الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَمْ يَحِلَّ لِلشَّافِعِيِّ الْأَخْذُ بِحُكْمِ الْحَنَفِيِّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ، أَوْ بِالتَّوْرِيثِ بِالرَّحِمِ إِذَا لَمْ نَقُلْ بِهِ نَحْنُ، وَعَلَى هَذَا هَلْ يَمْنَعُهُ الْقَاضِي لِاعْتِقَادِ الْمَحْكُومِ لَهُ أَمْ لَا، لِاعْتِقَادِ نَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي. وَمَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ، فَقَدْ يَقُولُ لَا يُنَفَّذُ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا.
فَرْعٌ
هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ كَشَافِعِيٍّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ؟ وَجْهَانِ فِي «التَّهْذِيبِ» .
قُلْتُ: الْأَصَحُّ الْقَبُولُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَالَ لِلْقَاضِي رَجُلَانِ: كَانَتْ بَيْنَنَا خُصُومَةٌ فِي كَذَا، فَحَكَمَ الْقَاضِي فُلَانٌ بَيْنَنَا بِكَذَا، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْحُكْمَ بَيْنَنَا بِاجْتِهَادِكَ، وَنَرْضَى بِحُكْمِكَ، فَهَلْ يُجِيبُهُمَا أَمْ يَتَعَيَّنُ إِمْضَاءُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ؟ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ كَجٍّ، الصَّحِيحُ الثَّانِي.
فَصْلٌ
فِي آدَابٍ مَنْثُورَةٍ. يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ أَصْدِقَاءَهُ الْأُمَنَاءَ، وَيَلْتَمِسَ مِنْهُمْ أَنْ يُطْلِعُوهُ عَلَى عُيُوبِهِ لِيَسْعَى فِي إِزَالَتِهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا فِي مَسِيرِهِ إِلَى مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّاسِ فِي طَرِيقِهِ، وَعَلَى الْقَوْمِ إِذَا دَخَلَ، وَأَنْ يَدْعُوَ إِذَا جَلَسَ، وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ، وَأَنْ يَقُومَ عَلَى رَأْسِهِ أَمِينٌ يُنَادِي هَلْ مِنْ خَصْمٍ؟ وَيُرَتِّبُ النَّاسَ، وَيُقَدِّمُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَصِينًا لِمَكَانِ النِّسَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَ لِلْقَضَاءِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ عَلَى حَسَبِ حَاجَةِ النَّاسِ وَدَعَاوِيهِمْ، وَأَنْ يُعَيِّنَ وَقْتًا مِنَ النَّهَارِ، فَإِنْ حَضَرَ خَصْمَانِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، سَمِعَ كَلَامَهُمَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَلَاةٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ عَلَى
طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، فَيُؤَخِّرُهُ قَدْرَ مَا يَفْرَغُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي دِرَّةٌ يُؤَدِّبُ بِهَا إِذَا احْتَاجَ، وَيَتَّخِذُ سِجْنًا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي التَّعْزِيرِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُمَاطِلِ.
وَهَذِهِ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْحَبْسِ. قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: إِذَا اسْتَشْعَرَ الْقَاضِي مِنَ الْمَحْبُوسِ الْفِرَارَ مِنَ الْحَبْسِ، فَلَهُ نَقْلُهُ إِلَى حَبْسِ الْجَرَائِمِ، وَلَوْ دَعَا الْمَحْبُوسُ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فِيهِ، لَمْ يُمْنَعْ إِنْ كَانَ فِي الْحَبْسِ مَوْضِعٌ خَالٍ، فَإِنِ امْتَنَعَتْ، أُجْبِرَتِ الْأُمَةُ، وَلَا تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى، وَالزَّوْجَةُ الْأَمَةُ تُجْبَرُ إِنْ رَضِيَ سَيِّدُهَا. وَلَوْ قَالَ مُسْتَحِقُّ الدَّيْنِ: أَنَا أُلَازِمُهُ بَدَلًا عَنِ الْحَبْسِ، مُكِّنَ؛ لِأَنَّهُ أَخَفُّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ الْغَرِيمُ: تَشُقُّ عَلَيَّ الطِّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ بِسَبَبِ مُلَازَمَتِهِ، فَاحْبِسْنِي، فَيُحْبَسُ.
وَسَبَقَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَبَ هَلْ يُحْبَسُ بِدَيْنِ وَلَدِهِ، وَقِيَاسُ حَبْسِهِ أَنْ يُحْبَسَ الْمَرِيضُ وَالْمُخَدِّرَةُ وَابْنُ السَّبِيلِ مَنْعًا لَهُمْ مِنَ الظُّلْمِ. وَعَنْ أَبِي عَاصِمٍ الْعِبَادِيِّ أَنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ، بَلْ يُوكَلُ بِهِمْ لِيَتَرَدَّدُوا وَيَتَمَحَّلُوا. قَالَ: وَلَا يُحْبَسُ أَبُو الطِّفْلِ وَلَا الْوَكِيلُ وَالْقَيِّمُ فِي دَيْنٍ لَمْ يَجِبْ بِمُعَامَلَتِهِمْ، وَلَا يُحْبَسُ الصَّبِيُّ وَلَا الْمَجْنُونُ، وَلَا الْمَكَاتَبُ بِالنُّجُومِ، وَلَا الْعَبْدُ الْجَانِي، وَلَا سَيِّدُهُ لِيُؤَدِّيَ أَوْ يَبِيعَ، بَلْ يُبَاعُ عَلَيْهِ إِذَا وُجِدَ رَاغِبٌ وَامْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعِ وَالْفِدَاءِ، وَنَقَلَ الْهَرَوِيُّ وَجْهَيْنِ فِي حَبْسِ كُلِّ غَرِيمٍ قَدَرْنَا عَلَى مَالِهِ، وَتَمَكَّنَّا مِنْ بَيْعِهِ.
وَأُجْرَةُ السَّجَّانِ عَلَى الْمَحْبُوسِ وَأُجْرَةُ الْوَكِيلِ عَلَى مَنْ وُكِّلَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، وَصُرِفَ إِلَى جِهَةٍ أَهَمَّ مِنْ هَذِهِ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَلْحَقْتُ فِي كِتَابِ التَّفْلِيسِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً تَتَعَلَّقُ بِالْحَبْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الطَّرَفُ الثَّانِي فِي مُسْتَنَدِ قَضَائِهِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ، إِحْدَاهَا: يَقْضِي بِالْحُجَّةِ بِلَا شَكٍّ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةٌ، وَعَلِمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي، فَهَلْ يَقْضِي بِعِلْمِهِ؟ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ قَطْعًا، وَأَشْهَرُهُمَا قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ، وَهُوَ يُفِيدُ ظَنًّا، فَالْقَضَاءُ بِالْعِلْمِ أَوْلَى، وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُ مِنَ التُّهْمَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي وَصَحَّ [لَدَيَّ] كَذَا، لَزِمَهُ قَبُولُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمْ يَبْحَثْ عَمَّا ثَبَتَ بِهِ وَصَحَّ، وَالتُّهْمَةُ قَائِمَةٌ، وَسَوَاءٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا عَلِمَهُ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ وَمَكَانِهَا، وَمَا عَلِمَهُ فِي غَيْرِهِمَا، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، فَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ، أَمَّا إِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ تُعْرَفُ عَدَالَتُهُمَا، فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ وَيُغْنِيهِ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ تَزْكِيَتِهِمَا، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِلتُّهْمَةِ.
وَلَوْ أَقَرَّ بِالْمُدَّعَى فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ. قَضَى، وَذَلِكَ قَضَاءٌ بِإِقْرَارٍ لَا بِعِلْمِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ سِرًّا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَقِيلَ: يَقْضِي قَطْعًا. وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ وَاحِدٌ، فَهَلْ يُغْنِيهِ عِلْمُهُ عَنِ الشَّاهِدِ الْآخَرِ عَلَى قَوْلِ الْمَنْعِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: لَا. وَإِذَا قُلْنَا: يَقْضِي بِعِلْمِهِ، فَذَلِكَ فِي الْمَالِ قَطْعًا وَكَذَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَلَا يَجُوزُ فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ، وَلَا يَقْضِي بِخِلَافِ عِلْمِهِ بِلَا خِلَافٍ، بَلْ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَبْرَأَهُ عَمَّا ادَّعَاهُ، وَأَقَامَ بِهِ بَيِّنَةً، أَوْ أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَبْلَهُ حَيٌّ، أَوْ رَآهُ قَبْلَهُ غَيْرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ سَمِعَ مُدَّعِي الرِّقِّ بِعِتْقِهِ، وَمُدَّعِي النِّكَاحِ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا، وَتَحَقَّقَ كَذِبَ الشُّهُودِ، امْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ قَطْعًا. وَكَذَا إِذَا عَلِمَ فِسْقَ الشُّهُودِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَصْحَابَ مَثَّلُوا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَقَدْ رَآهُ الْقَاضِي أَقْرَضَهُ ذَلِكَ، أَوْ سَمِعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقَرَّ بِذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
رُؤْيَةَ الْإِقْرَاضِ، وَسَمَاعَ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ بِثُبُوتِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَقْتَ الْقَضَاءِ، فَيَدُلُّ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِالْعِلْمِ الظَّنَّ الْمُؤَكَّدَ لَا الْيَقِينَ. الثَّانِيَةُ: إِذَا رَأَى الْقَاضِي وَرَقَةً فِيهَا ذِكْرُ حُكْمِهِ لِرَجُلٍ، وَطَلَبَ مِنْهُ إِمْضَاءَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، نُظِرَ إِنْ تَذَكَّرَهُ أَمْضَاهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِي أَمَالِي أَبِي الْفَرَجِ الرَّزَّازِ إِنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَضَاءِ بِعِلْمِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْهُ، لَمْ يَعْتَمِدْهُ قَطْعًا لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ، وَكَذَا الشَّاهِدُ لَا يَشْهَدُ بِمَضْمُونِ خَطِّهِ إِذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ، فَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ، وَبَعْدَ احْتِمَالِ التَّزْوِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، كَالْمَحْضَرِ وَالسِّجِلِّ الَّذِي يَحْتَاطُ فِيهِ الْقَاضِي عَلَى مَا سَبَقَ، فَالصَّحِيحُ وَالْمَنْصُوصُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِهِ أَيْضًا مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ، لِاحْتِمَالِ التَّحْرِيفِ، وَكَذَا الشَّاهِدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَشْهَدُ، وَفِيهِمَا وَجْهٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَتَدَاخَلْهُ رِيبَةٌ.
