المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فَصْلٌ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الطَّرَفِ أَنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ قَدْ - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ١١

[النووي]

الفصل: ‌ ‌فَصْلٌ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الطَّرَفِ أَنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ قَدْ

‌فَصْلٌ

ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الطَّرَفِ أَنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ قَدْ يَحْكُمُ، وَيُنْهِيهِ إِلَى حَاكِمٍ آخَرَ، وَقَدْ يَقْتَصِرُ عَلَى السَّمَاعِ وَيُنْهِيهِ، وَفَرَغْنَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَنُقَدِّمُ عَلَيْهِ مُقَدَّمَةً فِيمَا يَمْتَازُ بِهِ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ عَلَى الثَّانِي وَفِي فُرُوعٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ.

اعْلَمْ أَنَّ صِيَغَ الْحُكْمِ فِي قَوْلِهِ: حَكَمْتُ عَلَى فُلَانٍ لِفُلَانٍ بِكَذَا وَأَلْزَمْتُهُ، لِمَا سَبَقَ فِي الْأَدَبِ الْخَامِسِ مِنَ الْبَابِ الثَّانِي، فَلَوْ قَالَ: ثَبَتَ عِنْدِي كَذَا بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ، أَوْ صَحَّ، فَهَلْ هُوَ حُكْمٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ تَحْقِيقِ الشَّيْءِ جَزْمًا وَأَصَحُّهُمَا لَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ قَبُولُ الشَّهَادَةِ، وَاقْتِضَاءُ الْبَيِّنَةِ صِحَّةُ الدَّعْوَى، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: سَمِعْتُ الْبَيِّنَةَ وَقَبِلْتُهَا وَلِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِلْزَامُ، وَالثُّبُوتُ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ.

وَأَمَّا مَا يُكْتَبُ [عَلَى] ظُهُورِ الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَهُوَ: صَحَّ وُرُودُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيَّ، فَقَبِلْتُهُ قَبُولَ مِثْلِهِ، وَأَلْزَمْتُ الْعَمَلَ بِمُوجَبِهِ، فَلَيْسَ بِحُكْمٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ تَصْحِيحُ الْكِتَابِ، وَإِثْبَاتُ الْحُجَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُلْزِمَ الْقَاضِي الْمَيِّتَ بِمُوجَبِ إِقْرَارِهِ فِي حَيَاتِهِ؟ وَجْهَانِ. وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَا يَحْكُمُ بِهِ، وَمَنْ يَحْكُمُ لَهُ، لَكِنْ قَدْ يُبْتَلَى الْقَاضِي بِظَالِمٍ يُرِيدُ مَا لَا يَجُوزُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى مُلَايَنَتِهِ، فَرُخِّصَ لَهُ دَفْعُهُ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ أَسْعَفَهُ بِمُرَادِهِ.

مِثَالُهُ: أَقَامَ خَارِجٌ بَيِّنَةً وَدَاخِلٌ بَيِّنَةً، وَالْقَاضِي يَعْلَمُ فِسْقَ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى مُلَايَنَتِهِ، وَطَلَبَ الْحُكْمَ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، فَيَكْتُبُ: حَكَمْتُ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ فُلَانٍ الدَّاخِلِ، وَفُلَانٍ الْخَارِجِ، وَقَرَّرْتُ الْمَحْكُومَ بِهِ فِي يَدِ الْمَحْكُومِ لَهُ، وَسَلَّطْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَكَّنْتُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ

ص: 185

الْمُقَدَّمَةُ، فَإِذَا لَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي، وَأَنْهَى مَا جَرَى مِنَ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ بِالْكِتَابِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ كِتَابَ نَقْلِ الشَّهَادَةِ، وَكِتَابَ التَّثْبِيتِ، أَيْ: تَثْبِيتِ الْحُجَّةِ.

