المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

تُسْمَعُ إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَسْتَرِقُّهُ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ تُفْهِمُكَ أَنَّ - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ١١

[النووي]

الفصل: تُسْمَعُ إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَسْتَرِقُّهُ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ تُفْهِمُكَ أَنَّ

تُسْمَعُ إِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَسْتَرِقُّهُ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ تُفْهِمُكَ أَنَّ شَهَادَةَ الْحِسْبَةِ إِنَّمَا تُسْمَعُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَلَوْ جَاءَ عَبْدَانِ لِرَجُلٍ، فَقَالَا: إِنَّ سَيِّدَنَا أَعْتَقَ أَحَدَنَا، وَقَامَتْ بَيِّنَةٌ بِمَا يَقُولَانِ، سُمِعَتْ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَى فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعِتْقِ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ تَقَدَّمَ الدَّعْوَى.

‌فَصْلٌ

شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ إِنْ لَمْ يَعْقِلِ الْإِشَارَةَ مَرْدُودَةٌ، وَكَذَا إِنْ عَقِلَهَا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَعَلَى هَذَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّاهِدِ سِوَى الشُّرُوطِ السِّتَّةِ كَوْنُهُ نَاطِقًا، وَذَكَرَ الصَّيْمَرِيُّ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، زَادَ شَرْطٌ ثَامِنٌ.

فَصْلٌ

فِي أُمُورٍ لَا تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ. وَفِيهَا خِلَافٌ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ. مِنْهَا شَهَادَةُ الْبَدَوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ وَعَكْسُهُ مَقْبُولَةٌ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْبُولَةٌ فِي جِنْسٍ مَا حُدَّ وَفِي غَيْرِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا.

فَصْلٌ

فِي التَّوْبَةِ. قَدْ سَبَقَ أَنَّ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمَعْصِيَةٍ تُقْبَلُ إِذَا تَابَ، وَظَهَرَ إِعْرَاضُهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: التَّوْبَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى تَوْبَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهِيَ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْإِثْمُ، وَإِلَى تَوْبَةٍ فِي الظَّاهِرِ، وَهِيَ تَتَعَلَّقُ بِهَا عَوْدُ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَاتِ، أَمَّا الْأُولَى، فَهِيَ أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلٍ، وَيَتْرُكَ فِعْلَهُ فِي الْحَالِ، وَيَعْزِمَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلَا لِلْعِبَادِ، كَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَمُبَاشَرَتِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ، وَإِنْ

ص: 245

تَعَلَّقَ بِهَا حَقٌّ مَالِيٌّ، كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَالْغَصْبِ، وَالْجِنَايَاتِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَجَبَ مَعَ ذَلِكَ تَبْرِئَةُ الذِّمَّةِ عَنْهُ، بِأَنْ يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ، وَيَرُدَّ أَمْوَالَ النَّاسِ إِنْ بَقِيَتْ، وَيَغْرَمُ بَدَلَهَا إِنْ لَمْ تَبْقَ، أَوْ يَسْتَحِلَّ الْمُسْتَحَقُّ، فَيُبَرِّئُهُ وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ الْمُسْتَحِقُّ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَأَنْ يُوَصِّلَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا إِنْ كَانَ غَصَبَهُ مِنْهُ هُنَاكَ، فَإِنْ مَاتَ، سَلَّمَهُ إِلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ، دَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ تُرْضَى سِيرَتُهُ وَدِيَانَتُهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ، تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِنِيَّةِ الْغَرَامَةِ لَهُ إِنْ وَجَدَهُ، ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» وَالْغَزَالِيُّ فِي غَيْرِ كُتُبِهِ الْفِقْهِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، نَوَى الْغَرَامَةَ إِذَا قَدِرَ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، فَالْمَرْجُوُّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْمَغْفِرَةُ.

