَبَقَ الْوَجْهَانِ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ.

فَرْعٌ

تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ قَطْعًا، وَفِي قَوْلٍ: لَا، وَفِي قَوْلِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ لَهَا دُونَ عَكْسِهِ. وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهَا بِزِنًى؛ لِأَنَّهُ دَعْوَى خِيَانَتِهَا فِرَاشَهُ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْعَدَاوَةُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشَّهَادَةُ أَنْ تَبْلُغَ حَدًّا يَتَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَتِهِ، وَيَفْرَحُ لِمُصِيبَتِهِ، وَيَحْزَنُ لِمَسَرَّتِهِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدُهُمَا، فَيُخَصُّ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى الْآخَرِ. وَإِنْ أَفْضَتِ الشَّهَادَةُ إِلَى ارْتِكَابِ مَا يُفَسَّقُ بِهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَوْ عَادَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَبَالَغَ فِي خُصُومَتِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ، وَسَكَتَ عَنْهُ، ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّا لَوْ لَمْ نَقْبَلْهَا لَاتَّخَذَ الْخُصُومُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الشَّهَادَةِ. هَكَذَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ، وَذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ فِي كِتَابِ اللِّعَانِ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَقْذُوفِ عَلَى قَاذِفِهِ قَبْلَ طَلَبِ

ص: 237

الْحَدِّ مَقْبُولَةٌ، وَبَعْدَهُ لَا تُقْبَلُ، لِظُهُورِ الْعَدَاوَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بَعْدَ الطَّلَبِ، ثُمَّ عَفَا وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، لَمْ تُقْبَلْ كَالْفَاسِقِ إِذَا شَهِدَ، ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ، وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ قَبْلَ الطَّلَبِ، ثُمَّ طَلَبَ قَبْلَ الْحُكْمِ، لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِ، كَمَا لَوْ فُسِّقَ الشَّاهِدُ قَبْلَ الْحُكْمِ، لَكِنْ فِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله صَوَّرَ الْعَدَاوَةَ الْمُوجِبَةَ لِلرَّدِّ فِيمَا إِذَا قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا، أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَيُقَالُ: يَصِيرَانِ عَدُوَّيْنِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَاكْتَفَى بِالْقَذْفِ دَلِيلًا عَلَى الْعَدَاوَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِطَلَبِ الْحَدِّ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: لَعَلَّ الْقَفَّالَ أَرَادَ غَيْرَ صُورَةِ الْقَذْفِ، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ الْحُكْمُ غَيْرُ مَنُوطٍ بِأَنْ يَطْلُبَ الْمَقْذُوفُ الْحَدَّ، بَلْ بِأَنْ يُظْهِرَ الْعَدَاوَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ، فَقَذَفَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ.

فَرْعٌ

الْعَدَاوَاتُ الدِّينِيَّةُ لَا تُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ، بَلْ يُقْبَلُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَالسُّنِّيِّ عَلَى الْمُبْتَدِعِ، وَكَذَا مَنْ أَبْغَضَ الْفَاسِقَ لِفِسْقِهِ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ عَالَمٌ نَاقِدٌ: لَا تَسْمَعُوا الْحَدِيثَ مِنْ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ مُخَلِّطٌ، أَوْ لَا تَسْتَفْتُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْفَتْوَى، لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَصِيحَةٌ لِلنَّاسِ، نَصَّ عَلَيْهِ.

فَرْعٌ

تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ إِذْ لَا تُهْمَةَ.

فَرْعٌ

الْعَصَبِيَّةُ أَنْ يُبْغِضَ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا

ص: 238

دُعَاءُ النَّاسِ، وَتَآلُفُهُمْ لِلْإِضْرَارِ بِهِ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِ، اقْتَضَى رَدَّ شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ، وَمُجَرَّدُ هَذَا لَا يَقْتَضِيهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ وَعِتْرَتَهُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ، وَشَهَادَتُهُمْ لَهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِصَدِيقِهِ وَأَخِيهِ وَإِنْ كَانَ يَصِلُهُ وَيَبَرُّهُ.