وَيَنُصُّ عَلَى الْحُجَّةِ، فَيَذْكُرُ أَنَّهُ قَامَتْ عِنْدَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ، أَوْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَحَلَفَ الْمُدَّعِي، وَإِنَّمَا يَنُصُّ عَلَى الْحُجَّةِ، لِيَعْرِفَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ تِلْكَ الْحُجَّةَ، فَقَدْ لَا يَرَى بَعْضَ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ لِيَقْضِيَ بِهِ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ؟ قَالَ فِي الْعُدَّةِ: لَا يَجُوزُ وَإِنْ جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُحْكَمْ بِهِ هُوَ كَالشَّاهِدِ وَالشَّهَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِالْكِتَابَةِ.

وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ جَوَازُهُ، وَيَقْضِي بِهِ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ إِذَا جَوَّزْنَا الْقَضَاءَ بِالْعِلْمِ. وَإِذَا كَتَبَ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، فَلْيُسَمِّ الشَّاهِدَيْنَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَبْحَثَ عَنْ حَالِهِمَا وَيُعَدِّلَهُمَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ بَلَدِهِمَا أَعْرَفُ بِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَعَلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ الْبَحْثُ وَالتَّعْدِيلُ. إِذَا عُدِّلَ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ اسْمَ الشَّاهِدَيْنِ؟ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: لَا، وَالْقِيَاسُ الْجَوَازُ، كَمَا أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ، اسْتَغْنَى عَنْ تَسْمِيَةِ الشُّهُودِ، وَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَهَلْ يَأْخُذُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِتَعْدِيلِ الْكِتَابِ أَمْ لَهُ الْبَحْثُ وَإِعَادَةُ التَّعْدِيلِ؟ لَفْظُ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي الثَّانِي، وَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَعَلَهُ الْقِيَاسُ هُوَ الصَّوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَا حَاجَةَ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِلَى تَحْلِيفِ الْمُدَّعِي، وَالْقَوْلُ فِي إِشْهَادِ الْقَاضِي، وَفِي أَدَاءِ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَفِي دَعْوَى الْخَصْمِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُشَارِكُهُ فِي الِاسْمِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا عَدَّلَ الْكَاتِبُ شُهُودَ الْحَقِّ، فَجَاءَ الْخَصْمُ بِبَيِّنَتِهِ عَلَى جَرْحِهِمْ

ص: 186

سُمِعَتْ، وَيُقَدَّمُ عَلَى التَّعْدِيلِ، وَإِنِ اسْتَمْهَلَ الْبَيِّنَةَ الْجَرْحُ أُمْهِلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتَنِي، أَوْ قَضَيْتَ الْحَقَّ وَاسْتَمْهَلَ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ.

وَلَوْ قَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى بَلَدِهِمْ وَأَجْرَحَهُمْ، فَإِنِّي لَا أَتَمَكَّنُ مِنْ جَرْحِهِمْ إِلَّا هُنَاكَ، أَوْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ أُخْرَى هُنَاكَ دَافِعَةٌ، لَمْ يُمْهَلْ، بَلْ يُؤْخَذُ الْحَقُّ مِنْهُ، فَإِذَا أَثْبَتَ جَرْحًا أَوْ دَفْعًا، اسْتُرِدَّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كِتَابُ الْحُكْمِ وَكِتَابُ نَقْلِ الشَّهَادَةِ. وَفِي الْعُدَّةِ أَنَّهُ لَوْ سَأَلَهُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ إِحْلَافَ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَقَدْ حَضَرَ الْخَصْمُ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَلَوْ سَأَلَ إِحْلَافَهُ عَلَى عَدَالَتِهِمْ لَمْ يُجِبْهُ، وَكَفَى تَعْدِيلُ الْحَاكِمِ إِيَّاهُمْ، وَأَنَّهُ لَوِ ادَّعَى قَضَاءَ الدَّيْنِ، وَسَأَلَ إِحْلَافَهُ: أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِهِ، لَمْ يُحَلَّفْ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ أَحْلَفَهُ.

وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي مِثْلِهِ فِي دَعْوَى الْإِبْرَاءِ أَنَّهُ يُحَلِّفُهُ: أَنَّهُ لَمْ يُبَرِّئْهُ فَحَصَلَ وَجْهَانِ.