وَفِي جَوَازِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ اعْتِمَادًا عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ، وَلَا تَكْفِيهِ رِوَايَةُ السَّمَاعِ بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ ثِقَةٍ، وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ، لِعَمَلِ الْعُلَمَاءِ بِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَبَابُ الرِّوَايَةِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ شَيْخٌ بِالْإِجَازَةِ، وَعَرَفَ خَطَّهُ، جَازَ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ تَفْرِيعًا عَلَى اعْتِمَادِ الْخَطِّ، فَيَقُولُ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ كِتَابَةً، أَوْ فِي كِتَابَةٍ، أَوْ كَتَبَ إِلَيَّ وَهَذَا عَلَى تَجْوِيزِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمَنَعَهَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ.
قُلْتُ: وَقَدْ مَنَعَهَا أَيْضًا الْمَاوَرْدِيُّ فِي «الْحَاوِي» وَنَقَلَ هُوَ مَنْعَهَا عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَلَكِنْ أَظْهَرُ قَوْلَيْهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ صِحَّةُ الْإِجَازَةِ، وَجَوَازُ الرِّوَايَةِ بِهَا، وَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا. ثُمَّ هِيَ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ قَدْ لَخَّصْتُهَا بِفُرُوعِهَا وَأَمْثِلَتِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي «الْإِرْشَادِ» فِي مُخْتَصَرِ عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَأَنَا أَذْكُرُ مِنْهَا هُنَا رُمُوزًا إِلَى مَقَاصِدِهَا تَفْرِيعًا عَلَى الصَّحِيحِ،
وَهُوَ جَوَازُهَا. الْأَوَّلُ: إِجَازَةُ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، كَأَجَزْتُكَ رِوَايَةَ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، أَوْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ فَهْرَسَتِي وَهَذِهِ أَعْلَى أَنْوَاعِهَا.
الثَّانِي: إِجَازَةُ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، كَأَجَزْتُكَ مَسْمُوعَاتِي أَوْ مَرْوِيَّاتِي وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ كَالْأَوَّلِ، فَتَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِهِ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، وَقِيلَ بِمَنْعِهِ مَعَ قَبُولِ الْأَوَّلِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُجِيزَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِوَصْفِ الْعُمُومِ، كَأَجَزْتُ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كُلَّ أَحَدٍ أَوْ مَنْ أَدْرَكَ زَمَانِي وَنَحْوَهُ، فَالْأَصَحُّ أَيْضًا جَوَازُهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَصَاحِبُهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْحُفَّاظِ.
وَنَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ الْمُتَأَخِّرُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الَّذِينَ أَدْرَكُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَى جَوَازِهَا.
الرَّابِعُ: إِجَازَةُ مَجْهُولٍ أَوْ لِمَجْهُولٍ، كَأَجَزْتُكَ كِتَابَ السُّنَنِ وَهُوَ يَرْوِي كُتُبًا مِنَ السُّنَنِ، أَوْ أَجْزْتُ لِزَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُنَاكَ جَمَاعَةٌ كَذَلِكَ، فَهَذِهِ بَاطِلَةٌ. فَإِنْ أَجَازَ لِمُسَمَّيْنَ مُعَيَّنِينَ لَا يَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ وَلَا أَنْسَابَهُمْ وَلَا عَدَدَهُمْ، صَحَّتْ، كَمَا لَوْ سَمِعُوا مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ.
الْخَامِسُ: الْإِجَازَةُ لِمَعْدُومٍ، كَأَجَزْتُ لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ أَوْ لِفُلَانٍ، وَمَنْ يُولَدُ لَهُ، فَالصَّحِيحُ بُطْلَانُهَا، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَجَوَّزَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَالْإِجَازَةُ لِلطِّفْلِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ صَحِيحَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَنَقَلَهُ الْخَطِيبُ عَنْ شُيُوخِهِ كَافَّةً.
السَّادِسُ: إِجَازَةُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجِيزُ، وَلَمْ يَتَحَمَّلْهُ بِوَجْهٍ لِيَرْوِيَهُ الْمُجَازُ لَهُ إِذَا تَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ قَطْعًا.
السَّابِعُ: إِجَازَةُ الْمَجَازِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْحِفَاظُ الْأَعْلَامُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمِ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَأَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَإِذَا كَتَبَ الْإِجَازَةَ، اسْتَحَبَّ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَا، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْكِتَابَةِ مَعَ قَصْدِ الْإِجَازَةِ، صَحَّتْ كَالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ مَعَ سُكُوتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
إِذَا رَأَى بِخَطِّ أَبِيهِ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوْ أَدَّيْتُ إِلَى فُلَانٍ كَذَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: فَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَالْأَدَاءِ اعْتِمَادًا عَلَى خَطِّ أَبِيهِ إِذَا وَثِقَ بِخَطِّهِ وَأَمَانَتِهِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَضَابِطُ وُثُوقِهِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ وَجَدَ فِي تِلْكَ التَّذْكِرَةِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا لَا يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِهِ، بَلْ يُؤَدِّيهِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ بِأَنَّ خَطَرَهُمَا عَظِيمٌ وَعَامٌّ، وَلِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِهِ، وَيُمْكِنُ التَّذَكُّرُ فِيهِمَا، وَخَطُّ الْمُوَرِّثِ لَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ يَقِينٌ، فَجَازَ اعْتِمَادُ الظَّنِّ فِيهِ حَتَّى لَوْ وَجَدَ بِخَطِّ نَفْسِهِ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَوْ أَدَّيْتُ إِلَى فُلَانٍ دَيْنَهُ، لَمْ يَجُزْ الْحَلِفُ حَتَّى يَتَذَكَّرَ قَالَهُ فِي «الشَّامِلِ» .
فَرْعٌ
قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يُثْبِتَ حِلْيَةَ الْمُقِرِّ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى التَّذَكُّرِ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا ذِكْرُ التَّارِيخِ، وَمَوْضِعُ التَّحَمُّلِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ حِينَئِذٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
الثَّالِثَةُ: شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّكَ حَكَمْتَ لِزَيْدٍ بِكَذَا، وَهُوَ لَا يَذْكُرُهُ، لَمْ يُحْكَمْ بِقَوْلِهِمَا إِلَّا أَنْ يَشْهَدَا بِالْحَقِّ بَعْدَ تَجْدِيدِ دَعْوَى، وَعَنِ ابْنِ الْقَاضِي تَخْرِيجُ قَوْلِ: إِنَّهُ يُمْضِي الْحُكْمَ الْأَوَّلَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّكَ تَحَمَّلْتَ الشَّهَادَةَ فِي وَاقِعَةِ كَذَا، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ، لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ، وَهَذَا بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ الرَّاوِيَ لَوْ نَسِيَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ الرِّوَايَةَ مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهَا وَجْهٌ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَعَلَى الصَّحِيحِ الْفَرْقُ مَا سَبَقَ أَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَلِهَذَا يُقْبَلُ مِنَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، وَمِنَ الْفَرْعِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَتَذَكَّرِ الْقَاضِي فَحَقُّهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ، وَلَا يَقُولَ: لَمْ أَحْكُمْ.
وَهَلْ لِلْمُدَّعِي وَالْحَالَةُ هَذِهِ تَحْلِيفُ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حُكْمَ الْقَاضِي؟ قَالَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» : يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ. وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى حُكْمِهِ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، وَأَمْضَى حُكْمَ الْأَوَّلِ إِلَّا إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّ الْأَوَّلَ أَنْكَرَ حُكْمَهُ، وَكَذَّبَهُمَا، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ تَوَقَّفَ، فَوَجْهَانِ، أَوْفَقُهُمَا لِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا، وَقَالَ الْأَوْدَنِيُّ وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» : لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ يُورِثُ تُهْمَةً وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّ شَاهِدَيِ الْأَصْلِ تَوَقَّفَا فِي الشَّهَادَةِ، لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ.
الرَّابِعَةُ: ادَّعَى عَلَى الْقَاضِي أَنَّكَ حَكَمْتَ لِي بِكَذَا. قَالَ الْأَصْحَابُ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى قَاضٍ آخَرَ، وَيُحَلِّفَهُ كَمَا لَا يَحْلِفُ الشَّاهِدُ إِذَا أَنْكَرَ الشَّهَادَةَ. وَعَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْإِقْرَارِ، فَلَهُ تَحْلِيفُهُ لِيَحْلِفَ الْمُدَّعِي إِنْ نَكَلَ، هَذَا إِذَا ادَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ قَاضٍ، فَإِنِ ادَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ عَزْلِهِ، أَوْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ عِنْدَ قَاضٍ، فَنَقَلَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ، وَلَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ. وَلَا يُحَلَّفُ إِنْ قُلْنَا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ كَالْإِقْرَارِ، وَإِنْ قُلْنَا: كَالْبَيِّنَةِ، حُلِّفَ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: سَمَاعُ الدَّعْوَى عَلَى الْقَاضِي مَعْزُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ حُكْمٌ لَيْسَ عَلَى قَوَاعِدِ الدَّعَاوَى الْمُلْزِمِةِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا التَّدَرُّجُ إِلَى إِلْزَامِ الْخَصْمِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ،
فَلْيُقِمْهَا فِي وَجْهِ الْخَصْمِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْمَعَ عَلَى الْقَاضِي بَيِّنَةً، وَلَا يُطَالِبَ بِيَمِينٍ، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّكَ شَاهِدِي.
الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي التَّسْوِيَةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: لِيُسَوِّ الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي دُخُولِهِمَا عَلَيْهِ، وَفِي الْقِيَامِ لَهُمَا، وَالنَّظَرِ فِيهِمَا وَالِاسْتِمَاعِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ، فَلَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُسَوِّي فِي جَوَابِ سَلَامِهِمَا، فَإِنْ سَلَّمَا، أَجَابَهُمَا مَعًا، وَإِنْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا، قَالَ الْأَصْحَابُ: يَصْبِرُ حَتَّى يُسَلِّمَ الْآخَرُ، فَيُجِيبَهُمَا: وَقَدْ يَتَوَقَّفُ فِي هَذَا إِذَا طَالَ الْفَصْلُ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ لِلْآخَرِ: سَلِّمْ، فَإِذَا سَلَّمَ، أَجَابَهُمَا، وَكَأَنَّهُمُ احْتَمَلُوا هَذَا الْفَصْلَ مُحَافَظَةً عَلَى التَّسْوِيَةِ، وَحَكَى الْإِمَامُ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا لَهُ تَرَكَ الْجَوَابِ مُطْلَقًا وَاسْتَبْعَدَهُ.
وَيُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَيُجْلِسُ أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ إِنْ كَانَا شَرِيفَيْنِ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ الْأَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا، فَالصَّحِيحُ - وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ - أَنَّهُ يَرْفَعُ الْمُسْلِمَ فِي الْمَجْلِسِ، وَالثَّانِي: يُسَوِّي. وَيُشْبِهُ أَنْ يَجْرِيَ الْوَجْهَانِ فِي سَائِرِ وُجُوهِ الْإِكْرَامِ، ثُمَّ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
الثَّانِيَةُ: لِيُقْبِلْ عَلَيْهِمَا بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَلَا يُمَازِحُ أَحَدَهُمَا، وَلَا يُضَاحِكُهُ، وَلَا يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَا يُسَارُّهُ، وَلَا يَنْهَرُهُمَا، وَلَا يَصِيحُ عَلَيْهِمَا إِذَا لَمْ يَفْعَلَا مَا يَقْتَضِي التَّأْدِيبَ، وَلَا يَتَعَنَّتُ الشُّهُودَ بِأَنْ يَقُولَ: لِمَ تَشْهَدُونَ؟ وَمَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ؟ وَلَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى بِأَنْ يَقُولَ: ادَّعِ عَلَيْهِ كَذَا، وَلَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ، وَلَا يُجْرِي الْمَسَائِلَ إِلَى النُّكُولِ عَلَى الْيَمِينِ، وَكَذَا لَا يُلَقِّنُ الشَّاهِدَ الشَّهَادَةَ، وَلَا يُجَرِّئُهُ إِذَا مَالَ إِلَى التَّوَقُّفِ، وَلَا يُشَكِّكُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ إِذَا أَرَادَ الشَّهَادَةَ. هَذَا فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَأَمَّا فِي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْقَاضِي
يُرْشِدُ إِلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَا هُوَ مُوَضَّحٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِذَا كَانَ يَدَّعِي دَعْوَى غَيْرَ مُحَرَّرَةٍ، قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تُبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةُ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَجُوزُ، وَتَعْرِيفُ الشَّاهِدِ كَيْفِيَّةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ قَالَ فِي الْعُدَّةِ: أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ، وَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِفْسَارِ بِأَنْ يَدَّعِيَ دَرَاهِمَ، فَيَقُولُ: أَهِيَ صِحَاحٌ أَمْ مَكْسُورَةٌ؟ وَيُسْتَحَبُّ إِذَا أَرَادَ الْحُكْمَ أَنْ يُجْلِسَ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، وَيَقُولَ: قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْكَ بِكَذَا، وَرَأَيْتُ الْحُكْمَ عَلَيْكَ. لِيَكُونَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ، وَأَبْعَدَ عَنِ التُّهْمَةِ، وَنَصَّ فِي «الْأُمِّ» أَنَّهُ يَنْدُبُهُمَا إِلَى الصُّلْحِ بَعْدَ ظُهُورِ وَجْهِ الْحُكْمِ، وَيُؤَخِّرُ الْحُكْمَ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ إِذَا سَأَلَهُمَا، فَجَعَلَاهُ فِي حِلٍّ مِنَ التَّأْخِيرِ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى التَّحْلِيلِ لَمْ يُؤَخِّرْ.
الثَّالِثَةُ: إِذَا جَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يَتَكَلَّمَا، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: لِيَتَكَلَّمِ الْمُدَّعِي مِنْكُمَا، وَأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي إِذَا عَرَفَهُ: تَكَلَّمْ، وَلَوْ خَاطَبَهُمَا بِذَلِكَ الْأَمِينُ الْوَاقِفُ عَلَى رَأْسِهِ، كَانَ أَوْلَى، فَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي، طَالَبَ خَصْمَهُ بِالْجَوَابِ، وَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يُطَالِبُهُ بِالْجَوَابِ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمُدَّعِي، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْجَوَابِ إِنْ أَقَرَّ بِالْمُدَّعَى، فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَطْلُبَ مِنَ الْقَاضِي الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَحْكُمُ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: اخْرُجْ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ كَلَّفْتُكَ الْخُرُوجَ مِنْ حَقِّهِ، أَوْ أَلْزَمْتُكَ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا. وَهَلْ يَثْبُتُ الْمُدَّعَى بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ، أَمْ يَفْتَقِرُ ثُبُوتُهُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: يَفْتَقِرُ كَالثُّبُوتِ بِالْبَيِّنَةِ، وَأَصَحُّهُمَا لَا؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْإِقْرَارِ عَلَى وُجُوبِ الْحَقِّ جَلِيَّةٌ، وَالْبَيِّنَةُ تَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ. هَكَذَا ذُكِرَتِ الْمَسْأَلَةُ وَلَا يَظْهَرُ الْخِلَافُ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي ثُبُوتِ الْمُدَّعَى بِهِ فِي نَفْسِهِ، فَمَعْلُومٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِقْرَارِ، فَكَيْفَ عَلَى الْحُكْمِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ؟ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمُطَالَبَةَ وَالْإِلْزَامَ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ لِلْمُدَّعِي الطَّلَبَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَلِلْقَاضِي الْإِلْزَامُ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَسْكُتَ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ بَيِّنَةٌ،
وَقِيلَ: لَا يَقُولُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَالتَّلْقِينِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: لِي بَيِّنَةٌ، وَأَقَامَهَا، فَذَاكَ، وَإِنْ قَالَ: لَا أُقِيمُهَا، وَأُرِيدُ يَمِينَهُ، مُكِّنَ مِنْهُ، وَإِنْ قَالَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فَحَلَّفَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ سُمِعَتْ، وَإِنْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي حَاضِرَةٌ، وَلَا غَائِبَةٌ، سُمِعَتْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَمْ يَعْرِفْ، أَوْ نَسِيَ، ثُمَّ عَرَفَ أَوْ تَذَكَّرَ، وَقِيلَ: لَا يَسْمَعُ لِلْمُنَاقِضَةِ إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ لِكَلَامِهِ تَأْوِيلًا، كَكُنْتُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا. وَلَوْ قَالَ: لَا بَيِّنَةَ لِي، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: هُوَ كَقَوْلِهِ لَا بَيِّنَةَ لِي حَاضِرَةٌ، وَقِيلَ: كَقَوْلِهِ لَا حَاضِرَةٌ وَلَا غَائِبَةٌ، فَيَكُونُ فِيهِ الْوَجْهَانِ، وَلَوْ قَالَ: شُهُودِي عَبِيدٌ أَوْ فَسَقَةٌ، ثُمَّ أَتَى بِعُدُولٍ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ إِنْ مَضَى زَمَانٌ يُمْكِنُ فِيهِ الْعِتْقُ وَالِاسْتِبْرَاءُ.
فَرْعٌ
حَكَى الْهَرَوِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْحَقَّ يَجِبُ بِفَرَاغِ الْمُدَّعِي مِنَ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ، أَوْ أَشَارَ إِلَى بِنَائِهِمَا عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ أَمْ كَالْإِقْرَارِ؟ .
الرَّابِعَةُ: إِذَا ازْدَحَمَ جَمَاعَةُ مُدَّعِينَ، فَإِنْ عَرَفَ السَّبْقَ، قَدَّمَ الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ، وَالِاعْتِبَارُ سَبْقُ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ جَاءُوا مَعًا، أَوْ جُهِلَ السَّبْقُ، أَقْرَعَ، فَإِنْ كَثُرُوا وَعَسُرَ الْإِقْرَاعُ، كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ فِي رِقَاعٍ، وَصُبَّتْ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي لِيَأْخُذَهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً، وَيَسْمَعَ دَعْوَى مَنْ خَرَجَ اسْمُهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَتِّبَ ثِقَةً يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُ يَوْمَ قَضَائِهِ لِيَعْرِفَ تَرْتِيبَهُمْ، وَلَوْ قَدَّمَ الْأَسْبَقُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، جَازَ، وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسُ يُقَدَّمَانِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ أَيْضًا بِالسَّبَقِ أَوْ بِالْقُرْعَةِ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي يُعَلِّمُهُ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَالِاخْتِيَارُ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيمِ مَنْ شَاءَ.
وَلَا يُقَدِّمُ الْقَاضِي مُدَّعِيًا بِشَرَفٍ وَلَا غَيْرِهِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: إِذَا كَانَ فِي الْمُدَّعِينَ مُسَافِرُونَ مُسْتَوْفِزُونَ وَقَدْ شَدُّوا الرِّحَالَ لِيَخْرُجُوا، وَلَوْ أُخِّرُوا لَتَخَلَّفُوا عَنْ رُفْقَتِهِمْ، فَإِنْ قَلُّوا، قُدِّمُوا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِلَّا فَلَا، بَلْ يُعْتَبَرُ السَّبْقُ بِالْقُرْعَةِ.
وَالثَّانِي لَوْ كَانَ فِي الْحَاضِرِينَ نِسْوَةٌ، وَرَأَى الْقَاضِي تَقْدِيمَهُنَّ لِيَنْصَرِفْنَ، قَدَّمَهُنَّ عَلَى الصَّحِيحِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْثُرْنَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ وَالْمَرْأَةُ مُدَّعِيًا، أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ. ثُمَّ تَقْدِيمُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى الصَّحِيحِ، بَلْ هُوَ رُخْصَةٌ لِجَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي الْمُخْتَصَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشْعِرُ كَلَامُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا يُقْتَصَرُ بِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ تَقْدِيمُ الْمُسَافِرِ عَلَى الْمُقِيمِينَ، وَالْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ، فَأَمَّا الْمُسَافِرُونَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، وَكَذَا النِّسْوَةُ، فَالرُّجُوعُ فِيهِمْ إِلَى السَّبْقِ أَوِ الْقُرْعَةِ.