فَرْعٌ

فِي شَهَادَةِ الْمُبْتَدَعِ. جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، لَكِنِ اشْتَهَرَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه تَكْفِيرُ الَّذِينَ يَنْفُونَ عِلْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالْمَعْدُومِ، وَيَقُولُونَ: مَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ حَتَّى يَخْلُقَهَا، وَنَقَلَ الْعِرَاقِيُّونَ عَنْهُ تَكْفِيرَ النَّاهِينَ لِلرُّؤْيَةِ وَالْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَتَأَوَّلَهُ الْإِمَامُ، فَقَالَ: ظَنِّي أَنَّهُ نَاظَرَ بَعْضَهُمْ، فَأَلْزَمَهُ الْكُفْرَ فِي الْحِجَاجِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ كَفَّرَهُمْ.

قُلْتُ: أَمَّا تَكْفِيرُ مُنْكِرِي الْعِلْمِ بِالْمَعْدُومِ أَوْ بِالْجُزْئِيَّاتِ، فَلَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَنْ نَفَى الرُّؤْيَةَ أَوْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَالْمُخْتَارُ تَأْوِيلُهُ، وَسَنَنْقُلُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ مَا يُؤَيِّدُهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ حَسَنٌ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الْأُصُولِيُّ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ رضي الله عنه وَآخَرُونَ تَأْوِيلَاتٍ مُتَعَارِضَةً، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْكُفْرِ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْمِلَّةِ، وَتَحَتُّمَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ. وَهَكَذَا تَأَوَّلُوا مَا جَاءَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يُلْحِقُوهُمْ بِالْكُفَّارِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَنْكِحَةِ، وَوُجُوبِ قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ مَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُكَفِّرُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي «الْأُمِّ» وَ «الْمُخْتَصَرِ» عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ وَهُمْ قَوْمٌ يَرَوْنَ جَوَازَ

ص: 239

شَهَادَةِ أَحَدِهِمْ لِصَاحِبِهِ إِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ: لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا، فَيُصَدِّقُهُ بِيَمِينٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَشْهَدُ لَهُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ هَذَا نَصُّهُ. وَلِلْأَصْحَابِ فِيهِ ثَلَاثُ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ جَرَتْ عَلَى ظَاهِرِ نَصِّهِ، وَقُبِلَتْ شَهَادَةُ جَمِيعِهِمْ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْقَاصِّ، وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْقُضَاةُ ابْنُ كَجٍّ، وَأَبُو الطَّيِّبِ، وَالرُّويَانِيُّ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُمْ مُصِيبُونَ فِي زَعْمِهِمْ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ مَا يُسْقِطُ الثِّقَةَ بِقَوْلِهِمْ، وَقَبِلَ هَؤُلَاءِ شَهَادَةَ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ وَالسَّلَفَ رضي الله عنهم؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ عَنِ اعْتِقَادٍ لَا عَنْ عَدَاوَةٍ وَعِنَادٍ، قَالُوا: وَلَوْ شَهِدَ خَطَّابِيٌ وَذَكَرَ فِي شَهَادَتِهِ مَا يَقْطَعُ احْتِمَالَ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْمُدَّعِي بِأَنْ قَالَ: سَمِعْتُ فُلَانًا يُقِرُّ بِكَذَا لِفُلَانٍ، أَوْ رَأَيْتُهُ أَقْرَضَهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.

وَفُرْقَةٌ مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ حَمَلُوا النَّصَّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ فِي الْفُرُوعِ، وَرَدُّوا شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كُلِّهِمْ، وَقَالُوا: هُمْ بِالرَّدِّ أَوْلَى مِنَ الْفَسَقَةِ. وَفِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ تَوَسَّطُوا، فَرَدُّوا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَنْ أَنْكَرَ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ، وَمِنْ فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَرَدَّ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ شَهَادَةَ الَّذِينَ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ، وَيَقْذِفُونَ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَإِنَّهَا مُحْصَنَةٌ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، وَهُوَ حَسَنٌ. وَفِي «الرَّقْمِ» أَنَّ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ مَرْدُودَةٌ لِتَكْفِيرِهِمْ أَهْلَ الْقِبْلَةِ.