فَرْعٌ

فِي مُشَافَهَةِ الْقَاضِي قَاضِيًا بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ فَإِذَا نَادَى قَاضٍ مِنْ طَرَفِ وِلَايَتِهِ قَاضِيًا مِنْ طَرَفِ وِلَايَتِهِ: إِنِّي سَمِعْتُ الْبَيِّنَةَ بِكَذَا، أَوْ جَوَّزْنَا قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ، فَقَالَ ذَلِكَ قَاضٍ لِقَاضٍ، هَلْ لِلْمَقُولِ لَهُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ؟ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَإِنْهَاءَ الْحَالِ إِلَى قَاضٍ آخَرَ هَلْ هُوَ نَقْلٌ كَشَهَادَةِ الشُّهُودِ كَنَقْلِ الْفُرُوعِ شَهَادَةَ الْأُصُولِ، أَمْ حُكْمٌ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَا يَحْكُمُ بِالْفَرْعِ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ.

وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ كَمَا فِي الْحُكْمِ الْمُبْرَمِ، وَهَذَا أَرْجَحُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ، وَقَالُوا أَيْضًا: كِتَابُ السَّمَاعِ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْكَاتِبِ وَبَيْنَ الَّذِي بَلَغَهُ الْكِتَابُ بِحَيْثُ يُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا الشَّهَادَةُ عَلَى

ص: 187

الشَّهَادَةِ، وَهَذَا نَصُّهُ فِي «عُيُونِ الْمَسَائِلِ» وَلَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِخَلِيفَتِهِ: اسْمَعْ دَعْوَى فُلَانٍ وَبَيِّنَتَهُ، وَلَا تَحْكُمْ بِهِ حَتَّى تُعَرِّفَنِي، فَفَعَلَ هَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ؟ الْقِيَاسُ أَنَّهُ كَإِنْهَاءِ أَحَدِ الْقَاضِيَيْنِ فِي الْبَلَدِ إِلَى الْآخَرِ، لِإِمْكَانِ حُضُورِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ، لَكِنَّ الْأَشْبَهَ هُنَا الْجَوَازُ، وَبِهِ أَجَابَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرُّويَانِيُّ مَعَ تَوَقُّفٍ فِيهِ.

الطَّرَفُ الرَّابِعُ فِي الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ الْغَائِبِ عَلَى غَائِبٍ. الْغَيْبَةُ وَالْحُضُورُ إِنَّمَا تَتَعَاقَبَانِ الْأَعْيَانَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ دَعْوَى نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ رَجْعَةٍ، أَوْ إِثْبَاتِ وِكَالَةٍ، فَلَا يُوصَفُ الْمُدَّعِي بِغَيْبَةٍ وَلَا حُضُورٍ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا.

وَمَتَى ادَّعَى عَيْنًا، فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً مُشَارًا إِلَيْهَا، سُلِّمَتْ إِلَى الْمُدَّعِي إِذَا تَمَّتْ حُجَّتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً، فَلَهَا حَالَانِ الْأُولَى أَنْ تَكُونَ غَائِبَةً عَنِ الْبَلَدِ، فَهِيَ إِمَّا عَيْنٌ يُؤْمَنُ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ وَالِاخْتِلَاطُ، كَالْعَقَارِ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ مَعْرُوفَيْنِ، وَإِمَّا غَيْرِهَا، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَسْمَعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ، وَيَحْكُمُ وَيَكْتُبُ إِلَى قَاضِي بَلَدِ ذَلِكَ الْمَالِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَيَعْتَمِدُ فِي الْعَقَارِ عَلَى ذِكْرِ الْبُقْعَةِ وَالسِّكَّةِ وَالْحُدُودِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحُدُودِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَدَّيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَلَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لِلْقِيمَةِ عَلَى الْأَصَحِّ لِحُصُولِ التَّمْيِيزِ دُونَهُ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي كَغَيْرِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهَا فَهَلْ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنِهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ؟ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا نَعَمْ، كَمَا يَسْمَعُ عَلَى الْخَصْمِ الْغَائِبِ اعْتِمَادًا عَلَى الْحِلْيَةِ وَالصِّفَةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَالْعَقَارِ.

وَالثَّانِي: لَا، لِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيُّ، وَرَجَّحَهُ طَائِفَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرَابِيسِيِّ، وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ الْقَاصِّ، وَأَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ، وَبِهِ أَفْتَى الْقَفَّالُ.