فَرْعٌ
الْمُقَدَّمُ بِالسَّبَقِ أَوِ الْقُرْعَةِ لَا يُقَدَّمُ إِلَّا فِي دَعْوَى وَاحِدَةٍ، لِئَلَّا يُطَوِّلَ عَلَى الْبَاقِينَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ دَعْوَى أُخْرَى، فَلْيَحْضُرْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، أَوْ يَنْتَظِرْ فَرَاغَ الْقَاضِي مِنْ حُكُومَاتِ سَائِرِ الْحَاضِرِينَ، وَحِينَئِذٍ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ الثَّانِيَةُ إِنْ لَمْ يَضْجَرِ الْقَاضِي، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ عَلَى الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ الدَّعْوَى الْأُولَى أَوْ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأُولَى مَسْمُوعَةٌ إِذَا اتَّحَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : تُسْمَعُ إِلَى ثَلَاثِ دَعَاوَى، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَطْلَقَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُسْمَعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى ثَانٍ وَثَالِثٍ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لِلْمُدَّعِي وَقَدْ تَعَدَّدَ، وَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ هُنَا وَجْهَيْنِ غَرِيبَيْنِ ضَعِيفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُقَدَّمَ بِدَعْوَى لَا تُسْمَعُ مِنْهُ الثَّانِيَةُ إِلَّا فِي مَجْلِسٍ آخَرَ، وَإِنْ فَرَغَ الْقَاضِي مِنْ دَعَاوَى الْحَاضِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ تَرْفِيهُهُ.
الثَّانِي: لَا يُسْمَعُ عَلَى الْوَاحِدِ إِلَّا دَعْوَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْمُقَدَّمُ بِالسَّفَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقَدَّمَ إِلَّا بِدَعْوَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّمَ بِجَمِيعِ دَعَاوِيهِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ تَقْدِيمِهِ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ عَنْ رُفْقَتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِذَا عَرَفَ أَنَّ لَهُ دَعَاوَى، فَهُوَ كَالْمُقِيمِينَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُ بِالْجَمِيعِ يَضُرُّ غَيْرَهُ، وَتَقْدِيمَهُ بِدَعْوَى لَا يُحَصِّلُ الْغَرَضُ.
قُلْتُ: الْأَرْجَحُ أَنَّ دَعَاوِيَهُ إِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً، أَوْ ضَعِيفَةً بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِالْبَاقِينَ إِضْرَارًا بَيِّنًا، قُدِّمَ بِجَمِيعِهَا، وَإِلَّا فَيُقَدَّمُ بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّهَا مَأْذُونٌ فِيهَا، وَقَدْ يَقْنَعُ بِوَاحِدَةٍ، وَيُؤَخِّرُ الْبَاقِيَ إِلَى أَنْ يَخُصَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: تَنَازَعَ الْخَصْمَانِ، وَزَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي، نُظِرَ إِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا إِلَى الدَّعْوَى، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِ الْآخَرِ: إِنِّي كُنْتُ الْمُدَّعِيَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَ ثُمَّ يَدَّعِي إِنْ شَاءَ.
وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ وَتَنَازَعَا، سَأَلَ الْعَوْنَ، فَمَنْ أَحْضَرَهُ الْعَوْنُ فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَدَّعِي الْآخَرُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ أَحْضَرَ الْآخَرَ لِيَدَّعِيَ عَلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَوَى الطَّرَفَانِ أَقْرَعَ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ادَّعَى، وَقِيلَ: يُقَدِّمُ الْقَاضِي أَحَدَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ.
السَّادِسَةُ: قَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَيْهَا وَاجِبَةٌ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقَاضِي. أَمَّا الْقَاضِي، فَلَا يَحْضُرُ وَلِيمَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فِي حَالِ خُصُومَتِهِمَا وَلَا وَلِيمَتَهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا فِي إِكْرَامِهِ، فَيَمِيلُ [إِلَيْهِ] قَلْبُهُ، وَأَمَّا وَلِيمَةُ غَيْرِ الْخَصْمَيْنِ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إِلَيْهَا، وَالثَّانِي: تَجِبُ إِذَا أَوْجَبْنَاهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ: لَا تَحْرُمُ وَلَا تَجِبُ، بَلْ تُسْتَحَبُّ بِشَرْطِ التَّعْمِيمِ، فَإِنْ كَثُرَتْ وَقَطَعَتْهُ عَنِ الْحُكْمِ، تَرَكَهَا فِي حَقِّ
الْجَمِيعِ، وَلَا يَخُصُّ بَعْضَ النَّاسِ، لَكِنْ لَوْ كَانَ يَخُصُّ بَعْضَ النَّاسِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ بِإِجَابَةِ وَلِيمَةٍ، فَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالِاسْتِمْرَارِ، وَتُكْرَهُ إِجَابَتُهُ إِلَى دَعْوَةٍ اتُّخِذَتْ لِأَجْلِ الْقَاضِي خَاصَّةً أَوْ لِلْأَغْنِيَاءِ وَدُعِيَ فِيهِمْ، وَلَا يُكْرَهُ إِلَى مَا اتُّخِذَ لِلْجِيرَانِ وَهُوَ مِنْهُمْ، أَوْ لِلْعُلَمَاءِ وَدُعِيَ فِيهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِجَابَةَ غَيْرِ وَلِيمَةِ الْعُرْسِ مِنَ الدَّعَوَاتِ مُسْتَحَبَّةٌ، وَظَاهِرُ مَا أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ ثُبُوتُ الِاسْتِحْبَابِ فِي حَقِّ الْقَاضِي أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْبَابُ فِي الْوَلِيمَةِ آكَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الِاسْتِحْبَابَ بِالْوَلِيمَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ.
فَرْعٌ
لَا يُضَيِّفُ الْقَاضِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُضَيِّفَهُمَا مَعًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَنَعَهُ أَبُو إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضِّيَافَةِ صَاحِبُهُ، وَأَنَّهُ تَبَعٌ، وَهَذَا يَشْكُلُ بِسَائِرِ وُجُوهِ التَّسْوِيَةِ.
السَّابِعَةُ: لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لِأَحَدِهِمَا، وَأَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ عَمَّنْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُمَا.
الثَّامِنَةُ: يَعُودُ الْمَرْضَى وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَيَزُورُ الْقَادِمِينَ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِيعَابُ، فَعَلَ الْمُمْكِنَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، وَيَخُصُّ بِهِ مَنْ عَرَفَهُ، وَقَرُبَ مِنْهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ: هُوَ كَإِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ يَعُمُّ الْجَمِيعَ أَوْ يَتْرُكُ الْجَمِيعَ، وَالصَّحِيحُ: الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّوَابُ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. هَكَذَا قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ. وَفِي أَمَالِي أَبِي الْفَرَجِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ الْخَصْمَ، وَلَا يَزُورُهُ إِذَا قَدِمَ، لَكِنْ يَشْهَدُ جِنَازَتَهُ.
الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي الْبَحْثِ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ وَتَزْكِيَتِهِمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ شُهُودًا مُعَيَّنِينَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ، نُظِرَ إِنْ عَرَفَ فِسْقَهُمْ رَدَّ شَهَادَتَهُمْ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى بَحْثٍ، وَإِنْ عَرَفَ عَدَالَتَهُمْ قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّعْدِيلِ، وَإِنْ طَلَبَهُ الْخَصْمُ وَفِيهِ وَجْهٌ سَبَقَ فِي الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ حَالَهُمْ، لَمْ يَجُزْ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ وَالْحُكْمُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِزْكَاءِ وَالتَّعْدِيلِ، سَوَاءٌ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ أَوْ سَكَتَ. وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِعَدَالَتِهِمَا، وَلَكِنْ قَالَ: أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَوَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: يَحْكُمُ بِشَهَادَتِهِمَا بِلَا بَحْثٍ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ لَحَقِّهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِعَدَالَتِهِمَا، وَأَصَحُّهُمَا لَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ وَالتَّعْدِيلِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ وَإِنْ رَضِيَ الْخَصْمُ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ يَتَضَمَّنُ تَعْدِيلَهُ، وَالتَّعْدِيلُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ.
وَإِنْ صَدَّقَهُمَا فِيمَا شَهِدَا بِهِ، قَضَى الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْبَحْثِ عَنْ حَالِهِمَا، وَكَذَا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ فَصَدَّقَهُ، وَلَوْ شَهِدَ مَعْلُومَا الْعَدَالَةِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا شَهِدَا بِهِ قُبِلَ حُكْمُ الْقَاضِي، فَهَلْ يَسْتَنِدُ الْحُكْمُ إِلَى الْإِقْرَارِ دُونَ الشَّهَادَةِ أَمْ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا؟ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْهَرَوِيُّ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْهُمَا الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي حَكَاهُ الْفُورَانِيُّ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ بَعُدَ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا، فَقَدْ مَضَى الْحُكْمُ مُسْتَنِدًا إِلَى الشَّهَادَةِ، سَوَاءٌ وَقَعَ إِقْرَارُهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَى الْمَشْهُودِ لَهُ أَمْ قَبْلَهُ، وَفِيمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْخَصْمُ لِلشَّاهِدِ قَبْلَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ مَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيَّ فَأَنْتَ عَدْلٌ صَادِقٌ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْرَارًا، لَكِنَّهُ تَعْدِيلٌ لِلشَّاهِدِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّعْدِيلِ.
فَرْعٌ
إِذَا جَهِلَ الْقَاضِي إِسْلَامَ الشَّاهِدِ، لَمْ يَقْنَعْ بِظَاهِرِ الدَّارِ، بَلْ يَبْحَثُ عَنْهُ، وَيَكْفِي فِيهِ قَوْلُ الشَّاهِدِ.
وَلَوْ جَهِلَ حُرِّيَّتَهُ بَحَثَ أَيْضًا، وَلَا يَكْفِي فِيهِ قَوْلُهُ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّ الِاسْتِزْكَاءَ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا إِلَّا إِذَا طَلَبَهُ الْخَصْمُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
فَرْعٌ
قَالَ فِي الْعُدَّةِ: إِذَا اسْتَفَاضَ فِسْقُ الشَّاهِدِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ، وَيُجْعَلُ الْمُسْتَفِيضُ كَالْمَعْلُومِ.
الثَّالِثَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْقَاضِي مُزَكُّونَ وَأَصْحَابُ مَسَائِلَ، فَالْمُزَكُّونَ [هُمُ] الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِمْ لِيُبَيِّنُوا حَالَ الشُّهُودِ، وَأَصْحَابُ الْمَسَائِلِ هُمُ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمْ إِلَى الْمُزَكِّينَ، لِيَبْحَثُوا وَيَسْأَلُوا، وَرُبَّمَا فُسِّرَ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ فِي لَفْظِ الشَّافِعِيِّ بِالْمُزَكِّينَ، ثُمَّ الْمُخْبِرُونَ عَنْ فِسْقِ الشُّهُودِ وَعَدَالَتِهِمْ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ نَصَبَهُ الْحَاكِمُ لِلْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مُطْلَقًا أَوْ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ، فَيَسْمَعُ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِمَا، وَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنْهَاهُ إِلَى الْقَاضِي.