قُلْتُ: الصَّوَابُ مَا قَالَتْهُ الْفِرْقَةُ الْأُولَى وَهُوَ قَبُولُ شَهَادَةِ الْجَمِيعِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي «الْأُمِّ» : ذَهَبَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ إِلَى أُمُورٍ تَبَايَنُوا فِيهَا تَبَايُنًا شَدِيدًا، وَاسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ

ص: 240

مِنْ بَعْضِ مَا تَطُولُ حِكَايَتُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَقَادِمًا، مِنْهُ مَا كَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ إِلَى الْيَوْمَ، فَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا مِنْ بَعْدِهِمْ (مِنَ) التَّابِعِينَ رَدَّ شَهَادَةَ أَحَدٍ بِتَأْوِيلٍ، وَإِنْ خَطَّأَهُ وَضَلَّلَهُ، وَرَآهُ اسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ، فَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ أَحَدٍ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأْوِيلِ كَانَ لَهُ وَجْهٌ يَحْتَمِلُهُ، وَإِنْ بَلَغَ فِيهِ اسْتِحْلَالَ الْمَالِ وَالدَّمِ. هَذَا نَصُّهُ بِحُرُوفِهِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبَيَانُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَأْوِيلِ تَكْفِيرِ الْقَائِلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ قَاذِفَ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَافِرٌ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَلَنَا وَجْهٌ (أَنَّ) الْخَطَّابِيَّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ بَيَّنَ مَا يَقْطَعُ، لِاحْتِمَالِ اعْتِمَادِهِ، وَقَوْلِ صَاحِبِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

السَّبَبُ الرَّابِعُ: الْغَفْلَةُ، وَكَثْرَةُ الْغَلَطِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُغَفَّلِ الَّذِي لَا يَحْفَظُ، وَلَا يَضْبِطُ، فَإِنْ شَهِدَ مُفَسِّرًا، وَبَيَّنَ وَقْتَ التَّحَمُّلِ وَمَكَانَهُ، فَزَالَتِ الرِّيبَةُ عَنْ شَهَادَتِهِ، قُبِلَتْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ كَثُرَ غَلَطُهُ وَنِسْيَانُهُ، وَأَمَّا الْغَلَطُ الْيَسِيرُ، فَلَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ قَالَ الْإِمَامُ: وَمُعْظَمُ شَهَادَاتِ الْعَوَامِّ يَشُوبُهَا جَهْلٌ وَغِرَّةٌ، فَيَحُوجُ إِلَى الِاسْتِفْصَالِ كَمَا سَبَقَ فِي آدَابِ الْقَضَاءِ.

السَّبَبُ الْخَامِسُ: أَنْ يَدْفَعَ بِالشَّهَادَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَارَ الْكَذِبِ، فَإِنْ شَهِدَ فَاسِقٌ، وَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ، ثُمَّ تَابَ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ، فَشَهَادَتُهُ الْمُسْتَأْنَفَةُ مَقْبُولَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ أَعَادَ تِلْكَ الشَّهَادَةَ الَّتِي رُدَّتْ، لَمْ تُقْبَلْ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: تُقْبَلُ.

وَلَوْ شَهِدَ كَافِرٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ كَمُلَ فَأَعَادَهَا، قُبِلَتْ، لِعَدَمِ تُهْمَتِهِمْ بِدَفْعِ الْعَارِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ، فَإِنْ كَانَ يُخْفِي فِسْقَهُ، وَالرَّدُّ يُظْهِرُهُ، فَيَسْعَى فِي دَفْعِ الْعَارِ بِإِعَادَةِ الشَّهَادَةِ، فَلَوْ كَانَ مُعْلَنًا بِفِسْقِهِ حِينَ شَهِدَ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ

ص: 241

الْمُعَادَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ: لَا يُقْبَلُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الْوَجْهَانِ إِذَا أَصْغَى الْقَاضِي إِلَى شَهَادَتِهِ مَعَ ظُهُورِ فِسْقِهِ، ثُمَّ رَدَّهَا. وَفِي الْإِصْغَاءِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا - وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْإِمَامُ -: لَا يُصْغِي، كَشَهَادَةِ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ.