فَإِذَا قُلْنَا بِهِ، فَهَلْ يَحْكُمُ لِلْمُدَّعِي بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ؟ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: نَعَمْ كَالْعَقَارِ، وَأَظْهَرُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَعَ خَطَرِ الِاشْتِبَاهِ وَالْجَهَالَةِ

ص: 188

بِعِيدٌ. وَالْحَاصِلُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أَظْهَرُهَا: تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَالِغَ الْبَيِّنَةَ وَلَا يَحْكُمَ، وَالثَّانِي لَا يَسْمَعُ وَلَا يَحْكُمُ، وَالثَّالِثُ يَسْمَعُ وَيَحْكُمُ، هَذِهِ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ، وَطَرَدُوهَا فِي جَمِيعِ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ، وَقَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ: مَا لَا يُؤَمَنُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ ضَرْبَانِ مَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ بِالصِّفَاتِ وَالْحُلِيِّ كَالْحَيَوَانِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ لِكَثْرَةِ أَمْثَالِهِ كَالْكِرْبَاسِ، فَالْأَوَّلُ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَقَطَعَا فِي الْكِرْبَاسِ وَنَحْوِهِ [بِأَنَّهُ] لَا تَرْتَبِطُ الدَّعْوَى وَالْحُكْمُ بِالْعَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُبَالِغَ الْمُدَّعِي فِي الْوَصْفِ بِمَا يُمْكِنُ الِاسْتِقْصَاءِ وَالتَّعَرُّضِ لِلثَّبَاتِ.

وَبِمَاذَا يَضْبِطُ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَحَدُهُمَا لِتَعَرُّضِ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي السَّلَمِ، وَالثَّانِي يَتَعَرَّضُ لِلْقِيمَةِ، وَتَكْفِي عَنْ ذَلِكَ الصِّفَاتُ، قَالُوا: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الرُّكْنَ فِي تَعْرِيفِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ذِكْرُ الصِّفَاتِ وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مُسْتَحَبٌّ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ، الرُّكْنُ الْقِيمَةُ، وَذِكْرُ الصِّفَاتِ مُسْتَحَبٌّ، ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي إِلَى قَاضِي بَلَدِ الْمَالِ بِمَا جَرَى عِنْدَهُ مِنْ مُجَرَّدِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ، أَوْ مَعَ الْحُكْمِ إِنْ جَوَّزْنَا الْحُكْمَ الْمُبْرَمَ، فَإِنْ أَظْهَرَ الْخَصْمُ هُنَاكَ عَبْدًا آخَرَ بِالِاسْمِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي يَدِهِ، أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِ، فَقَدْ صَارَ الْقَضَاءُ مُبْهَمًا، وَانْقَطَعَتِ الْمُطَالَبَةُ فِي الْحَالِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِدَافِعٍ، فَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ كِتَابَ حُكْمٍ، وَجَوَّزْنَاهُ، حَلَفَ الْمُدَّعِي أَنَّ هَذَا الْمَالَ هُوَ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ عِنْدَ الْقَاضِي فُلَانٍ، وَتَسَلَّمَ إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاصِّ فِي كِتَابِ آدَابِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ كِتَابَ سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ، انْتَزَعَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ الْمَالَ، وَبَعَثَهُ إِلَى الْكَاتِبِ، لِيَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى عَيْنِهِ، وَفِي طَرِيقِهِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ: يُسَلَّمُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِبَدَنِهِ.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: يَكْفُلُهُ قِيمَةَ الْمَالِ، فَإِنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ، وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى عَيْنِهِ