وَالثَّانِي مَنْ يَشْهَدُ بِالْعَدَالَةِ أَوِ الْفِسْقِ، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَشْهَدُ أَصَالَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَالْأَوَّلُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَالَ فَيَشْهَدُ، وَقَدْ لَا يَعْرِفُ فَيَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِالْبَحْثِ لِيَعْرِفَ فَيُشْهِدَ، كَمَا يُوَكِّلُ الْقَاضِي بِالْغَرِيبِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِفْلَاسَ مَنْ يَبْحَثُ عَنْهُ وَيُخَالِطُهُ، لِيَعْرِفَ إِفْلَاسَهُ فَيَشْهَدَ، وَأَمَّا الثَّانِي، فَهُوَ شَاهِدُ فَرْعٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ إِلَّا عِنْدَ غَيْبَةِ الْأَصْلِ، أَوْ تَعَذُّرِ حُضُورِهِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْهَرَوِيُّ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُنَازَعُ فِيهِ. وَإِذَا أَرَادَ الْحَاكِمُ الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، كَتَبَ اسْمَ الشَّاهِدِ، وَكُنْيَتَهُ إِنِ اشْتَهَرَ بِهَا، وَوَلَاءَهُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَاسْمَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَحِلْيَتَهُ وَحِرْفَتَهُ وَسُوقَهُ وَمَسْجِدَهُ، لِئَلَّا يُشْتَبَهُ بِغَيْرِهِ،
فَإِنْ كَانَ مَشْهُودًا وَحَصَلَ التَّمْيِيزُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، كَفَى، وَيَكْتُبُ أَيْضًا اسْمَ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَا يَمْنَعُ شَهَادَتَهُ لَهُ، أَوْ عَلَيْهِ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ عَدَاوَةٍ.
وَفِي قَدْرِ الْمَالِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يَكْتُبُهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَتَجَزَّأُ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَذْكُرُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الشَّاهِدِ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ، وَأَمَّا دَعْوَى الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تَتَجَزَّأُ، فَقَدْ حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ وَبَنَى عَلَيْهِمَا أَنَّهُ لَوْ عُدِّلَ، وَقَدْ شَهِدَ بِمَالٍ قَلِيلٍ، ثُمَّ شَهِدَ فِي الْحَالِ بِمَالٍ كَثِيرٍ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ تَزْكِيَةٍ وَيَكْتُبُ إِلَى كُلِّ مُزَكٍّ كِتَابًا، وَيَدْفَعُهُ إِلَى صَاحِبِ مَسْأَلَةٍ، وَيُخْفِي كُلَّ كِتَابٍ عَنْ غَيْرِ مَنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَغَيْرِ مَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ احْتِيَاطًا، ثُمَّ إِذَا وَقَفَ الْقَاضِي عَلَى مَا عِنْدَ الْمُزَكِّينَ، فَإِنْ كَانَ جُرْحًا لَمْ يُظْهِرْهُ، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي: زِدْنِي فِي الشُّهُودِ، وَإِنْ كَانَ تَعْدِيلًا، عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، ثُمَّ حَكَى الْأَصْحَابُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الْحُكْمَ بِقَوْلِ الْمُزَكِّينَ، أَمْ بِقَوْلِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ؟ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: بِقَوْلِ الْمُزَكِّينَ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَسَائِلِ شُهُودٌ عَلَى شَهَادَةٍ، فَكَيْفَ تُقْبَلُ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ؟ وَإِنَّمَا هُمْ رُسُلٌ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَسْأَلَةِ وَاحِدًا، فَإِنْ عَادَ بِالْجُرْحِ، تَوَقَّفَ الْقَاضِي، وَإِنْ عَادَ بِالتَّعْدِيلِ، دَعَا مُزَكِّيَيْنِ لِيَشْهَدَا عِنْدَهُ بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ، وَيُشِيرَا إِلَيْهِ، وَيَأْمَنُ بِذَلِكَ مِنَ الْغَلَطِ مِنْ شَخْصٍ إِلَى شَخْصٍ.
قَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِنَّمَا يَحْكُمُ بِقَوْلِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، وَيُبْنَى عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِقَوْلِ الْمُزَكِّينَ.
قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً عَلَى شَهَادَةٍ تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّيَ لَا يُكَلَّفُ الْحُضُورَ، وَقَوْلُ الْإِصْطَخْرِيِّ أَصَحُّ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِمَا. قَالُوا: وَعَلَى هَذَا إِنَّمَا يَعْتَمِدُ الْقَاضِي قَوْلَ اثْنَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ، فَإِنْ وَصَفَاهُ بِالْفِسْقِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ، وَإِنْ وَصَفَاهُ بِالْعَدَالَةِ أَحْضَرَ الشَّاهِدَيْنِ لِيَشْهَدَا بِعَدَالَتِهِ، وَيُشِيرَا إِلَيْهِ
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَ الْأَصْحَابِ، فَقَدْ تَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِي هَذَا خِلَافٌ مُحَقَّقٌ، بَلْ إِنْ وَلِيَ صَاحِبُ الْمَسْأَلَةِ الْجَرْحَ وَالتَّعْدِيلَ، فَحُكْمُ الْقَاضِي مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَعْتَبِرُ الْعَدَدَ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِالْبَحْثِ، بَحَثَ وَوَقَفَ عَلَى حَالِ الشَّاهِدِ، وَشَهِدَ بِمَا وَقَفَ عَلَيْهِ، فَالْحُكْمُ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ، لَكِنْ يَعْتَبِرُ الْعَدَدَ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِمُرَاجَعَةِ مُزَكِّيَيْنِ، فَصَاعِدًا وَبِأَنْ يُعْلِمَهُ بِمَا عِنْدَهُمَا، فَهُوَ رَسُولٌ مَحْضٌ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِهِمَا فَلْيَحْضُرَا وَيَشْهَدَا. وَكَذَا لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا، لَأَنَّ الشَّاهِدَ الْفَرْعَ لَا يُقْبَلُ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ.
فَرْعٌ
مَنْ نَصَّبَ حَاكِمًا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ اعْتَبَرَ فِيهِ صِفَاتِ الْقُضَاةِ، وَمَنْ شُهِرَ بِالْعَدَالَةِ أَوِ الْفِسْقِ، اشْتَرَطَ فِيهِ صِفَاتِ الشُّهُودِ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ وَأَسْبَابِهِمَا، وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَدِّلُ خَبِيرًا بِبَاطِنِ حَالِ مَنْ يُعَدِّلُهُ لِصُحْبَةٍ أَوْ جِوَارٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ وَنَحْوِهَا، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» : وَيَلْزَمُ الْقَاضِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْمُزَكِّيَ خَبِيرٌ بِبَاطِنِ الشَّاهِدِ فِي كُلِّ تَزْكِيَةٍ إِلَّا إِذَا عَلِمَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُزَكِّي إِلَّا بَعْدَ الْخِبْرَةِ، ثُمَّ ظَاهِرُ لَفْظِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله اعْتِبَارُ التَّقَادُمِ فِي الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاخْتِبَارُ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُقَالَ: شِدَّةُ الْفَحْصِ وَالْإِمْعَانِ تَقُومُ مَقَامَ التَّقَادُمِ فِي الْمَعْرِفَةِ الْبَاطِنَةِ.
وَيُمْكِنُ الِاخْتِبَارُ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَيْسَ ذِكْرُ التَّقَادُمِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ، بَلْ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْبَاطِنَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِذَلِكَ، وَيُوَضِّحُ هَذَا مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ بِالْبَحْثِ، لِيَعْرِفَ حَالَ الشَّاهِدِ فَيُزَكِّيَهُ، وَلَوِ اعْتَبَرْنَا التَّقَادُمَ لَطَالَتِ الْمُدَّةُ، وَتَضَرَّرَ الْمُتَدَاعِيَانِ بِالتَّأْخِيرِ الطَّوِيلِ.
أَمَّا الْجَرْحُ، فَيَعْتَمِدُ فِيهِ الْمُعَايَنَةِ أَوِ السَّمَاعِ، فَالْمُعَايَنَةُ أَنْ يَرَاهُ يَزْنِي أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَالسَّمَاعُ بِأَنْ يَسْمَعَهُ يَقْذِفُ، أَوْ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِزِنًا أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ، فَإِنْ سَمِعَ مِنْ
غَيْرِهِ، نُظِرَ إِنْ بَلَغَ الْمُخْبِرُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ جَازَ الْجَرْحُ لِحُصُولِ الْعِلْمِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَبْلُغِ التَّوَاتُرَ، لَكِنِ اسْتَفَاضَ، جَازَ الْجَرْحُ أَيْضًا، صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَلَا يَجُوزُ الْجَرْحُ بِنَاءً عَلَى خَبَرِ عَدَدٍ يَسِيرٍ، لَكِنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِمْ بِشَرْطِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِ الْإِصْطَخْرِيِّ فِي أَنَّ الْحُكْمُ بِقَوْلِ أَصْحَابِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِيهِ أَصْحَابُ الْمَسَائِلِ خَبَرَ وَاحِدٍ مِنَ الْجِيرَانِ إِذَا وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ صِدْقُهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ ذِكْرُ سَبَبِ رُؤْيَةِ الْجُرْحِ أَوْ سَمَاعِهِ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، فَيَقُولُ مَثَلًا: رَأَيْتُهُ يَزْنِي، وَسَمِعْتُهُ يَقْذِفُ.
وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ يَقُولُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ: اسْتَفَاضَ عِنْدِي.