وَلَوْ كَانَ الْكَافِرُ يَسْتَتِرُ بِكُفْرِهِ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَأَعَادَهَا، لَمْ تُقْبَلْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِعَدَاوَةٍ، فَزَالَتْ، وَأَعَادَهَا، لَمْ تُقْبَلْ عَلَى الْأَصَحِّ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ شَهِدَ لِمُكَاتَبِهِ بِمَالٍ، أَوْ لِعَبْدِهِ بِنِكَاحٍ، فَرُدَّتْ فَأَعَادَهَا بَعْدَ عِتْقِهِمَا، وَأَجَابَ ابْنُ الْقَاصِّ هُنَا بِالْقَبُولِ، وَيَجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ مِنَ الشُّفَعَاءِ بِعَفْوِ شَفِيعٍ ثَالِثٍ قَبْلَ عَفْوِهِمَا، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا، ثُمَّ عَفَوَا، وَأَعَادَاهَا، وَفِيمَا شَهِدَ اثْنَانِ لِمُورِّثِهِمَا بِجِرَاحَةٍ غَيْرِ مُنْدَمِلَةٍ، فَرُدَّتْ، ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ الِانْدِمَالِ، وَلَوْ شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَصْلٍ، فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقِ الْأَصْلِ، فَقَدْ صَارَتْ شَهَادَةً مَرْدُودَةً. فَلَوْ تَابَ، وَشَهِدَ بِنَفْسِهِ، وَأَعَادَ الْفَرْعَانِ شَهَادَتَهُمَا عَلَى شَهَادَتِهِ، أَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ فَرْعَانِ آخَرَانِ، لَمْ تُقْبَلْ، وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفَرْعَيْنِ، لِفِسْقِهِمَا، لَمْ تَتَأَثَّرْ بِهِ شَهَادَةُ الْأَصْلِ.

السَّبَبُ السَّادِسُ: الْحِرْصُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمُبَادَرَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْحُقُوقَ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَا تَجُوزُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَضَرْبٌ يَجُوزُ، وَتُسَمَّى الشَّهَادَةُ عَلَى هَذَا الثَّانِي عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَرَةِ شَهَادَةَ حِسْبَةٍ، فَحَيْثُ لَا يَجُوزُ، فَالْمُبَادِرُ مُتَّهَمٌ، فَلَا تُقْبِلُ شَهَادَتَهُ، وَالْمُبَادَرَةُ أَنْ يَشْهَدَ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى، فَإِنْ شَهِدَ بَعْدَ دَعْوَى قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ لِلتُّهْمَةِ، وَإِذَا رَدَدْنَاهَا، فَفِي مَصِيرِهِ مَجْرُوحًا وَجْهَانِ، الْأَصَحُّ لَا، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَاصِمٍ، وَظَاهِرُ هَذَا كَوْنُ الْخِلَافِ فِي سُقُوطِ عَدَالَتِهِ مُطْلَقًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ، قَالَ: الْوَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُبَادَرَةَ مِنَ الصَّغَائِرِ، أَمْ مِنَ الْكَبَائِرِ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ

ص: 242

يُفْهِمُ كَلَامُهُ اخْتِصَاصَ الْخِلَافِ بِرَدِّ تِلْكَ الشَّهَادَةِ وَحْدَهَا إِذَا أَعَادَهَا، فَقَدْ قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَإِذَا قُلْنَا: يَصِيرُ مَجْرُوحًا لَا يُشْتَرَطُ اسْتِبْرَاءُ حَالِهِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ أُخْرَى تُقْبَلُ، فَأَشْعَرَ كَلَامُهُ بِاخْتِصَارِ الْخِلَافِ.

فَرْعٌ

تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنِ احْتَبَى وَجَلَسَ فِي زَاوِيَةٍ مُحْتَبِيًا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَلَا تُحْمَلُ عَلَى الْحِرْصِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ قَوْلًا قَدِيمًا أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ، وَهُوَ شَاذٌّ، قَالَ: وَعَلَى الْمَشْهُورِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْبِرَ الْخَصْمُ أَنِّي شَهِدْتُ عَلَيْكَ لِئَلَّا يُبَادِرَ إِلَى تَكْذِيبِهِ، فَيُعَزِّرَهُ الْقَاضِي. وَلَوْ قَالَ رَجُلَانِ لِثَالِثٍ: تَوَسَّطْ بَيْنَنَا لِنَتَحَاسَبَ وَنَتَصَادَقَ، فَلَا تَشْهَدْ عَلَيْنَا بِمَا يَجْرِي، فَهَذَا شَرْطٌ بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ.

الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، وَهُوَ مَا تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى -، أَوْ كَانَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لَا يَتَأَثَّرُ بِرِضَى الْآدَمِيِّ، فَمِنْهُ الطَّلَاقُ، وَأَمَّا الْخُلْعُ، فَأَطْلَقَ الْبَغَوِيُّ الْمَنْعَ فِيهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ: يُقْبَلُ فِي الْفُرَاقِ دُونَ الْمَالِ، قَالَ: وَلَا أُبْعِدُ ثُبُوتَهُ تَبَعًا، وَلَا إِثْبَاتَ الْفِرَاقِ دُونَ الْبَيْنُونَةِ، وَمِنْهُ الْعِتْقُ وَالِاسْتِيلَادُ دُونَ التَّدْبِيرِ، وَيُقْبَلُ فِي الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنْ أَدَّى النَّجْمَ الْأَخِيرَ، شَهِدَ بِالْعِتْقِ.

وَفِي شِرَاءِ الْقَرِيبِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَأَصَحُّهُمَا: لَا، لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْمِلْكِ. وَمِنْهُ الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ، وَالصَّحِيحُ قَبُولُهَا فِيهِ، وَمِنْهُ الْوَصِيَّةُ وَالْوَقْفُ إِذَا كَانَا لِجِهَةٍ عَامَّةٍ، فَإِنْ كَانَ لِجِهَةٍ خَاصَّةٍ، فَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ، وَنَقَلَهُ الْإِمَامُ عَنِ الْجُمْهُورِ لِتَعَلُّقِهِ بِحُظُوظٍ خَاصَّةٍ، وَمِنْهُ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ وَفِي النَّسَبِ وَجْهٌ، وَمِنْهُ بَقَاءُ الْعِدَّةِ وَانْقِضَاؤُهَا، وَتَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَا الزَّكَوَاتُ وَالْكَفَّارَاتُ،

ص: 243

وَالْبُلُوغُ وَالْإِسْلَامُ، وَالْكُفْرُ وَالْحُدُودُ الَّتِي هِيَ حُقُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزِّنَى، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَكَذَا السَّرِقَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ فِي الْحُدُودِ السَّتْرُ. وَمِنْهُ الْإِحْصَانُ وَالتَّعْدِيلُ. وَأَمَّا مَا هُوَ حَقٌّ آدَمِيٌّ، كَالْقِصَاصِ، وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْبُيُوعِ، وَالْأَقَارِيرِ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ، أَخْبَرَهُ الشَّاهِدُ حَتَّى يَدَّعِيَ وَيَسْتَشْهِدَهُ فَلْيَشْهَدْ، وَقِيلَ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ فِي الدِّمَاءِ خَاصَّةً، وَقِيلَ: تُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ أَيْضًا، وَقِيلَ: تُقْبَلُ إِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَحِقُّ بِالْحَقِّ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا.

فَرْعٌ

مَا قُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ هَلْ يُسْمَعُ فِيهِ دَعْوَى الْحِسْبَةِ؟ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْقَفَّالُ فِي الْفَتَاوَى؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ غَنِيَّةٌ عَنِ الدَّعْوَى. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: تُسْمَعُ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ لَا تُسَاعِدُ، وَقَدْ يُرَادُ اسْتِخْرَاجُ الْحَقِّ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.

فَرْعٌ

شُهُودُ الْحِسْبَةِ يَجِيئُونَ إِلَى الْقَاضِي، وَيَقُولُونَ: نَشْهَدُ عَلَى فُلَانٍ بِكَذَا، فَأَحْضِرْهُ لِنَشْهَدَ عَلَيْهِ، فَإِنِ ابْتَدَءُوا، وَقَالُوا: فُلَانٌ زَنَى فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَفِي الْفَتَاوَى: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ رَجُلَانِ، وَشَهِدَا بِأَنَّ فُلَانًا أَخُو فُلَانَةٍ مِنَ الرَّضَاعِ، لَمْ يَكْفِ حَتَّى يَقُولَا: وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنْكِحَهَا، وَأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِطَلَاقٍ، وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرَانِ يَشْهَدَانِ بِأُخُوَّةٍ بَيْنَ الْمُتَنَاكِحِينَ، لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، إِذْ لَا فَائِدَةَ لَهَا فِي الْحَالِ، وَلَا بِكَوْنِهِمَا قَدْ يَتَنَاكَحَانِ بَعْدُ، وَأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ إِنَّمَا

ص: 244