ص: 189

وَسَلَّمَ بِهِ، كَتَبَ الْقَاضِي بِذَلِكَ إِبْرَاءَ الْكَفِيلِ وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدَّعِي الرَّدُّ، وَمُؤْنَتُهُ، وَيَخْتِمُ الْعَيْنَ عِنْدَ تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ بِخَتْمٍ لَازِمٍ، فَإِنْ كَانَ عَبْدًا، جَعَلَ فِي عُنُقِهِ الْقِلَادَةَ، وَيَخْتِمُ عَلَيْهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَتْمِ أَنْ لَا يُبَدَّلَ الْمَأْخُوذُ بِمَا لَا يَسْتَرِيبُ الشُّهُودُ فِي أَنَّهُ لَهُ، وَأَخْذُ الْكَفِيلِ وَاجِبٌ، وَالْخَتْمُ مُسْتَحَبٌّ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوْ كَانَ لِلْمُدَّعِي جَارِيَةٌ، فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهَا كَالْعَبْدِ، وَالثَّانِي: لَا تُبْعَثُ أَصْلًا، وَالثَّالِثُ: تُسَلَّمُ إِلَى أَمِينٍ فِي الرُّفْقَةِ لَا إِلَى الْمُدَّعِي، وَهَذَا حَسَنٌ.

قُلْتُ: هَذَا الثَّالِثُ هُوَ الصَّحِيحُ أَوِ الصَّوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الشُّهُودَ إِذَا شَهِدُوا عَلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الْكَاتِبِ، سَلَّمَهُ إِلَى الْمُدَّعِي، وَقَدْ تَمَّ الْحُكْمُ لَهُ، ثُمَّ يَكْتُبُ إِبْرَاءَ الْكَفِيلِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَفِي «الْفُرُوقِ» لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَخْتِمُ عَلَى رَقَبَتِهِ خَتْمًا ثَانِيًا، وَيَكْتُبُ بِأَنِّي حَكَمْتُ بِهِ لِفُلَانٍ، وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الْمَكْتُوبِ لَهُ، لِيَرُدَّهُ إِلَى الْقَاضِي الثَّانِي، فَيَقْرَأُ الْكِتَابَ، وَيُطْلِقُ الْكَفِيلَ، وَيُسَلِّمُ الْعَبْدَ إِلَى الْمُدَّعِي.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ الْقَاضِيَ بَعْدَ الِانْتِزَاعِ يَبِيعُهُ لِلْمُدَّعِي، وَيَقْبِضُ مِنْهُ الثَّمَنَ، وَيَضَعُهُ عِنْدَ عَدْلٍ، أَوْ يَكْفُلُهُ بِالثَّمَنِ، فَإِنَّ سُلِّمَ لِلْمُدَّعِي بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ، كَتَبَ بِرَدِّ الثَّمَنِ، أَوْ بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ، وَبَانَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَيُسَلَّمُ الثَّمَنُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذَا بَيْعٌ يَتَوَلَّاهُ الْقَاضِي لِلْمَصْلَحَةِ، كَمَا يَبِيعُ الضَّوَالَّ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ بَدَلَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ إِلَيْهِ الْمَالَ، وَيَأْخُذُ الْقِيَمَ وَيَدْفَعُهَا إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَزْعُمُهُ مِلْكًا لَهُ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّ هَذِهِ الْقِيمَةَ، سَوَاءً ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمُدَّعِي أَمْ لَا.

ص: 190

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ غَائِبَةً عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ دُونَ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا أُمِرَ بِإِحْضَارِهِ لِتَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِهَا، وَلَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى صِفَتِهَا هَذَا [هُوَ] الْجَوَابُ فِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ.

وَيُشْبِهُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ وَجْهٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ، هَلْ تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ عَنِ الْمَجْلِسِ؟ ثُمَّ إِنَّمَا يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ مَا يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ بِتَيَسُّرٍ فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ، كَالْعَقَارِ، فَيَحُدُّهُ الْمُدَّعِي وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْحُدُودِ، فَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ: نَعْرِفُ الْعَقَارَ بِعَيْنِهِ، وَنَعْرِفُ الْحُدُودَ، بَعَثَ الْقَاضِي مَنْ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنِهِ، أَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي الدَّعْوَى، حَكَمَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ كَانَ الْعَقَارُ مَشْهُورًا لَا يَشْتَبِهُ، فَلَا حَاجَةَ لِلتَّحْدِيدِ، وَأَمَّا مَا يَعْسُرُ إِحْضَارُهُ كَشَيْءٍ ثَقِيلٍ، وَمَا أُثْبِتَ فِي الْأَرْضِ، أَوْ رُكِّبَ فِي الْجِدَارِ، وَأَوْرَثَ قَلْعُهُ ضَرَرًا، فَيَصِفُهُ الْمُدَّعِي، وَيَحْضُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُ، أَوْ يَبْعَثُ مَنْ يَسْمَعُ الشَّهَادَةَ عَلَى عَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَصْفُهُ حَضَرَ الْقَاضِي عِنْدَهُ، أَوْ بَعَثَ مَنْ يَسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى عَيْنِهِ، وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُدَّعَى لَوْ كَانَ يَعْرِفُهُ الْقَاضِي حَكَمَ بِهِ دُونَ الْإِحْضَارِ، وَجَعَلَ هَذِهِ الصُّورَةَ كَالْمُسْتَثْنَاةِ عَنْ صُورَةِ وُجُوبِ الْإِحْضَارِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِنْ أَرَادَ بِهِ الْعَبْدَ الْمَعْرُوفَ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَقَارِ الْمَعْرُوفِ وَالْعَبْدِ الْمَشْهُورِ الْغَائِبِ عَنِ الْبَلَدِ، فَأَمَّا إِنِ اخْتَصَّ الْقَاضِي بِمَعْرِفَتِهِ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِصِدْقِ الْمُدَّعِي، وَحَكَمَ بِعِلْمِهِ تَفْرِيعًا عَلَى جَوَازِهِ، فَهُوَ قَرِيبٌ أَيْضًا، وَإِنْ حَكَمَ بِالْبَيِّنَةِ فَالْبَيِّنَةُ تَقُومُ عَلَى الصِّفَةِ، فَإِذَا لَمْ يَسْمَعِ الْبَيِّنَةَ [بِالصِّفَةِ] ، وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعَ الْحُكْمُ وَمَتَى أَوْجَبْنَا الْإِحْضَارَ، فَذَلِكَ إِذَا اعْتَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِاشْتِمَالِ يَدِهِ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْعَيْنِ، وَإِنْ أَنْكَرَ اشْتِمَالَ يَدِهِ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا هَلَكَتْ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَإِنْ نَكَلَ وَحَلَفَ الْمُدَّعِي

ص: 191

أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً حِينَ أَنْكَرَ، كُلِّفَ إِحْضَارَهَا وَحُبِسَ، وَلَا يُطْلَقُ إِلَّا بِالْإِحْضَارِ، أَوْ بِأَنْ يَدَّعِيَ التَّلَفَ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْقِيمَةُ، وَتُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى التَّلَفِ، وَإِنْ كَانَتْ خِلَافَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ لِلضَّرُورَةِ، وَقِيلَ: لَا يُطْلَقُ إِلَّا بِالْإِحْضَارِ، أَوْ بَيِّنَةِ التَّلَفِ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ الْمُدَّعِي أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ لِيُطَالِبَ بِهَا، أَوْ تَالِفَةٌ لِيُطَالِبَ بِقِيمَتِهَا فَادَّعَى عَلَى التَّرَدُّدِ، وَقَالَ: غَصَبَ مِنِّي كَذَا، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا، فَقِيمَتُهُ، فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: لَا يُسْمَعُ دَعْوَاهُ، لِعَدَمِ الْجَزْمِ، بَلْ يَدَّعِي الْعَيْنَ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُنْشِئُ دَعْوَى الْقِيمَةِ، وَيَحْلِفُ عَلَيْهَا، وَأَصَحُّهُمَا وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْقَضَاءِ: يُسْمَعُ لِلْحَاجَةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْعَيْنِ، وَلَا قِيمَتِهَا، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِيمَا لَوْ سَلَّمَ ثَوْبًا إِلَى دَلَّالٍ لِيَبِيعَهُ فَطَالَبَهُ بِهِ، فَجَحَدَ، فَلَمْ يَدْرِ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَبَاعَهُ فَيُطَالِبُهُ بِالثَّمَنِ، أَمْ تَلِفَ فَيُطَالِبُهُ بِالْقِيمَةِ، أَمْ هُوَ بَاقٍ لِيُطَالِبَهُ بِالْعَيْنِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَدَّعِي الْعَيْنَ فِي دَعْوَى، وَالْقِيمَةَ فِي أُخْرَى، وَالثَّمَنَ فِي أُخْرَى، وَعَلَى الثَّانِي يَدَّعِي أَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ الثَّوْبِ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، وَيَحْلِفُ الْخَصْمُ يَمِينًا وَاحِدَةً أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الثَّوْبِ وَلَا ثَمَنُهُ وَلَا قِيمَتُهُ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ عَبْدًا بِصِفَةِ كَذَا، فَمَاتَ الْعَبْدُ اسْتَحَقَّ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ قِيمَتَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ.

وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا وَالْمَالُ فِي الْبَلَدِ، كَمَا وَصَفْنَا أُحْضِرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ أَيْضًا، وَأُخِذَ مِمَّنْ فِي يَدِهِ لِيَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى عَيْنِهِ.

فَرْعٌ

لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا، وَالْمُدَّعِي بِبَلْدَةٍ أُخْرَى، فَقِيَاسُ مَا سَبَقَ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ بِالْمَالِ الْغَائِبِ، وَيُحْكَمُ بِهِ، فَالْقَاضِي يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ إِلَّا السَّمَاعَ، فَإِذَا سَمِعَ الْبَيِّنَةَ، أَمَرَ بِنَقْلِ الْمُدَّعِي إِلَى مَجْلِسِهِ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْخَصْمِ.

ص: 192

فَرْعٌ

ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ، كُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارَهُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يَبْعَثُهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ عَلَى يَدِ الْمُدَّعَى، وَلَا يُكَلَّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِحْضَارَ لِلْمَشَقَّةِ، كَمَا يُكَلَّفُ الْحُضُورَ هُنَاكَ وَلَا يُكَلَّفُهُ هُنَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: فَحَيْثُ أَمَرَ الْمُدَّعِي هُنَا بِالْإِحْضَارِ، فَمُؤْنَةُ الْإِحْضَارِ عَلَيْهِ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُدَّعَى مُؤْنَةُ الْإِحْضَارِ وَالرَّدِّ جَمِيعًا، وَحَيْثُ يَبْعَثُهُ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ إِلَى بَلَدِ الْكَاتِبِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي، فَعَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَى مَوْضِعٍ بِمُؤْنَاتِهِ، وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْإِحْضَارِ إِنْ تَحَمَّلَهَا مِنْ عِنْدِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي، فَقِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمُؤْنَةِ الْإِحْضَارِ عَلَى الْمُدَّعِي عَلَيْهِ.

وَفِي أَمَالِي السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْقَاضِيَ يُنْفِقُ عَلَى النَّقْلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، اقْتَرَضَ، فَإِنْ ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَزِمَهُ رَدُّ الْقَرْضِ بِظُهُورِ تَعَدِّيهِ، وَإِلَّا كُلِّفَ الْمُدَّعِي رَدَّهُ لِظُهُورِ تَعَنُّتِهِ، ثُمَّ قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ: إِذَا نَقَلَ الْمُدَّعِي الْمَالَ إِلَى بَلَدِ الْقَاضِي الْكَاتِبِ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ لَهُ، لَزِمَ الْمُدَّعِي مَعَ مُؤْنَةِ الرَّدِّ أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمُدَّةِ الْحَيْلُولَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ فِي مُدَّةِ تَعَطُّلِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِذَا أَحْضَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْبَلَدِ، فَاقْتَضَى سُكُوتُهُمُ الْمُسَامَحَةَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الِاقْتِضَاءِ الْغَزَالِيُّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ زِيَادَةُ الضَّرَرِ هُنَاكَ.

الطَّرَفُ الْخَامِسُ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَسْمَعَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ، وَلَا يَحْكُمَ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَكِنَّ هَذَا الْأَصْلَ قَدْ يُتْرَكُ لِأَسْبَابٍ.

وَتَفْصِيلُهَا أَنْ يُقَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَصْمُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْخُلْدِ، وَإِمَّا لَا، فَإِنْ كَانَ نُظِرَ إِنْ كَانَ ظَاهِرًا يَتَأَتَّى

ص: 193