المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ. وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ١١

[النووي]

الفصل: الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ. وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ

الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ. وَأَطْلَقَ بَعْضُهُمُ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَنْعِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْمُفْتِي لِيَكْتُبَ الْفَتْوَى.

الْأَدَبُ السَّادِسُ: يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي الْمُشَاوَرَةُ وَإِنَّمَا يُشَاوِرُ الْعُلَمَاءَ الْأُمَنَاءَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ أَصْحَابَ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ لِيَذْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ دَلِيلَهُ فَيَتَأَمَّلُهَا الْقَاضِي وَيَأْخُذُ بِأَرْجَحِهَا عِنْدَهُ، ثُمَّ الَّذِينَ يُشَاوِرُهُمْ إِنْ شَاءَ أَقْعَدَهُمْ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَقْعَدَهُمْ نَاحِيَةً، فَإِذَا احْتَاجَ اسْتَدْعَاهُمْ.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ الْمُشَاوَرَةُ تَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ وُجُوهِ النَّظَرِ، وَتَعَارُضِ الْآرَاءِ، فَأَمَّا الْحُكْمُ الْمَعْلُومُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعِ [أَوْ] قِيَاسٍ جَلِيٍّ، فَلَا مُشَاوَرَةَ فِيهِ وَإِذَا حَضَرَ الْمُسْتَشَارُونَ، فَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ مَا عِنْدَهُمْ إِذَا سَأَلَهُمْ وَلَا يَبْتَدِئُونَ بِالِاعْتِرَاضِ وَالرَّدِّ عَلَى حُكْمِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ حُكْمًا يَجِبُ نَقْضُهُ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْجُمْهُورُ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُمْ بِانْتِظَارِهِ أَوْلَى كَمَا فِي الصَّلَاةِ.

[الْأَدَبُ] السَّابِعُ: يُكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَوَلَّى الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ، بَلْ يُوَكِّلُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، فَإِنْ عَرَفُوهُ بِوِكَالَتِهِ أَبْدَلَهُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَكِّلُهُ، عَقَدَ بِنَفْسِهِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنْ وَقَعَتْ خُصُومَةٌ لِمُعَامَلَةٍ، أَنَابَ مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَمِيلَ إِلَيْهِ، وَلَا يَخْتَصَّ هَذَا الْحُكْمُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ يَعُمُّ الْإِجَارَةَ وَسَائِرَ الْمُعَامَلَاتِ، بَلْ نُصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَلَا أَمْرِ ضَيْعَتِهِ، وَيَكِلُ إِلَى غَيْرِهِ لِيَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ.

‌فَصْلٌ

يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي الرِّشْوَةُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضٍ مِنَ الْخُصُومِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ:

ص: 142

لَوْ قَالَ لِلْخَصْمَيْنِ: لَا أَقْضِي بَيْنَكُمَا حَتَّى تَجْعَلَا لِي رِزْقًا، جَازَ، وَمِثْلُهُ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا نَحْوَ مَا نَقَلَ الْهَرَوِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رِزْقٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَصْمِ أُجْرَةً مِثْلَ عَمَلِهِ، وَإِنْ تَعَيَّنَ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ وَجَوَّزَهُ صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» وَأَمَا بَاذِلُ الرِّشْوَةِ، فَإِنْ بَذَلَهَا لِيَحْكُمَ لَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، [أَوْ يَتْرُكَ الْحُكْمَ بِحَقٍّ] حَرُمَ عَلَيْهِ الْبَذْلُ، وَإِنْ كَانَ لِيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ، فَلَا يَحْرُمُ كَفِدَاءِ الْأَسِيرِ.