وَالثَّانِي - هُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الشَّامِلِ» -: لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ حَالَهُ، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَنَيْتَ شَهَادَتَكَ؟ كَمَا فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ، وَهَذَا أَقِيسُ وَيُحْكَى عَنِ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
وَلَا يُجْعَلُ الْجَارِحُ بِذِكْرِ الزِّنَى قَاذِفًا لِلْحَاجَةِ، كَمَا لَا يُجْعَلُ الشَّاهِدُ قَاذِفًا، فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ، فَلْيَكُنْ كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَى هَلْ يُجْعَلُونَ قَذَفَةً؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَوِ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ قَاذِفًا، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي شَهَادَتِهِ بِالْجَرْحِ، فَإِنَّهُ مَسْئُولٌ عَنْهُمَا وَهِيَ فِي حَقِّهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ أَوْ مُتَعَيَّنَةٌ فَهُوَ مَعْذُورٌ بِخِلَافِ شُهُودِ الزِّنَى، فَإِنَّهُمْ مَنْدُوبُونَ إِلَى السَّتْرِ، فَهُمْ مُقَصِّرُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِعَدَالَتِهِ مَنْ يَحْصُلُ بِخَبَرِهِ الِاسْتِفَاضَةُ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِبَاطِنِ مَنْ يَعْدِلُونَ، لَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَجُوزَ لَهُ تَعْدِيلُهُ بِذَلِكَ، وَتُقَامُ خِبْرَتُهُمْ مَقَامَ خِبْرَتِهِ، كَمَا أُقِيمَ فِي الْجَرْحِ رُؤْيَتُهُمْ مَقَامَ رُؤْيَتِهِ.
فَرْعٌ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُزَكُّونَ وَافِرِي الْعُقُولِ لِئَلَّا يُخْدَعُوا وَبُرَآءَ مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالْعَصَبِيَّةِ فِي النَّسَبِ وَالْمَذْهَبِ وَيَجْتَهِدُ فِي إِخْفَاءِ أَمْرِهِمْ لِئَلَّا يُشْهَرُوا فِي النَّاسِ بِالتَّزْكِيَةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ مِنَ الْمُزَكِّي؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ.
فَرْعٌ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَكِّيَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ الْآخَرَ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ. وَعَنْ كِتَابِ حَرْمَلَةَ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ، وَعَدَّلَهُمَا آخَرَانِ لَا يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي، وَزَكَّى الْآخَرَيْنِ مُزَكِّيَانِ لِلْقَاضِي، جَازَ. وَلَوْ زَكَّى وَلَدَهُ أَوْ وَالِدَهُ لَمْ يُقْبَلْ عَلَى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِبَادِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَرْعٌ
لَا تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ بِمُجَرَّدِ رُقْعَةِ الْمُزَكِّي عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يُعْتَمَدُ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا سَبَقَ، وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ لِلِاعْتِمَادِ عَلَى الرُّقْعَةِ، قَالَ فِي «الْوَسِيطِ» تَفْرِيعًا عَلَى الْأَوَّلِ: يَكْفِي رَسُولَانِ مَعَ الرُّقْعَةِ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُ الْمُشَافَهَةِ وَهَذَا ظَاهِرٌ إِنْ كَانَ الْقَاضِي يَحْكُمُ بِشَهَادَةِ الْمُزَكِّينَ، فَأَمَّا إِنْ وَلِيَ بَعْضُهُمُ الْحُكْمَ بِالْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ، فَلْيَكُنْ كِتَابُهُ كَكِتَابِ الْقَاضِيَ إِلَى الْقَاضِي، وَلْيَكُنِ الرَّسُولَانِ كَالشَّاهِدِينَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِيَ.
فَرْعٌ
لَا يُقْبَلُ الْجَرْحُ الْمُطْلَقُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ سَبَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ أَسْبَابَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ فِي
الْعُدَّةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ.
وَقِيلَ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ عَلِيٌّ وَلِيٌّ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي «الْأُمِّ» وَالْمُخْتَصَرِ لَكِنْ تَأَوَّلَهُ الْأَوَّلُونَ أَوْ جَعَلُوهُ تَأْكِيدًا لَا شَرْطًا.
وَلَا يَحْصُلُ التَّعْدِيلُ بِقَوْلِهِ: لَا أَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا خَيْرًا، أَوْ لَا أَعْلَمُ مِنْهُ مَا تَرِدُ بِهِ الشَّهَادَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا ارْتَابَ الْقَاضِي بِالشُّهُودِ، أَوْ تَوَهَّمَ غَلَطَهُمْ لِخِفَّةِ عَقْلٍ وَجَدَهَا فِيهِمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَهُمْ، وَيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ وَقْتِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَامًا وَشَهْرًا وَيَوْمًا وَغُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً، وَمَكَانَ مَحَلَّةٍ وَسِكَّةٍ، وَدَارٍ وَصِفَةٍ، وَيَسْأَلُ أَتَحَمَّلَ وَحْدَهُ أَمْ مَعَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ كَتَبَ شَهَادَتَهُ أَمْ لَا، وَأَنَّهُ كَتَبَ قَبْلَ فُلَانٍ أَمْ بَعْدَهُ، وَكَتَبُوا بِحِبْرٍ أَمْ بِمِدَادٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِيَسْتَدِلَّ عَلَى صِدْقِهِمْ إِنِ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَيَقِفُ إِنْ لَمْ تَتَّفِقْ.
وَإِذَا أَجَابَهُ أَحَدُهُمْ، لَمْ يَدَعْهُ يَرْجِعُ إِلَى الْبَاقِينَ حَتَّى يَسْأَلَهُمُ الْقَاضِي لِئَلَّا يُخْبِرَهُمْ بِجَوَابِهِ وَمَتَى اتَّفَقُوا عَلَى الْجَوَابِ، أَوْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلتَّفْصِيلِ، وَرَأَى أَنْ يَعِظَهُمْ، وَيُحَذِّرَهُمْ عُقُوبَةَ شَهَادَةِ الزُّورِ، فَعَلَ، فَإِنْ أَصَرُّوا، وَجَبَ الْقَضَاءُ إِذَا وَجَدَ شُرُوطَهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَبْقَى مِنْ رِيبَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيهِمْ خِفَّةً وَلَا رِيبَةً، فَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُهُمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَضًّا مِنْهُمْ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: يُفَرِّقُهُمْ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: إِنْ فَرَّقَهُمْ، بِمَسْأَلَةِ الْخَصْمِ، فَلَا بَأْسَ، ثُمَّ إِنَّ التَّفْرِيقَ وَالِاسْتِفْصَالَ جَعَلَهُ الْغَزَالِيُّ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَّلَهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ قَبْلَ الِاسْتِزْكَاءِ، فَإِنِ اطَّلَعَ عَلَى عَوْرَةٍ، اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِزْكَاءِ وَالْبَحْثِ عَنْ حَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ، فَإِنْ عَرَفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ، حَكَمَ، وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يَسْتَزْكِي، وَهَلْ هَذَا التَّفْرِيقُ وَالِاسْتِفْصَالُ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ الصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ وَالْبَغَوِيُّ، وَعَامَّةُ الْأَصْحَابِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلَفْظِ «الْمُخْتَصَرِ» أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَالثَّانِي وَاجِبٌ،
قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ. قَالَا: وَلَوْ تَرَكَهُ وَقَضَى مَعَ الِارْتِيَابِ، لَمْ يُنَفَّذْ. وَالثَّالِثُ: إِنْ سَأَلَ الْخَصْمَ وَجَبَ، وَإِلَّا فَلَا.
الْخَامِسَةُ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْجَرْحِ عَلَى بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ، لِزِيَادَةِ عِلْمِ الْجَارِحِ، فَلَوِ انْعَكَسَ الْأَمْرُ بِأَنْ قَالَ الْمُعَدِّلُ: قَدْ عَرَفْتُ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَارِحُ، لَكِنَّهُ تَابَ مِنْهُ، وَحَسُنَتْ حَالُهُ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ التَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّ مَعَ الْمُعَدِّلِ هُنَا زِيَادَةَ عِلْمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» وَقَوْلُ الْوَاحِدِ لَا يُقْبَلُ فِي الْجَرْحِ فَضْلًا عَنْ تَقْدِيمِهِ.
السَّادِسَةُ: عُدِّلَ الشَّاهِدُ، ثُمَّ شَهِدَ فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَطُلِ الزَّمَانُ، حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ، وَلَا يَطْلُبُ تَعْدِيلَهُ ثَانِيًا، وَإِنْ طَالَ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يَطْلُبُ تَعْدِيلَهُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّ طُولَ الزَّمَانِ يُغَيِّرُ الْأَحْوَالَ، ثُمَّ يَجْتَهِدُ الْحَاكِمُ فِي طُولِهِ وَقِصَرِهِ.
السَّابِعَةُ: شَهَادَاتُ الْمُسَافِرِينَ وَالْمُجْتَازِينَ مِنَ الْقَوَافِلِ، كَشَهَادَةِ غَيْرِهِمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَى التَّعْدِيلِ، فَإِنْ عَدَّلَهُمَا مُزَكِّيَانِ فِي الْبَلَدِ، أَوْ عَدَّلَ مُزَكِّيَانِ اثْنَيْنِ مِنَ الْقَافِلَةِ، ثُمَّ هُمَا عَدَّلَا الشَّاهِدِينَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَإِلَّا فَلَا.
الثَّامِنَةُ: سَأَلَ الْقَاضِي عَنِ الشُّهُودِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، فَعُدِّلُوا ثُمَّ عَادَ إِلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لَهُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ إِنْ جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ، وَخَالَفَهُ أَبُو عَاصِمٍ وَآخِرُونَ، وَقَالُوا: الْقِيَاسُ مَنْعُهُ، كَمَا لَوْ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ خَارِجَ وِلَايَتِهِ.
التَّاسِعَةُ: عُدِّلَ شَاهِدٌ، وَالْقَاضِي يَتَحَقَّقُ فِسْقَهُ بِالتَّسَامُعِ، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ وَلَا يَقْضِي. الْعَاشِرَةُ: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْحِسْبَةِ عَلَى الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ؛ لِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ، وَمَنْعُ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى.
الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
هُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى صَاحِبُ «التَّقْرِيبِ» قَوْلًا عَنْ رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِذَا كَانَ لِلدَّعْوَى اتِّصَالٌ بِحَاضِرٍ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابِ، وَفِي الْبَابِ أَطْرَافٌ:
الْأَوَّلُ: فِي الدَّعْوَى، وَيُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ مَا يُشْتَرَطُ فِيهَا عَلَى الْحَاضِرِ مِنْ بَيَانِ الْمُدَّعَى وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ وَقَوْلِهِ: إِنِّي مُطَالِبٌ بِالْمَالِ. وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ: لِي عَلَيْكَ كَذَا وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَأَنْ يَدَّعِيَ جُحُودَهُ، فَإِنْ قَالَ: هُوَ مُقِرٌّ لَمْ تُسْمَعْ بَيِّنَتُهُ وَلَغَتْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِجُحُودِهِ وَلَا إِقْرَارِهِ، فَهَلْ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ جُحُودَهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ، فَجُعِلَتِ الْغَيْبَةُ كَالسُّكُوتِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِيمَا إِذَا أَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، لِيَكْتُبَ الْقَاضِي بِهِ إِلَى حَاكِمِ بَلَدِ الْغَائِبِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَيْنِهِ لِيُوَفِّيَهُ الْقَاضِي تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ وَيُوَفِّيهِ، سَوَاءً قَالَ: هُوَ مُقِرٌّ، أَوْ جَاحِدٌ، وَهَلْ عَلَى الْقَاضِي لِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الْغَائِبِ أَنْ يَنْصِبَ مُسَخَّرًا يُنْكِرُ عَلَى الْغَائِبِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِتَكُونَ الْبَيِّنَةُ عَلَى إِنْكَارِ مُنْكِرٍ، وَأَصَحُّهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ قَدْ يَكُونُ مُقِرًّا، فَيَكُونُ إِنْكَارُ الْمُسَخَّرِ كَذِبًا.
وَمُقْتَضَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنْ لَا يَجُوزَ نَصْبُ الْمُسَخَّرِ، لَكِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعِبَادِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ نَصَّبَ وَإِلَّا فَلَا.
الطَّرَفُ الثَّانِي: فِي التَّحْلِيفِ، فَيُحَلِّفُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ عَلَى الْغَائِبِ بَعْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ وَتَعْدِيلِهَا أَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي يَدَّعِيهِ، وَلَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا اعْتَاضَ وَلَا اسْتَوْفَى، وَلَا أَحَالَ عَلَيْهِ هُوَ، وَلَا أُخِذَ مِنْ جِهَتِهِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ، فَيُحَلِّفُهُ عَلَى ثُبُوتِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ، وَوُجُوبِ تَسْلِيمِهِ، وَكَذَا يَحْلِفُ مَعَ الْبَيِّنَةِ [الْوَارِثُ] إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ مَيْتًا لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ، فَإِنْ كَانَ حَلَفَ بِسُؤَالِ الْوَارِثِ، وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ الطَّرْسُوسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ فِي الدَّعْوَى مَعَ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُزَنِيِّ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، لَكِنَّ هَذَا التَّحْلِيفَ وَاجِبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ وَجْهَانِ، وَيُقَالُ: قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: الْوُجُوبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ بِهِ.
وَمَنْ قَالَ بِالِاسْتِحْبَابِ قَالَ: لِأَنَّ تَدَارُكَ التَّحْلِيفِ بَاقٍ، وَالْوُجُوبُ فِي الْمَيْتِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْلَى لِعَجْزِهِمْ عَنِ التَّدَارُكِ، لَكِنَّ الْخِلَافَ مُطَّرِدٌ فِيهِمْ، حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْعِبَادِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَبَنَى عَلَى هَذَا مَا لَوْ أَقَامَ قَيِّمٌ طِفْلٍ بَيِّنَةً عَلَى قَيِّمِ طِفْلٍ، فَإِنْ أَوْجَبْنَا التَّحْلِيفَ، انْتَظَرْنَا حَتَّى يَبْلُغَ الْمُدَّعَى لَهُ، فَيُحَلَّفَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالِاسْتِحْبَابِ، قَضَى بِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْيَمِينِ هُنَا التَّعَرُّضُ لِصِدْقِ الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هُنَا كَامِلَةٌ وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ.
إِذَا لَمْ يَدَّعِ بِنَفْسِهِ، بَلِ ادَّعَى وَكِيلُهُ عَلَى غَائِبٍ لَا يُحَلَّفُ، بَلْ يُعْطَى الْمَالَ إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ مَالٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرًا، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي بِالْوِكَالَةِ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ: أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكَ الْغَائِبُ، وَأَرَادَ التَّأْخِيرَ إِلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكَّلُ، فَيَحْلِفَ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ، بَلْ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْحَقِّ، ثُمَّ يُثْبِتُ الْإِبْرَاءَ مِنْ بَعْدُ إِنْ كَانَتْ لَهُ حُجَّةٌ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى وَلِيُّ الصَّبِيِّ دَيْنًا لِلصَّبِيِّ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: إِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيَّ مِنْ
جِنْسِ مَا تَدَّعِيهِ قَدْرَ دَيْنِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ بَلْ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا أَثْبَتَهُ الْوَلِيُّ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، حَلَّفَهَ. وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ: أَبْرَأَنِي مُوَكِّلُكُ الْغَائِبُ، فَاحْلِفْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَهُ تَحْلِيفُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ يُخَالِفُهُ وَلَا يُحَلِّفُ الْوَكِيلَ وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَنْ يُحَلِّفَ الْقَاضِي وَكِيلَ الْمُدَّعِي عَلَى الْغَائِبِ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِالْإِبْرَاءِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ نِيَابَةً عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَ كَمَا نَابَ عَنْهُ فِي تَحْلِيفِ مَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ.
فَرْعٌ
يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَالْحَاضِرِ وَهَلْ يَكْفِي يَمِينٌ أَمْ يُشْتَرَطُ يَمِينَانِ إِحْدَاهُمَا لِتَكْمُلَ الْحُجَّةُ، وَالثَّانِي لِنَفْيِ الْمُسْقِطَاتِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي.
فَرْعٌ
تَعَلَّقَ بِرَجُلٍ وَقَالَ: أَنْتَ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ، وَلِي عَلَيْهِ كَذَا، وَأَدَّعِي عَلَيْكَ وَأُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فِي وَجْهِكَ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ وَكِيلٌ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يُخَاصِمَ، فَلْيَعْزِلْ نَفْسَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ أَنِّي وَكِيلٌ وَلَا يَقُولُ: لَسْتُ بِوَكِيلٍ فَيَكُونَ مُكَذِّبًا لِبَيِّنَةٍ قَدْ تَقُومُ بِالْوَكَالَةِ، وَهَلْ لِلْمُدَّعِي إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى وِكَالَةِ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لِيَسْتَغْنِيَ عَنْ ضَمِّ الْيَمِينِ إِلَى الْبَيِّنَةِ، وَلِيَكُونَ الْقَضَاءُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَأَصَحُّهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقٌّ لَهُ، فَكَيْفَ يُقَامُ بَيِّنَةٌ بِهَا قَبْلَ دَعْوَاهُ.
الطَّرَفُ الثَّالِثُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، فَالْقَاضِي بَعْدَ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ عَلَى الْغَائِبِ قَدْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَيُنْهِي الْأَمْرَ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ لِيَحْكُمَ وَيَسْتَوْفِيَ، وَقَدْ يُحَلِّفُهُ كَمَا سَبَقَ، وَيَحْكُمُ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي قَدْ يَكُونُ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ يُمْكِنُ أَدَاءُ الْحَقِّ مِنْهُ فَيُؤَدَّى، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَيَسْأَلُ الْمُدَّعِي الْقَاضِيَ إِنْهَاءَ الْحُكْمِ إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْغَائِبِ، فَيُجِيبُهُ إِلَيْهِ.
وَلِلْإِنْهَاءِ طَرِيقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُشْهِدَ عَلَى حُكْمِهِ عَدْلَيْنِ يَخْرُجَانِ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكْتُبَ بِذَلِكَ كِتَابًا أَوَّلًا، ثُمَّ يَشْهَدُ، وَصُورَةُ الْكِتَابِ: حَضَرَ فُلَانٌ، وَادَّعَى عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ الْمُقِيمِ بِبَلَدِ كَذَا، وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَهُمَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقَدْ عُدِّلَا عِنْدِي، وَحَلَّفْتُ الْمُدَّعِيَ، وَحَكَمْتُ لَهُ بِالْمَالِ، فَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ فِي ذَلِكَ فَأَجَبْتُهُ، وَأَشْهَدْتُ بِذَلِكَ فُلَانًا وَفُلَانًا.
وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَا ذِكْرُ أَصْلِ الْإِشْهَادِ، وَلَا تَسْمِيَةُ شُهُودِ الْحَقِّ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكْتُبَ: شَهِدَ عِنْدِي عُدُولٌ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَصِفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمْ تَعْدِيلًا لَهُمْ، ذَكَرَهُ فِي الْعُدَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَصْلِ الشَّهَادَةِ، فَيَكْتُبُ: حَكَمْتُ بِكَذَا بِحُجَّةٍ أَوْجَبَتِ الْحُكْمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْكُمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَقَدْ يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ إِذَا جَوَّزْنَاهُ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ يَدْفَعُ بِهَا الْقَاضِيَ قَدْحَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا حَكَمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ.
وَفِي فَحْوَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ مَانِعٌ مِنْ إِبْهَامِ الْحُجَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ الطَّعْنِ وَالْقَدْحِ عَلَى الْخَصْمِ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتِمَ الْكِتَابَ وَيَدْفَعَ إِلَى الشَّاهِدَيْنِ نُسْخَةً غَيْرَ مَخْتُومَةٍ لِيُطَالِعَاهَا، وَيَتَذَاكَرَا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ نَقْشَ خَاتَمِهِ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وَأَنْ يُثْبِتَ اسْمَ نَفْسِهِ، وَاسْمَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ فِي بَاطِنِ الْكِتَابِ، وَفِي الْعُنْوَانِ أَيْضًا. وَأَمَّا الْإِشْهَادُ، فَإِنْ أَشْهَدَهُمَا أَنَّهُ حَكَمَ بِكَذَا، وَلَا كِتَابَ، شَهِدَا بِهِ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَإِنْ أَنْشَأَ الْحُكْمَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ
يُشْهِدْهُمَا، وَإِنْ كَتَبَ، ثُمَّ أَشْهَدَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ الْكِتَابَ أَوْ يُقْرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا ثُمَّ يَقُولُ لَهُمَا: اشْهَدَا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، أَوْ عَلَى حُكْمِي الْمُبَيَّنِ فِيهِ، وَفِي «الشَّامِلِ» أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا كِتَابِي إِلَى فُلَانٍ، أَجَزَأَ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمَا، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَنْظُرَ الشَّاهِدَانِ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمَا فِي الْكِتَابِ، فَلَوْ لَمْ يَقْرَأِ الْكِتَابَ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَعْلَمَا مَا فِيهِ، قَالَ الْقَاضِي: أُشْهِدُكُمَا عَلَى أَنَّ هَذَا كِتَابِي أَوْ مَا فِيهِ خَطِّي، لَمْ يَكْفِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا عَلَى حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُكْتَبُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِحَقِيقَةٍ.