قُلْتُ: ظَوَاهِرُ السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ تَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمُطَالَبَةِ بِالظُّلَامَةِ وَإِنْ مَاتَ مُعْسِرًا عَاجِزًا إِذَا كَانَ عَاصِيًا بِالْتِزَامِهَا، فَأَمَّا إِذَا اسْتَدَانَ فِي مَوَاضِعَ يُبَاحُ لَهُ الِاسْتِدَانَةُ، وَاسْتَمَرَّ عَجْزُهُ عَنِ الْوَفَاءِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا خَطَأً، وَعَجَزَ عَنْ غَرَامَتِهِ حَتَّى مَاتَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا مُطَالَبَةَ فِي حَقِّهِ فِي الْآخِرَةِ، إِذْ لَا مَعْصِيَةَ مِنْهُ، وَالْمَرْجُوُّ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُعَوِّضُ صَاحِبَ الْحَقِّ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ: وَتُبَاحُ الِاسْتِدَانَةُ لِحَاجَةٍ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ وَلَا سَرَفٍ إِذَا كَانَ يَرْجُو الْوَفَاءَ مِنْ جِهَةٍ، أَوْ سَبَبٍ ظَاهِرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمَعْصِيَةِ حَقٌّ لَيْسَ بِمَالِيٍّ، فَإِنْ كَانَ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَهُ، وَيُقِرَّ بِهِ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ، فَإِنْ ظَهَرَ، فَقَدْ فَاتَ

ص: 246

السَّتْرُ، فَيَأْتِي الْإِمَامَ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِلَّا إِذَا تَقَادَمَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ، وَقُلْنَا: يَسْقُطُ الْحَدُّ.

وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْعِبَادِ، كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ، فَيَأْتِي الْمُسْتَحِقُّ، وَيُمَكِّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُسْتَحِقُّ، وَجَبَ فِي الْقِصَاصِ أَنْ يُعْلِمَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي قَتَلْتُ أَبَاكَ، وَلَزِمَنِي الْقِصَاصُ، فَإِنْ شِئْتَ، فَاقْتَصَّ، وَإِنْ شِئْتَ فَاعْفُ. وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ سَبَقَ فِي كُتُبِ اللِّعَانِ خِلَافٌ فِي وُجُوبِ إِعْلَامِهِ، وَقَطَعَ الْعَبَّادِيُّ وَغَيْرُهُ هُنَا بِأَنَّهُ يَجِبُ إِعْلَامُهُ، كَالْقِصَاصِ.

وَأَمَّا الْغِيبَةُ إِذَا لَمْ تَبْلُغِ الْمُغْتَابَ، فَرَأَيْتُ فِي فَتَاوَى الْحَنَّاطِيِّ أَنَّهُ يَكْفِيهِ النَّدَمُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَإِنْ بَلَغَتْهُ، أَوْ طَرَدَ طَارِدٌ قِيَاسَ الْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ فِيهَا، فَالطَّرِيقُ أَنْ يَأْتِيَ الْمُغْتَابَ وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ لِمَوْتِهِ، أَوْ تَعَسَّرَ لِغَيْبَتِهِ الْبَعِيدَةِ، اسْتَغْفَرَ اللَّهَ - تَعَالَى - وَلَا اعْتِبَارَ بِتَحْلِيلِ الْوَرَثَةِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَّاطِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالَ الْعَبَّادِيُّ: وَالْحَسَدُ كَالْغِيبَةِ وَهُوَ أَنْ يَهْوَى زَوَالَ نِعْمَةِ الْغَيْرِ، وَيُسَرُّ بِبَلِيَّتِهِ، فَيَأْتِي الْمَحْسُودَ وَيُخْبِرُهُ بِمَا أَضْمَرَهُ وَيَسْتَحِلُّهُ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ هَذِهِ الْخَصْلَةَ. وَفِي وُجُوبِ الْإِخْبَارِ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِضْمَارِ بِعِيدٌ.

قُلْتُ: الْمُخْتَارُ بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إِخْبَارُ الْمَحْسُودِ، بَلْ لَا يُسْتَحَبُّ، وَلَوْ قِيلَ: يُكْرَهُ لَمْ يَبْعُدْ. وَهَلْ يَكْفِي الِاسْتِحْلَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ الْمَجْهُولَةِ، أَمْ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهَا لِلْعَافِي؟ فِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَرْعٌ

لَوْ قَصَّرَ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ وَمَظْلَمَةٍ، وَمَاتَ الْمُسْتَحِقُّ، وَاسْتَحَقَّهُ وَارِثٌ بَعْدَ وَارِثٍ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُوَفِّهِمْ، فَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ؟ فِيهِ أَوْجُهٌ أَرْجَحُهَا - وَبِهِ أَفْتَى الْحَنَّاطِيُّ - أَنَّهُ صَاحِبُ الْحَقِّ أَوَّلًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ مَنْ وَرَثَتِهِ، أَوْ وَرَثَةِ وَرَثَتِهِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَالثَّالِثُ

ص: 247

ذَكَرَهُ الْعَبَّادِيُّ فِي «الرَّقْمِ» : أَنَّهُ يُكْتَبُ الْأَجْرُ لِكُلِّ وَارِثٍ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ لِمَنْ بَعْدَهُ، وَلَوْ دَفَعَ إِلَى بَعْضِ الْوَارِثِينَ عِنْدَ انْتِهَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ إِلَيْهِ، خَرَجَ عَنْ مَظْلِمَةِ الْجَمِيعِ فِيمَا سَوَّفَ وَمَطَلَ. وَأَمَّا التَّوْبَةُ فِي الظَّاهِرِ، فَالْمَعَاصِي تَنْقَسِمُ إِلَى فِعْلِيَّةٍ وَقَوْلِيَّةٍ، أَمَّا الْفِعْلِيَّةُ، كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ، فَإِظْهَارُ التَّوْبَةِ مِنْهَا لَا يَكْفِي فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وُعَوْدِ الْوِلَايَةِ، بَلْ يُخْتَبَرُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهَا أَنَّهُ قَدْ أَصْلَحَ عَمَلَهُ وَسَرِيرَتَهُ، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي تَوْبَتِهِ، وَفِي تَقْدِيرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْجُهٌ: الْأَكْثَرُونَ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَالثَّانِي: سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَنَسَبُوهُ إِلَى النَّصِّ، وَالثَّالِثُ: لَا يَتَقَدَّرُ بِمُدَّةٍ إِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ حُصُولُ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْأَشْخَاصِ، وَأَمَارَاتِ الصِّدْقِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ وَالْعَبَّادِيِّ وَالْغَزَالِيِّ.

وَأَمَّا الْقَوْلِيَّةُ، فَمِنْهَا الْقَذْفُ، وَيُشْتَرَطُ فِي التَّوْبَةِ مِنْهُ الْقَوْلُ، كَمَا أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الرِّدَّةِ بِكَلِمَتِيِ الشَّهَادَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: التَّوْبَةُ مِنْهُ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، فَأَخَذَ الْإِصْطَخْرِيُّ بِظَاهِرِهِ، وَشَرَطَ أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُ فِيمَا قَذَفْتُ، وَلَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يُكَلَّفُ أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُ، فَرُبَّمَا كَانَ صَادِقًا، فَكَيْفَ نَأْمُرُهُ بِالْكَذِبِ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ: الْقَذْفُ بَاطِلٌ وَإِنِّي نَادِمٌ عَلَى مَا فَعَلْتُ، وَلَا أَعُودُ إِلَيْهِ، أَوْ يَقُولُ: مَا كُنْتُ مُحِقًّا فِي قَذْفِي، وَقَدْ تُبْتُ مِنْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْقَذْفُ عَلَى سَبِيلِ السَّبِّ وَالْإِيذَاءِ، وَالْقَذْفُ عَلَى صُورَةِ الشَّهَادَةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ، إِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَهِدَ، فَإِنْ لَمْ نُوجِبْ، فَلَا حَاجَةَ بِالشَّاهِدِ إِلَى التَّوْبَةِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي هَذَا الْإِكْذَابِ كَوْنُهُ عِنْدَ الْقَاضِي. ثُمَّ إِذَا تَابَ بِالْقَوْلِ، فَهَلْ يَسْتَبْرِئُ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ إِذَا كَانَ عَدْلًا قَبْلَ الْقَذْفِ؟ يُنْظَرُ إِنْ

ص: 248

كَانَ الْقَذْفُ عَلَى صُورَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ كَانَ قَذْفَ سَبٍّ وَإِيذَاءٍ، اشْتُرِطَ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّوْبَةِ بِالْقَوْلِ فِي الْقَذْفِ مُشْكِلٌ، وَإِلْحَاقَهُ بِالرِّدَّةِ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ كَلِمَتِيِ الشَّهَادَةِ مُطَّرِدٌ فِي الرِّدَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، ثُمَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ فِي الْقَذْفِ أَنْ يُشْتَرَطَ التَّوْبَةُ بِالْقَوْلِ فِي سَائِرِ الْمَعَاصِي الْقَوْلِيَّةِ، كَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» بِذَلِكَ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ، فَقَالَ: التَّوْبَةُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ: كَذَبْتُ فِيمَا فَعَلْتُ وَلَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهِ.