قُلْتُ: وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمُرْتَشِي وَالرَّاشِي، فَلَهُ حُكْمُ مُوَكِّلِهِ مِنْهُمَا، فَإِنْ وَكَّلَا، حَرُمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْآخِذِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ فَالْأَوْلَى أَنْ يَسُدَّ بَابَهَا وَلَا يَقْبَلَهَا، ثُمَّ إِنَّ كَانَ لِلْمُهْدِي خُصُومَةٌ فِي الْحَالِ، حَرُمَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَهَدِيَّتُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، كَهَدِيَّةِ مَنْ عَادَتُهُ أَنْ يُهْدَى [لَهُ] قَبْلَ الْوِلَايَةِ لِقَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ وَلَا يَحْرُمُ قَبُولُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي تَحْرِيمِهَا وَجْهًا وَهُوَ [مُقْتَضَى] إِطْلَاقِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْهَدِيَّةِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، فَإِنْ زَادَ الْمُهْدِي عَلَى الْقَدْرِ الْمَعْهُودِ، صَارَتْ هَدِيَّتُهُ كَهَدِيَّةِ مَنْ لَمْ يُعْهَدْ مِنْهُ الْهَدِيَّةُ، وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِأَنَّ الْقَبُولَ لَيْسَ بِحَرَامٍ، فَلَهُ الْأَخْذُ وَالتَّمَلُّكُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهَا أَوْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَحَيْثُ قُلْنَا بِالتَّحْرِيمِ، فَقَبِلَهَا، لَمْ يُمَلَّكْهَا عَلَى الْأَصَحِّ، فَعَلَى هَذَا لَوْ أَخَذَهَا، قِيلَ: يَضَعُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، جَعَلَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.

ص: 143

فَرْعٌ

قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّشْوَةَ حَرَامٌ مُطْلَقًا، وَالْهَدِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَيُطْلَبُ الْفَرْقُ بَيْنَ حَقِيقَتَيْهِمَا مَعَ أَنَّ الْبَاذِلَ رَاضٍ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ: أَنَّ الرِّشْوَةَ هِيَ الَّتِي يُشْرَطُ عَلَى قَابِلِهَا الْحُكْمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْحُكْمِ بِحَقٍّ، وَالْهَدِيَّةُ: هِيَ الْعَطِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ.

وَالثَّانِي قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْإِحْيَاءِ» : الْمَالُ إِمَّا يُبْذَلُ لِغَرَضٍ آجِلٍ فَهُوَ قُرْبَةٌ وَصَدَقَةٌ، وَإِمَّا لِعَاجِلٍ، وَهُوَ إِمَّا مَالٌ، فَهُوَ هِبَةٌ بِشَرْطِ ثَوَابٍ، أَوْ لِتَوَقُّعِ ثَوَابٍ، وَإِمَّا عَمَلٌ، فَإِنْ كَانَ عَمَلًا مُحَرَّمًا، أَوْ وَاجِبًا مُتَعَيَّنًا، فَهُوَ رِشْوَةٌ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَإِجَارَةٌ أَوْ جَعَالَةٌ، وَإِمَّا لِلتَّقَرُّبِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَى الْمَبْذُولِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ بِمُجَرَّدِ نَفْسِهِ، فَهَدِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ لِيَتَوَسَّلَ بِجَاهِهِ إِلَى أَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ، فَإِنْ كَانَ جَاهُهُ بِالْعِلْمِ أَوِ النَّسَبِ، فَهُوَ هَدِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ بِالْقَضَاءِ وَالْعَمَلِ، فَهُوَ رِشْوَةٌ.

[الْأَدَبُ] الثَّامِنُ: فِي تَأْدِيبِهِ الْمُسِيئِينَ عَمَّنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِي مَجْلِسِهِ مِنَ الْخُصُومِ بِأَنْ صَرَّحَ بِتَكْذِيبِ الشُّهُودِ، أَوْ ظَهَرَ مِنْهُ مَعَ خَصْمِهِ لَدَدٌ، أَوْ مُجَاوَزَةُ حَدٍّ، زَجَرَهُ وَنَهَاهُ، فَإِنْ عَادَ، هَدَّدَهُ وَصَاحَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ، عَزَّرَهُ بِمَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ تَوْبِيخٍ وَإِغْلَاظِ الْقَوْلِ، أَوْ ضَرْبٍ وَحَبْسٍ، وَلَا يَحْبِسُهُ بِمُجَرَّدِ ظُهُورِ اللَّدَدِ، وَعَنِ الْإِصْطَخْرِيِّ أَنَّهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَفِي «يَتِيمَةِ الْيَتِيمَةِ» أَنَّهُ إِنَّمَا يَضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ دُونَ السِّيَاطِ إِذِ الضَّرْبُ بِالسِّيَاطِ مِنْ شَأْنِهِ الْحُدُودُ. وَهَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَلِ الضَّرْبُ بِالسِّيَاطِ جَائِزٌ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي تَعْزِيرِ الْقَاضِي شَاهِدَ الزُّورِ حَيْثُ قَالَ: عَزَّرَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا.