وَلَوْ قَالَ: أُشْهِدُكُمَا عَلَى أَنَّ مَا فِيهِ حُكْمِي، أَوْ عَلَى أَنِّي قَضَيْتُ بِمَضْمُونِهِ، فَوَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: لَا يَكْفِي حَتَّى يُفَصِّلَ مَا حَكَمَ بِهِ، وَالثَّانِي: يَكْفِي لِإِمْكَانِ مَعْرِفَةِ التَّفْصِيلِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: أَشْهَدْتُكَ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْقُبَالَةِ وَأَنَا عَالِمٌ بِهِ، لَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ فِي الْإِقْرَارِ أَنَّهُ يَكْفِي، حَتَّى إِذَا سَلَّمَ الْقُبَالَةَ إِلَى الشَّاهِدِ، وَحِفْظَهَا الشَّاهِدُ، وَأَمِنَ التَّحْرِيفَ، جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إِقْرَارِهِ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ، وَقَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الْإِقْرَارِ أَيْضًا حَتَّى يَقْرَأَهُ وَيُحِيطَ بِمَا فِيهِ، قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الشَّاهِدَ هَلْ يَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَضْمُونِ الْقُبَالَةِ مُفَصَّلًا.
فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مُبْهَمًا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ بِلَا خِلَافٍ كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ الْمُبْهَمَةِ، ثُمَّ سَوَاءٌ شَهِدَ كَذَا أَوْ كَذَا، فَإِنَّمَا يَشْهَدُ إِذَا كَانَ الْكِتَابُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ، وَأَمِنَ التَّصَرُّفَ.
فَرْعٌ
التَّعْوِيلُ عَلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكِتَابِ التَّذَكُّرُ، وَمِنَ الْخَتْمِ الِاحْتِيَاطُ، وَإِكْرَامُ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، فَلَوْ ضَاعَ الْكِتَابُ، أَوِ امَّحَى
أَوِ انْكَسَرَ الْخَتْمُ، وَشَهِدَا بِمَضْمُونِهِ الْمَضْبُوطِ عِنْدَهُمَا، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَقُضِيَ بِهَا، فَلَوْ شَهِدَا بِخِلَافِ مَا فِي الْكِتَابِ، عُمِلَ بِشَهَادَتِهِمَا، وَلَا يَكْفِي الْكِتَابُ الْمُجَرَّدُ.
وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: إِذَا وَثِقَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِالْخَطِّ وَالْخَتْمِ، كَفَى، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَيُشْتَرَطُ إِشْهَادُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، فَلَا يُقْبَلُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَقِيلَ: يُقْبَلُ إِنْ تَعَلَّقَتِ الْحُكُومَةُ بِمَالٍ، وَذَكَرَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكِتَابُ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، كَفَى شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى قَوْلِنَا: يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ، وَأَنَّهُ لَوْ كَتَبَ بِالزِّنَى وَجَوَّزْنَا كِتَابَ الْقَاضِي إِلَى قَاضٍ فِي الْعُقُوبَاتِ هَلْ يَثْبُتُ بِرَجُلَيْنِ أَمْ يُشْتَرَطُ أَرْبَعَةٌ؟ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى.
فَرْعٌ
إِذَا وَصَلَ كِتَابُ الْقَاضِي وَحَامِلُهُ إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الْآخَرِ، أَحْضَرَ الْخَصْمَ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالْمُدَّعَى، اسْتَوْفَاهُ، وَإِلَّا فَيَشْهَدُ الشَّاهِدَانِ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي فُلَانٍ وَخَتْمُهُ حَكَمَ فِيهِ لِفُلَانٍ بِكَذَا عَلَى هَذَا وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَأَشْهَدَنَا بِهِ، وَلَوْ لَمْ يَقُولُوا: أَشْهَدَنَا بِهِ، جَازَ، وَلَا يَكْفِي ذِكْرُهُمَا الْكِتَابَ وَالْخَتْمَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّعَرُّضِ لِحُكْمِهِ.
ثُمَّ فِي «التَّهْذِيبِ» وَالرَّقْمِ أَنَّ الْقَاضِيَ إِنَّمَا نَقَضَ الْخَتْمَ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَتَعْدِيلِهِمْ، وَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ يَفْتَحُ الْكِتَابَ أَوَّلًا ثُمَّ يَشْهَدُونَ. وَيُوَافِقُ هَذَا قَوْلَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الشُّهُودَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ، ثُمَّ يَشْهَدُونَ لِيَقِفُوا عَلَى مَا فِيهِ، وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يُخْرَقْ، وَلَيْسَ هَذَا خِلَافًا فِي الْجَوَازِ، وَكَيْفَ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْخَتْمَ مِنْ أَصْلِهِ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَكَمَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى مَا لَا خَتْمَ عَلَيْهِ تُقْبَلُ عَلَى الْمَفْضُوضِ خَتْمُهُ، وَسَوَاءٌ فَضَّهُ الْقَاضِي أَوْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَدَبِ وَالِاحْتِيَاطِ.
فَرْعٌ
يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى قَاضٍ مُعَيَّنٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يُطْلِقَ فَيَكْتُبَ إِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ إِلَى مُعَيَّنٍ، فَشَهِدَ شَاهِدَا الْحُكْمِ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا وَأَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ: وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ؛ اعْتِمَادًا عَلَى الشَّهَادَةِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الْكَاتِبُ وَشَهِدَا عَلَى حُكْمِهِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَوْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ، وَشَهِدَا عِنْدَ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا، وَأَمْضَى الْحُكْمَ.
وَالْعَزْلُ وَالْجُنُونُ وَالْعَمَى وَالْخَرَسُ كَالْمَوْتِ. وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إِلَى خَلِيفَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي، أَوْ عُزِلَ، تَعَذَّرَ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْقَبُولُ وَالْإِمْضَاءُ إِنْ قُلْنَا: يَنْعَزِلُ بِانْعِزَالِ الْأَصْلِ، وَلَوِ ارْتَدَّ الْقَاضِي الْكَاتِبُ أَوْ فَسَقَ، ثُمَّ وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، فَوَجْهَانِ، قَطَعَ ابْنُ الْقَاصِّ وَصَاحِبَا «الْمُهَذَّبِ» وَ «التَّهْذِيبِ» وَآخَرُونَ بِأَنَّ الْكِتَابَ إِنْ كَانَ بِالْحُكْمِ الْمُبْرَمِ، أُمْضِيَ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ الْحَادِثَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ، وَإِنْ كَانَ بِسَمَاعِ الشَّهَادَةِ، لَمْ يُقْبَلْ وَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ، كَمَا لَوْ فَسَقَ الشَّاهِدُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَأَطْلَقَ ابْنُ كَجٍّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ كِتَابُهُ إِذَا فَسَقَ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَابْنِ الصَّبَّاغِ.
فَرْعٌ
شُهُودُ الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ يُشْتَرَطُ ظُهُورُ عَدَالَتِهِمْ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَهَلْ تَثْبُتُ عَدَالَتُهُمْ بِتَعْدِيلِ الْكَاتِبِ إِيَّاهُمْ؟ وَجْهَانِ، قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: نَعَمْ لِلْحَاجَةِ، وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ تَعْدِيلٌ قَبْلَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ كَتَعْدِيلِ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ بِهِ عَدَالَتُهُمْ لَثَبَتَتْ بِقَوْلِهِمْ، وَالشَّاهِدُ لَا يُزَكِّي نَفْسَهُ.
فَرْعٌ
يَنْبَغِي أَنْ يُثْبِتَ الْقَاضِي فِي الْكِتَابِ اسْمَ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَكُنْيَتَهُمَا، وَاسْمَ أَبَوَيْهِمَا، وَجَدَّيْهِمَا، وَحِلْيَتَهُمَا، وَصَنْعَتَهُمَا،
وَقَبِيلَتَهُمَا لِيَسْهُلَ التَّمْيِيزُ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا ظَاهِرَ الصِّيتِ، وَحَصَلَ الْإِعْلَامُ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا، اكْتُفِيَ بِهِ. وَإِذَا أَثْبَتَ الْأَوْصَافَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَحُمِلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَأَحْضَرَ الْحَامِلُ عِنْدَهُ مَنْ زَعَمَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، نُظِرَ إِنْ شَهِدَ شُهُودُ الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ عَلَى عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ حَكَمَ عَلَيْهِ، طُولِبَ بِالْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى عَيْنِهِ، لَكِنْ شَهِدُوا عَلَى مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ، فَأَنْكَرَ الْمُحْضَرُ أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ، وَنَكَلَ الْمُحْضَرُ، حُلِّفَ الْمُدَّعِي، وَتَوَجَّهَ لَهُ الْحُكْمُ.
وَلَوْ قَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ اسْمِي وَنَسَبِي، وَلَكِنْ أَحْلِفُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، فَحَكَى الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ عَنِ الصَّيْدَلَانِيِّ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ الْيَمِينُ هَكَذَا، كَمَا لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ قَرْضًا، فَأَنْكَرَ، وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ، وَاخْتَارَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَفَرَّقَا بِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَيْسَ بِحُجَّةِ، وَهُنَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَقَّ عَلَيْهِ إِنْ ثَبَتَ كَوْنُهُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّهُ اسْمُهُ وَنَسَبُهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، لَكِنْ لَسْتُ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الِاسْمِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، لَزِمَهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَإِنْ وُجِدَ بِأَنْ عَرَفَهُ الْقَاضِيَ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَأُحْضِرَ الْمُشَارِكُ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ، طُولِبَ بِهِ، وَخَلُصَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ أَنْكَرَ بَعَثَ الْحَاكِمُ إِلَى الْكَاتِبِ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْإِشْكَالِ، لِيُحْضِرَ الشَّاهِدَيْنِ، وَيَطْلُبَ مِنْهُمَا مَزِيدَ صِفَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَإِنْ ذَكَرَا مَزِيدًا، كَتَبَ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَإِلَّا وَقَفَ الْأَمْرُ حَتَّى تَنْكَشِفَ.
وَلَوْ أَقَامَ الْمُحْضِرُ بَيِّنَةً عَلَى مَوْصُوفٍ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كَانَ هُنَاكَ وَقَدْ مَاتَ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْحُكْمِ، فَقَدْ وَقَعَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ، فَإِنْ لَمْ يُعَاصِرْهُ الْمَحْكُومُ