فُرُوعٌ

لَوْ قَذَفَ وَأَتَى بِبَيِّنَةٍ عَلَى زِنَى الْمَقْذُوفِ، فَوَجْهَانِ، حَكَاهُمَا الْإِمَامُ، أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْذِفَ، ثُمَّ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ مَجِيءَ الشُّهُودِ، وَالصَّحِيحُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ صِدْقَهُ قَدْ تَحَقَّقَ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوِ اعْتَرَفَ الْمَقْذُوفُ، وَكَذَا لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَلَاعَنَ، وَسَوَاءٌ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَكَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرُهُ حَتَّى لَوْ قَذَفَ عَبْدَ نَفْسِهِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَيَكْفِي تَحْرِيمُ الْقَذْفِ سَبَبًا لِلرَّدِّ، وَشَاهِدُ الزُّورِ يَسْتَبْرِئُ، كَسَائِرِ الْفَسَقَةِ فَإِذَا ظَهَرَ صَلَاحُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَمَنْ غَلِطَ فِي شَهَادَةٍ لَا يُشْتَرَطُ اسْتِبْرَاؤُهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ وَاقِعَةِ الْغَلَطِ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا.

قُلْتُ: التَّوْبَةُ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ الْمُهِمَّةِ، وَقَوَاعِدِ الدِّينِ، وَأَوَّلُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) فَالتَّوْبَةُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ صِفَتُهَا، وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ وَإِنْ كَانَ مُلَابِسًا ذَنْبًا آخَرَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، وَلَوْ تَابَ مِنْ ذَنْبٍ، ثُمَّ فَعَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى، لَمْ تَبْطُلِ التَّوْبَةُ، بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِالذَّنْبِ

ص: 249

الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ.

وَلَوْ تَكَرَّرَتِ التَّوْبَةُ، وَمُعَاوَدَةُ الذَّنْبِ، صَحَّتْ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَقِّ فِي الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْإِرْشَادِ» : وَالْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْهُ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْقَاتِلِ نَفْسَهُ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ، فَإِذَا نَدِمَ، صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَكَانَ مَنْعُهُ الْقِصَاصَ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ مَعْصِيَةً مُجَدَّدَةً، وَلَا يَقْدَحُ فِي التَّوْبَةِ، بَلْ يَقْتَضِي تَوْبَةً مِنْهَا.

وَمَنْ تَابَ عَنْ مَعْصِيَةٍ ثُمَّ ذَكَرَهَا قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ رحمه الله: يَجِبُ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ النَّدَمِ عَلَيْهَا كُلَّمَا ذَكَرَهَا إِذْ لَوْ لَمْ يَنْدَمْ، لَكَانَ مُسْتَهِينًا بِهَا، وَذَلِكَ يُنَافِي النَّدَمَ. وَاخْتَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ ذَكَرَهَا بِلَا نَدَمٍ الِاسْتِهَانَةُ، بَلْ قَدْ يَذْكُرُ، وَيَعْرِضُ عَنْهَا.

قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا لَمْ يُجَدِّدِ التَّوْبَةَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً جَدِيدَةً، وَالتَّوْبَةُ الْأُولَى صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْمَاضِيَةَ لَا يَنْقُضُهَا شَيْءٌ بَعْدَ فَرَاغِهَا، قَالَ: فَيَجِبُ تَجْدِيدُ تَوْبَةٍ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ، وَتَجِبُ تَوْبَةُ مَنْ تَرَكَ التَّوْبَةَ إِذَا حَكَمْنَا بِوُجُوبِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ، فَلَيْسَ إِسْلَامُهُ تَوْبَةً عَنْ كُفْرِهِ، وَإِنَّمَا تَوْبَتُهُ نَدَمُهُ عَلَى كُفْرِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُؤْمِنَ وَلَا يَنْدَمَ عَلَى كُفْرِهِ، بَلْ تَجِبُ مُقَارَنَةُ الْإِيمَانِ لِلنَّدَمِ عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ وِزْرُ الْكُفْرِ يَسْقُطُ بِالْإِيمَانِ، وَالنَّدَمُ عَلَى الْكُفْرِ بِالْإِجْمَاعِ، هَذَا مَقْطُوعٌ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ ضُرُوبِ التَّوْبَةِ، فَقَبُولُهُ مَظْنُونٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعْتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ وَتَابَ عَنْ كُفْرِهِ، صَحَّتْ تَوْبَتُهُ، وَإِنِ اسْتَدَامَ مَعَاصِيَ أُخَرَ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَنَّ الْقَبُولَ مَظْنُونٌ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَصْحَابِنَا: هُوَ مَقْطُوعٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 250