وَمِثَالُ اللَّدَدِ أَنْ تَتَوَجَّهَ الْيَمِينُ عَلَى الْخَصْمِ، فَيَطْلُبُ يَمِينَهُ، ثُمَّ يَقْطَعُهَا عَلَيْهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، ثُمَّ يُحْضِرُهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَيَفْعَلُ كَذَلِكَ، وَكَذَا

ص: 144

لَوْ أَحْضَرَ رَجُلًا، وَادَّعَى عَلَيْهِ وَقَالَ: لِي بَيِّنَةٌ وَسَأُحْضِرُهَا، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَانِيًا وَثَالِثًا إِيذَاءً وَتَعَنُّتًا. وَلَوِ اجْتَرَأَ خَصْمٌ عَلَى الْقَاضِي وَقَالَ: أَنْتَ تَجُورُ أَوْ تَمِيلُ، أَوْ ظَالِمٌ، جَازَ أَنْ يُعَزِّرَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ، وَالْعَفْوُ أَوْلَى إِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى ضَعْفِهِ، وَالتَّعْزِيرُ أَوْلَى إِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ.

فَرْعٌ

شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ، عَزَّرَهُ الْقَاضِي بِمَا يَرَاهُ مِنْ تَوْبِيخٍ وَضَرْبٍ وَحَبْسٍ، وَشَهَّرَ حَالَهُ، وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِ فِي سُوقِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ، أَوْ قَبِيلَتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ قَبِيلَةٌ، أَوْ مَسْجِدِهِ تَحْذِيرًا لِلنَّاسِ مِنْهُ، وَتَأْكِيدًا لِأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ بِإِقْرَارِ الشَّاهِدِ إِنْ تَيَقَّنَ الْقَاضِي، بِأَنْ شَهِدَ أَنَّ فَلَانًا زِنَى بِالْكُوفَةِ يَوْمَ كَذَا، وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ بِبَغْدَادَ.

هَكَذَا أَطْلَقَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ [هَلْ] يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ، وَلَا يَكْفِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِأَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ، فَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ بَيِّنَةَ زُورٍ.

[الْأَدَبُ] التَّاسِعُ: لَا يُنَفَّذُ قَضَاءُ الْقَاضِي لِنَفْسِهِ، وَلَا لِمَمْلُوكِهِ الْقِنِّ وَغَيْرِ الْقِنِّ، وَلَا لِشَرِيكِهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ شِرْكٌ، وَلَا لِشَرِيكِ مَكَاتِبِهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ شِرْكٌ، وَلَا يَقْضِي لِأَحَدٍ مِنْ أُصُولِهِ وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا فُرُوعِهِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَلَا لِمَمْلُوكِ أَحَدِهِمْ، وَلَا لِشَرِيكِهِ، فَإِنْ فَعَلَ، لَمْ يُنَفَّذْ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ لَهُمْ بِعِلْمِهِ، لَمْ يُنَفَّذْ قَطْعًا، وَإِنْ جَوَّزْنَا قَضَاءَهُ بِعِلْمِهِ لِلْأَجَانِبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، كَمَا يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَفَصَّلَ الْبَغَوِيُّ الْحُكْمَ لِلْوَلَدِ وَعَلَيْهِ، فَقَالَ: لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ ابْنَهُ عَلَى نَفْيِ مَا يُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ لِلْخُصُومَةِ لَا حُكْمَ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي

ص: 145

عَلَى ابْنِهِ، وَلَا يَسْمَعَ بَيِّنَةَ الدَّفْعِ مِنَ ابْنِهِ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِشَهَادَةِ ابْنِهِ؟ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَعْدِيلَهُ، فَإِنْ عَدَّلَهُ شَاهِدَانِ، فَالْمُتَّجِهُ أَنَّهُ يَقْضِي، وَلَوْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِ أَبُوهُ وَابْنُهُ، هَلْ لَهُ الْحُكْمُ لِأَحَدِهِمَا؟ وَجْهَانِ فِي «الْمُهَذَّبِ» أَصَحُّهُمَا: لَا، وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيُّ. وَمَتَى وَقَعَتْ لَهُ خُصُومَةٌ، أَوْ لِأَحَدِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُمْنَعُ حُكْمُهُ لَهُمْ، قَضَى فِيهَا الْإِمَامُ، أَوْ قَاضِي بَلْدَةٍ أُخْرَى، أَوْ نَائِبِهِ، وَفِي النَّائِبِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ.

قُلْتُ: قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَلِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ، لِأَنَّهُمَا كَنَفْسِهِ. قَالَ: وَلَوْ جَعَلَ الْإِمَامُ إِلَى رَجُلٍ أَنْ يَخْتَارَ قَاضِيًا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَارَ وَالِدَهُ وَلَا وَلَدَهُ، كَمَا لَا يَخْتَارُ نَفْسَهُ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي مَسَائِلِ التَّزْكِيَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَزْكِيَةُ وَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ

لَا يَقْضِي عَلَى عَدُوِّهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَجَوَّزَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْأَحْكَامُ السُّلْطَانِيَّةُ» لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُكْمِ ظَاهِرَةٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ.

فَرْعٌ

تَوَلَّى وَصِيُّ الْيَتِيمِ الْقَضَاءَ هَلْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَحْكُمَ لَهُ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، وَبِهِ قَالَ الْقَفَّالُ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْحَدَّادِ.

[الْأَدَبُ] الْعَاشِرُ: فِيمَا يُنْقَضُ مِنْ قَضَائِهِ وَقَضَاءِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِقَوَاعِدَ، إِحْدَاهَا الْأُصُولُ الَّتِي يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي، وَيُفْتِي بِهَا الْمُفْتِي كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَقَدْ يُقْتَصَرُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُقَالُ: الْإِجْالمَاعُ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَالْقِيَاسُ يُرَدُّ إِلَى أَحَدِهِمَا.

وَأَمَّا قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِيهِمْ، فَقَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالْجَدِيدُ

ص: 146

لَيْسَ بِحُجَّةٍ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَفَّالُ الْقَوْلَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ قِيَاسٌ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ وَلَوْ ضَعِيفٌ احْتُجَّ بِهِ قَطْعًا، وَرُجِّحَ عَلَى الْقِيَاسِ الْقَوِيِّ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ فِي الْجَمِيعِ الْقَوْلَانِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، وَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ، وَتَرْكُ الْقِيَاسِ، وَفِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَهُوَ كَقَوْلِ آحَادِ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنْ لَوْ تَعَارَضَ قِيَاسَانِ أَحَدُهُمَا وَافَقَ قَوْلَ صَحَابِيٍّ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: قَدْ تَمِيلُ نَفْسُ الْمُجْتَهِدِ إِلَى الْمُوَافِقِ وَيُرَجَّحُ عِنْدَهُ.

قُلْتُ: قَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي «اللُّمَعِ» وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ بِالْجَزْمِ بِالْأَخْذِ بِالْمُوَافِقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِنِ انْتَشَرَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يُخَالِفَهُ غَيْرُهُ، فَعَلَى الْجَدِيدِ هُوَ كَاخْتِلَافِ سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَعَلَى الْقَدِيمِ هُمَا حُجَّتَانِ تَعَارَضَتَا، فَإِنِ اخْتُصَّ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِكَثْرَةِ عَدَدٍ، أَوْ بِمُوَافَقَةِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم تَرَجَّحَ، نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ فِي غَيْرِ عَلِيٍّ وَأَلْحَقَ الْجُمْهُورُ بِهِمْ عَلِيًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَلْحَقْهُ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ كَانُوا فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ، وَكَانُوا فِي حُكْمِهِمْ وَفَتْوَاهُمْ يَتَشَاوَرُونَ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه انْتَقَلَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَتَفَرَّقَتِ الصَّحَابَةُ.

وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، أَوْ وُجِدَ فِي أَحَدِهِمَا أَحَدُهُمَا، وَفِي الْآخَرِ الْآخَرُ، فَهُمَا سَوَاءٌ.

وَلَوْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ، وَفِي الْآخَرِ عُثْمَانُ أَوْ عَلَيٌّ رضي الله عنهم فَهَلْ يَسْتَوِيَانِ، أَمْ يُرَجَّحُ طَرَفُ الشَّيْخَيْنِ؟ وَجْهَانِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ مِثْلُهُمَا فِي تَعَارُضِ الشَّيْخَيْنِ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي وَجْهٍ، وَيُقَدَّمُ طَرَفُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي وَجْهٍ.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُوَافِقَهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَيَقُولُوا بِمَا قَالَهُ، فَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ انْقِرَاضُ عَصْرِ

ص: 147

الْمُجْمِعِينَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدُهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ، بَلْ يَكُونُ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ مَعَ قَوْلِ سَائِرِ الْمُجْتَمِعِينَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ.

الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْكُتُوا، فَلَا يُصَرِّحُوا بِمُوَافَقَتِهِ وَلَا مُخَالَفَتِهِ فَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ حُجَّةٌ، لِأَنَّهُمْ لَوْ خَالَفُوهُ، لَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، لَكِنْ هَلْ هُوَ إِجْمَاعٌ أَمْ حَجَّةٌ غَيْرُ إِجْمَاعٍ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ أَمَارَاتُ الرِّضَى مِمَّنْ سَكَتَ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فَإِجْمَاعٌ بِلَا خِلَافٍ، قَالُوا: وَالْأَصَحُّ هُنَا اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ فِي كَوْنِهِ حَجَّةً أَوْ إِجْمَاعًا، وَهَلْ يُفَرَّقُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً وَإِجْمَاعًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُجَرَّدَ فَتْوًى، أَوْ حُكْمًا مِنْ إِمَامٍ أَوْ قَاضٍ؟ فِيهِ طَرُقٌ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَإِنْ كَانَ فَتْوًى، فَحُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا، فَلَا؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْإِمَامِ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ، وَلَعَلَّ السُّكُوتَ لِذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَكْسَهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَصْدُرُ عَنْ مُشَاوَرَةٍ وَمُرَاجَعَةٍ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا فَرْقَ، وَكَانُوا يَعْتَرِضُونَ عَلَى الْإِمَامِ كَغَيْرِهِ، فَقَدْ خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فِي الْحَدِّ، وَعُمْرَ رضي الله عنه فِي الْمُشْرِكَةِ.

وَمُخْتَصَرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَوْجُهٌ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالثَّانِي حُجَّةٌ وَإِجْمَاعٌ، وَالثَّالِثُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالرَّابِعُ مِنَ الْمُفْتِي حُجَّةٌ، وَمِنَ الْحَاكِمِ لَا، الْخَامِسُ عَكْسُهُ هَذَا إِذَا نُقِلَ السُّكُوتُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُنْقَلْ قَوْلٌ وَلَا سُكُوتٌ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى السُّكُوتِ.

قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ عَدَمَ النَّقْلِ كَنَقْلِ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 148

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ، وَالْأَقْرَبُ إِلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّ الْقِيَاسَ نَوْعَانِ جَلِيٌّ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْجَلِيُّ، فَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مُوَافَقَةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ بِحَيْثُ يَنْتَفِي احْتِمَالُ مُفَارَقَتِهِمَا، أَوْ يَبْعُدُ، وَذَلِكَ كَظُهُورِ الْتِحَاقِ الضَّرْبِ بِالتَّأْفِيفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وَمَا فَوْقَ الذَّرَّةِ بِالذَّرَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) الْآيَةَ، وَ [مَا فَوْقَ] النَّقِيرِ بِالنَّقِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:(وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) وَنَظَائِرِهِ، فَإِنَّ فُرُوعَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَوْلَى مِنَ الْأُصُولِ، وَبَعْضُ الْأَصْحَابِ لَا يُسَمِّي هَذَا قِيَاسًا، وَيَقُولُ: هَذِهِ الْإِلْحَاقَاتُ مَفْهُومَةٌ مِنَ النَّصِّ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا إِلْحَاقُ الْعَمْيَاءِ بِالْعَوْرَاءِ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ وَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ بِالْفَأْرَةِ، وَغَيْرِ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ فِي حَدِيثِ (الْفَأْرَةُ تَقَعُ بِالسَّمْنِ إِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا) وَالْغَائِطِ بِالْبَوْلِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» وَمِنَ الْجَلِيِّ مَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ كَحَدِيثِ «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ» وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) وَأَمَّا غَيْرُ الْجَلِيِّ فَمَا لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ الْمُفَارَقَةِ وَلَا يُبْعِدُهُ كُلَّ الْبُعْدِ، فَمِنْهُ مَا الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةٌ، كَقِيَاسِ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الطُّعْمِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: هُوَ مِنَ الْجَلِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمِنْهُ قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَهُوَ أَنْ يُشْبِهَ الْحَادِثَةَ أَصْلَيْنِ إِمَّا فِي الْأَوْصَافِ بِأَنْ يُشَارِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي وَالْأَوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، وَإِمَّا فِي الْأَحْكَامِ كَالْعَبْدِ يُشَارِكُ الْحُرَّ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَالْمَالِ فِي بَعْضِهَا، فَيُلْحَقُ بِمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ قِيَاسُ الشَّبَهِ خَفِيًّا وَالَّذِي قَبْلَهُ غَيْرُ الْجَلِيِّ وَاضِحًا، وَرُبَّمَا خُصَّ الْجَلِيُّ بِبَعْضِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا كَانَ الْفَرْعُ فِيهِ أَوْلَى بِحُكْمِ الْأَصْلِ.

قُلْتُ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَأَنَّهُ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 149

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَسَائِلُ الْفُرُوعِيَّةُ الِاجْتِهَادِيَّةُ إِذَا اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِيهَا طَرِيقَانِ أَشْهَرُهُمَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا: الْمُحِقُّ فِيهَا وَاحِدٌ، وَالْمُجْتَهِدُ مَأْمُورٌ بِإِصَابَتِهِ، وَالذَّاهِبُ إِلَى غَيْرِهِ مُخْطِئٌ، وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الْقَطْعُ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، فَإِنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، فَالْمُخْطِئُ مَغْدُورٌ غَيْرُ آثِمٍ، بَلْ مَأْجُورٌ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ، فَأَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ، فَأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي «اللُّمَعِ» قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَأْثَمُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، وَفِيمَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَجْهَانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَحَدُهُمَا - وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ، وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ -: يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ الصَّوَابَ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَى بِهِ إِلَى الْخَطَأِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكِ الطَّرِيقَ الْمَأْمُورَ بِهِ، وَالثَّانِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَعَلَى الِاجْتِهَادِ جَمِيعًا. وَإِذَا قُلْنَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَهَلْ نَقُولُ: الْحُكْمُ وَالْحَقُّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مَا ظَنَّهُ، أَمِ الْحَقُّ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَشْبَهُ مَطْلُوبٍ إِلَّا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُكَلَّفٌ بِمَا ظَنَّهُ لَا بِإِصَابَةِ الْأَشْبَهِ؟ وَجْهَانِ، اخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ، وَبِالثَّانِي قَطَعَ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، وَحَكَوْهُ عَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَالدَّارِكِيِّ.

فَرْعٌ

مَتَى حَكَمَ الْقَاضِي بِالِاجْتِهَادِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي حُكْمِهِ، فَلَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالَفَ قَطْعِيًّا كَنَصِّ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ ظَنًّا مُحْكَمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَيَلْزَمُهُ نَقْضُ حُكْمِهِ.

وَهَلْ يَلْزَمُ الْقَاضِيَ تَعْرِيفُ الْخَصْمَيْنِ صُورَةَ الْحَالِ لِيَتَرَافَعَا إِلَيْهِ، فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ؟ وَجْهَانِ، قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَا يَلْزَمُهُ إِنْ عَلِمَا أَنَّهُ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، فَإِنْ تَرَافَعَا إِلَيْهِ، نُقِضَ، وَقَالَ سَائِرُ الْأَصْحَابِ: يَلْزَمُهُ وَإِنْ عَلِمَا أَنَّهُ بَانَ [لَهُ] الْخَطَأُ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُمَا قَدْ

ص: 150

يَتَوَهَّمَانِ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ وَإِنْ بَانَ الْخَطَأُ. هَذَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُبَادِرُ إِلَى تَدَارُكِهِ إِذَا بَانَ لَهُ الْخَطَأُ، وَمَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ سَبَقَ حُكْمُ ضَمَانِهِ.

الْحَالُ الثَّانِي: إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ، وَأَنَّهُ الصَّوَابُ، فَلْيَحْكُمْ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَخَوَاتِ الْحَادِثَةِ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا، وَلَا يَنْقُضُ مَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا، بَلْ يُمْضِيهِ، ثُمَّ مَا نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لَا، فَلَا. وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّبِعُ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، وَلَهُ تَتَبُّعُ قَضَاءِ نَفْسِهِ لِيَنْقُضَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَنْصُوبُ لِلْقَضَاءِ قَبْلَهُ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ، نَقَضَ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا، وَإِنْ أَصَابَ فِيهَا، لِأَنَّهَا صَدَرَتْ مِمَّنْ لَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ، هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْجُمَلِيُّ فِيمَا يُنْقَضُ وَلَا يُنْقَضُ.

ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي صُوَرٍ، مِنْهَا لَوْ قَضَى قَاضٍ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمَفْقُودِ زَوْجُهَا بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَمُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَوَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا وَظَاهِرُ النَّصِّ، نَقْضُهُ، لِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ حَيًّا فِي الْمَالِ، فَلَا يُقَسَّمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَلَا يُجْعَلُ مَيِّتًا فِي النِّكَاحِ.

وَالثَّانِي: لَا يُنْقَضُ كَغَيْرِهِ مِنْ الِاجْتِهَادِيَّاتِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.

وَقَرُبَ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِي نَقْضِ حُكْمِ مَنْ قَضَى بِحُصُولِ الْفُرْقَةِ فِي اللِّعَانِ بِأَكْثَرِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَمَّنْ نَكَحَ أُمَّهُ وَوَطِئَهَا، وَمِنْهَا حُكْمُ الْحَنَفِيِّ بِبُطْلَانِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالْعَرَايَا بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي يُجَوِّزُهُ، وَفِي ذَكَاةِ الْجَنِينِ، وَمَنْعِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، وَصِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِشَهَادَةِ فَاسِقَيْنِ، أَوْ حُكْمِ غَيْرِهِ بِصِحَّةِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَثُبُوتِ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ بَعْدَ حَوْلَيْنِ، وَصِحَّةِ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَالْمُتْعَةِ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَبِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْأَطْرَافِ، وَجَرَيَانِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَرَدِّ الزَّوَائِدِ مَعَ الْأَصْلِ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَفِي نَقْضِ هَذِهِ

ص: 151